|
رحلة إلى..السراب
آسيا علي موسى
الحوار المتمدن-العدد: 793 - 2004 / 4 / 3 - 07:47
المحور:
الادب والفن
تـبـــوأت مـكــانــا مـــن الـمــقـــاعـــد الـخـلفـيـــة ، حـيــث أشـــار عـلـيـهــا والــدهـــا لــم تـكــن تأبه بـالجــو الـــخــانـــق لـهـــذه الـمـســاحــة الـمـخـصصــة للـمـســافـريــن من الـدرجة الــثــالثـة ، و لا للـفــوضـــى الـتـي كــانـت تـعــم الـمـكـان ، و لا لـمـزاج والــدهـــا المعكر ، و اضطــرابــه، لـــم تنـتـبــه للـعــرق الـذي كـــان يـتـفـصّـــد جـســـده و لا وجـهـــه الـدّاكـــن الـمـشــدود الـقـسـمـــات و كــأنّ هــمـــوم الـكـــون تـمـتـطــي رأســـه . لـم تـنـشـغـل بـالمـشـادات الـكـلامـيـة الـتـي كـانت تـشـتـعـل أمـامـهـا بـيــن مـســافــر و آخــر . . . لـــم يـكــن عـقـلـهــا حـاضــرا حـيـث الـجـســد . . . كــــان شـــرودهـا حـــلـمــا ســـرمــديــــا . . . كـــانت تـحـــس بـالحـريــة شـمــســا تـــوقـــد فــي أحـشــائـهـا لـذّة الاستكشاف ، تـشــع الـدنـيــا مـن حــولـهـا ، و تـحيـــل الـقـاعــة الـحـالـكـة صــالــونــا مـلـكـيــا يــزيّــن بـهـوهُ بـشــر لـيـســوا كـبـقـيـــة البـشــر،،، بـشـــر يـصـنـعــون الـعالـــم . . و يـصـنـعـــون حـلـمـهـــا الـمـفـتـــوح الـنـهــايــة . . كـــان حـلـمـهــا يــمـلأهــا ، يـحـتـمــل مـحـاجــرهـا . . يـحـمـلـهـا ورقـــة يـانـعــة تـعــبـر الأفــق المضيء ، تـجـتــاز حـــدود الـبــؤس و الـفاقـــة الـتـي كــانت تــرزح تـحــت وطــأتهـمــا كـسـيــرة . . مـمّـــا كـــان يُـشـعــرهــا بـالـقـرف . تـــوجـهــت عـيـنــاهــا الـكبـيـرتــان بـألــق ذهـبـي ، فانطلق مـنـهمــا شـعــاع يـسـقــط الـجـمـال عـلـى كــلّ مــا حــولـهـا مــن تــعــب و . . هـمـــوم . . . بـالأمــس كــان الـحـلــم راقــدا فــي حـنــايـا الـصــدر ، فــرخ حـمــام تـطـعـمــه فـتـــات الأفـكار و . . رذاذ خـيـــال يـســـع الـكـــون . . . و لـــم تــدر كـيــف . . و لِــمَ . . تــــراه الآن . . عـجـــوزا تـغـمــر وجـهـــه الـتـقـــوى و يـلـبـس البـيـــاض . . يـمـخـــر فــراغ الـوهــم . . و يــدلــهــا عـلـى بــاب الـسـعـادة يـقـــودهــا طـفـلــة تـائـهــة بـيــن صـفـحــات كـتــب مـسـتـعــارة ، إلــى عـــوالــم مـــن الـتــرف و الـسـحــر و الـحـضــارة . إلــى فـضــاءات بـشـكــل قـــوس قــزح تـضـيـئـهــا الألــوان الـسـبـعــة. كـانـت حــالـمـة و كـــان الـعـــالم لـحـظـتـهــا مـســاوٍ لـحـلـمـهــا . . لــم تــصـدّق أنّ الـقــدر يـخـصـهـــا بـتــذكـــرة سـفـــر ، تـعـبــر الـبـحـــر عـلــى ســفـيـنـــة . . . لـتــزور بــلــدا آخـــرا . . . هـــي الـتـي لــم تـعــرف مـــن الـدنـيــا إلاّ بـلـــدهـــا ،، و مــــن بـلـدهــا إلاّ مـديـنـتـهـــا ،، و مــــن مـديـنـتـهـــا إلاّ مــرافـقــهـا الـتعليـمـيـــة و الــطرق الـمــؤديــــة إلـيـهــا . .. هـــي الـتـي حـجـــزت لـنـفـسـهــا آنـفــا مـئـــات الـتــذاكـــر ، عـبــر صـفـحــات كـتــب ، شـغـفــت بـقـراءتـهـا و جـنّــت بـمــا فيـهــا . * * * * * أســدلـت جـفـنـيـهــا فــي تــؤدة ، و راحــت تــرنــو إلى بـــرج إيـفــل ، تـحـمــلق فــي قـوس الـنـصــر ، تـجــوب قــاعــات قـصــر فـرســاي ، تـغــرق حـتــى الـهـامـــة فــي جــوّ مـلـكـي راق . . تـقـف مـبـهــورة بـجـمـال نـســاء فـي نـور مـلائكة يـلبســـن الـسـحـر و يـنـشــدن الـشــعـــر ، بـلـغـــة مـنـمـقــة ، مـفـعـمــة بـالتــرفــع و الرقـــي و كـثـيــر مـــن التـجـمّـــل و الـتـصـنّـــع . . . لـكـنّـهــن كـن رائـعــات . كــلّ واحـــدة تـتـأبّــط يـــد فــارس وسـيــــم . و تـســلـم نـفـسـهــا لإيـقـــاعـات سـمـفـونـيـة عـالمـيــة . . تــغــرق الـمـوكــب فــي جـوّ حـالــم . . . فـــردي ، شـــوبــان ، مــوزارت . . أسـمــاء تـسـكـــر . . . راحـــت تـهــزّ رأسـهــا هــزّات خــفيـفــة ، يـمـيــل جـســدهــا بـــرقّـــة . . هــاهــو أسـتــاذهـا الـفرنـسـي يــدعــوهــا لـتـشـاركــه الـفـالــزا . . يـلـقـنـهــا أبـجـديــاتـهـا بـعــدمــا لـقـنـهـــا أبـجـديــات لـغــة فــولـتـيــر الـتي صـارت تـتـقــن قــواعــدهــا جـيــدا . كــانت تـمـعــن الـنـظــر فــي عـيـنـيــن زرقــاويــن تـشـعّـــان ذكاء و حـيــويــة . . و تــطــلاّن عــــلـى الـعــالـم مـن نــافـذة فــوقـيــة ، عـمـيـقـتــان ، تـكـتنــزان أطـنــان الـمـعـارف و بـحــارا مــن الأفـكــار ، سـحـرهــا ، سـحـرتـهـا عـيـنــاه الـزرقــاوان اللـتــان اسـتـرقـتــا مـن الـبـحــر لــونــه و عـمـقــه و اسـتـرقـتـــا مــن حـلـمـهـا اتـســـاعــه . . . حـلــم يـأخـــذ كــلّ الأشـكــال و لا يـغـيّــر لـونــه ، لــونــه الـثـــابـت ثـبــوت لــون الـبـحـــر و الـسـمــاء . . راحــت تتـفــرس فـي وجـهـه عـــن مــلامـــح رجــال و نـســاء كــان يــأخــذ شـكـلـهـم فـي كـلّ درس . . زولا . . بود لير ، مــولييـــر ، راسيـــن ، سـتـانــدال . الـسـيــدة دي سـفيـنيي ، سـيـمــون دي بــوفــوار ، سار تر . . كــلّ الـروائــع الـتي كــانت تتـصــورهـا بـعقـلـهـــا الـفـنــي الـغــض، و تـسـقـطـهـــا عـلــى أسـتــاذهــا الـفرنـسـي ، تــفـرســت فــي عـيـنـيـه حــالمــة ، بـمـتـحــف اللـوفــر . . و راحــت تــراقـصه مـنـتشـيـة بـإيـقاعات الـفـالزا ، شــدتــه مــن يــده ، و ركـضـت مـجـنـونة ، في مـحلاّت سان لــوران ، اشـتـار ، كــاردان . . بــــــــدا الـمـشـهـــد خـــرافـيــا . . . رقـصــت . . رقـصــت ، حـتــى تــداعــى جـسـدهــا الـمفـتــون أرضــا . . . فـتـحـت عـيـنـيـهــا . . لـتـجـــد أنّـهــا تجـلــس فــي كــرســي رثّ . . . فــي بـقـعـــة مـقـفــرة ، وســـط حـشــد آدمــي تـفـــوح مـنـــه رائـحـــة الـعــرق و الـمـلل ابـتـلـعــت حـلـمـهــا عـلــى مــضض و قــامــت تـلمـلــم أشـيـــاءهــا لـتـسـتـعــد للـنـــزول . رســت الـبــاخـــرة فــي مــرســى مـرسيـلـيــا ، و حـــط قـلـبـهــا مـعـهــا شــراعــه ، صــاروخـا استكشافيا يـحمــل نـفــرا مــن " الـجـنــوب " لـيـحـطـــه عـلــى ســطــح كــوكــب جـمـيــل يـخــالــه الـجنّـــة . . . اتـبـعــت بـمـرارة نــظــرات رجــال الـجــمـارك و مــلاحــظـاتهــم الـملبــوســة بـلـكنــة مـارسـيـلـيـة ، و غــمـز و لـمــز أحـسّـــتـــــه رصـــــاصــا يـنـخــر كـبـريــاءهــا و شــمــــوخ انتمائها و يـعـتـــم واجـهـــة حـلـمـهـا ،، كــان الـجـمــع خـليــطــا مــن وجــوه كــادحــة ، لا تــوحــي بـأي انتماء. وجـــوه مـنـقـبـضــة ، مـتـعـبــة ، قـلـقــة ، فـقــدت لــذّة الـحــلــم . . أو تـحـلــم أفـقـيــا لــم تــرن يــومــا نـظــراتـهــا إلــى الـسـمــاء . كــانت تـتـتـبــع تــدافـعـهــم ، و ازدراء " الـمـسـتـقـبـلـيـن " لـهــم و تـهـكّــم و ابتسامات تـلـدغ عـزّتـهــا و أنـفـتـهـا ، ســمّــا و حـســرة ، أفـســدت عليها فـرحـــة الـوصــول . . . تـمـلمـلت فـي مـكـانـهـا ، و تـراجـعـت خــطـوتـين . . أرادت أن تـثـبـت لـنـفسـهـا أو لأحـد مــا، أنّـهــا لـيـســت جــزءا مــن هؤلاء . . أو أنّـــهــا تـخـتـلـف . . أنّـــهـا عـلـى مـسـتـوى أرفــع . . و أنّـهــا جــاءت للـسـيــاحــة و . . و . . لــم تــدر كـيــف دفـــــع جـسـمـــهــا دفــــعــــا إلـــى الأمــام . . كـــان والـــدهــا يـشـــــدّهـا شــــدّا و يـنـهـرهــا عـلـى تــرك مــوقـعـهـا مــن الــطــابــور . . و أنّ هــذا سيـكـلـفـهـمــا تأخـيــرا . . لــم تـكــن تــدر عـــلاَمَ ؟ رمـقــت والــدهــا بـنـظــرات مـلـؤهــا الـحـيــرة و الـمــرارة . . أحـسّــت بـالهــوان . بـالكـــادِ اتـبـعــت خــطــوات أبـيـهــا الـرّاكــض بـحـثــا عــن فـنــدق درجــــة . . دنـيــا بأرخــص الأثـمــان و قد أدركت أخـيــرا طـبـيـعــة الـرّحـلــة . مـــرّت قــربهـمــا سـيّــدة فـرنـسيــة تـســرع الـخــطـى . . بــاردة كـشـــوارع مـديـنـتـهــا . . لـيـس لـعيـنيـهـا لــون و لا عـمــق و لــم تـكـــن بـشـكــل الـمـلائـكــة . . . كــانت تـنـفــرهـمــا كـمـا يـنفــر الـطّــاعــون ، تـبـعـثــرت أمــام عـيـنـيـهــا نــوتــات سـمـفــونـيــة فــردي . . و تـبـخــر الـحـضــور . غــرق أسـتـاذهـا الـفـرنـســي فــي " أزهــار الألــم " لـبــودلـيــر ، و انـــزوت و رفـقــاء رحـلـتـهــا فــي جــزء مــن " بــؤســاء " هـيـــجــو . . . بــدت لـهــا الـمديـنــة مـقـفــرة ، مـقــرفــة ، تـصّــاعــد مــن أزقـتـهــا رائحـــة الـغـبــن و الـحـقــد الآســن و . . الـهـــوان . . * * * * * وقـفــت فــي شــرفـــة " الـفــنــدق ". . الـمـشـهـــد انـكـســـار . . ســـوق . . . عـربــي الـحـــروف . . هـجـيـــن القـسـمــات ، رديء الـتركـيـب ، و أزقـــة بــاردة ، مــوحـشــة يسـكـنـهــا . . . الـمـلل ، طـفـقــت تـمـســح وجـهـهـا عـلــى عـجـــل . . تـتـلـمــس مــلامـحـهــا الـعربـيــة ، تـخـمــد نــار الـشــك الرابـضـة فــي نـفـسـهــا . . مــراجـعـة لـحـســابـاتـها ، مـقـلّبــة أوجـــه حـلـمـهــا الـعـاري . . مـُـقـــسِــــمَـــة . . ألاّ تـــزور هـــذه الـمـديـنـــة إلاّ فــي صـيـغـــة . . أخــرى . . .
#آسيا_علي_موسى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ما يشبه الابتسامة
المزيد.....
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|