|
علي الوردي ..وازدواج الشخصية العراقية
قاسم حسين صالح
(Qassim Hussein Salih)
الحوار المتمدن-العدد: 2591 - 2009 / 3 / 20 - 10:08
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
تربطني بأستاذنا الجليل الدكتور علي الوردي علاقة صداقة تعود الى ثمانينيات القرن الماضي . وكنت قبلها مبهورا به كأي عراقي من ذاك الجيل الذي أحب الثقافة . وكانت تقام في الثمانينيات ندوات علمية تتعلق بظواهر اجتماعية سلبية أفرزتها الحرب العراقية الايرانية . وكان الكلام يعطى فيها أولا للدكتور الوردي . ولقد لاحظت أنه في معظم الندوات كان لا يستمر بالحديث اكثر من أربع دقائق ينهيه بعبارة :" اعذروني فأنا مصاب بوعكة صحية ". وحدث أن ألقت وزارة الداخلية في ذلك الوقت القبض على أكثر من (370)بغيا وقوادة في عموم محافظات العراق ، فاقترحت على مدير مركز البحوث في مديرية شرطة بغداد العميد الحقوقي الدكتور عبد الأمير جنيح اجراء دراسات اجتماعية ونفسية عليهن ، فتوليت اعداد دراسة تطبيقية على عينة كبيرة منهن كانت بعنوان : ( البغاء : أسبابه ووسائله وتحليل لشخصية البغي ) نوقشت في ندوة علمية حضرها اكاديميون بينهم الدكتور الوردي . ولما انتهيت من تقديمها مسك يدي وأخذني جانبا وقال : تدري دراستك هاي عن " الكح.." تذكرني بنكته تخرّب ضحك . قال : بنهاية الاربعينات قررت الحكومة العراقية فتح مبغى عام ..وكانت المشكلة في المكان ..أين يكون موقع هذا المبغى في بغداد؟ فتشكلت لجنة من رئيس الوزراء ووزير الداخلية والصحة ومدير الأمن العام ..وراحوا يتجادلون ..واحد يقول هنا والآخر يقول هناك . فقال لهم أحدهم : أحسن مكان مناسب للمبغى هو الميدان ..والما يصدّق خل يروح يسأل أمّه !! ضحكت من الاعماق وأنهار حاجز الرهبة من هذا الرجل العملاق . وزادني في سحبي اليه أنه لمّح لي – تعليقا على النكته - بما جعلني أفهم منه لو أن أحدا قالها ( الآن ..يعني الثمانينات ) لأفرغوا المسدس برأسه . من يومها توطدت علاقتي به وأخذت أزوره في بيته الواقع خلف اعدادية الحريري في الأعظمية . وأجريت معه حوارا تحدث فيه عن طفولته والديمقراطية والعلمانية والطائفية والفتنه في عهد عثمان وموضوعات أخرى ..وما زلت احتفظ بهذه المخطوطة التي كتبها بخط يده قبل عشرين سنة .(بالمناسبة : عرضتها للبيع في مزاد علني يخصص مبلغها لعمل منجز يخلد ذكر الوردي ..وها أنا اجدد الدعوة عبر " الحوار المتمدن " ).
ازدواج الشخصية ترتبط مقولة ( ازدواج الشخصية العراقية ) بالدكتور علي الوردي الذي أشاعها في محاضرته التي ألقاها في قاعة الملكة عاليه مساء يوم الثاني من نيسان عام 1951. بدأ محاضرته الممتعة ، التي كتبها بأسلوب السهل الممتنع ، بأن وصفها أنها أشبه بالمقالة الأدبية منها بالبحث العلمي . وأشار في مكان آخر منها أنه لاحظ بعد دراسة طويلة بأن شخصية الفرد العراقي فيها شيء من الازدواجية ، وأضاف ( واني وان كنت غير واثق من نتيجة هذه الدراسة ، ولكني أجد كثيرا من القرائن تؤيدني فيما أذهب اليه ). ويذكر من هذه القرائن : " أن المسلم العراقي من أشدّ الناس غضبا على من يفطر علنا وهو من أكثرهم افطارا "، " وأن العراقي ، سامحه الله ، أكثر من غيره هياما بالمثل العليا ودعوة اليها في خطاباته وكتاباته ، ولكنه في الوقت نفسه من أكثر الناس انحرافا عن هذه المثل في واقع حياته " ، " وأنه أقل الناس تمسكا بالدين ، وأكثرهم انغماسا في النزاع بين المذاهب الدينية ، فتراه ملحدا من ناحية وطائفيا من ناحية أخرى " ، وهو " يلتهب حماسة اذا انتقد غيره في ما يخص المباديء السامية او رعاية العدل والعفو والرحمة ، ولكننا نراه من أسرع الناس الى الاعتداء على غيره ضربا ولكما حالما يرى الظروف المناسبة ". وينبّه الوردي الى أن العراقي بهذه الصفات " ليس منافقا أو مرائيا كما يحب البعض أن يسمه بذلك ". ويضيف – وهنا موضع الاختلاف معه – " بل هو ، الفرد العراقي ، في الواقع ذو شخصيتين ، وهو اذ يعمل باحدى شخصيتيه ينسى ما فعل آنفا بالشخصية الأخرى . فهو اذ يدعو الى المثل العليا أو المباديء السامية ، مخلّص فيما يقول ، جاد فيما يدّعي . أما اذا بدر منه بعدئذ عكس ذلك ، فمردّه الى ظهور نفس أخرى فيه لا تدري ماذا قالت النفس الأولى وماذا فعلت ". وهو بهذا يكون قد أصدر حكما علميا ، وليس كلاما أدبيا كما نوّه في بداية محاضرته . غير أن حكمه هذا بازدواج الشخصية العراقية ما كان صحيحا من الناحية العلمية ..واليكم السبب.
ثلاثة وجوه لحواء عاد علي الوردي من أمريكا حاملا شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع عام 1950 . وحدث أن ظهرت في الخمسينيات في امريكا حالات مرضية غريبة ونادرة ، أشهرها حالة فتاة أسمها " سيبل " كان لها ثلاث شخصيات : حواء البيضاء ، التي تذهب الى الكنيسة أيام الآحاد لتصّلي ، وحواء السوداء ، التي تذهب في الليل الى النوادي ترقص وتشرب .. ، و سيبل ، الفتاة الموظفة التي تمارس عملها اليومي المعتاد في النهار . وكانت كل شخصية لا تعرف شيئا عما تقوم به الأخرى من سلوك ، فكل واحدة منها لها اسلوبها الخاص بها في السلوك والادراك والتفكير والتاريخ الشخصي والصورة التي تحملها عن ذاتها، وقد أطلق على هذه الحالة مصطلح ( تعدد الشخصية ) وقدمتها السينما الأمريكية بفلم حمل عنوان ( ثلاثة وجوه لحواء ) قامت ببطولته الممثلة " وودورد" . وكان قبلها قد شاع مصطلح ( ازدواج الشخصية ) الذي قدمته السينما ايضا بعنوان ( الدكتور جيكل والمستر هايد ) عن رواية بطلها طبيب يمارس عمله في النهار بشكل طبيعي ، ولكنه يتحول في الليل الى مجرم قاتل بأسم المستر هايد ، ولا يعرف أحدهما شيئا عن أمر الآخر. ويبدو أن عالمنا الجليل الوردي قد تأثر كالآخرين الذين أدهشتهم هذه الحالات ، وزاد في التأثير ما فعلته السينما والتلفزيون ووسائل الاعلام الأخرى التي جعلت هذه الحالات المرضية الغريبة الحديث اليومي للناس . والخطأ العلمي الذي وقع فيه أستاذنا الوردي أنه استعار مفهوما من " علم النفس المرضي " يخص حالات مرضية نادرة وطبقّه في " علم الاجتماع ّ " وعممه على شعب بأكمله. والصحيح أن ما قصده الوردي هو حالة التناشز او التنافر أو عدم التطابق أو التناقض بين الفكرة أو المعتقد الذي يحمله الفرد ، وبين التصرف الذي يقوم به ، وهي حالة شائعة بين البشر ، ولا ينفرد بها العراقيون أو " يمتازون " بها على غيرهم من الشعوب . نعم ، قد تكون هذه الحالة ( أعني التناقض بين المعتقد والسلوك ) شائعة بين العراقيين ولكن أسبابها كانت اجتماعية ونفسية تتعلق بتاريخ العراق السياسي الذي اتسم بعدم الاستقرار وظلم السلطات التي حكمت هذا الشعب على مدى ألف وأربعمائة سنة . . وهذا ما كنّا نتمناه من استاذنا الجليل الوردي أن يركز فيه ..أعني أن يبقى في ميدانه – علم الاجتماع – الذي هو فارسه وأجاد في تحليله لا أن يعزوها الى ما يمكن أن يعدّه المغرضون أن ما أسماه ( ازدواج الشخصية ) صفة جبل عليها العراقيون ولا خلاص لهم منها لأنها مشفّرة في جيناتهم ..ويضيف لها خبثاء آخرون وصف الحجاج للعراقيين بأنهم منافقون .. فيكون العراقيون ، على ما يراه المغرضون والخبثاء ، بين مجانين ومنافقين، وأنهم شعب " ما تصيرله جاره ". وطبيعي أن عالمنا خالد الذكر ، ما كان يقصد الاساءة للعراقيين انما أراد أن ينبّه الى خطورتها وضروروة " معالجتها علاجا جديا " كما جاء في محاضرته . ولو كان الوردي حاضرا بيننا الآن وشهد ما جرى من أحداث لا يهضمها عقل ولا يستوعبها منطق ..لأضحكنا بأسلوبه الشيق الفكه من شرّ بلائنا ، ولأبكانا من تراجيديا ما حلّ بنا . . ولذكّرنا بقوله الذي ختم به محاضرته قبل اكثر من نصف قرن : ( وما دمنا ندّعي شيئا ثم نفعل غيره ، فاننا سوف نبقى سادرين فيما نحن اليوم فيه من قلق وارتباك لا حد" لهما )
فيالها من نبؤة عالم مميز !. ملحوظة: اعتذر لقرّاء الحوار المتمدن عن انقطاعي هذه المدة بسبب دخولي أحد مشافي دبي للعلاج.
#قاسم_حسين_صالح (هاشتاغ)
Qassim_Hussein_Salih#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كلنا مصابون بحول في العقل !
-
ضمير..سز
-
عبود ..والشطره ..وحال ما تغير
-
في سيكولوجيا الناخب العراقي- قراءة نفسية سياسية -
-
اسطورة أوباما ..هل ستنتهي بانتصار الوطن ام بموت البطل ؟!
-
ثقافتا الفرد والدور ..واشكاليه السلوك
-
في سيكولوجيا تصرّف منتظر الزيدي - ثقافة التعليق
-
في سيكولوجيا تصّرف منتظر الزيدي
-
تهنئة ,,وملاحظات واقتراح
-
أمسية ..في شارع أبي نؤاس
-
مخطوطة للدكتور علي الوردي معروضة للبيع
-
تنبؤ سيكولوجي بفوز أوباما
-
الارهابيون بعيون أكاديمية - ايضاح ..واقتراح-
-
الارهابيون .. بعيون أكاديمية
-
سيكولجيا الصراع في المجتمع العراقي
-
كنت في الجولان
-
في سيكولوجيا الفساد المالي والاداري 3-3
-
الى الشاعرة لميعه عباس عماره
-
في سيكولوجيا مسلسل الباشا
-
أمسية دمشقية مع ..مظفر النواب
المزيد.....
-
-حرب- التعريفات الجمركية بين الصين وأمريكا.. كيف ستستجيب بكي
...
-
نتنياهو يتوجه إلى الولايات المتحدة ليكون أول رئيس وزراء يلتق
...
-
إجلاء أطفال فلسطينيين جرحى إلى مصر مع إعادة فتح معبر رفح
-
تعيين اللواء إيال زمير رئيسا جديدا لأركان الجيش الإسرائيلي
-
كاميرا تلتقط لحظة انفجار طائرة في فيلادلفيا في كارثة جوية جد
...
-
بوتين يهنئ البطريرك كيريل بذكرى تنصيبه الكنسي
-
قتلى وجرحى في قصف إسرائيلي استهدف مركبتين في مدينة جنين (فيد
...
-
الحرس الثوري الإيراني يكشف عن صاروخ كروز البحري بمدى يتجاوز
...
-
طالبة صينية أول ضحية لقانون ترامب بترحيل الطلاب المؤيدين لفل
...
-
ترامب يأمر بتوجيه -ضربة دقيقة- لاستهداف أحد زعماء -داعش-
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|