|
مناهج التاريخ في نظر هيغل
أحمد الناجي
الحوار المتمدن-العدد: 2594 - 2009 / 3 / 23 - 09:06
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
تبقى دراسة التاريخ بوصفها تحد لجهل الإنسان بنفسه، أحدى هموم الإنسان وانشغالاته، والتاريخ علم معني بدراسة التجربة الإنسانية على الأرض دراسة شاملة، والارتسامات التي خلفها الفيلسوف الألماني الكبير هيغل (1770-1831) خلال مساره النظري المضني، تعد نظرية متكاملة، وعميقة الأثر في تاريخ الفكر الإنساني، شكلت فلسفته التاريخية جزءاً لا يتجزأ منها، وأسفرت بالفعل عن نسج علاقة وطيدة بين العقل والتاريخ، فأعطى للتاريخ محتوى عقلياً، كما حدد للعقل مساراً تاريخياً، واثر المكانة المرموقة التي احتلتها الفلسفة الهيغلية على صعيد الفكر الإنساني، قيل عنه أرسطو العصر الحديث أو انه نابليون الفلسفة الذي كون إمبراطورية عقلية كبرى بمذهبه الفلسفي، أو فيلسوف الفلاسفة، وعد ميشيل فوكو أن "مهمة الفلسفة المعاصرة هي الخروج من الهيغلية"، معبراً في إقراره بسلطة النموذج الذي فرضته الهيغلية على الفلسفة المعاصرة برمتها، حين حذر من الاستدراج الى مآلها، والتساقط عند السور الذي شيدته، والمفارقة الأبرز في وجهة نظر فوكو تتضح بقوله:"إن عصرنا كله، سواء من خلال المنطق أو من خلال الابستمولوجيا، وسواء من خلال ماركس أو من خلال نيتشه، عصر يحاول أن يفلت من هيغل... ولكن أن يفلت المرء فعلاً من هيغل، فهذا أمر يتطلب تقديراً مضبوطاً لما سيكلفه الانفصال، وهذا يقتضي أن نعرف ما الذي ما يزال هيغلياً، ضمن ما يمكننا التفكير ضد هيغل، وان نقيس القدر الذي يحتمل فيه أن يكون سعينا الى مناهضته خدعة ينصبها في وجهنا وهو ينتظرنا في نهاية المطاف هناك هادئاً". مضى ما يقرب من مئة وثمانين سنة على وفاة هيغل، لكن فلسفته ما تزال تحتل مكانة مرموقة في الفكر الإنساني، وتتجلى هذه الأهمية في تأثير معطياتها في التيارات الفكرية المعاصرة كالماركسية والوجودية والبراغماتية والهيدجرية. لقد حصر الفيلسوف الألماني هيغل مناهج كتابة التاريخ بثلاثة أقسام وضمنها تفرعات أخرى، وعلى النحو التالي: أولاً: التاريخ الأصل: يكتبه المؤرخ وهو يعيش تفاصيل الأحداث، ومن خصائص هذا المنهج أن المؤرخ يتأثر بروح العصر التي تشكلت فيه الأحداث، وعادة تكون الفترة التي يتناولها فترة قصيرة نسبياً، واهتمامه منصب في رواية الأشكال الفردية التي عاشها أو سمعها مع اختفاء تصوراته الشخصية. ثانياً: التاريخ النظري أو التأملي: سمة هذا المنهج الأساسية، أن المؤرخ لا يعيش الأحداث التي يرويها، وبذا فهو تجاوز عصره لكي يؤرخ لعصر آخر، وهذا المنهج يتفرع الى أربعة أنواع، نوجزها على النحو الأتي: 1- التاريخ الشمولي: وفيه يقتصر غرض المؤرخ على سرد الأخبار التاريخية لبلد ما أو لشعب من الشعوب، بمعنى انه يقوم بإبراز الماضي في صورة حية واضحة كما لو انه عاش الأحداث. وهذا النوع يقترب كثيراً من التاريخ الأصلي، ولما كان من المستحيل على إنسان أن يعيش الماضي، لان كلا منا ابن عصره، فأن المؤرخ النظري يبدو متعسفاً بحسب تعبير هيغل لأنه يسقط أفكار عصره ومصطلحاته ولغته وثقافته، باختصار انه يسقط روح العصر الذي يعيش على العصور الغابرة، بمعنى أن هذا النوع مشروط بروح الباحث ومنطلقاته ومبادئه التي تحدد وصفه للأحداث والغايات التي يرسمها للظواهر التاريخية. 2- التاريخ العملي أو البراغماتي: يهتم باستخلاص العبر والعظة والمباديء والقيم والدروس الأخلاقية من أحداث الماضي، وهذا المنهج بنظر هيغل لا يمكن أن يحقق هدفه، بمعنى أن الشعوب والدول لا يمكن أن تتعلم من التاريخ، لان التاريخ لا يعيد نفسه، وإنما دائماً هناك جديد تحت الشمس في ميدان التاريخ، ومن غير المجدي الارتداد الى ظروف مماثله في الحكم على الحاضر، ولهذا السبب عد هيغل عظات المؤرخ كثيراً ما تكون مملة في نظر القارئ، مما تجعله يؤثر على رواية الأحداث والمشاهد لتقيه من إقحام وجهات النظر الخاصة. 3- التاريخ النقدي : وهنا لا يعرض المؤرخ وقائع التاريخ نفسه دائماً، وإنما يقوم بعرض الروايات التاريخية المختلفة لغرض فحصها ودراستها ونقدها، وبيان مدى حقيقتها ومعقوليتها، كما هي الحال عند المقارنة بين مؤرخين كتبوا فترة واحدة، فيكشف عن مدى المبالغة وعدم الدقة أو الخلو من المعقولية. وهذا النوع من التاريخ هو في الحقيقة " تاريخ التاريخ"، أي تفكيك الرواية التاريخية والتحقق من حقيقتها ومصداقيتها ويقوم ذلك على المنهج الفيللوجي. 4- التاريخ الذي يحمل خاصتين متعارضتين هما الجزئية والعمومية. فهو جزئي لأنه يتحدث عن تاريخ الإنسان، ولكن عن جزء من هذا التاريخ مثل القانون أو الفن أو الدين، وهو في الوقت ذاته يحمل أيضاً صفة العمومية من حيث انه يتحدث عن القانون مثلاً بصفة عامة. وهذا النوع يمثل مرحلة انتقال من الكتابة التجريبية (سواء أكانت كتابة تاريخ أصلي أم نظري) الى الكتابة الفلسفية بقدر ما يعتنق وجهة نظر عامة تربط الأحداث كلها برباط واحد، وتعرض الكل في حقيقة وواقعية، وبذلك يشكل مرحلة انتقالية نحو التاريخ الشمولي الفلسفي. ثالثاً: التاريخ الفلسفي: يعني دراسة التاريخ من خلال الفكر، ولان التاريخ هنا لفظ غامض وفضفاض، فلابد من القول: إن التاريخ بنظر هيغل هو: وعي الإنسان لذاته، بمعنى صيرورة وعي الروح، وهو تاريخ البشر، وما يميزهم عن تاريخ الموجودات الأخرى، هو الفكر/الوعي/العقل أو الروح، كما أن وجود الإنسان -كإنسان- لا ينفصل عن حريته لأنها ماهية العقل. أكد هيغل أن التاريخ إبداع قائم بذاته، له تاريخه الداخلي المتميز، وحركة تطوره الخاصة به، المحكومة بمبادئ وقوانين موضوعية ثابتة. وهذا التاريخ الداخلي، ينقسم الى عدة مراحل، يتم الانتقال من الأدنى الى الأعلى فيها، بموجب ديالكتيك خاص، هو انعكاس للديالكتيك العام، الذي يحكم تطور الوعي الكوني التاريخي للإنسان. وعليه فان كل مرحلة من مراحل فن التاريخ، تعبر عن روح العصر بالضرورة، وعن المبدأ الخاص بها، باعتبارها لحظة آنية من الروح المطلق ومبدأه. تقوم فكرة هيغل الأساسية على أن التاريخ سلسلة من تطور الوعي بالحرية، فهو يبدأ من الحرية في حالة سكونية كامنة، آو في ذاتها على حد تعبيره، الى أن يصل الى الحرية لذاتها في الدولة، وهي النظام السياسي الذي يعبر في رأيه عن التحقق الفعلي للحرية، ثم تتطور الدولة الى أن تصل الى الدولة التي عاصرها وهي الدولة البروسية.
#أحمد_الناجي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نهوض المرأة
-
أوراق من ثورة 23 يوليو 1952
-
التدوين التاريخي بين المؤرخ والإعلامي
-
الشعر والتاريخ.. تصالح أم التضاد
-
بداية تشكيل الأحزاب السياسية في العراق
-
قنديل القديسين الشهيد قاسم عبد الأمير عجام
-
أبرز ركائز المثاقفة.. اختراع الكتابة وظهور الكتاب
-
بواكير أنساق المعرفة.. اختراع الكتابة وظهور الكتاب
-
الأبعاد الاجتماعية في نشأة مدينة الحلة
-
تكوين الطبقة العاملة في الحلة
-
الشيخ عبد الكريم الماشطة.. ريادة التنوير وأنصار السلام
-
9 نيسان 2003.. فاصلة بين الزمن المُرِ والأَمَرِ تعلن نهاية ا
...
-
المصالحة خيار واعد على صدارة المهام الوطنية
-
مؤتلقة شجرة الحزب الوارفة
-
الفيحاء.. باكورة الصحافة الحلّية
-
أضواء على التجربة الدستورية بالعراق الحديث 3-3
-
أضواء على التجربة الدستورية بالعراق الحديث 23
-
أضواء على التجربة الدستورية بالعراق الحديث 13
-
تأملات من الضفاف في ذكرى صدور المدى
-
فوكوياما من نهاية التاريخ الى نهاية الإنسان
المزيد.....
-
-لقاء يرمز لالتزام إسبانيا تجاه فلسطين-.. أول اجتماع حكومي د
...
-
كيف أصبحت موزة فناً يُباع بالملايين
-
بيسكوف: لم نبلغ واشنطن مسبقا بإطلاق صاروخ أوريشنيك لكن كان ه
...
-
هل ينجو نتنياهو وغالانت من الاعتقال؟
-
أوليانوف يدعو الوكالة الدولية للطاقة الذرية للتحقق من امتثال
...
-
السيسي يجتمع بقيادات الجيش المصري ويوجه عدة رسائل: لا تغتروا
...
-
-يوم عنيف-.. 47 قتيلا و22 جريحا جراء الغارات إلإسرائيلية على
...
-
نتنياهو: لن أعترف بقرار محكمة لاهاي ضدي
-
مساعدة بايدن: الرعب يدب في أمريكا!
-
نتانياهو: كيف سينجو من العدالة؟
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|