غريب عسقلاني
الحوار المتمدن-العدد: 2599 - 2009 / 3 / 28 - 07:38
المحور:
الادب والفن
غريب عسقلاني – مقاربة نقدية
شظايا آمال الشاذلي وسؤال النوع الأدبي
" قراءة في نص شظايا للقاصة آمال للشاذلي "
في كتابها الصغير الأنيق "شظايا" نقف مع آمال الشاذلي في لجة الحيرة حول تصنيف ما نقرأ, ولكنها سرعان ما تفرض علينا حالة من لهاث الاستكشاف, وكأنها الهاربة من ضوء الصباح.. تنثر في الدروب وريقات من أجندة معاناتها.. تسقط على مرايانا صور وأحداث وشخوص, تأخذنا إلى الغيبوبة بين مرارة المعاناة وطلاوة استعذاب العذاب, فنعيش حالة ليلكية, ولا نملك غير الصراخ بصمت من شظاياها التي تصيبنا بوخزات رقيقة تارة, وتصبح نصال حادة تصل إلى نخاع الوجع تارة أخرى.. فلا نخرج من ذهول الشظية إلا بالدخول في مدار الأرق, والسؤال عن ما تطرحه الكاتبة.. وقبل أن نسأل تكون افترشت الأرض عند ناصية الفجيعة.. تحاور الأخرى الساكنة فيها..
" عندما أعيا الشمس غيابي, دفعت بجيوشها تستقصي خبري, ولم تؤب إليها حتى الآن.. "
لم تعد جيوش الحقيقة.. فهل انطفأت جذوة الشمس وتركتها نهبا لغيلان اللحظة؟!
" أصاب البلى ثوبي الوحيد, فاحترق جسدي بنظرات الشماتة.. "
من الشامتين يا ترى؟!
المترصدون بها, المتسولون عند عتباتها, أم الذين تستبد بهم شهوة الاقتناص, ومصادرة الرؤى..
" تكالب أصحاب الكاميرات لالتقاط سقوطي "
أي سقوط ذلك الذي يرصدوه؟.. لذلك نراها تطلق شظية صارمة منذ فاتحة الكتاب
" الطريق في نهايتك, فاحذر الانزلاق "
وتخبره أنها تجيد الهروب منه إليه, وتعرف متعة العذاب به..
" نجحت محاولة الهروب, وهأنذا أنعم بالحرية خلف قضبانك.."
فهل هو أدرك لؤلؤة روحها, كما أدكت هي رماد أنانيته وصلفه وجبروته, وهل تماهى معها حتى أصبح ظلها, وهل توحد مع ظلها وكونا معا حالة حوار بين الرغبة والاشتهاء, وهل أدرك أنه فشل في أن يكون ذاتها/ ظلها.. لذلك نراها تمارس خسارتها مع ظلها لمقاومة التلاشي, فتذهب إلى فضاء الروح بعيدا عن ملوثات زفير الرغبات السوداء..
" أصاحب ظلي وأهدهده.
وإذا ما خلت لنا الساحة, ارتشفنا من فنجان واحد, وتجاذبنا الأنفاس من سيجارة واحدة, وإذا ما تخففت من أرديتي.. تخفف, وإذا ما سئمته وهممت بطعنه.. هم, فإذا تراجعت.. تراجع..
هكذا ألعب أنا وظلي, فلا أحد غيره يجرؤ على مناوشة وحدتي "
متى يدرك حالاتها, ويستقبل إشاراتها بدون توجس, ومتى يتحسس الفراغ في فضاء روحه, ويكف عن تحسس خاصرته بحثا عن ضلع اللعنة مشجب الأخطاء والخطايا..
متى يكف عن الاستمرار في لعبة الهزيمة؟
وهل فهم إشاراتها المُحذرة.. أم أن صهيل السيد ما زال يتردد في جنبات عقله, فلا يعود عليه بغير الخواء والخسران..!!
" لا أدور في فلكك سيدي, ولكن مداراتك تتعبني. "
ألم يدرك أنها ضجرت من ممارسة جريها خلف جدران سجنه, وأنها تحلم بسجن آخر تشيده بجدران أحلامها وتزرعه بأزهارها الخاصة, وتجعل منه حديقة لا تشبه حقول الآخرين, فهي تفهم لغة الريح, وتعرف كيف تصنع من وشوشة الريح جنة, فهي على يقين..
"أولج الريح أنامله الباردة بين ضلوعي, قبض على قلبي, شقه نصفين, فصار قاربين, قارب أنثى وقارب ذكر, جمع الموج شملهما داخل صدري.. "
أيها الآخر ماذا بك!! هل غامت الدنيا أمامك!! أم أخذك الصجيج إلى صمم..
ألم تدرك أيها الموشى بالصلف أنها تصرخ فيكَ..
" لم تعد أطراف ثوبي تجزع للريح.. "
***
تقف آمال الشاذلي/الكاتبة عند حافة الهلع, وتخشى من السقوط في العتمة التي تأخذ إلى الغياب..
هل هو السواد الذي يغلف عالمها..
لا أعتقد
آمال تعثر على ذاتها, وتحاول جادة ترتيبها على ضوء رؤية جديدة تعتمد على معرفة عميقة وطول تأمل وامتلاك أدوات المقاومة, وعند البحث ما بين السطور, وعند فواصل الكلام, سندرك أن الكاتبة مزحومة بالأسئلة لدرجة الانفجار, مؤرقة في عالم يتداعى من حولها ويتمظهر مزهوا بالقشور.. هناك عطب.. وهناك عين راصدة ترى الانهيار, وتدرك أسبابه, ولا تعلق قضاياها كامرأة على مشجب الآخر / الرجل لتخرج من ساحة المحاكمة, وهي تدرك خسارتها من عدم وصول الآخر إلى فهم أشمل للحياة, وأن رصيده ما زال يقوم على مواريث تجاوزها الوقت, وأهال عليها ركامات كثيفة من تراب عدم الجدوى.. الأمر الذي يضاعف من عذاباتها, ويلقي عليها تبعة البحث عن مخارج من عالم جائر, يستفز الكاتبة فيها نحو فهم الظواهر وتفسيرها " اقتصادية واجتماعية ونفسية وسياسية" للوصول إلى أسباب التداعي..
ومن هنا علينا الحذر عند التقاط هذه الشظايا الواخزة الحادة المسنونة التي تحدث ما هو بعد من وخز الظاهر, وربما تنفد إلى عميق اللحم الحي وتصل إلى رجفة العصب
فهل تأخذنا رجفة الذهول كما أخذتها..
" بالشاطئ.. احتضنت مودعيني بعين أنهكها البكاء, بادلوني بأشد منه, إنسالت الدموع مدرارة, وغرقت آمالنا, وطفت جثاميننا, انهالت عليها طعنات الشمس, لكزات الموج.. والشاطئ يمعن في الدلال "
`ذهول أمام اللاجدوى /الخسران /الفراغ الذي يسرق رحيق الحياة, ويجعل الأماني تجليات محمولة على الألم..
" حين يصيب الجفاف حياتنا, تفيض علينا ينابيع الذكريات بما يحفظ على أوراقنا بعض اخضرارها.."
وفي لحظة مكاشفة نادرة تومض أمامها الحقائق..
" صدقت حين ظننتني شيطانا, وكذبت حين ظننتك ملاكا.."
هي رحلة التربص والمراوغة ليس بين رجل وامرأة ولكن بين أقطاب سالبة وموجبة تتوزع على كل مكونات الحياة, وكأننا نعيش على رقعة فسيفساء سر جمالها أنها تتكون من بؤر محروقة..
فهل يتقمص الحريق روح ساحرة!!
وهل يكون للعذاب بهاء من لون آخر!!
هنا يكون التلظي على نار الإدراك والارتباك والوعي أيضا..
" احتمت شمس الظهيرة برموش عيني, فأسدلت عليها روحي, ثم نثرت فوقها أدمعي, صارت خميلة لا تضاهيها أخرى في طلاوتها, وتناسقها فطمعت في بعض ظلها لألتمس قدرا من راحة بعد طول عناء
بهرتني وطردتني إلى فضاءات غريبة.. "
الشعور بالغربة عن مكونات المجتمع, والإحساس العميق بعدم القدرة على مسايرة ما يدور, تأخذ الواحد إلى الالتباس, وربما هذا ما جعل صاحبة الشظايا تعلن وبكل الجرأة والحزن..
" عقلي..
قلبي..
روحي..
ضل ثلاثتهم الطريق إلى الآخر.. "
هذه ضريبة الوعي والاندماج في الواقع حتى ذروة المعاناة, التي أخذت كاتبتنا إلى خط الوهم الفاصل بين الحضور والغياب, بين الحياة والموت..بين الوجود والعدم..ذلك السؤال الذي يطل في العتمة فيما الشظايا تتناثر إرهاصات تارة, وزفرات تارة وقذائف حنق تارة.. حساسية لامرأة من أرق
وهنا السؤال من جديد:
متى تكتب.. وكيف؟
" قلمي يناشدني الانعتاق, وأنا أناشد ألمي.. "
هي كتابة النزف.
فكيف تناشد آلامها وعلى أي الصور, وبأي الأسباب..
هل لأن سبل الاتصال وأسبابه قد انقطعت..!
" لإفهم يا أخي.. الحجرة التي جمعتنا.. ماتت.."
هل يموت المكان؟ أم هو مكان معنوي غير المكان.. أم أنها هي المأخوذة بالجحود.. المرجومة بصدقها.. الملعونة بوعيها.. والمزحومة بالثورة والضجر والغضب..
" ربح عاتية تجتاح أحشائي
الطريق تتلوى تحت قدميَّ
رائحة أحلامي تمتزج برائحة الإسفلت المنصهر بلهيب أنفاسي, يهطل المطر على غير ميعاد, تخمد أنفاسي, يطل شيء ما يختلج تحت الرماد "
هذا يفضي بنا إلى سؤال الغربة في الشظايا كبنية فنية اختارتها الكاتبة لعملها, والكاتبة آمال الشاذلي مولعة بالقصة القصيرة, ولها مغامراتها في هذا المجال, كما أن لها تميزها في التقاط لحظات عادية من حياة أشخاص عاديين للنفاد إلى ما هو ابعد من اللحظة أو الموقف المرصود, من خلال المفارقة وتيار الوعي والاسترجاع والبوح حيث تطير رسائلها على بنى قصصية رشيقة تصيب أهدافها في معظم الأحيان كما ظهر في مجموعاتها لسبب ما.. وضجيج الصمت, ولحظة اغتيالي, حيث تنفذ من المعيش اليومي لسبر أغوار العوامل والكوامن غير المعلنة التي تقبع خلف العمل, والتي هي في أغلب الحالات عوامل المحيط إلي يعيش في كنفه الفرد, والذي يدفع ضريبة الغير كقدر لا فكاك منه..
لماذا دخلت آمال الشاذلي هذه المغامرة المفاجئة؟! وقطرت تجاربها على جغرافيا مساحة محدودة قد تصل إلى حدود الجملة الواحدة, فتظهر كما لو كانت حكمة أو قولا مأثورا, أ شفرة لغوية, وقد تمتد إلى رشقة شعور تنطلق مثل بخار الزفير.. أو حوارية تركض وراء حكاية تتوقف فجأة لتفضي إلى بوابات مشرعة أو مغلقة..
فهل ما تناثر من شظايا يعتلي متن القصة القصيرة أو القصيرة جدا, أم هو الشعر, أم هو الوقوف عند حافة التهويم, وهل مجموع الشظايا يشكل ظلال رواية ذاتية وحداثية..؟!!
في اعتقادي أن تجربة الشظايا تحمل كل ذلك ولا تنتمي لأي من ذلك, ولكنها تنتمي لذاتها فقط, كتجربة إبداعية اختارت شكلها, وأن كل محاولة لزجها إلي التصنيف يفسد طلاوتها ويقوض معالم جمالياتها..
هو شكل اختار ذاته من تنامي شحنات تزاحمت وتراكضت في وعي الكاتبة, ثم تمردت على أسرها واصطفت في بنية شديدة الخصوصية.. وانفلتت..
فهل تتكرر التجربة وتتطور لتجريب جديد؟
إن التجربة اختارت شكلها ونجحت عندما وجدت مبدعا يجيد التعامل معها, ويعطيها حقها المطلوب من دفقات الحياة, لذلك أخذتنا على جناح الدهشة حتى السطر الأخير وذلك أول عتبات النجاح.
---
* آمال الشاذلي كاتبة مصرية تقيم في الإسكندرية, تعمل في الصحافة وتكتب القصة القصيرة وقد أصدرت ثلاث مجموعات قصصية هي ضجيج الصمت, ولحظة اغتيالي, ولسبب ما..
* شظايا منشورات منشأة المعارف – الإسكندرية 2008
#غريب_عسقلاني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟