|
ستون عاما من الابداع(3)
شاكرخصباك
الحوار المتمدن-العدد: 2584 - 2009 / 3 / 13 - 09:56
المحور:
الادب والفن
شاكر خصباك مسرحياً(*) □ كريم جثير (القهقهة ومسرحيات أخرى) مجموعة من المسرحيات القصيرة هي آخر ما صدر للقاص والكاتب المسرحي المعروف شاكر خصباك وضمن سلسلة أعماله الأدبية الكاملة الصادرة عن مركز عبادي للدراسات والنشر -صنعاء- وقد ضمت هذه المجموعة بالإضافة إلى مسرحية (القهقهة) ثلاث مسرحيات أخرى هي (دردشة) و(هو وهي) و(في انتظار جودو) وجميعها من المسرحيات القصيرة وذات فصل واحد. ولأهمية هذه المسرحيات من ناحية المضامين التي تضمها والبناء المتنوع الذي اختاره كاتبها لها، ولما تشكله أيضاً من أهمية خاصة بين ما كتبه خصباك من مسرحيات خلال مسيرته الإبداعية الطويلة، هذا وغيره دعانا لأن نقف عندها وبهذا المقال القصير. من ينظر إلى أعمال شاكر خصباك المسرحية السابقة ورغم أهمية كل من مسرحيتي (الشيء) و(بيت الزوجية) وغيرهما، لابد بأنه سيلحظ تحولاً في توجه خصباك بكتابته المسرحية. وقد بدا هذا التحول منذ مسرحية (الديكتاتور) الصادرة العام الماضي عن مركز عبادي أيضاً. وجاء ذلك بعد أن كان خصباك يكتب النص المسرحي وفي ذهنه القارئ وليس الجمهور الذي سيأتي لمشاهدة العرض، أو لنقل كان يراعي الجانب الأدبي أكثر من الجانب الدرامي معتمداً على المتعة التي تولدها قراءة النص وليس تلك المتعة الناجمة عن تجسيد هذا النص على خشبة المسرح مما يذكرنا ذلك وعلى نحو ما بأعمال (علي أحمد باكثير) ونصوصه المسرحية التي رغم كثرتها لم يقدم منها إلا القليل على الخشبة، وبأعمال (توفيق الحكيم) رغم الفرق بين مسرح الحكيم الذهني ومسرح خصباك.. ومع ذلك فلا نرى في ذلك ما يشكل عيباً في الكتابة المسرحية أو يقلل من قيمة هذه النصوص كونها تدخل ضمن تراثنا الأدبي.. سواء جاءت بشكل مقصود أي ما كتبه (الحكيم) لتحقيق مسرحه الذهني ودعوته إليه، أو ما كتبه باكثير باهتمامه بالتاريخ وحواراته الطويلة المغرقة بالتفاصيل.. أو جاءت كما كتبه خصباك، لعدم وجود مسرح يتلقف مسرحه ويكون منطلقاً لكتابته المسرحية الأولى وعدم وجود مسرح كما هو الآن. وكان النص المسرحي ينفذ إلى القارئ مطبوعاً أكثر مما هو متجسداً على خشبة المسرح.. وبطبيعة الحال لا يعني ذلك أن هذه النصوص خالية من الجانب الدرامي. فلو بحثنا لوجدنا فيها الكثير مما هو درامي والكثير منها يصلح لتقديمه على الخشبة وإن كان ذلك يحتاج إلى بعض الصياغات الدرامية من قبل المخرج، كما أنها أكثر أهمية في تحديد تراثنا المسرحي وتاريخه والعودة إليها لدراسة ذلك من المسرحيات الأخرى التي شكلت أهم ظواهر مسرحنا العربي. ورغم أننا ندرس مسرحنا على ضوء تلك الظواهر إلا أن تلك الظواهر لا تدخل ضمن تراثنا الأدبي.. وحتى رواد المسرح لم يتركوا لنا من النصوص المسرحية التي تدخل ضمن هذا التراث.. وقد أشرنا من قبل -في مقال سابق- إلى ما تناوله (محمد مندور) وبكتابه في المسرح النثري، إذ يقول «ها هي بين أيدينا روايات مارون نقاش الثلاث تعود إليها فتجدها مكتوبة في لغة خليط من الفصحى واللغة التركية أحياناً واللهجتين العاميتين المصرية والشامية بما يصيبها من الركاكة والتفكك والأخطاء النحوية.. إلخ». ومهما يكن من أمر، تبقى أهمية النص المسرحي سواء كان هذا النص أدبياً خالصاً -وهذا النص لا وجود له فالنص المسرحي لابد أن يحتوي على قدر من الدراما وإلا ما سمي بنص مسرحي- أو كان نصاً مسرحياً درامياً خالصاً وهذا هو الآخر لا وجود له، فالنص المسرحي لابد وأن يصب في قالب أدبي أولاً ليتجسد فيما بعد على خشبة المسرح وتتضح قدرته الدرامية بصموده على الخشبة وإمكانية تجسيده عليها أكثر من غيره من النصوص. وها هو شاكر خصباك وباتجاهه إلى الخشبة واقترابه منها أكثر عبر مسرحياته القصيرة والتي دعتنا إلى هذه الوقفة كما ذكرنا.. إذ يقدم لنا في مسرحية (القهقهة) فرقة مسرحية تقدم عرضاً مسرحياً للجمهور، والعرض كله عبارة عن قهقهات متواصلة حتى يسأم الجمهور هذا العرض ويطالب الممثلين بالتوقف عن ذلك وتفسير ما يحدث. ويكتشف الجمهور أن هذه القهقهات هي المسرحية كلها. ووسط هذه القهقهات يبدأ حوار بين الجمهور والممثلين ومؤلف المسرحية حول دور المسرح وأهميته في حياة البشر وحول المسرح الجاد والمسرح التجريبي والمسرح التجاري وبالتالي الذائقة الجمالية للجمهور. وتنتهي المسرحية بخروج الجمهور بينما تستمر القهقهات من قبل الفرقة المسرحية.. وهذه المسرحية القصيرة التي تجمع بين الطرافة والجد والروعة وإن انطلقت من فكرة بسيطة إلا أن هذه الفكرة سرعان ما تتطور لتصل إلى مناقشة موضوع في غاية الأهمية بين الفرقة والجمهور وعبر بناء درامي متنامي وضمن فضاء مفتوح يجمع بين ما يجري على الخشبة والجمهور فيلتحم الممثلون بالنظارة، بل إن المساحة التي يأخذها الجمهور من الحوار والحدث تصبح أكثر مما تأخذه الفرقة المسرحية أو ما يجري على خشبة المسرح.. أما مسرحية (دردشة) وهي الثانية من هذه المجموعة المسرحية.. فهي بالفعل عبارة عن دردشة بين عدد من الشخصيات بصالة فندق في الشمال. وتبدأ الدردشة بموضوعات بسيطة حول الطقس ومغيب الشمس في المصيف.. وتتطور للتطرق إلى موضوعات تتعلق بالمسؤولية وبالتربية ثم بالسياسة وبوضع البلد، خاصة بعد جلوس الزبون الجديد الذي يجلس على مسمع مما يدور. وسرعان ما يتدخل هذا الزبون الجديد وبشكل فضولي مستفز ويهدد الجميع لأنه لا يعجبه هذا الحديث، أو هذه الدردشة التي يعتبرها خيانة وتخريب للوطن متكلماً باسم النظام. ثم يغادر الصالة إلى غرفته ليتصل بأحد المسؤولين محرّضاً إياه على الجماعة. فيبقى الجميع بموقف لا تحمد عقباه وفي انتظار مصيرهم المجهول الذي ليس من الصعب علينا تحديده. والحقيقة أن هذه المسرحية ورغم عمق الموضوع الذي تطرحه وبناء الشخصيات بناءً متكاملاً إلا أنها أقل مسرحيات المجموعة بناءً درامياً. فهي تأخذ من الدردشة بواقعيتها وتفاصيل انتقالها من موضوع إلى آخر ولا تملك فعلاً درامياً يحرك الأحداث إلا عند تدخل النزيل الجديد واستفزازه للآخرين بحديثه معهم وصعوده إلى غرفته، الذي يجعلنا في حالة من الترقب وانتظار ما سيحدث بينما تنتهي المسرحية وقد توقفت الدردشة. وأما مسرحية (هو وهي) فهي أكثر مسرحيات المجموعة إثارة بالنسبة لي وذلك لموضوعها الذي يتناوله الكاتب وأسلوب كتابتها.. (هو وهي) عجوزان سئِما الحياة ورتابتها وقررا الانتحار.. إلا أنهما يفشلان ويعودان إلى مواصلة حياتهما.. هي إلى اهتمامها بأثاث البيت وبنفض ما عليه من تراب اليأس... وهو بالعودة إلى كتبه، كما يعودان إلى انتظارهما المشترك لولدهما.. وقد قام الدكتور شاكر ببناء المسرحية على شكل لوحات تتكون من حوارات قصيرة وباستخدام الصمت ليكون فاصلاً بين لوحة وأخرى.. حيث وضع عند نهاية كل لوحة صمت ممتلئ يساعد في تطور الحالة الدرامية والزمن النفسي للأحداث مع انسجام ذلك مع موسيقى تصور الملل واليأس تستمر طوال المسرحية خصوصاً في فترات الصمت، لتتحول أخيراً إلى موسيقى ناعمة تصور الأمل والتفاؤل عند نهاية المسرحية. ومسرحية (هو وهي) من أجمل مسرحيات المجموعة بحواراتها المكثفة وبأسلوبها الرشيق وبحبكتها الدرامية التي تنضج على نار هادئة مما يجعل المسرحية أشبه بقصيدة تمثل دورة الحياة وهي تتحرك بين الملل والرتابة التي يصل الإنسان إليها بعد أن يحقق جميع أحلامه وطموحاته وقد خبر الحياة وعاشها بطولها وعرضها ووصل إلى شيخوخته حيث استنفذ كل ما كان يرغب أن يحققه أو يفعله ووصوله إلى الرتابة ومحدودية عالمه التي تقوده إلى الملل.. وبين الأمل الذي يبقى على الدوام وهو يحرك تلك الشخصيتين من جديد..
ثم تأتي مسرحية (في انتظار جودو) آخر مسرحيات المجموعة.. والتي اقتبس عنوانها من مسرحية (بيكيت) الشهيرة. وهذه المسرحية تطرح موضوع السلطة وعلاقتها بالشعب الذي يرزح تحت قمعها وأساليبها التي تقوده إلى المهانة ومصادرة أبسط حقوقه. والحقيقة أن هذا الموضوع ليس جديداً في أدب خصباك وقد تناوله في أكثر من عمل، ولكن هنا يقدمه بأسلوب جديد عبر المزيج الرائع بين الواقع والخيال وباستخدام الروح الشعبي في الحوارات وامتزاج ذلك باستخدام الحكم والأشعار.. كما أن هذا العمل ضاج بقدراته الدرامية الواضحة عبر المشاهد التي تدور بين (السيد) ومجاميع الناس لتصل المسرحية إلى ذروتها والمأساة على أشدها عندما يقوم (الشاب1) بقتل (رجل1) الذي كان يردد بين الحين والآخر «ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع» لتنتهي المسرحية وهي تقودنا إلى البحث عن منقذ يخلص الناس من (السيد - الدكتاتور) الذي يتحكم بمصائر البشر والذي يأكل ما لذ وطاب حتى التخمة ولا يرمي إلا بالعظام إلى الأفواه الجائعة. وهو لا يتردد بأن يطلب منهم تقبيل قدميه القذرتين. ورغم صعوبة المواجهة أو الثورة عليه في المرحلة التي تصورها المسرحية من حكم السيد فإننا نجد وفي نهاية المسرحية حاجتنا إلى منقذ وبالتالي إلى الثورة التي تقود إلى إسقاط السيد والقضاء عليه بعد أن طفح الكيل.. رجل2: جودو وحده القادر على إنقاذنا من أسر السيد. شيخ1: كلكم جودو لو شئتم. شيخ2: لا تصغوا إلى كلام هذا الشيخ الأحمق.. إنه يريد أن يوقعكم في بلية. أصوات متوسلة: (وهم يرفعون أذرعهم): جودو.. جودو.. نحن في انتظارك يا جودو. شيخ1: (ناظراً إلى الموجودين برثاء) سيكون انتظاركم بلا نهاية أيها المسكين. (فترة صمت.. يقفز شاب رقم2 نحو الكرسي ويخاطب الأطفال التماثيل) شاب2: هيا بنا يا أطفال ننشد نشيد الرجل الشجاع.. «ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع.. ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع..» إلخ.. وهكذا نرى بأن المسرحية تريد أن تقول لنا بأن (جودو) ليس بمعجزة تأتي من السماء إنما جودو هو الشعب نفسه وعلى يده سيكون الخلاص. وأخيراً فإن مسرحيات هذه المجموعة تستحق القراءة والتأمل.. كما أنها تستحق تقديمها على خشبة.. ودعوة للزملاء في المسرح اليمني لقراءة هذه الأعمال المسرحية القصيرة وسيجدون فيها مشاريع لعروض مسرحية ناجحة تغنيهم عن متاعب البحث عن النصوص المسرحية وهذه المجموعة المسرحية الرائعة عند متناول يدهم. مخزون معرفي عال لتقديم شخوص الحياة(*) □ د. سعاد محمد إبراهيم خضر
إنها نافذة قديمة جديدة يطل منها كاتبنا الكبير على عراق ما زالت تتفاعل على أرضه أحداث مأساوية. تلك الأحداث نفسها التي صورها الدكتور شاكر خصباك بحذق في مسرحياته كما في مقالاته كما في قصصه أو أحاديثه الشيقة عندما تجتمع لنناجي ذكرياتنا وما آلت إليه أحوال عراقنا وحياتنا في خضم اختلاط الأوراق... لقد أحس بما دار وما زال يدور اليوم على ساحات العذاب. لا يمكن لأحد يقرأ مسرحياته أن يتوقف عن الكتابة عن ذلك الإنسان الذي يحمل بين جوانحه هم الإنسان العراقي وهموم العراق؛ فلا يمكنه إلا أن يحس بما عاناه وما يعانيه شعبنا المنكوب من مآس ومظالم على مر العصور. وأبطال مسرحياته، والذين انتقاهم في ذكاء من بين مختلف شرائح الشعب العراقي، ما زالوا يجترحون الصراع المستحيل مع الظلم، مع لقمة العيش المعجونة بالدم، مع الموت ومع الفناء.. أما سؤاله الذي طرحه في مسرحية (القضية) ومسرحياته الأخرى فهو نفس السؤال الذي يعتمل في نفس كل فرد عراقي: ما هو مصير كل إنسان في ذلك المجتمع؟ لقد هزم الإنسان في مسرحياته جميعاً الخوف داخل ذاته، وهو يؤمن بقدرة ذلك الإنسان وحده على صنع مستقبله.. فهل يستطيع الإنسان العراقي اليوم أن يقهر الخوف داخل ذاته وينتصر على واقعه كما يفعله في مسرحيات الكاتب.
فبطله مهما كان موقعه الاجتماعي يرتكز على الواقع على التاريخ الذي يحدد بدوره مصيره في صراعه الدائم مع الموت، وأبطاله أناس نعرفهم، نستطيع أن نشير إليهم، وقد عاشوا بين ظهرانينا وما زالوا يعيشون في عراقنا البعيد وهو يصورهم لنا في إنسانية واضحة ويضعهم في بؤرة هذا (الشيء) الغامض الواضح الذي عشناه جميعاً.. آلاماً وعذابات منذ ستينات القرن الماضي.. ذلك (الشيء) الذي جثم على جميع صدورنا دون استثناء والذي صوره في مسرحيته المعروفة (الشيء) مقدماً إدانة شجاعة فريدة نجحت في تفعيل المأساة العميقة التي طالتنا جميعاً نحن وعوائلنا في تلك الفترة التاريخية المأساوية... إن مصائر أولئك الأبطال المختارون بذكاء، تتفاعل مع الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي عاشها الإنسان العراقي الذي يحلم بغد أفضل. إن مسرحيات الدكتور/ شاكر تواصل دائماً محاكمة النفاق والصمت القاتل الذي اتخذه الإنسان البسيط درعاً يحميه من طغيان وتسلط السلطة وانتقامها، ويواصل كذلك محاكمة الانغماس في التفاهات التي تفرضها الحياة الاستهلاكية، تفرضها بوضوح( ). ومسرحية (الجدار): وما اختياره لأبطال مسرحية (الجدار)(2) بحروف بدون أسماء إلا تعميقاً لذلك النمط من البشر، وشمولية تلك النماذج من البشر التي نسيت الحب والمودة وجميع الأخلاقيات الاجتماعية وكل ما نعرف من نبل في الحياة، وحصرت نفسها متسترة وراء المظاهر الكاذبة والادعاءات الفارغة. ويستخدم الدكتور شاكر خصباك كل مخزونه المعرفي العالمي وكل ما استوعب من مشاكل التجريب المسرحي العاطفي ليقدم لنا شخوصاً نعرفها حق المعرفة وإن كانوا يدورون على مسرح الحياة دونما أسماء أو عناوين فهم بيننا، ونتعايش معاً على مسرح الحياة. وتعري إيقاعات الواقع المعاش أبطاله وشخوصه من ذلك الزيف الظاهري وتقدمهم لنا في شكلهم الحقيقي (ولياليهم السوداء) وفي جميع أنماط حياتهم المعذبة، وأشكال الموت الذي يدق على الأبواب دون سابق إنذار، وليضع حدا للانكسارات وللمصائر العبثية. ورؤيته النافذة تضعنا مع كل مسرحية أمام أنفسنا وتصرخ في وجوهنا لتثير تلك الجوانب المشرقة في النفس الإنسانية وإن أخفتها بعض الإخفاقات؛ ولكي نتابع الصمود ونواصل مقاومة واقعنا المهين والذي نتجرع مرارته صبح مساء... ولأن الظلم شمل العراق من شماله إلى جنوبه، فإن نظرته الثابتة، استطاعت أن تعري جوانب ذلك الظلم وأسبابه الحقيقية وتداعياته مساعداً الفرد البسيط على تلمس طريقه التي يجب أن يسلكها في مواجهة مصيره البائس وألا يبقى في مكانه منتظراً (جودو) كما في مسرحيته، في صمت ويأس وكما فعل بطل مسرحية بيكيت أيضاً. ونطل مع الدكتور/ شاكر خصباك من نافذته البعيدة على التاريخ والماضي والحاضر مستثمراً في وعي ناقد أزمة الإنسان في الزمان والمكان. وكل ما يمكن أن يدفع أبطال مسرحياته إلى مواصلة النضال وعدم الانتظار الصامت الذي يشي بالضعف والاستكانة. إنه يدفعهم إلى البحث الدؤوب عن العدالة والحرية ونعمة العيش الشريف في عراق جديد.. فما زالت تدور أمامنا وفي وعينا حياة أبطال مسرحية الغرباء(3)، الذين يتحركون في حدود مصالحهم الآنية غير عابئين بما يدور حولهم أو حتى بمشاعر أقرب الناس إليهم.. فقد تجمدت المشاعر وغاضت العواطف في أتون الصراع اللاهث وراء المال. وترمز مسرحية (اللص) إلى مضمون مسرحية (الغرباء) مع الاختلاف في الشكل. فالرئيس الجديد يدعي أنه كان قد أمسك بزمام الأمور منذ كان نائباً للرئيس وأنه كان يحكم باسمه ولم يكن هو ليقوم بأي شيء بدونه. ويقوم الكاتب بالغوص في أعماق تلك الشخصية.. شخصية الحاكم ويعري جوانب نفسيته المعقدة عندما يرد (الدكتاتور)(4) في المسرحية التي تحمل نفس الاسم، عندما يرد على جميع التساؤلات التي تطرحها المسرحية والتي تكشف لنا الوعي الكامل بجوانب شخصية (الدكتاتور) في جرأة وصدق كبيرين.. وهل يمكننا أن نفصل تلك النظرة النقدية لجوانب شخصية (الدكتاتور) عن شخصيات مسرحية (بيت الزوجية)(5). فها هو الزوج (صلاح) الذي توارت أفكاره التقدمية في الإصلاح أمام عنجهية زوجته وشعورها الطبقي بالاستعلاء ونسيانه جميع مبادئه في سبيل إرضائها والانغماس في الأعمال التي تدر عليه المال اللازم لإشباع رغبات الزوجة (راقية) والتي لم تتحمل وجود الأم وشقيق الزوج المتمسك بمبادئه وآرائه معها في البيت. وتتتابع فصول مسرحيته (بيت الزوجية)، لتكشف لنا جوانب وكوامن ذلك الصراع الطبقي وكيف يطحن التطلعات الإنسانية والمشاعر الحميمة، فقد صور ذلك الصراع الداخلي الذي يعيشه الزوج وتمزق عواطفه بين الرغبة في إرضاء الزوجة وبين رغبته في رعاية أسرته ووصول ذلك التمزق الداخلي إلى ذروة الانفجار في وجه الزوجة ووجه كل ضيوفها في عيد ميلاد ابنه (باسم). إن كل ذلك يؤكد هشاشة مبادئ (صلاح) وتقدميته ورغبته العارمة في مجاراة طبقة زوجته.. إن إبحار الكاتب في أعماق شخصيات مسرحيته يكشف باعه الطويل في ذلك النوع الأدبي وعن مقدرته الفائقة في السيطرة على شخوصه كما فعل من قبل في جميع قصصه، بل ويذكرني هنا بإمكانيات تشيخوف في تعريته لأعماق شخصياته.. إنها نماذج حياتية تعيش بين ظهرانينا تلك التي يمر عليها الدكتور/ شاكر خصباك في مسرحياته وكلها تحمل الكثير من الإسقاطات التي تكشف لنا جوانب كثيرة مما يعتمل في حياتنا. إنه وهو يكشف لنا عن الحياة الطبقية في عراق الأمس واليوم إنما يسوق ذلك في وعي كامل ويعبر عنه في لغة سلسة تحمل المفردة منها كثيراً من الجوانب والمعاني بحيث لا يمكنك أن تنتزع كلمة أو تهمل جملة. فالكل متماسك وكل مفردة تقدم لنا تماماً ما أراد الكاتب أن يعنيه عندما اختارها وعندما حرك شخوصه على خشبة حياتنا التعسة. وتتفاعل صوره بين المال والحب والجنس والسياسة والأثرة في لغة متمنعة مهذبة لن تصادف فيها مطلقاً كلمة بذيئة أو مفردة نابية تجرح الشعور العام.. ألا يذكرنا بطل مسرحية (بيت الزوجية)(5) بالبهلوان في المسرحية التي تحمل اسمه وهو يحاول أن يقدم التسلية للمتفرجين في الفترة ما بين فقرات البرنامج، فما اعترافات الزوج (صلاح) لزوجته (راقية) بأنه سوف يهيئ لها كل ما يفرحها إلا كتلك الحركات البهلوانية التي يقدمها البهلوان عندما قال إني أيها المحترمون لا أمارس الحركات البهلوانية على المسرح فحسب بل في حياتي اليومية كذلك.. وأجدها نافعة جداً لي.. ومن منكم لا يمارسها أيها المحترمون؟ بالطبع فقد استطاع الزوج أن يتسلق جدران طبقتها ويتصرف في نفاق وصراع داخلي كما ذلك البهلوان ليحتفظ برضاها وبحياته معها..
وكم كان الكاتب محقاً عندما قال أحد المشاهدين (للبهلوان)(6): «لا يهمك أيها البهلوان، حتى لو لم تقصد تسليتنا، فأنت لم تقل سوى الحق». ويواصل الكاتب في مسرحية (البهلوان)(6) التعبير عن الحياة الصعبة التي يمارسها الإنسان العادي في قاع المجتمع أمام جاره الغني المتخم عديم الرحمة حينما يقول: «إن الفقراء أيام الأزمات والحروب والضعفاء يموتون جوعاً في حين يزداد الأقوياء والأغنياء شبعاً.. فالإنسان أناني بطبعه» وهو هنا يود أن يقول إن الحروب المتتالية التي عاشها العراق رغم أنفه قد دمرت جميع القيم والأخلاقيات الجميلة المتوارثة التي تميز الفرد العراقي بها بل وقلبت المجتمع رأساً على عقب.. لقد أحلت تلك الحروب محلها القيم الجديدة الأنانية، الاستهلاكية، الاستحواذ، بل حوَّل أعضاء المجتمع كله إلى (غرباء) يبحث كل عن مصالحه الخاصة وحسب. ولقد تجسدت قيم الاستغلال والطمع في مسرحية (الجدار)، ذلك الجدار(7) الذي يفصل بين منزلين متجاورين أشار الكاتب إلى ساكنيها بـ(س، ص) والذين كانت تربطهما صداقة حميمة تحولت إلى غربة ولا مبالاة مع ارتفاع الجدار رويداً رويداً ومع تحسن مستوى حياتهما. وكان كل من (س، ص) يتحدثان عن الثورة في عمارستان (والإشارة واضحة للقارئ) ويدعوان لهما بالنجاح ويتبادلان الكتب ودواوين الشعر. وكلما استهلك العمل وقتاً أكثر منهما وازداد دخلهما ارتفع الجدار أكبر رويداً رويداً بينهما إلى أن يفصل البطلين تماماً وتخفت الأنوار شيئاً فشيئاً.. لقد استثمر الكاتب كل حركة وكل كلمة في المسرحية استثمر الطبيعة والأنوار والظلام والجدار الذي يتصاعد باستمرار، استثمرها الكاتب جميعها.. في ذكاء خارق.. ذلك إلى ترميزه لشخصي الساكنين مبيناً أن كل طبقة تمحورت على ذاتها في المجتمع.. ونهاية المسرحية هي صرخة في وجه حياة تقرف منها حتى (جرذان البيوت). لقد أجّلت الكلام عن مسرحية (التركة)(8) حتى الآن. فعند قراءتها تخيلت أن الكاتب كان يتصور الوضع في العراق ما بعد الاحتلال الأمريكي، وكأن (التركة) هي العراق الذي يحاول جميع جيرانه وأبناء البلد الواحد أن ينتزع ما يمكنه انتزاعه منه وما يسلبه من أيدي الشعب العراقي، كل يفكر في مصلحته الخاصة وكأنما ذلك العراق، وذلك الشعب لا ينتمي إليه أحد.. وبدلاً من أن يتركوا الأخت ناجية تنتحر في نهاية المسرحية، يا حبذا لو جلس إخوتها حميد وعلي وهدى ونورية والحجية وعباس وحليم، لو جلسوا معاً وعملوا معاً للإبقاء على البيت. ولا شك أن للأسماء دلالاتها لدى الدكتور شاكر، فالمفردة لديه هامة جداً وحبلى بجميع المعاني والدلالات مما يساعده على الإيجاز الذي يشتهر به في كتاباته كلها، وبنفس الوعي المتكامل والتفهم وعدم الثرثرة، وكم من عباس وهدى والحجية وزهراء في بيوتنا تتصارع بهم الأطماع وتطيح بهم المصالح ليأتي الكاتب البارع ويحمّلها تلك التداعيات والإسقاطات التي تعبر عن واقع اليوم وكأنه كان يتنبأ بذلك الواقع.. وليحفظ الله التركة (العراق) من الانتهاء بين أيدي أصحاب المصالح والمطامع.. وفي عدد محدود من الصفحات وفي تركيز شديد يقدم لنا الكاتب صورة عراق اليوم الذي يتمزق عن بعد ويقدم له الكاتب في غضون السطور الدواء الناجع لمشاكلنا والذي يتمثل في نشر العدالة الاجتماعية والحرية لشعبنا الجريح.
ويأتي أبطال تلك المسرحية ليصطفوا إلى جانب أبطال آخرين (مع الفارق طبعاً) ليرسلوا لنا جميعاً صرخة -رسالة إلى ضمائر إخوانهم في العراق- لا ليتركونهم نهباً للموت تحت أقدام الطامعين ونهباً لأنياب الذئاب. وعندما تطرح مسرحية (التركة) تلك العواطف الباردة لأفراد العائلة الذين يودون بيع البيت وأن يأخذ كل منهم نصيبه في تلك التركة، تأخذنا تلك العواطف الباردة والعنف الكامن في النفوس إلى رواية (الطائر) الذي أحب امرأة من بني البشر وهي عاقر، وقامت علاقة جميلة بينهما، ثم غدرت به حينما توهمت أنها لن تنجب إلا إذا لاكت بعض العشب مع دم طائرها الحبيب.. ولا يخفى على القارئ ماذا يعنيه الطائر، وماذا تعنيه كل تلك الخلاصات التي توصل إليها الكاتب وهو أن الإنسان العراقي لم يعد يعنيه اليوم كما كان بالأمس أن يقتنص من يحب ويغتصب عواطف الآخرين في عالم ما زال مكبلاً بأغلال لا مرئية متداخلة من التخلف والخرافة والفقر والظلم والاستغلال..
ولكأن تلك المرأة العاقر الصامتة في رواية (الطائر) هي ذلك المجتمع المقهور الصامت الخانع يقتل كل ما هو جميل ورائع في الحياة يطوي جراحه ويتجرع مرارتها في هدوء، من ذلك المجتمع الذي سمح لـ(الدكتاتور)(11) بأن يلتف كالأخطبوط، ليمتص كل ما هو حلو ورائع في عراقنا والذي سمح بموت صاحبة البيت في (التركة) وهو الذي سمح بانتصار الموت على الحياة وإلى الأبد في عراق اليوم.. إن ما حدث اليوم وكأنه الزلزال، تنبأت به مسرحياته حيث توصلت مواضيعها وتجاذبتها الأهداف التي أرادها الكاتب عندما اختار بالذات تلك النماذج التي تدور على مسرح الأحداث.. وتأتي مسرحية (اللص)(3) لتضيف إلى ذروة الأحداث هدفها في مختلف المسرحيات، ولتطلق صرخة مدوية في وجه المجتمع المنطوي على جراحاته في صمت متقبلاً محاكمة ذلك الصمت وذلك النفاق في مسرحيات (هو وهي) و(س و ص) كما أسلفنا. ولا تقدم لنا شخوص مسرحياته التي انتقاها من مختلف شرائح المجتمع بدءاً من (الخاطئة)(9) وحتى (الدكتاتور) و(الرئيس)، لا تقدم لنا فقط مناحي هامة من مختلف ظروف وحياة الشعب العراقي، بل تأتي كما النبوءة لتصور ما يدور اليوم في العراق مطلقة صرخة حزينة في وجوه الناس لتقول لهم: انظروا إلى ما يدور حولكم وساهموا في تعرية مشاكلهم، وحاولوا إيجاد المخرج ولا تقلدوا أبطال رواية (حكايات من بلدتنا) في خنوعهم والذين كانوا يكررون دائماً «مالنا وللبرابرة، إن لم نتعرض لهم بسوء فلن يفعلوا لنا شيئاً». وتكرر الصرخة شخوص مسرحيات (الدكتاتور) و(البهلوان)(13): كفى خوفاً! كفى عجزاً! كفى مذلة! إنه عراقكم، دافعوا عنه..
ومسرحيته (الدكتاتور)(11) تتميز بشكل خاص وبأسلوب خاص اتبعهما الكاتب ليدلل على أن (الدكتاتور) يجسد على مر العصور تلك الصفات المشتركة التي يمثلها (الدكتاتور) في كل عصر.. فهم يدعون أن ما يقومون به من عسكرة الاقتصاد ومن تجييش الجيوش ومن نشر القهر إنما هي إجراءات للدفاع عن الوطن ضد شرور الأعداء الطامعين.. وما إنجازاتهم في الحقيقة سوى مصالحهم الخاصة وما يشبع غرورهم وكبرياءهم ويحتفظ باسمهم على مر العصور. ولابد لي من الحديث بإسهاب عن مسرحية (الدكتاتور) نظراً لأهميتها.
وقد استعرض الكاتب فيها أشكال ونوعيات الدكتاتور على مر العصور مستعرضاً (الدكتاتور) العربي والعراقي ثم عودة في (فلاش باك) إلى سلسلة وأشكال الدكتاتور (عبر القرون) ويبدأ بنابليون الذي يقول: أيها المواطنون، إنني أود أن أنفخ روح الثورة الفرنسية في جسد العالم كله ليعم العدل جميع البشر.. وترد عليه الجوقة النسائية والرجالية قائلة فيما بعد: بدأ حكمه بإصلاحات أردفها بانتصار طموحاته ليكون سيد أوربا والعالم، حيث انتهت وعوده للشعب الفرنسي بإحلال الكوارث والمعاناة وجحيم الهزيمة والمرارة..
وما أن ينطفئ النور حتى يتوهج على المسرح حيث يظهر الرئيس وهو يقوم بوصف وتمجيد إنجازاته وهو يردد في كبرياء وفخر ما زال أمامنا الكثير لننجزه أيها الرفاق. وما أن تخفت أضواء المسرح حتى يظهر على الكرسي الفخم حمورابي وإلى جواره وزيره رابي حيث يأمره بكتابة ما سوف يمليه عليه: لذا حيث «أقيم العدل وأقضي على الجور والشر» وحتى لا يطغى القوي على الضعيف ولكي أرتفع كالشمس فوق الرؤوس السوداء ولأضيء الأرض.. أنا حمورابي الراعي الذي عينه أنليل.. أنا السيد المولى الذي أحيا الورقاء ووفر الماء ومالك الصولجان والتاج الذي أوصله الحكيم فانا إلى الكمال.. أنا العاقل الإداري الذي غاص إلى أعماق الحكمة».
لقد اخترت ذلك المقطع الطويل من مونولوج حمورابي لأنه يوضح كل ما يفكر فيه أي كتاتور يصل إلى سدة الحكم. فكم من دكتاتور ادعى تغلغله إلى أعماق الحكمة وأنه لا يوجد من يفوقه عقلاً وتدبيراً وحكمة من بين من يحيطه؟ ألم يقل أنا محبوب انيانا، أرسلني مردوك لأقود الشعب ولأدير البلاد، فهل يوجد من (دكتاتور) إلا وادعى أنه مبعوث العناية الإلهية لقيادة الشعب إلى طريق الحرية؟ وما إصرار الكاتب على إظهار (الرئيس)(15) الحديث بين مشهد وآخر إلا ليدلل على أننا نجد فيه كل ما حفظه التاريخ من صفات للدكتاتور.. ومهما فعل فقد كانت ردة فعل الشعب فرحاً وتهليلاً لإنجازات تحمل في طياتها كل ما يدين حكم ذلك الرئيس رغم زعم المنافقين بأن الشعب يحفظ له كل الحب «باعتباره رأساً لتلك الإنجازات..» ويظل الرئيس (الدكتاتور) يكرر نفس النغمة التي تغنى بها من سبقوه عندما يقول «اسمحوا لي أن ألفت انتباهكم أيها الرفاق إلى نقطة هامة في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ بلادنا، وهو ألا يغيب عن بالنا في أية لحظة أن أعداء الشعب ما زالوا متربصين بنا ويترقبون اللحظة المناسبة للانقضاض علينا، لذلك يجب أن نلهب مشاعر الشعب تجاهنا دوماً». وما أن تخفت أضواء المسرح إلا ويظهر هتلر ببزته العسكرية جالساً على الكرسي الضخم ليقول له جوبلز «أيها الرفاق نحن مطالبون بتكثيف جهودنا حتى يصبح الفوهرر في قلب كل ألماني.. فاستعادة الأمة الجرمانية مجدها لن يتحقق إلا بوجود قيادة قوية؟ ويرد هو أنني أستمد سلطتي من دعمكم..» ..ولتبرير ما سوف يقوم به من حروب طاحنة قال «يجب أن يكون واضحاً للجميع أن يعرفوا أن هتلر هو ألمانيا.. وأن ألمانيا هي هتلر.. كما أن الحفاظ على مبادئنا يبرر كل شيء؟ وترد عليه الجوقة الرجالية فيما بعد «ماذا حققت لشعبك يا هتلر؟ المعاناة.. الدمار.. الآلام.. لقد سحقت حتى شعبك العظيم».
وهكذا يتوارد الدكتاتور على الكرسي الضخم الواحد تلو الآخر: يوليوس قيصر، ستالين، ورمسيس الثاني، وحتى الاسكندر الأكبر، وبين ظهور كل منهم، يظهر الرئيس ليردد ما يقولون ويطور ما فعلوا حيث تتكرر مشاهد التبرير والعنجهية والغرور حتى يظهر الرئيس في نهاية المسرحية في بزته العسكرية مجسداً كل ما فعل سابقوه وحيث تتهافت عليه كلمات المدح والإطراء تتغنى بكياسته وحكمته وقيادته الحاذقة. وأمامه صورة كبيرة تتصدر المسرح يتابع النفاق حول دقة الرسم ودقة التصوير لدرجة أن أحد الرفاق قال كلما زادت الصور والتماثيل كلما زاد حب الناس له... وليستطرد «لقد صرت أيها الرئيس القائد أحد قادة العالم البارزين وحيث يتوافد إليك الصحفيون من شتبى بقاع الأرض لعقد المقابلات واستطلاع رأيكم السديد في مشاكل العالم والشؤون الدولية». وينتفض الرئيس -الدكتاتور- غضباً قائلاً: «إن الجميع مقصرون في واجباتهم ولا أحد جدير بالاعتماد عليه.. هل ينبغي أن أقوم بكل شيء بنفسي؟ أن قادة الجيش يوحون للناس وكأنني أنا الذي يسيء تدبير الأمور..» ويرد عليه صديقه (الصدوق) «اسمح لي أن أقول لك إنك لم تعد تأبه لأي رأي يخالف رأيك وأنني لست الوحيد الذي ضربت بآرائه عرض الحائط.. لقد قلت ذلك محبة حتى كصديق قديم». ويجيبه: «وهل الصديق القديم يشيع أنني أصبحت دكتاتوراً؟». إن الإسقاطات والإيحاءات واضحة تماماً كما استطاع الكاتب أن يربط الشخصيات جميعاً بذلك الخيط اللامرئي الذي يربط بين الشخصيات وصفاتها.. ولم يحاول الكاتب أن يقحم أية فكرة لا تتناسق والسياق العام ولكنه يصدم القارئ دوماً وهو يتسلل في هدوء إلى عقله، وذلك حتى لا ينسى أو يتناسى ما يجب أن يقوم بعمله. ويتم الكاتب تحليل الشخصية بعين الناقد ثابت النظرة حيث تتجسد في كل مرة تجربته الثقافية الفريدة ونضاله منذ بدايات وعيه وحتى الآن.
إن مما يثير العجب، إصرار هذا الكاتب المتميز على مواصلة الكتابة، وبإحساسه المفرط بكل ما يدور حوله إن كان هنا في اليمن أو هناك في الوطن يصور في لغة جزلة، أنيقة دونما إسفاف أو إطالة لا داعي لها يصور كل ما يحيطه، وفي اختيار دقيق للمفردة الحبلى بالمعاني والإيحاءات تستل من شخوصه وفي تركيز شديد تلك الجوانب المتعددة للشخصية. وقد ساعده في تحقيق ذلك دراسته العلمية، وانتماؤه الملتزم لوطنه. وتعيش شخصياته الأرق نفسه مرددة السؤال الأساس «ما العمل؟ وإلى أين المسير؟». ألم يتمكن د. شاكر خصباك في رواية (نذير العدل)(12) ومسرحية (الدكتاتور) أن يقدم لنا نماذج تتحرك حية بيننا؟ وأن الدكتاتور يجسد ما قاله غسان كنفاني عن روايته (حكايات من بلدتنا) «أن بعض الكتب ليست إلا مخالب ولعنات، مخالب تنبثق من المجهول تقلب وتسحق وتحول.. تبدو وكأنها رسالة ملغومة تفتح عيون القارئ أراد أم لم يرد على هول الصورة التي عرضها، وتعرض لنا ما يدور اليوم في العراق». وتتوحد مواضيع مسرحياته التي تختار موضوعاتها بدقة وتنبعث شخصياته بدقة أكبر لتخدم ما يرمي إليه الكاتب.. وتأتي مسرحية (اللص) لتضيف إلى ذروة الأحداث، تضيف صرخة مدوية في وجه مجتمع متخاذل صامت يتقبل في استسلام كل ما يدور حوله. فقد كان المسؤولون يتغلغلون في أعماق حياتنا الخاصة ونجحوا في تفعيل دور الأبناء ضد آبائهم كالموت البطيء يتسلل في قسوة ليدمر كل ما هو جميل في أعماقنا..
ولكن الكاتب الذي لم يتوقف عن إظهار حماسته أو انتمائه يوماً يعود لمحاكمة ذلك الصمت وذلك التغاضي والنفاق في مسرحياته (هو وهي) و(الجدار) كما أسلفنا.. وتتوزع شخصيات مسرحياته على مختلف الشرائح بدءاً من (الخاطئة) وحتى (الديكتاتور) و(أوراق رئيس) والتي لا تعرض لنا فقط حيوات من زمن مضى بل إنها تأتي كما النبوءة لتصور ما يدور الآن في العراق، وآثار وتبعات ذلك الصمت والسكوت العراقي والتغاضي عن المشاركة.. إن الكاتب يصرخ في الوجوه أن انظروا ماذا يحدث، ساهموا في تعرية مشاكلكم، حاولوا إيجاد المخرج، ارفعوا أصواتكم، تكلموا في حرية وألا تقلدوا أبطال رواية (حكايات من بلدتنا) عندما يتغاضى الجميع قائلين «ما لنا والبرابرة، إن لم نتعرض لهم بسوء فلن يفعلوا شيئاً». وتتضمن صرخة الكاتب تلك صرخة شخصيات مسرحية (البهلوان) و(الديكتاتور) مطالبة بالكف عن الخوف، عن العجز، عن المذلة.. إنه عراقكم فدافعوا عنه. وتكشف كتابات الدكتور شاكر خصباك هوية الإنسان العراقي الضائعة بين شعارات الهوية الحقيقية القابعة داخل إحساس ووجدان الفرد العراقي مهما تغيرت الأماكن والأزمنة.. وحتى لو اكتسب جنسية أخرى فهي لن تلغي مطلقاً هويته التي تجري في دمائه. وتتجلى قدرة الكاتب في دمج وصهر جميع المستجدات الآنية في حياة البلاد السياسية وعينه قريبة بعيدة تخترق نوافذ الاغتراب والغربة لتصل إلى أعماق العراق البعيد.. كما أن اختياراته الصادقة تصفع ازدواجية الواقع العراقي. ويتطلب في إصرار أن يهب الفرد العراقي في استقامة نفسية داخلية وخارجية ليبني العراق الجديد.. إنه كما قال في أحد لقاءاته عام (2003م) مع إحدى المجلات العراقية التي تصدر خارج الوطن، إن أهمية الكتابة عندي هو أنني أحب أن أكون شاهداً عصرياً» وابم الحق كما قال لتلك المجلة (مجلة الثقافة الجديدة) بأننا عندما نقرأ مسرحيات لشاكر خصباك نعرفه دون حاجة للعودة إلى اسمه «فهناك خصوصية تميز نصوصه المسرحية وتتدخل الصفة القصصية في أعماله المسرحية خاصة في بناء الشخصيات وصياغة الحوار..» وأبطاله الرئيسيون هم الإنسان العراقي وهمومه الحالية والمستقبلية. ونعود لمسرحية (اللص)(14) والتي تشرح موضوعها خلفية من البانتوميم تتحرك لتوضح موضوعاً مغايراً، إلا أنها إجابة على تساؤلات (الدكتاتور) كما أنها امتداد للمسرحية. أما الموضوع فهي خطبة يلقيها الرئيس تدلل بشكل واضح على نفسية الرئيس وغروره وامتلاكه لحقيقة صفات الدكتاتور. إن الخطبة بتداعياتها تقدم تكملة منطقية لرواية (أوراق رئيس) (مسرحية (الدكتاتور) لعمق الصور التي تعرضها وشمولية النظرة النقدية للكاتب... وتأتي مسرحيات (الشيء) والتي تحتل مكاناً خاصاً بين مسرحياته، و(البهلوان)(13) و(الغائب)(18) و(التركة) لتوضح دلالات وآثار قيام نظام سياسي متعسف جائر يحتضن المنافقين والوصوليين ويبطش بباقي شرائح المجتمع.. وكلها تنتظر (جودو) كما في مسرحية (في انتظار جودو)(19) في يأس قاتل وأمل مستحيل، وتأتي مسرحية (القهقهة)(20) لتدلل على عبثية الحياة والعمل والشعارات الجوفاء والتهم الباطلة وكأنها قهقهة يختتم بها ما آلت إليه نظم الدكتاتورية وما آل إليه وضعنا الآني في عراق اليوم.. كما وتأتي مسرحيات الدكتور شاكر خصباك التي كتبها بعد حرب الخليج وحرب إيران مثل مسرحية (الغائب) تحمل في طياتها مواساة وتخفيفاً لجراحات شعبنا وآملاً في التغيير مع نقد لاذع لجميع القيم الدخيلة على مجتمعنا وانهيار القيم المتأصلة في مجتمعنا.. إنها إدانة لما جلبته أحداث سنوات نهايات القرن الماضي من تغييرات هائلة في مثل وأخلاقيات المجتمع العراقي وسيادة قيم الطمع والمال والنفاق والوصولية.. وتكشف حوارات مسرحيات الدكتور/ شاكر خصباك عن أعماق شخصيات كتبه مواكباً جميع الأشكال المسرحية والحوار الذي يتغلغل في بواطن نفوسها ويسيطر عليها تماماً لتوجيه الموضوع نحو الهدف الذي تريد.
وتراه وهو يتطلع إلى مجتمع أفلاطون والفارابي وتوماس مور -مجتمع المدينة الفاضلة- يدفع الفرد العراقي إلى تغيير مجتمعه فينقد بعنف عدم مشاركته كتّابه يقول في (تساؤلات)(20): «إن الفرد يجد العزاء في حواره مع نفسه في هذا الزمن الطافح بالعنف والمرارة والإحباط زمن السلاطين الطغاة» ويوجه سؤاله إلى القارئ العراقي والعربي طالباً منه أن يفتح عينيه على ما يدور على أرضه من انتهاكات لحقوق الإنسان بجميع الأشكال والشعارات وواصفاً المرحلة التي يعيشها «بمرحلة العبودية والقهر».. ويستطرد قائلاً «إننا لن نتجاوز تلك المرحلة إلا عندما يصبح السلاطين أثراً بعد عين من آثار الماضي ويتحرر البشر من عبودية الحاجة ويوم يقهر الإنسان عنجهيته وغروره.. لقد وضع الكاتب في مسرحيته (الدكتاتور) وهو يتقصى الرمز التاريخي في الشخصيات التاريخية ويردفه يمشهد الرئيس أن الرئيس (الدكتاتور) يمسك بخيوط اللعبة وقد بز كل من سبقه. لقد عدت إلى تلك المسرحية لأنها تقدم الجواب الشافي لأسئلة مسرحية (الشيء)(1) أيضاً. كذلك توضح أحداث رواية (الحقد الأسود) (السؤال)(20) الإجابة على تلك التساؤلات في ذلك التقاطع الهام جداً في دلالاته الفكرية التي تمتلئ بها مسرحية (الدكتاتور) الفريدة في كتابتها وأسلوب عرضها.. إن الكاتب يعي جيداً تاريخ بلاده، وجغرافية بلاده وكل ما يعتمل في نفوس مواطنيه.. بل ويتمتع بتلك الإمكانية الفريدة في تعرية جوانب شخصياته.. أفليست مسرحياته هي تلك المفردة الشظية التي تجتاز وجدانك وتصفعك؟ الهوامش: عن الأدب المسرحي في إبداع الدكتور شاكر خصباك □ أ. د. عبد الله حسين محمد البار
تكمن عظمة الإبداع في كونه تجاوزاً للموجود، والتصاقاً بالمنشود، لا في كونه مماهاةً للمشهود، أو سيراً على الدرب المتآلف لا المتباين. ومن هنا صار الإبداع كائناً يتأبّى على التقليد فيتحرّر منه، ويتحلّى بالتجديد فيغدو أبرزَ صفاته ونعوته. ولأنه لا يستقيم إلا بالفرادة، ولا تنتظم مخايله إلا بالتعالي على صور الترسّم والاحتذاء فقد تجاوز الكثرة الكاثرةَ من الأسماء التي أسهمت فيه بنصيب وإن اشتملت عليها كتب التاريخ الأدبيّ، ومنح القلّةَ القليلة والعددَ المحدودَ من الأعلام حظّ التّميّز والازدهاء الجماليّ لما اتسمت به أعمالهم من فرادةٍ وامتياز. وبهذا يغدو المبدع المذكور في عالم الإبداع مفرداً علماً، يشار إليه بإجلالٍ وتقديرٍ لا يحظى بهما من هم دونه خلقاً وإبداعاً. وشواهد التاريخ الأدبيّ دالّة على هذا الموضوع، ولنا فيها ما يبين عن المغزى ويكشف عن المقصود.
وإذا كان الآخرون قد درجوا على ضرب الأمثال على عظماء المبدعين بذكر أسماء أعلامٍ اشتهرت في قديم الزّمان كأبي الطّيّب في تاريخ الشّعريّة العربيّة، أو شكسبير عند الإنجليز أو آخرين من أمثالهما من أعلام المبدعين في تاريخ الآداب عند الأمم فإنّا سنعمد ههنا إلى ذكر أعلامٍ من تاريخ الإبداع العربيّ في عصره الحديث، وإنّ في ذكرها ههنا ما يفي بالغرض ويجلو لنا أبعاد المرام في هذا المقام. ولنقف قليلاً عند تاريخ المسرح في العالم العربيّ فقد أجمع المؤرخون له على أنّ تاريخ ميلاده بدأ مذ عرفه العالم العربيّ على يد مارون النّقّاش في عام 1847م. وهو تاريخ يدلّ على «مجرد انبثاقٍ إلى الوجود، ومحاكاةٍ لظواهرفنيّة رآها المثقفون العرب في بلاد أوربا فاستوردوها استيراداً إلى بلادهم» كما قال الدكتور علي الرّاعي في كتابه عن (المسرح في الوطن العربي)، (ص65). فكانت مسرحية (البخيل) للنقاش استيحاءً من موليير، وتوالت بعدها المسرحيّات مقتبسةً من تاريخ العرب القديم، أو ملخّصةً من أدب الغرب المسرحيّ، ومنها ما أغرق في الهزل، وقام على قدرات الممثل في الأداء، وإمكاناته على أسر المشاهد بقوّة الإيهام في التمثيل. لكنّ أدب المسرح لم يرق مرتقاه المنشود إلا حين أبدع توفيق الحكيم مسرحيّاته العظيمة منذ أخرج للناس (شهرزاد) و(أهل الكهف) و(بجماليون) و(سليمان الحكيم)... وما أشبهها من مسرحيّاتٍ عظيمة غدا بها مؤلّفها علماً مفرداً في عالم التأليف المسرحيّ، ومبتغى منشوداً يترسّم خطاه السّائرون على درب التأليف المسرحيّ من علي أحمد باكثير مروراً بنعمان عاشور وألفريد فرج ومحمود دياب ووصولاً إلى آخرين من أمثالهم من المبدعين في عالم أدب المسرح، وحسبك منهم ههنا سعد الله ونّوس، وإن لم يقلَّ الآخرون عنه منزلةً. هؤلاء جميعاً -من ذكرناهم اسماً ومن لم نذكرهم- ما كان لهم أن يكونوا على تلك السّمة من الخلق والإبداع لو لم يشقّ لهم عبقريٌّ عظيمٌ هو توفيق الحكيم الدرب الشّاقّ في الأدب المسرحيّ. ومن هنا غدا الحكيم مثلاً أعلى في مجاله، وصخرةً لا يقوى على تجاوزها إلا من امتلك الموهبة القادرة على تجاوز الموجود والالتصاق بالمنشود في عالم الإبداع. وإذا كان عالم التأليف المسرحيّ قد عرف -قبل الحكيم- أسماء كتّابٍ أسهموا في أدب المسرح بنصيبٍ كـ(إبراهيم رمزي، وفرح أنطون، ومحمود تيمور...) فإنّهم لم يبلغوا في عوالم التخييل المسرحيّ ما بلغه الحكيم في هذا المجال، وتقاصروا عن أن يكونوا نموذجاً يحتذى. وليس الأمر مقتصراً على مواكبة (تقاليع) الاتجاهات المسرحيّة ممّا جادت به الحركات الأدبيّة في الغرب، ولكنّه متصلٌ بطرائق الفنّان في توظيف كلّ التجارب المسرحيّة منذ اليونان قديماً وحتّى مسرح اللامعقول في منتصف القرن العشرين. وفي هذا ما ينبئ أنّ الإبداع ليس خلقاً من عدمٍ ولكنّه مزجٌ من التجارب الفكريّة والإنشائيّة الجماليّة وما إلى هذا وذاك من وسائل يخصب بها المنجز الإبداعيّ ويزداد ثراءً. وما ذكرناه عن الحكيم ههنا يتطابق مع ما يمكن ذكره عن آخرين من أمثاله أبدعوا في مجالاتٍ أخرى كالقصة القصيرة والرّواية والقصيدة، وأكثرهم ممّن لا يخفى على الألبّاء اسمه، فحسبكم الإشارة منّي وكفى. من هذا كلّه نتبيّن أنّ تاريخ الآداب إن لم يكن قائماً على غربلة النصوص، والكشف عن مظانّ العبقرية فيها غدا تدويناً للواقع وحسب، وقصّر عن أن يكون جلاءً لمظاهر الخلق والإبداع فيها. وهو أمرٌ يتّصل من جهاتٍ عديدةٍ بالتقويم النقديّ، وبالحرص على تلمّس مظاهر الحساسيّة التجديديّة عند هذا المبدع أو ذاك. فيتراءى دور كلّ واحدٍ منهما جليّاً، ويدرك المتلقّون فوارق ما بينهما وإن نسجا في مجالٍ أدبيّ واحدٍ. بل ويمتدّ الأمر ليمسّ المبدع نفسه فيما أنتج من أعمالٍ أدبيّةٍ جلّى في بعضها فجاء بالجميل المونق، وخانه الإبداع في بعضها فجاء المستهجن المرذول. وتلك عمليّة للتمييز بين الأعمال المنجرة خلقاً إن لم تكن نصب عيني مؤرّخ الآداب جاء عمله قاصراً، وأخفق من حيث رام النّجاح، إلا إن كان من الذين يرون أن لا فرق ما بين مبدعٍ وسواه، ولا يقيم حسباناً لعدم الاستواء بين من يبدعون ومن لا يبدعون. هذه فذلكةٌ ألج بها ومنها إلى الحديث عن أدب المسرح في إبداع الدكتور شاكر خصباك، وهو إبداعٌ متنوّعٌ متعدّد المجال. فمن قصةٍ قصيرةٍ، إلى روايةٍ، إلى مسرحيةٍ، إلى أدب الخواطر الذي يكاد يقلّ الاعتناء به على أهمّيته، فانصرف عنه الكتاب وما كان لهم أن ينصرفوا عنه. هذا التنوّع في مجال الإبداع الأدبيّ في إنتاج الدكتور شاكر يدلّ على ثراء ثقافيّ متنوّعٍ، ويدلّ على موهبةٍ خصبةٍ قادرةٍ على سبر أغوار الحياة وتفهّم أبعادها ثمّ التعبير عنها كما استكنّت صورتها في الوجدان، ويدلّ على رغبة المبدع في تجريب قدراته على الكتابة دون حشرها وحشدها في مجالٍ إبداعيٍ واحدٍ. وتلك هي صورة المبدعين في عصور التّنوير، فكان طه حسين باحثاً وناقداً وكاتب روايةٍ وشيئاً آخر غير هذا وذاك. ومثله كان العقّاد والمازنيّ وحتّى الحكيم حين تُذكَرُ رواياتُه مثل عودة الرّوح ويوميّات نائب في الأرياف وسواهما من الأعمال. وما هؤلاء إلا أمثلةٌ شوارد نستشهد بذكرها ههنا لأن المقام يضيق عن الإحاطة بالجميع. ولقد كتب الدكتور خصباك في أدب المسرح جملةً من الأعمال، منها ما هو مسرحيّة طويلة مثل (الدكتاتور وبيت الزوجية والشيء والقضيّة والغرباء والتركة). ومنها ما هو مسرحيّة قصيرة من ذوات الفصل الواحد المتعدد المشاهد، ومن أمثالها (الجدار وفي انتظار جودو والمخذولون والبهلوان واللص والعنكبوت والغائب)... إلى آخر ما هنالك من ذلك. وإنّ قارئ هذه المسرحيّات بعضها أو كلّها لا يخطئه ما فيها من نزوعٍ إلى ما أسماه الحكيم بالمسرح الذّهنيّ أو الفكريّ، وهو مسرحٌ يميل إلى عرض الأفكار على المسرح يتجادل بها شخوص المسرحيّة ممّا يقلّل من حدّة الصّراع، فيخفت فيها عنصر الفرجة الذي هو أساس العمل التمثيليّ. وتلك دعوى تنقضها الأعمال الإبداعيّة ذاتها، إن في مسرح الحكيم نفسه وإن في مسرح من ساروا على الدّرب الذي سار عليه من قبلهم. وأعني بهذا القول أنّ في هذا المسرح الفكريّ عناصر الفرجة ظاهرة، ولم تخلّ منه وإن جرى الزّعم بسواه. وسأضرب لك مثلاً شروداً من أدب الدكتور خصباك يؤكّد لك ما أدّعيه. في مسرحيّته (أين الحقيقة؟) يستخدم ما يمكن تسميته بطريقة المسرح الشّعبيّ، حيث يسقط الحائط الرّابع الذي ينشئ الوهم عند المشاهدين بأنّ ما يجري على خشبة المسرح حوادث واقعيّة لا مجرد تمثيلٍ يتفرّجون على وقائعه، ويتلمّسون من مشاهدة عرضه غاياتٍ ومقاصدَ شتّى. وتلك هي صيغة المسرح كما عرفه العالم الغربيّ حتى كسر نسقه المبدع الألمانيّ بريخت حين قدّم صيغةً جديدة مغايرة أسماها بالمسرح الملحميّ. إن مسرحيّة الدكتور خصباك هذه مسرحيّةٌ تجري أحداثها في ميدانٍ عامّ، وتفتتح بالمخرج يخطو إلى مقدّمة المسرح ليخاطب الجمهور معرّفاً بنفسه وبطبيعة مسرحيّته التي سيعرضها عليهم، ويعيّن لهم الأبطال الذين سيعيدون وقائع انتحار الحاج ماجد العبد الله الذي هزّ انتحاره القلوب، والذي أخفت حياتُه أسراراً لم يُكشف عنها إلا بعد موته. وهي تتقسّم على ثلاثة مشاهد كلّ مشهدٍ منها ينبئ عن سرّ يغاير ما عرفه الناس من سيرة هذا الصناعي الشهير والمحسن الكبير، وتضع قارئ المسرحيّة ومشاهدها في حيرةٍ من معرفة السبب الحقيقيّ الذي أودى بحياته. والحديث عن هذا الأمر متّصلٌ بالحديث عن مضمون المسرحيّة ومحتواها، فلنعدّ عنه لننظر في طريقة الدكتور خصباك في تحقيق فنّ الفرجة لمسرحيّته حتى يظلَّ قارئها أو مشاهدها مأسوراً لها من بدية عرضها إلى ختامها، وحتّى لا يتحوّل النّصّ المسرحيّ إلى مجرّد مناقشاتٍ فلسفيّة حول معنى الحقيقة وجوهرها العميق. وأوّل ما يلجأ إليه لتحقيق فنّ الفرجة في النّصّ إلغاؤه عنصر (الكواليس) من عمليّة الإخراج على أهميّتها، ففيها يتمّ إعداد الممثّل ليتهيّأ لأداء دوره المرسوم. أمّا ههنا فإنّ أحد العاملين في المسرحية يتولّى عمليّة المكياج و(يلبس الممثّلين الملابس المناسبة). ويتمّ تجهيز تفصيلات المشهد كاملةً أمام الجمهور المشاهد دون ستارةٍ تسدل أو ترفع بعد إسدال. إلغاء الكواليس في الإخراج عمليّةٌ تجذب أنظار المشاهد فيتابع تهيئة الممثّلين وإعداد المشهد دون أن يتآكله الفضول لمعرفة ما يدور في الكواليس. يتلو ذلك مشاركة بعض الجمهور في الحوار الذي يدور بين أبطال المسرحيّة إمّا للدفاع عن سيرة المحسن الكبير أو لتأكيد ما تتعرّض له سيرتها من اتّهاماتٍ شتّى في خلقه وحياته العمليّة والزوجيّة. ويبلغ التشويق في هذا الاتجاه حدّاً عظيماً حتّى ليغدو الحوار بين الأبطال على خشبة المسرح سرداً للوقائع، ومثيراً بحيث يستدعي استجابات الجمهور الذي يتدخّل في الحوار على نحوٍ ينبئ عن صراعٍ عميقٍ بين الشخوص الذين يغدون جزءاً من عرض المسرحيّة ممثّلين لقيمٍ متناقضةٍ ومواقف تتنوّع بتنوّع ما تحمله كلّ شخصيّةٍ من مثلٍ. الأمر الثالث الذي به يتحقّق للمسرحيّة فنّ الفرجة هو لجوؤها إلى التّدرّج في عرض المشاهد، حيث بدأت بالعامّ -وهو ما يتعلّق بالمصاعب الماليّة التي تواجه ماجد العبد الله-، ثمّ تعرّج على طريقته في التّعامل مع العاملات في المصنع، وتنتهي بالخاصّ الذي يتعلّق بطبيعة العلاقة الزوجيّة التي تتهدّد بالتلاشي والزوال. وهو تدرّجٌ في عرض المشكلة يحيط المتلقّي بشيءٍ من الغموض يلزمه شيئاً من الانتباه واليقظة في متابعة الحدث المعروض والحوار المسموع، ولا ينأى به عن المشاركة في تعليق من هم في الصّالة على ما يحدث على خشبة المسرح. أمّا الأمر الأخير الذي به يتحقّق للمسرحيّة فنّ الفرجة فهو النهاية المفتوحة التي تختم بعدها المسرحيّة ويُسدل السّتار. هذه النّهاية يعلنها المخرج بعد ختام المشهد الثالث، لكنّ الجمهور لا يقتنع بها خاتمةٌ للمسرحيّة فيستمرّ اللجاج حول حقيقة الحدث والموقف من شخصيّة الحاج ماجد العبد الله، وكأنّما قصدت المسرحيّة إلى ذلك قصداً ليظلّ أثرها في أذهان المشاهدين غير منقطعٍ، ويستمرّ الحوار حولها دون انتهاء. وتلك حيلةٌ من حيلٍ جمّةٍ يعمد إليها كتّاب السّرد عامّةً، لكن ظهورها في أدب المسرح قلّ حتّى كاد أن يكون منعدماً، وما ظهورها ههنا إلا صورةٌ من صور الإبداع في التأليف المسرحيّ عند الدكتور خصباك.
والنّاظر في أدب المسرح عند الدكتور خصباك يكتشف تعالي مسرحه عن فنّ (الأوتشرك) الذي عرفه مسرح تشيخوف، ويقصد به أن تتخذ المسرحيّة صيغة (الريبورتاج) وسيلةً لها. فالشّخصيّات والأحداث لا تتطوّر وفق المنظور الأرسطيّ: بداية وأزمةٌ تتعقد بها الأحداث والشخوص ثمّ يكون الانفراج ويتجلّى الحلّ. وإنما هو يصنع أحداث مسرحيّته وشخوصها وفق ما يتجلّى أمامه من شخصيّاتٍ لكلِّ منها قصتها ومشكلتها، فيختار منها -على ما بها من خصوصيّة- ما رام، ثم يتعالى بها لتغدو همّاً عاماً ينشغل به الآخرون. ولعلّ في مسرحيّته (الدكتاتور) ما يدلّ على ذلك ويشير إليه. وفي هذه المسرحيّة يتّكئ الدكتور خصباك على بعض ما عرف في فنّ المسرحيّة عند اليونان من حيث استخدام (الجوقة) وجعلها بطلاً من أبطال المسرحيّة. فهي فاعلةٌ فيها، ومسهمةٌ في تحريك الحدث وتنويع نغماته. لكنّه يتجاوز ذلك فيلجأ إلى إحداث تداخلٍ بين حاضر الزمان وماضيه. فتتعدّد صوره لكنّ جوهرها واحدٌ من حيث دلالتها على طبيعة الدكتاتور في كلّ الأزمنة. ولعلّ إخراج نصٍّ مسرحيٍّ مثل هذا لا يتأتى إلا حين يعمد مخرجه إلى استخدام أسلوب المسرح الملحميّ الذي تتداخل فيه الوسائل وتتنوّع. وما كان لهذا الأمر أن يكون كذلك لولا أنّ المبدع قد أدرك أبعاد هذا المسرح ووعى خصائصه فضمّن بعضها في مسرحيّته هذه.
وأخيراً أقول إنّ التأمّل فيما تمّ عرضه سلفاً يفضي بنا إلى إدراك مدى الاستراتيجية الإبداعيّة التي عمد إليها المبدع الفنّان الدكتور شاكر خصباك وأسهمت في إنتاج أدبيّته. فأعظم به نصّاً... وأكرم به مبدعاً... شاكر خصباك المسرحي (ثلاثية خلاص)(*) □ الكاتب اللبناني/ عصام محفوظ (1) مختارات من مسرح شاكر خصباك الكاتب العراقي الملتزم والطليعي(**). إنه من الطيور التي تغرد خارج سربها. يقول كلمته التي هي، مقدسة فيها الحق والخير. على كل حال قرأت بشغف وأهمية مسرحيته الأولى في ثلاثة فصول: (بيت الزوجية)، ومسرحيته الثانية في أربعة فصول (الغرباء)، وأخيراً مسرحيته الثالثة في ثلاثة فصول (الشيء) فكما نجح في روايته (الحقد الأسود) 1966، أو (السؤال) 1989، نجح أيضاً في مسرحياته الثلاث. (2) كان لي أن أحلل مضمون المسرحيات الثلاث، وآثرت أن أترك للقارئ الفسحة والحرية في فهم المسرحيات على هواه فاخترت المسرحية الألى (بيت الزوجية) للتحدث عنها بفكرة واضحة عن مضمونها وأهدافها القريبة والبعيدة، الظاهرة والغامضة. إنها عاطفية اجتماعية، موضوعها ممتع ومفيد في كثير من النواحي. أشخاصها أربعة عشرة. والأشخاص الرئيسيون: صلاح، الزوج في السادسة والعشرين من عمره، يمثل الطموح والفكر الإصلاحي. راقية، الزوجة في الخامسة والعشرين من عمرها، تمثل الروح الطبقية والاعتزاز العائلي. قدري، أخو صلاح، في السابعة عشرة، يمثل روح التغيير والمغامرة، إلى والدي الزوج والزوجة، مع بعض الأقارب والأصدقاء. (3) في الفصل الأول من فصول المسرحية، تدور الأحداث في إحدى غرف منزل الزوجين أوائل الخريف. قدري يهرب من الريف إلى مدينة بغداد، خوفاً من والده الذي يمنعه من أي تحرك طالبي وأيديولوجي. والده سالم ظالم لا يرغب في أي نضال لأولاده، يهمل قدري دروسه في الثانوية مأخوذاً بروح النضال والتغيير. وصلاح لا يناضل بعد زواجه براقية التي تنتسب إلى الطبقة الراقية. لقد توصل إلى أن يصبح رجل أعمال وإدارة، وهو المتحدر من الطبقة الشعبية. وماذا نرى بعدئذ؟ راقية لا تطيق سنية والدة زوجها صلاح وأخاه قدري في السكن معها ولو مؤقتاً. لم يستطع صلاح برغم روحه التقدمية أن يردعها. وفي آخر الأمر تترك الوالدة وولدها قدري منزل صلاح ويذهبان للإقامة في منزل خال صلاح. وصلاح بعد مغادرة والدته وأخيه منزله، يعد زوجته راقية بأن يؤمن لها الحياة اللائقة، مهما تكن الصعوبات. (4) وفي الفصل الثاني، بعض الأشخاص في حديقة منزل الزوجين، بعد ستة شهور، في مقتبل الصيف. تحتفل راقية بعيد مولد طفلها باسم. وكل صديق أو صديقة يحمل هدية لائقة بالمناسبة، الكل في جو مرح ومحادثة وسمر، إنها أجواء طبقة ميسورة مرتاحة لمصيرها. راقية تنتظر وصول صلاح بفارغ صبر، بعد أن سيطر عليها القلق لطول الغياب غير المبرر. وخلال مرحلة الانتظار هذه يقول منير صديق الزوجين: - ... لن تمضي عشرة أيام حتى نكون في بحمدون. أما نبيلة أخت راقية فتقول لمنير: - لا أظن الجو حاراً إلى هذه الدرجة، هذا المساء حار بشكل غير اعتيادي بسبب سكون الهواء وإلا لكان الجو طيباً، فالنسائم العذبة تهب في أغلب الليالي، أما أثناء النهار فالمبردات تجعل جو البيت أكثر اعتدالاً من جو لبنان. (ص29).
يعود صلاح فجأة بعد تأخر غير معهود. لم يكن موافقاً على إقامة حفل استقبال في هذا الظرف غير المناسب وهو مرض أمّه. شعر أن راقية أصابتها عدوى البورجوازية ولا يهمها مرض أمه بقدر ما تهمها رغباتها. عاد كالمخمور والثائر يسخر من غالبية المدعوين. وعند سماعهم أقواله المستهجنة، اعتذر المدعوون بلباقة وغادروا المنزل. اغتاظت بالطبع راقية، إذ أذلّها أمام الأصدقاء والصديقات وهي ابنة العائلة المرموقة والميسورة. وقال لها فيما قال: إنه أصبح السيد وكان عبداً لرغباتها وأوامرها، ولن تهمه الاعتبارات العائلية والاجتماعية، كلها تقاليد بالية في نظره، لا تغني قلب الإنسان ولا تقدم له السعادة. (5) وفي الفصل الثالث، بعض الأشخاص في غرفة الاستقبال في منزل أهل الزوجة بعد أربعة أسابيع. كامل والد راقية يرغب في طلاقها من صلاح والاستعداد للسفر مع ابنته ابتعاداً عن أجواء الهموم والأحزان والفراق، أما مجيد زوج نبيلة، عديل صلاح، فإنه يلعب دور وسيط الخير والوفاق مع زوجته الهادئة نبيلة وصلاح يصل متأخراً بعض الوقت. كل الاستعدادات للطلاق. وانزواء صلاح وراقية مدة عشرة دقائق في غرفة على حدة، أعاد الأمور إلى إيجابية غير منتظرة. ينجح الحب ويتغلب على الفوارق الطبقية والعائلية وعلى روح التكبر والأنانية. لا طبقة ولا تمييز في الحب. ومن العجب كيف أن الحب والموت لا يعرفان الطبقية والأنانية والكراهية. يقول صلاح مخاطباً عمه كامل والد زوجته في نهاية المسرحية: - أؤكد لك يا عمي أنني سأفتديها بروحي، ولن أسمح لنفسي مرة أخرى أن يصيبها أي انزعاج أو مضايقة. وتجيب صفية والدة راقية: - أنا واثقة من ذلك.
كامل يمثل في المسرحية روح التشاؤم والكبرياء والتباين، إذ يقول برغم عودة المياه إلى مجاريها: - أما أنا فأعتقد أن شجارهما هذا سيكون بداية سلسلة من المشاجرات ستنتهي بالطلاق حتماً إن عاجلاً أو آجلاً، وكل ما في الأمر أن القضية تأجلت لسوء الحظ سنين أخرى حتى يولد لهما أبناء آخرون تلحقهم التعاسة، وكم كان أفضل لكليهما لو افترقا اليوم! وتجيب صفية أخيراً: - أرجو ألا يتحقق هذا الفأل السيئ يا كامل. ويجب أن تدعو الله أن تكون مخطئاً في فألك! وإلا كان أمام ابنتك حياة شقية. (ص62). يبدو أن شاكر خصباك ليس فقط روائياً ناجحاً بل إنه كاتب مسرحي له مكانته في ميدان المسرح الملتزم. فمسرحية (بيت الزوجية) واقعية ساحرة، مؤلمة ولو انتهت إلى مصالحة ووفاق بين الزوجين الشابين، يرسخهما الطفل باسم الذي على أمه أن تربيه وترعاه بعيداً عن أبيه صلاح المتحرر من التقاليد العائلية والاجتماعية. وكان الطفل رابطاً للوالدين أكثر من الحب الزوجي. وفي النهاية، مسحة التشاؤم والمرارة تطل برغم النهاية السعيدة المفاجئة: الحب الأبوي والزوجي. شاكر خصباك خضّ في هذه المسرحية الإنسانية كل التقاليد الطبقية والعائلية والاجتماعية التي لا تسعد بل هي مجرد مظاهر وقشور. ولم يرتو إلا بالجوهر والمنطقي والمفيد. فالخلاص عنده في الكرامة والعدل والمساواة. وهذه الثلاثية تدفع حتماً إلى الحب والوئام والانسجام، تضع الفرد على باب الفردوس وبعد ذلك عليه الدخول منفرداً ليلقى الآخر بنور المحبة في الداخل، وما هذا الداخل إلا القلب وذات الإنسان. فإذا صادف الصدى لدى الآخر أصبح الثنائي واحداً متحداً بالآخر. ذلك ما أراده شاكر خصباك في هذه المسرحية الممتعة والمفيدة، والجديرة بالتمثيل والتطبيق في حياة الفرد والعائلة والمجتمع والأمة كي يسلم الإنسان من أذى وظلم وشر.
حوار مع القاص والروائي(*) شاكر خصباك □ أ. د. إبراهيم الجرادي الدكتور شاكر خصباك من الرعيل الأول في القصة العربية الحديثة في العراق، ومن المساهمين في كتابة نصٍ مسرحيٍ يحقق شروط العرض،منفتح على التجربة العربية والغربية في آن واحد، سخر جهوده الإبداعية لتأسيس وعي بقيمة الإنسان العربي وأهمية حريته الفردية والاجتماعية. التحق الدكتور خصباك عام 1948 بجامعة القاهرة، وحصل فيها على الليسانس في الجغرافية وتابع دراسته في إنكلترا، حيث حصل على درجة الدكتوراه في التخصص ذاته عام 1958. يعمل حالياً، أستاذاً في جامعة صنعاء، ورئيس قسم الجغرافية فيها، وأمين تحرير مجلة كلية الآداب المحكمة. وهو من الرعيل الأول من الجغرافيين العرب، وله في هذا الشأن أكثر من عشرين كتاباً بين مؤلف ومترجم. أما في مجال الإبداع الأدبي فنذكر من أعماله التي بدأ بإعادة نشرها: (حكايات من بلدتنا) (السؤال) (هيلة) (الهوية) (امرأة ضائعة) روايات و(عهد جديد) (صراع) (حياة قاسية) مجموعات قصصية وفي المسرح له: (الدكتاتور) (التركة والجدار) (الغرباء واللص) (العنكبوت والغائب) (بيت الزوجية) (الشيء) (القضية) (البهلوان). وله دراسات نقدية وفكرية وكتاب في السيرة الذاتية، وقد صدرت أغلب أعماله عن (دار الأدب) و(دار الحداثة) و(عبادي).
وهو يحث الخطا نحو السبعين بثقة، يشي لنا الدكتور خصباك بمسلكيته الإبداعية والإنسانية، بسر شباب الإبداع، وهو يرتوي بحكمته.
▪ في العودة إلى الطفولة؛ عودة إلى مناخها الاجتماعي والسياسي؛ إلى بيئة ذاك الوقت وملامحه أتمنى عليك، دكتور شاكر، العودة إلى المنابع ومؤثراتها؛ إلى المكونات - الأساس للكيان البشري وإبداعه. ▫ سؤالك هذا يا أخ إبراهيم سؤال صعب، كيف لامرئ قد تجاوز الخامسة والستين من عمره أن يستذكر طفولته بالدقة التي يتطلبها سؤالك؟ طبعاً، هناك. أطياف تومض في الذاكرة ولا أدري إن كان بالإمكان أن تلقي ضوءاً على مقومات شخصيتي. لقد كنت الابن الخامس من بين ثمانية أبناء.. أربعة ذكور وأربع بنات. وأنت تعلم أن مركز الأولاد في بلداننا العربية، في النصف الأول من هذا القرن، وربما حتى اليوم في بعضها، كان أعلى قيمة من مركز البنات. لكنني لا أتذكر أن مثل هذا التمييز كان يحدث في محيط أسرتي. وربما كان ذلك مسؤولاً عن نظرتي الخاصة إلى المرأة. فقد انتصرت لها دائماً في أدبي وطالبت برفع مكانتها. ويمكنك أن تراجع في كتابي المعنون (كتابات مبكرة) مقالاً لي نشر في عام 1946 لتتحقق من صدق هذه النظرة.
ومن الأمور التي تركت أثراً حاسماً في حياتي أنني ترعرعت في جو مشبع بالوطنية. فلقد كنت أستمع بشغف إلى أمي وهي تحدثني عن بطولات خالي الشيخ (الدكتور) محمد مهدي البصير الذي حكم عليه الإنجليز في بداية العشرينات بالإعدام باعتباره أحد قادة ثورة العشرين وشاعرها المشهور. وبالمناسبة فقد كان لخالي الدكتور محمد مهدي البصير صلات حميمة جداً بالقادة الوطنيين السوريين يومذاك الذين رفعوا لواء المقاومة ضد الاحتلال الفرنسي. وكان يحب دمشق محبة خاصة ويفضلها على أية مدينة عربية أخرى باعتبارها موئل العروبة الصادقة. وكان يتمنى أن يمضي أواخر عمره في هذه المدينة لكن الزمن لم يحقق له هذه الأمنية. ▪ لا أريد أن أسألك بفجاجة: كيف كانت البدايات. أريد أن تحدثنا عن الدوافع وراء توجهك القصصي والمسرحي. لماذا هما وليس سواهما؟ وكيف كانت حركتها آنذاك؟ ▫ يمكنني القول أن بدايتي مع القصة كانت مبكرة جداً. وقد انطلقت مع ولعي بمجلات الأطفال، التي كانت تحفل بالقصص الجميلة. وطبعاً حينما أتحدث عن بداياتي فإنما أخص مرحلة النصف الثاني من الثلاثينات. ولم تكن تلك المرحلة قد شهدت بعد ازدهار أدب الأطفال وهنا لابد لي أن أشيد بمجلة للأطفال كانت تصدر في مصر يومذاك باسم (سمير التلميذ). أما النقلة الأخرى، في هذه الصداقة فقد تمت على يد مجلة (الرواية) المصرية شقيقة مجلة (الرسالة)، التي كان يصدرها منذ أواخر الثلاثينات الأستاذ أحمد حسن الزيات. وفي كلتا الحالتين فإنني أدين بهذه المعرفة إلى شقيقي الأكبر المرحوم جعفر خصباك، أستاذ التاريخ في جامعة بغداد. وأستطيع أن أقول إنني واصلت مسيرتي القصصية منذ أعوام المتوسطة والثانوية حيث بدأت بنشر أقاصيص على صفحات المجلات العراقية والعربية، وقد تخيرت منها عدداً شكّل قوام مجموعتي القصصية الأولى (صراع) التي صدرت عام 1948. وفي هذه المرحلة من حياتي الأدبية مارست كل أنواع الكتابة الأدبية، وكان النقد القصصي ركناً مهماً منها، وقد ضم كتابي المعنون (كتابات مبكرة) والذي اشتمل على مقالات نشرت فيما بين عام 1945 و1947، ألواناً متنوعة من نشاطي الأدبي. أما الاهتمام بالمسرح فلم يتركز لدي إلا خلال فترة دراستي للدكتوراه في لندن، أي فيما بين عام 1954 و1958. لكنني في الحقيقة، كنت قد بدأت التعرف على الأدب المسرحي، قبل تلك الفترة بسنوات وعلى الخصوص في بداية الخمسينات. وأنا مدين بهذه المعرفة إلى إتقاني للغة الإنجليزية في أثناء دراستي الجامعية، مثلما أنا مدين -كأي كاتب عربي- بالفضل في محبتنا للأدب المسرحي إلى توفيق الحكيم، منذ بدأنا نقرأ مسرحياته الرائعة (أهل الكهف) و(شهرزاد) و(بجماليون).. إلخ. فلقد كان توفيق الحكيم المعلم الأول للمسرحيين العرب. وحينما اتسع اطلاعي على الأدب المسرحي في اللغة الإنجليزية لعب كتّاب معيّنون دوراً حاسماً في تحبيب الأدب المسرحي لنفسي. وعلى رأس أولئك أنطون تشيخوف، وهنريك أبسن، وأوسكار وايلد، وبرناردشو، وسترندبرغ، وقد قرأت معظم مسرحياتهم باللغة الإنجليزية. أما ما يتعلق بالقصة فأنت تعلم يا أخي إبراهيم أنه لغاية مطلع الأربعينات لم يكن الأدب القصصي يحظى باهتمام كبير، وكانت أسماء القصصيين والروائيين معدودة. وقد حمل لواء هذا الفن الجديد من فنون الكتابة الأدبية منذ مطلع العشرينات الكتاب المصريون. ولم يساهم فيه كتاب البلاد العربية الآخرين إلا بعدد محدود، لعل أبرزهم جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة. ولست مبالغاً إذا قلت أن محمود تيمور كان الأبرز بين أولئك الكتاب، حتى لقد عده الكاتب السوري نزيه الحكيم رائد القصة العربية في كتابه الذي نشره عنه في أواخر الأربعينات والذي يحمل عنوان (محمود تيمور رائد القصة العربية). وكانت كتب محمود تيمور هي الأكثر تواجداً ورواجاً في السوق. وقد تعرفت على كتاباته منذ عام 1944 وشغفت بها. ولذلك فإنني أعده أستاذي الأول في القصة. وقد انعقدت صلة المراسلة بينه وبيني منذ عام 1945، واستمرت لسنوات عديدة، وأنا أدين له بالفضل الكبير في محبتي للقصة العربية. ولكنني أستطيع القول، أيضاً، أن تأثيره في أدبي ضعف منذ مطلع الخمسينات، وهي الفترة التي بدأت أغترف فيها من مناهل الأدب القصصي الغربي في منابعه الأصيلة. وعرفت أدب أنطون تشيخوف باللغة الإنكليزية، فشغفت به شغفاً عظيماً، وترك منذ ذلك اليوم لغاية مطلع الستينات بصمة قوية على أدبي.
▪ ظاهرة غير نادرة ولكنها لافتة، أن تجمع توجهين غير متقاربين، إن لم نقل غير متناقضين، كما يتبدى الأمر للنظرة المتسرعة: الجغرافية والأدب. أضف إلى تواجدك العلمي في مكانين هامين: القاهرة ولندن. أريد أن تحدثنا، دكتور شاكر خصباك عن المكانين والفترتين وسبل تعبيراتك فيهما. ▫ اسمح لي، دكتور إبراهيم، أن أؤكد بأن الجمع بين الجغرافيا والأدب ليس ظاهرة نادرة، كما قلت، لأن الأدب والجغرافيا ليسا متناقضين. ولديّ أدلة تاريخية ومعاصرة من الغرب ومن عالمنا على قولي هذا. فهناك عالمٌ جغرافي عظيم نعده نحن الجغرافيين رائد الجغرافية الحديثة، هو ألكساندر فون همبولت، الذي عاش في القرن التاسع عشر وتوفي عام 1859، كان مغرماً بالأدب، وكان من عشاق أدب غوته وشيلر وغيرهما من أدباء عصره. وثمة جغرافي عظيم آخر هو فيدال دي لابلاش الذي يُعد أبو الجغرافية الفرنسية الحديثة (توفي عام 1917) كان مغرماً بالأدب وفاعلاً فيه أيضاً. أما إذا أردت أمثلة من وطننا العربي فسأكتفي بذكر اسمين معروفين هما: الدكتور محمد عوض محمد والدكتور محمد محمود الصياد.
فأنا، إذن، لست بدعاً في جمع هذين المتناقضين. وأعود فأؤكد يا أخي إبراهيم أنهما ليسا متناقضين. أما إذا سألتني إن كنت فعلاً أحب الجغرافيا فأجيبك أنني تخصصت فيها عن طريق الصدفة، وليس بدافع الرغبة الشخصية. فحينما أنهيت دراستي الثانوية نلت درجة عالية في الجغرافيا في امتحان البكالوريا، أهّلتني للبعثة العلمية لوزارة المعارف آنذاك. وكانت أمنيتي أن أدرس الأدب العربي أو الإنكليزي، لكن المسؤولين في الوزارة أصروا على دراستي الجغرافية لأنني نلت أعلى درجة فيها. ومع أن الجغرافيا اجتذبتني أكثر حينما درستها في الجامعة إلا أنني لابد لي أن أعترف بصدق قول الشاعر بالنسبة لي (ما الحب إلا للحبيب الأولي). فقد ظللت أهوى الأدب أكثر مما أهوى الجغرافيا حتى بعد أن نلت الدكتوراه وأصبحت أستاذاً فيها وزادت مؤلفاتي وترجماتي فيها على العشرين كتاباً، بل وتخرج على يديّ الكثيرين من حملة الماجستير والدكتوراه في الجغرافيا. ولم تستطع الجغرافيا أن تصرفني طيلة الوقت، ورغم مشاغلي الأكاديمية، عن هوايتي الحقيقية وهي الأدب. فأنا أديب أولاً وجغرافيّ ثانياً. أما ما يخص محطتي الدراسة، وهما القاهرة ولندن، فقد كان لهما بالغ الأثر في حياتي. ولقد أمضيت في القاهرة أربعة أعوام من عام 1948 إلى عام 1951. وأستطيع القول أنها كانت من أجمل سني عمري. فما أن وطأت قدمي أرض القاهرة حتى شرعت في الاتصال بأصدقائي الذين كنت أراسلهم وأنا في العراق، وكان أولهم محمود تيمور الذي ظللت وطيد الصلة به طيلة السنوات التي أمضيتها في مصر. وتوطدت علاقتي بأديبين آخرين كنت أراسلهما قبل ذلك هما نجيب محفوظ وعبد الحميد جودة السحار. وهكذا أصبحت عضواً دائمياً في المجموعة (الشلة) التي كانت تجتمع آنذاك في (كازينو أوبرا) صباح كل جمعة، والتي كانت تتألف من نجيب محفوظ وعبد الحميد جودة السحار ومحمد عبد الحليم عبد الله ومحمد عفيفي، وهم في الحقيقة كتّاب ما كان يُسمى يومذاك بـ(لجنة النشر للجامعيين). وكان ثمة عددٌ آخر من الأدباء ينضم إلى هذه (الشلة) بين الحين والحين من أمثال يوسف السباعي ومحمود البدوي وأحمد عباس صالح. كما كان يحضرها بعض المخرجين والممثلين أمثال صلاح أبو سيف ويحيى شاهين. ولم أتغيب عن حضور ندوة هذه (الشلة) طيلة تواجدي في القاهرة. لكن صلتي بالأدباء المصريين لم تقتصر عليها، إذ شملت عدداً آخر من الأدباء الشباب وغير الشباب، والذين كانوا يجتمعون على شكل مجموعات (أو شلل) في مقاهي معينة وكنت القاسم المشترك الأعظم بين تلك الشلة. وأذكر من أعضاء تلك الشلل أحمد بهاء الدين، ونعمان عاشور، وعبد الرحمن الشرقاوي، وفتحي غانم، ويوسف الشاروني، ومحمود أمين العالم، وأنور المعداوي وعبد القادر القط وآخرين، لا أتذكرهم الآن. فضلاً عن معرفتي بالأستاذ أحمد حسن الزيات وتوفيق الحكيم وأمين الخولي وغيرهم. ويمكنك أن تتصور كم نفعتني صلتي بتلك (الشلل) ومعرفتي بأولئك الأدباء الكبار، ذلك أن اجتماعاتهم كانت مدار أحاديث ونقاشات حول الأدب. وبطبيعة الحال فقد واظبت أثناء إقامتي في القاهرة على الكتابة القصصية والنقدية. وكنت قد حملت معي عند قدومي إلى القاهرة مجموعة قصصية تمثل مختارات من كتاباتي المبكرة في القصة وتولت نشرها (دار الفكر للطبع والنشر) قبل أن ينقضي شهر على إقامتي في القاهرة، وهي المجموعة التي تحمل عنوان (صراع) والتي صدرت في سبتمبر عام 1948. وفي عامي الجامعي الأخير تولت (لجنة النشر للجامعيين) نشر مجموعتي القصصية الثانية التي تحمل عنوان (عهد جديد)، وذلك في مطلع عام 1951، وكانت قصصها قد نشرت في مختلف المجلات العربية، وهكذا ترى أهمية الأثر الذي تركته القاهرة في مسيرتي الأدبية. أما ما يخص المركز الثاني وهو لندن فأزعم أنه كان أقلّ أثراً في مسيرتي الأدبية ولاسيما ما يخص الجانب القصصي والروائي، ذلك أن دراسة الدكتوراه لم تكن تسمح لي يومذاك بالقراءة الأدبية إلا على نحو ضيق، وأعني بها الفترة الواقعة عام 1954 و1958. ولكنها نفعتني بلا شك من جانب آخر في مسيرتي الأدبية وهو الجانب المسرحي، فقد رتبت أموري على تخصيص جزء من وقتي لمشاهدة الأدب المسرحي، وذلك بالحضور الدائم في مسارح لندن. ولعلك تعلم يا أخي إبراهيم أن هناك ثلاث عواصم في أوربا تحظى بأعظم المسارح، وهي لندن وباريس وموسكو. ولا أستطيع أن أحصي لك عدد المسارح في لندن، آنذاك، فهي أكثر من أن يحصيها العد بأنواعها المختلفة. وقد آليت على نفسي أن أشاهد المسرح مرة في الأسبوع، فتهيأ لي بذلك مشاهدة أعظم المسرحيات العالمية، والتي عمقت شغفي بالمسرح. كما تهيأ لي، كذلك، مواكبة مختلف التيارات المسرحية التي كانت شائعة آنذاك. ويكفيك أن تعلم أنني شهدت مولد اتجاه الشباب الغاضب في المسرح بزعامة جون أوسبورن صاحب مسرحية (انظر وراءك بغضب). وقد تيسر لي كذلك مشاهدة مسرحيات تشيخوف الشهيرة الأربع: (بستان الكرز) و(طير النورس) و(الشقيقات الثلاث) و(الخال فانيا)، التي مثلت على أحد مسارح لندن الكبرى من قبل (فرقة المسرح الحديث). وأقول لك الحق يا أخي إبراهيم أن إخراجها في لندن، لم يكن أقل روعة مما شهدته فيما بعد على مسارح موسكو ولينينغراد. وإن أنسى فلا أنسى العروض البديعة التي كان يقدمها (مسرح ستراتفورد أبون آفون) لمسرحيات شكسبير، وهو المسرح الذي كان متخصصاً فيها. وهكذا ترى أن انتفاعي الأدبي من تواجدي في لندن تركز في المسرح على وجه الخصوص. وقبل أن أنتهي من الجواب على سؤالك هذا لابد لي أن أعرج على سؤال آخر، قد ينبثق في ذهن القارئ، وهو ما مدى تأثير دراستي للجغرافية على أدبي، وما مدى ما انتفعته الجغرافية من اهتماماتي الأدبية؟ لاشك أن دراسة الجغرافية قد وسعت أفقي، وأكسبتني خبرة في معالجة مشكلات الإنسان. وقد يبدو هذا غريباً فالجغرافية في عرف المتعلمين تدرس الدول وحدودها ومدنها وعواصمها وجبالها وأنهارها، ولا تكاد تمس شؤون البشر إلا مسّاً سطحياً. ولكن الواقع غير ذلك. فالجغرافية تشتمل على حقلين رئيسيين الأول طبيعي وهو ما يدرس الجوانب الطبيعية من الأرض، والثاني بشري وهو ما يتعامل مع البشر في مختلف أوجه نشاطاته. ويكفيك أن تعلم أنني شخصياً مختصّ بفرع يسمى (الجغرافية الاجتماعية) وإنني مضطر بحكم اختصاصي إلى الاطلاع على علوم مساعدة أخرى كعلم الاجتماع وعلم الاقتصاد والأنثروبولوجيا.. إلخ. ولاشك أن هذه العلوم تمد الكاتب بأرضية صلبة تمكنه من التغلغل في أعماق الإنسان وفهم أنماط حياته ومجتمعاته على نحو أفضل. أما تأثير الأدب على دراساتي في الجغرافية فقد تمثل بأسلوبي الطلي البعيد عن الغموض والتعقيد العلمي. كما تمثل، أيضاً في تخيّري لمواضيع قريبة من حقل الأدب. ويكفيك أن تعلم أنني ألفت أربعة كتب في التراث الجغرافي العربي وهي: (في الجغرافية العربية) و(ابن بطوطة ورحلته) و(الجغرافية عند العرب) و(كتابات مضيئة في التراث الجغرافي العربي).
▪ عموماً دكتور شاكر ماذا تريد من الأدب، وما هي وظيفته لديك، وهل تفترض له دوراً هاماً من واقع حالنا المعروف من تسخير وتسفيه لمظاهره وخصوصاً في الشعر، وتوجه أغلب الأدباء العرب نحو الانتفاع الطارئ، بمواهب تسخر قدراتها للكسب العابر، وإرضاء الموقع الثقافي.. إلخ.. إلخ؟ ▫ للجواب على هذا السؤال سأقتطف عبارات وردت في كتابي المعنون (تساؤلات) وهو خواطر فلسفية. وقد وردت في الخاطرة المعنونة (ضمير الشعب) العبارات التالية: «يا صاحبي ها أنت ذا تعترف بأن (قلة) من الأدباء قد ثبت فعلاً على مبادئه. وهذه القلة تمثل (ضمير الشعب)، وإلا فهل تحسب أن الجديرين بمثل هذا اللقب كانو (كثرة) في يوم من الأيام، في أي بلدٍ من البلدان؟». وهكذا ترى يا أخي إبراهيم أننا متطابقان كلياً في نظرتنا إلى هذا الواقع الأدبي المأساوي. القاص والكاتب المسرحي والروائي(*) شاكر خصباك □ أجرى الحوار: كريم جثـير
القاص والكاتب المسرحي والروائي المعروف شاكر خصباك.. اسم له أهميته الكبيرة في تاريخ وتطور القصة العراقية، فهو من الجيل الثالث لرواد القصة بعد محمود أحمد السيد، جعفر الخليلي، عبد المجيد لطفي، شالوم درويش وذو النون أيوب.. وشاكر خصباك بدأ كتابة القصة مبكراً، فمجموعته القصصية الأولى (صراع) صدرت عام 1948م. وقد كتب القصة قبل ذلك التاريخ بعدة سنوات أيام كان طالباً في المتوسطة. واستُقبلت مجموعته الأولى تلك باحتفاء كبير من قبل النقاد والأدباء وقتها. يقول علي جواد طاهر في معرض حديثه عن هذه المجموعة: «أنت تلمح الروح القصصي جلياً في كل مكان، وأنك أمام قصاص في كل ما تقرأ، إنك أمام قصص لها طابعها الفني لا حكايات على السلاطين وكيفما اتفق، بل إنك تؤمن أنك أمام قصاص منذ الجملة الأولى لأية قصة». كما كتب المرحوم غائب طعمة فرمان في مجلة (الرسالة) المصرية عدد 870 في 6 مارس 1950 «نراه لا يحفل بالحوادث والمفاجآت بل يخلق من الحوادث الصغيرة عملاً فنياً بإطار من التحليل النفسي ويخلق الجو المشوّق الذي يدفعك إلى الاعتراف بأن للكاتب موهبة فنية ووعياً في جميع الأمور. وأغلب أقاصيص شاكر حافل بهذا النوع من التحليل النفسي». وشاكر خصباك، وكما قال أيضاً عبد الله نيازي عام 1951 في جريدة (الوميض) البغدادية: «فنان مطبوع يعرف كيف يستحوذ على النفوس ويسيطر على العقول. لقد شعرت وأنا أقرأ قصصه أنني عثرت على صديق يعتز به. وعبثاً حاولت فيما بعد أن أبعد عن فكري صورة من صوره العديدة الرائعة».. ثم أعقب شاكر خصباك مجموعته -صراع- بمجموعته القصصية الثانية (عهد جديد) عام 1951، ثم الثالثة (حياة قاسية) عام 1959، بعدها بدأ الكتابة للمسرح حيث ظهرت له مسرحية (بيت الزوجية) عام 1962 ومسرحية (الغرباء) عام 1965، بعدها أصدر روايته المهمة والمعروفة (الحقد الأسود) عام 1965 والتي أعيد طبعها تحت عنوان (السؤال) والتي تتحدث عن إحداث شباط 1963. ثم مسرحية (الشيء) عام 1966 تلك المسرحية التي تناولتها الدراسات الأدبية والمسرحية والتي تتحدث عن الفترة ذاتها. ومن المفيد أن نذكر هنا ما قاله عبد المجيد لطفي عن هذه المسرحية: «إن هذه المسرحية عمل وثائقي كبير لا يلهم به إلا رجل حساس نبيل إلى جانب كونه أديباً وفناناً. فلقد ظننت قبل أن أقرأ مسرحية (الشيء) أننا لم نخرج ولو بكسب جزئي للأدب من خلال تلك المعارك الوطنية ومن هذه الردة المأساة. إنني أقول جاداً وغير مجامل إن مسرحية (الشيء) إدانة صارخة ليس لليوم ولا لغد قريب وإنما إدانة تلقي البرابرة وحملة الأحقاد أجيالاً. فلقد ضمّت المسرحية أكثر الوجوه الوطنية نبلاً وبراءة وأثقف من في البلد من عقول ومواهب وبسالة. ولا أعتقد إلى هذه اللحظة أن كاتباً كتب شيئاً من وحي وآلام تلك المرحلة السوداء ما يوازي دقة وحرارة وجمال مسرحية (الشيء).. الشيء الذي كان يأكل كل شيء.. بما في ذلك الأعراض والمواهب وجهد التعب.. وإنني لأشعر الآن -تجاه هذا الكتاب- بالخجل لأنني لم أكتب شيئاً بهذا العمق والحرارة.. ربما بسبب أنني لم أمر مروراً عميقاً أو شخصياً بتلك المأساة الوطنية والأخلاقية ولم يكن لي شرف الاعتقال في تلك الهجمة البربرية..». وبعد (الشيء) صدرت له روايته الرائعة (حكايات من بلدتنا) عام 1967 و(القضية والمخذولون) مسرحيتان عام 1992، ومسرحية (الدكتاتور) عام 1995، ورواية (هيلة) عام 1996، (كتابات نقدية) عام 1995، وكتابه (ذكريات أدبية) عام 1996، وهو كتاب سيرة وضع بأسلوب مشوّق ويحمل بين ثناياه رؤية نقدية متميزة في غاية الأهمية، فلم يكتف خصباك بسرد سيرته الأدبية فقط إنما أرّخ ومن خلال هذه السيرة لمرحلة مهمة من مراحل الأدب العربي خاصة تلك الفترة التي كان فيها خصباك في مصر وقد ربطته علاقات وثيقة مع أهم أدبائها مثل محمود تيمور، نجيب محفوظ، عبد الحميد جودة السحار، نعمان عاشور، أحمد عباس صالح، يوسف الشاروني، والكاتب اليمني علي أحمد باكثير وغيرهم.. وشاكر خصباك ما زال يواصل الكتابة وقد صدر له في السنوات الأخيرة عدد كبير من الأعمال آخرها روايته (أوراق رئيس) عام 2000. وقد أمدّ الله في عمره حتى الآن وكاد يفقد حياته في أحداث عام 1963، يوم تمّ اعتقاله هو والمخزومي وخالد الجادر وعدد آخر وفي سيارة واحدة. ويذكر هذه الحادثة في مقاله (ذكريات عن مهدي المخزومي) المنشور في (الثقافة الجديدة) العدد 289 تموز/ آب 1999 حيث يقول: «في طريقنا إلى مديرية الأمن العامة كدنا نفقد حياتنا، فما أن اجتازت سيارتنا جسر الشهداء حتى أوقفتها ثلة من الضباط، وتساءلوا من نكون؟ فأجابهم المسؤول عن السيارة أننا شيوعيون - وكان بصحبتنا في السيارة عدد من الحرس القومي، فطلبوا من رئيس حرسنا أن ينزلنا من السيارة لينفذوا فينا حكم الإعدام طبقاً للبيان رقم 13. لكنه أجابهم بحزم أن لديه أمراً بتسليمنا إلى مديرية الأمن العامة وأننا أمانة بين يديه.. واشتد الجدل بينه وبين الضباط وشهر كل منهم سلاحه في وجه الآخر ونحن نتفرج على الجدل وكأن الأمر لا يعنينا! وأخيراً تراجع الضباط وسمحوا لسيارتنا بمواصلة طريقها، وهكذا أنقذنا من الموت بأعجوبة..». واحتفاءً بكاتبنا المبدع الكبير المخضرم شاكر خصباك، الذي يقيم، ومنذ أكثر من عشر سنوات، في اليمن، كان معه هذا الحوار:
▪ الدكتور شاك خصباك، قبل (صراع) مجموعتك القصصية الأولى.. كانت البدايات ومحاولاتك الأولى لنشر قصصك في الصحف والمجلات.. تلك البدايات التي ارتبطت بأسماء مهمة رعت موهبتك، فهل لك أن تحدثنا عن هذه البدايات؟ ▫ بدأت بنشر قصصي منذ عام 1945 وكنت ما أزال تلميذاً في المتوسطة. واتسع نطاق النشر حينما انتقلت إلى (الثانوية) وأنا أدين بالشكر لمجلة (الهاتف) النجفية التي كان يصدرها المرحوم جعفر الخليلي، وهو نفسه كاتب قصة، لذلك كانت المجلة تهتم اهتماماً خاصاً بالقصة. وقد نشرت قصصي الأولى على صفحاتها. وفي تلك المرحلة لقيت رعاية كريمة وبالغة من المرحوم الدكتور علي جواد الطاهر الذي كان قد عيّن مدرساً للغة العربية في إحدى مدارس الحلة الثانوية، وكلانا من أبناء الحلة أباً عن جدّ. وكان متأثراً تأثراً شديداً بخالي أستاذه في دار المعلمين العالية الدكتور محمد مهدي البصير، ولعل ذلك كان دافعه للاهتمام بأدبي في البداية، واستمر اهتمامه هذا إلى النهاية. كذلك لقيت رعاية واهتماماً في بداياتي من الأديب المرحوم عبد المجيد لطفي وكان من قصاصي تلك المرحلة المرموقين، وقد توثقت صلتنا فيما بعد وهو الذي كتب مقدمة كتابي (صراع).. ولا أنسى أيضاً تشجيع الأديب المصري الكبير محمود تيمور رائد القصة العربية والذي تأثرتُ بقصصه بدرجة عظيمة في تلك المرحلة من حياتي الأدبية حتى أنني أهديت إليه باكورة إنتاجي الأدبي وهي مجموعة (صراع). وهناك كتاب آخرون تأثرت بهم في تلك المرحلة من أدباء الغرب وعلى رأسهم القصصي الفرنسي جي دي موباسان. ▪ مجموعتك القصصية الأولى (صراع) الصادرة في عام 1948 في مصر لقيت إعجاباً في الأوساط الأدبية وقتها. وكتب عنها المرحوم غائب طعمة فرمان مقالاً ذكر فيه بأن (صراع) «نصر جديد للقصة العراقية»، كما كان غائب من أشد المدافعين عن هذه المجموعة عندما هاجمها فؤاد الونداوي وهو الوحيد الذي هاجمها. فما أهمية (صراع) بالنسبة لك وما موقعها بالنسبة للقصة العراقية؟ ▫ أولاً لم يكن الأمر بالنسبة لـ(صراع) كما صورته، فكل ما في الأمر أنها استقبلت من قبل النقاد استقبالاً طيباً. وما أبداه المرحوم غائب من حماسة لها، وكذلك ما أبداه المرحوم الدكتور علي جواد الطاهر من حماسة أشد لها، وكذلك المرحوم عبد المجيد لطفي، ربما كان وراء تلك الحماسة عاطفة الصداقة أو التشجيع. فلا تنس أن عمري حين صدورها لم يكن يتجاوز الثامنة عشرة، وكنت قد كتبت قصصها ما بين الخامسة عشرة والثامنة عشرة من عمري، وكانت تمثل في حينها خطوة متقدمة بالنسبة للقصة العراقية. وكانت تختلف عن النمط الذي كان يكتبه قصاصو مرحلة الأربعينات من أمثال جعفر الخليلي وعبد المجيد لطفي وذو النون أيوب. ولم يكن قد صدر من مجموعات قصصية تخرج على هذا النمط سوى مجموعة قصصية لعبد الملك نوري بعنوان (رسل الإنسانية) ولم تمثل شيئاً جديداً، ومن هنا جاءت أهمية مجموعة (صراع). فإذن كانت هي بنت وقتها فحسب، هذا كل ما في الأمر. ▪ في أي جيل قصصي نضع شاكر خصباك؟ ▫ أنا لا أؤمن بفكر الأجيال، أنا أؤمن بالتواصل. وإذا كنت منذ بدأت كتابة القصة أؤمن بروح التجديد، ومجموعة (صراع) تحمل فعلاً تجديداً واضحاً في أساليبها عما كان مألوفاً في القصة العراقية يومذاك، فأنا ما أزال حتى اليوم أؤمن بالتجديد، ولم أتنكر له يوماً. ولكن ليس نوع التجديد الذي يفهمه البعض على أنه الخروج على المألوف، حتى ولو بلغ حدّ الإيهام. وأعتقد أن آخر رواية صدرت لي عام 2000 وهي رواية (أوراق رئيس) وقبلها (موت نذير العدل) و(الخاطئة) هي مصداق لقولي هذا. ولن تجد أية رواية من رواياتي مكتوبة بنفس الأسلوب. ولذلك فإنني أرفض أن أصنف ضمن جيل معين من كتاب الأدب القصصي في العراق. ▪ وما هي أهم رواية كتبتها، أو تجدها الأقرب إلى نفسك؟ ▫ لا أفضّل رواية على أخرى، فكلهم أبنائي (ولنستعير هذه العبارة من الكاتب المسرحي آرثر ميلر)، والأب لا يفرّق في حبه بين أبنائه. ▪ يطلق عليك (الكاتب القصصي والروائي المخضرم) لتواصلك مع الكتابة حتى الآن دون توقف.. ولولا محاولاتك المستمرة في التجديد لما واصلت حتى اليوم ولما كتبت رواياتك الأخيرة ومنها (هيلة)، (الهوية)، (امرأة ضائعة)، (الطائر)، (قصة حب)، (موت نذير العدل)، (الخاطئة) وأخيراً رواية (أوراق رئيس) التي تعدّ واحدة من أهم الروايات التي كتبت عن الدكتاتورية، فماذا يعني لك التوقف عن الكتابة؟ وما أهميتها بالنسبة لك..؟ ▫ التوقف عن الكتابة يعني لي الموت، وأشكر الله الذي مدّ في عمري وأتاح لي بذلك فرصة الكتابة، فقد كان ينبغي لي أن أموت في شباط عام 1963 في حركة البعث، وكان ثمة شعرة تفصل بين حياتي وموتي، مع مفكرين آخرين أجلاء، وكان جسر الشهداء سيكون شاهداً على موت كوكبة عظيمة من مفكري العراق، ولكن الله أراد لي ولهم الحياة فوصلنا بسلام إلى معتقل رقم (1). أما أهمية الكتابة بالنسبة لي.. فأنا أحب دائماً أن أكون شاهد عصري. ▪ ولماذا الجغرافية؟ أعني إذا كنت قد عرفت ومنذ البداية ميولك إلى الأدب وانحيازك إليه، لماذا درست الجغرافية؟ ▫ «مكره أخاك لا بطل»، فوزارة المعارف هي التي فرضت عليّ دراسة الجغرافية حيث اختارتني عضواً في البعثة العلمية إلى مصر لعام 1947 - 1948، وكنت قد حققت تفوقاً في الجغرافية، بالذات في الامتحان الوزاري (البكالوريا). وبعد أن درست الجغرافية دراسة أكاديمية أدركت أنها ليست بعيدة عن ميدان الأدب، فمحور الأدب هو (الإنسان) ومحوري الجغرافيا هما (الأرض) و(الإنسان). فليس هناك إذن تناقض بين الجغرافية والأدب فأحببت الجغرافية كما أحببت الأدب من قبل.
▪ وبعد كل هذه السنين، ما هو الأقرب إلى نفسك الأدب أم الجغرافية، خاصة وأن البعض يطلق عليك (شيخ الجغرافيين العرب).. من جانب آخر وصلت أعمالك الأدبية إلى (24) عملاً ما بين مجموعة قصصية ورواية ومسرحية؟ ▫ ووصلت أعمالي الجغرافية إلى أكثر من عشرين عملاً ما بين تأليف وترجمة، وليس للجغرافية (شيخ) بل (شيوخ) ربما كنت أحدهم بسبب سني.. وأجيبك باختصار على سؤالك بالمثل القائل «ما الحب إلا للحبيب الأول». ▪ كتبت القصة والمسرحية والرواية.. إلى أي منهم تنحاز أكثر؟ ▫ أنا لا أجد أي فارق بين هذه الأنواع الثلاثة من الأدب القصصي، فأنا في الحقيقة أكتب المسرح للقراءة بالدرجة الأولى، وعلى المخرجين أن يكيّفوا كتاباتي للمسرح بما يتقنونه من فن المسرح، ورواياتي في الحقيقة ليست روايات بالمعنى الصحيح، فهي ما يمكن أن يطلق عليه اسم (قصة طويلة) Long Story أو رواية قصيرة Novelette ولذلك لا أجد تبايناً في ميادين كتابتي. ▪ مسرحيتك (الدكتاتور) الصادرة عام 1996 في اليمن، واحدة من أهم المسرحيات التي كتبت في العشر سنوات الأخيرة.. إلا أن القليل استطاع الاطلاع عليها وعرف قيمتها، فبم تعلل ذلك؟ ▫ ربما يعود السبب إلى ضيق نطاق النشر في اليمن، وأنت تعرف ظروفه، أو ربما لأن مسرحياتي كلها تعالج قضايا خطيرة لا يوافق عليها الحاكمون في كل الدول العربية، أمثال مسرحية (الشيء)، (القضية)، (الغرباء) وكل مسرحياتي القصيرة ذات الفصل الواحد. ▪ عندما نقرأ نصاً مسرحياً لشاكر خصباك نعرفه له دون حاجة للعودة إلى اسمه، فهناك خصوصية تميز نصوصه المسرحية، فأعمالك المسرحية تتدخل فيها الصفة القصصية كونك قاصاً وخاصة في بناء الشخصيات وصياغة الحوار والعكس صحيح. أيضاً نجد الكثير من قصصك ورواياتك تعتمد في بعض مشاهدها البناء الدرامي القريب من فن المسرح. فإلى أي حد انتفع مسرحك من كونك قاصاً أو قصصك من كونك مسرحياً؟ ▫ للإجابة على هذا السؤال أقول إنني بدأت أساساً ككاتب قصة لا ككاتب مسرحية، وبدأت كتابة القصة مبكراً، ولم أكن في تلك المرحلة قد شاهدت المسرح، فقد تربيتُ في مدينة صغيرة هي مدينة (الحلة)، وكما تعلم فالمسرح عندنا لم يكن له في تلك المرحلة المبكرة وجود حتى في بغداد العاصمة، ولم يكن المسرح يعرف في العراق إلا على خشبات المسارح الصغيرة التي كانت تقام في المدارس وهو مسرح بدائي بطبيعة الحال، ولم يعرف العراق المسرح الحقيقي إلا بنشوء معهد الفنون الجميلة بداية الأربعينات في بغداد على يد المرحوم (حقي الشبلي) ورغم ذلك فحال المسرح لدينا في العراق كان مختلفاً عما هو في مصر ولبنان وسوريا وإن أصبح في العقود الأخيرة أكثر تطوراً، وإذا ما نظرنا إلى المسرح فإنه ومنذ مطلع القرن العشرين وربما منذ نهاية القرن التاسع عشر ظهر نشاط مسرحي في لبنان وسوريا ومصر على أيدي مسرحيين معروفين من أمثال (مارون النقاش، والقباني، ويعقوب صنوع) وهم معروفون لكل المعنيين بتاريخ المسرح والحركات المسرحية، وإن كان ذلك النشاط قد تعرض لفترات ازدهار وخمول حسب الظروف. وأريد أن أؤكد هنا أن مصر بالذات شهدت منذ العقد الثاني من القرن الماضي والعقد الثالث على نحو الخصوص نشاطاً مسرحياً مزدهراً كان على رأسه جورج أبيض ويوسف وهبي وعزيز عيد وعبد الرحمن رشدي. فليس غريباً أن يبرز كتاب مسرحيون مرموقون في مصر مثلاً، فقد تربى البعض منهم في حضن المسرح. فكاتب مسرحي مثل توفيق الحكيم قد تربى في حضن المسرح بمعنى هذه الكلمة. ومنذ كان في مقتبل عمره مارس الكتابة المسرحية للفرق التمثيلية وهو في العشرين من عمره. أما في حالة المسرح العراقي فلا يمكن أن يدعي أي كاتب مسرحي عراقي أنه تربى في حضن المسرح. ولهذا يمكنني القول إن مسرحي هو الذي استفاد من كوني قاصاً وليس العكس. وطبعاً انعكس ذلك على اهتمامي ببناء الشخصية والحوار الحي الدقيق الذي يعبر عن الشخصية تعبيراً داخلياً وخارجياً، والحقيقة أن اهتمامي بالمسرح قد حدث لا نتيجة لقراءاتي بل نتيجة لاحتكاكي العملي بالمسرح أثناء دراستي في أوربا وعلى نحو التدقيق في إنجلترا. فمسارح لندن ما تزال تمثل أرقى المسارح في العالم، ولا تدانيها إلا مسارح فرنسا. وأنت تعلم بالطبع أن التراث المسرحي الإنجليزي يعود لقرون عديدة وقد أدمنت مشاهدة المسرح أثناء دراستي في إنجلترا وانتفعت من ذلك كثيراً. وهكذا ترى أن أول مسرحية لي هي مسرحية (بيت الزوجية) قد ظهرت عام 1962 وكنت قد نلت شهادة الدكتوراه وعدت إلى بغداد لأكون أستاذاً في جامعة بغداد منذ عام 1958، أي أن هذه المسرحية قد ظهرت بعد عودتي من لندن بأربع سنوات. وهكذا ترى أن مسرحي هو الذي انتفع من كوني قاصاً وليس العكس. ▪ تشيخوف كاتب قصصي أثّر في كتّاب القصة العرب كثيراً، ولا يخفي شاكر خصباك وهو يذكر ذلك في كتابه (ذكريات أدبية) تأثره بهذا الكاتب العظيم. وتشيخوف ليس كاتب قصة فحسب إنما هو من أعلام المسرح العالمي الكبار أيضاً، فهل اتجاه شاكر خصباك إلى المسرح بعد أن كتب القصة جاء بتأثير من تشيخوف أيضاً، أم أنه وجد في المسرح ما لم تستطع القصة استيعابه أو إيصاله؟ ▫ لابد أن أعترف بأن مسرحيات تشيخوف التي قرأتها مبكراً ضمن ما قرأته من أدب تشيخوف لم تؤثر فيّ كثيراً ولم أعجب بها كما أعجبت بقصصه. فالمسرح كما تعلم يكتب لغرض التمثيل قبل كل شيء. ولم أدرك قيمتها الحقيقية إلا بعد أن رأيتها تمثل على خشبة المسرح وإلا بعد أن ألفتُ قراءة المسرح بعد أن اعتدت مشاهدته. ولكن بعد أن اتسعت ثقافتي المسرحية بقراءة أمهات المسرح العالمي على اختلاف أنواعه النرويجي المتمثل بـ(أبسن) والسويدي المتمثل بـ(سترندنبرغ) والإنجليزي المتمثل بـ(برنارد شو ووايلد) والأمريكي المتمثل بـ(تنسي وليامز وآرثر ميلر ويوجين أونيل) أدركت قيمة مسرحيات تشيخوف الحقيقية. وأنا لا أشك أن مسرحيات تشيخوف هي من أعظم ما أنتج من مسرح عالمي بالرغم من قلة عددها فهي لا تتجاوز خمس مسرحيات طويلة وبضع مسرحيات قصيرة. ولا شك عندي أنها من أفضل ما كتب من مسرحيات روسية. وبالمناسبة هناك عدد كبير من الكتاب المسرحيين الروس الكلاسيكيين ويمكن القول إن جميع الكتاب الروس الكبار، ربما عدا دستويفسكي، قد كتبوا للمسرح بما فيهم تولستوي وتورغنيف وغوركي. ولكن مسرحياتهم جاءت دون مسرحيات تشيخوف. ولستُ في حاجة إلى القول إن تشيخوف كان مجدداً في المسرح وإنه خرج على مسرح القرن التاسع عشر التقليدي (طبعاً لابد من القول هنا إن المجدد الحقيقي في المسرح الحديث هو أبسن النرويجي وسترندبرغ السويدي.. لكن لمسرحيات تشيخوف نكهة خاصة بها تختلف عن نكهة مسرحيات أبسن وسترندنبرغ. ولم يتخلص فيها تشيخوف من روحه القصصية، فهذا الجانب واضح جداً في مسرحياته وخصوصاً في طريقة رسمه للشخوص وفي الروح الإنساني الشفاف الرهيف الذي يطبع كل مسرحياته والذي تميزت به من قبل قصصه. إن مسرحياته تعتمد عموماً على الحركة الإنسانية الداخلية وبالتالي فهي تتخذ الحوار أساساً للكشف عن ماهية حياة الشخوص. ولست أرى في ذلك نقيصة في مسرحه، فلم يقل أحد مطلقاً إن مسرحيات تشيخوف غير صالحة للتمثل إلا في حالة إخرجها بصورة سيئة. وهذا ما حدث حينما مثلت وللمرة الأولى مسرحية (طائر النورس) والتي فشلت فشلاً ذريعاً. وربما كانت مسؤولة عن إصابته بمرض السل حينما خرج من المسرح هائماً على وجهه في ليلة باردة رطبة. وكذلك حال مسرحياته التي مثلت على المسرح الإنجليزي وأخرجت إخراجاً سيئاً مما جعل بعض معارفي يسألوني: «ولكن ماذا فيها يا شاكر؟!» وهنا أعود إلى لب سؤالك حول مدى تأثري بمسرح تشيخوف فأقول إنني لا أعرف إن كنت متأثراً فعلاً بمسرحه أم لا.. وكل الذي أعرفه أنني حينما أكتب للمسرح لا أفكر بأحد وأنني بعيد عن تقليد أي كاتب مسرحي أعجب به. وأنا في العادة لا أخضع لأفكار معينة في التقنية الروائية أو المسرحية بل يفرض الموضوع عليّ تقنيته الخاصة. ▪ ألا ترى معي أن أسلوب المناقشة والحوار الطويل في مسرحك ما عاد يستوعبه المسرح الحديث، وهو ما وقع فيه علي أحمد باكثير في مسرحياته، وهل جاء ذلك من تأثيرات برنارد شو ومن قبله أبسن أم انطلق من خصوصية شاكر خصباك والذي يريد أن يقدم (أدباً مسرحياً) مقروءاً أكثر من أن يقدمه ممثلاً على خشبة المسرح؟ ▫ أحب أن أقول أولاً إن أشكال الكتابة المسرحية متعددة للغاية وتقنياتها متنوعة إلى أبعد الحدود. فليس هناك إذن في رأيي شروط خاصة للكتابة المسرحية. ولو أنك حاولت أن تتبع ما قدم من عروض مسرحية على مسارح العالم الكبرى في فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة وروسيا لوجدت أنها تقدم مسرحيات من كل العصور على اختلاف تقنياتها بدءاً من المسرح اليوناني الكلاسيكي وانتهاء بمسرح اللامعقول (بيكيت وأداموف ويونسكو). وكل هذه الأنواع المسرحية متعايشة مع بعضها. ولعل جمهور المسرح القديم أكبر عدداً من جمهور المسرح الحديث أو مسرح التغريب. وبالمناسبة إن مسرح التغريب في فرنسا لا يحظى إلا بعدد محدود جداً من الحضور ولا يقدم إلا على مسارح صغيرة أقرب إلى مسرح الجيب، عدا استثناءات قليلة من المسرحيات التي حظيت بشهرة خاصة. وما تزال مسرحيات موليير وراسين وكورني تحظى بجمهور واسع أكثر من جمهور مسرحيات سارتر وجان جينيه ويونسكو وجان كوكتو. أنتهي إلى القول إن المسرحيات التي تعتمد الحوار أساساً هي من أكثر المسرحيات نجاحاً. فالمسرح أساساً هو (حوار وشخوص) في جوهره، ونجاح هذا المسرح أو فشله يعتمد بالدرجة الأولى على أهمية القضايا التي يثيرها والطريقة التي تطرح بها ثم مدى نجاحه في تقديم الشخوص التي تتولى هذا الحوار. وهنا أود أيضاً أن أشير إلى أمر جوهري وهو دور المخرج في نجاح المسرحية. فهناك دائماً ما يتحلى به المخرج من مهارة وحذق في فهم النص المسرحي وتفسيره ثم تقديمه بطريقته الخاصة على المسرح. وقد ذكرت في مكان آخر أن مسرحية (طائر النورس) لتشيخوف فشلت حينما قدمت للمرة الأولى على خشبة المسرح. لأن مخرجها فهمها فهماً سيئاً وقدمها بطريقة تقليدية سقيمة، لكن أبو المسرح الروسي الحديث (ستانسلافسكي) فهمها فهماً صحيحاً وقدمها بأسلوب آخر فنجحت نجاحاً منقطع النظير.. هذا جوابي على الشق الأول من سؤالك، أما جوابي على الشق الآخر الذي يتساءل إن كنت أكتب أدباً مسرحياً أم تمثيليات فأقول بأنني بكل تأكيد أكتب أدباً مسرحياً للقراءة أكثر مما هو للتمثيل. وكما قلت سابقاً فإن مدى صلاحية أدبي المسرحي للإخراج على خشبة المسرح تتعلق بالمخرج الذي يتولى ذلك ومدى اتساع أفقه ومهارته. وأعود فأكرر ثانية أن ثمة فرقاً بين الأدب المسرحي و(التمثيليات) التي تكتب من أجل إخراجها على المسرح والتي قد لا تنشر حتى في كتاب. أما بالنسبة لبرنارد شو فأنا بالتأكيد لست متأثراً بمسرحه، فمسرح برنارد شو فكري بالدرجة الأولى وأزعم أن برنارد شو لم يكن معنياً في يوم من الأيام بتقديم شخصيات إنسانية. وفي ظني أن الحوار في بعض مسرحياته المطولة يتحول إلى كلام ممل. ولستُ أدري كيف جاز له أن يصرّح أكثر من مرة أن مسرحه أعظم من مسرح شكسبير مع أنه يعلم جيداً أن الشخصيات التي قدمها شكسبير هي شخصيات خالدة أبد الدهر.. ▪ مسرحيتك (الدكتاتور) الطويلة، وكذلك مسرحياتك القصيرة التي كتبتها في الفترة الأخيرة ومنها (اللص)، (القهقهة)، (هي وهي)، (في انتظار جودو) وغيرها، تنبئ بأن تحولاً قد طرأ على مسرح شاكر خصباك. فبينما كان يكتب (أدباً مسرحياً) بدأ يكتب مسرحاً درامياً (ولا يعني هذا أن أعماله السابقة خالية من الدراما). فهل هذا يعني أن شاكر خصباك قد بدأ يكتب أدبه المسرحي وفي ذهنه (خشبة المسرح)؟ ▫ أنا شخصياً لا أشعر بمثل هذا التحول.. والواقع أن الكاتب لا يستطيع أحياناً الحكم على أعماله، وقد يكون الدارسون والنقاد أقدر على تلمّس التحولات التي تحدث لدى الكاتب أو الفنان على اختلاف حقول الفن. ولذلك فقد تكون ملاحظاتك صحيحة. وأحب هنا أن أؤكد بهذه المناسبة بأن صلتي العملية بالمسرح شبه معدومة، فلم يحدث لأية مسرحية من مسرحياتي أن أخرجت على خشبة المسرح. وكان ينظر إليها على اعتبارها نوعاً من أنواع الأدب وخصوصاً وأنني اشتهرت منذ مطلع ممارستي للكتابة بكوني قاصاً. ولا أستبعد أنني ربما عدلتُ من أسلوب كتابتي للمسرح لو شاهدت مسرحياتي تمثل على خشبة المسرح. ولكنني آمل ألا يحدث ذلك لي لأنني كما قلت في مكان آخر معني بـ(الأدب المسرحي) أكثر من عنايتي بالتمثيل ويهمني جداً أن أكون مقبولاً لدى قراء مسرحي أكثر من مشاهدي المسرح.. وأؤكد هنا أيضاً بأنني ضد الجمود ومؤمن بالتطور وذلك منذ مطلع ممارستي الكتابة. وقد لاحظ ذلك عليّ أحد أدبائنا الكبار وهو الأستاذ (عبد الملك نوري) الذي كتب عني مقالة في مطلع عام 1953 قال فيها: «وهو يمتاز على الآخرين الذين ينقلون عن الواقع بأنه يتعمق في مواضيعه ويكتب أقاصيص حقيقية لا مقاصات. وأخيراً يمتاز بجهاده المخلص الدائب في سبيل تحسين فنه وتطويره». ▪ وماذا يمثل لك لقاء على صفحات مجلة (الثقافة الجديدة) وهل لك ذكريات مع هذه المجلة تحديداً؟ ▫ تمثل لي مجلة (الثقافة الجديدة) حماسة الشباب وفورته.. فقد عملت بحماسة شديدة من أجل صدورها. فقد اتصل بي القائمون يومذاك على إصدارها وعلى رأسهم المرحومان الدكتور صلاح خالص والدكتور صفاء الحافظ لكي أتولى الإشراف على الجانب الأدبي فيها، فقبلت بكل سرور. لاحظ أنني لم أكن منتمياً إلى الحزب الشيوعي لا أولاً ولا آخراً. وقد تبيّن فيما بعد أنها من إصدارات الحزب الشيوعي. ولا أدري لماذا اتصلوا بي بالذات. وكان ذلك في أواخر 1953. وعملتُ بهمة في المجلة، ومن جملة الأدباء الذين قدمتهم إليها المرحوم عبد الوهاب البياتي. وقد حمل أول عدد من أعداد المجلة قصة لي بعنوان (آمنة). ولعلك تعلم أن مجلة (الآداب) البيروتية التي صدرت عام 1952 قد اختارتني أيضاً في هيئة التحرير الشرفية كما اشتمل عددها الأول على قصة لي بعنوان (الكسيح). ولعل هذا هو السبب الذي جعل المشرفين على مجلة (الثقافة الجديدة) يختارونني مسؤولاً عن الجانب الأدبي فيها. وقد خاضت مجلة (الثقافة الجديدة) صراعاً مع السلطة وكنت طرفاً فيه. فقد أغلقت السلطات المجلة بعد صدور عددها الأول، فعمل القائمون على أمرها على الحصول على امتياز جديد باسم (الثقافة الحديثة). وأتذكر أننا قابلنا من أجل ذلك المرحوم وصفي طاهر من أجل أن يسهّل لنا مقابلة روفائيل بطي الذي كان وزيراً للإعلام يومذاك. وبعد صدور العدد الجديد أغلقته السلطة ثانية، ولم يكن هناك مجال لإصدار المجلة ثانية. فتعهدت لزملائي أن أقوم بإعداد كتاب عن أنطون تشيخوف والذي كان مجلس السلم العالمي قد طلب الاحتفال بالذكرى الخمسين لوفاته. وبالفعل صدر كتابي عن أنطون تشيخوف في الميعاد الشهري لصدور المجلة. وكان أول منشورات مجلة (الثقافة الجديدة)، وأول كتاب يصدر عن تشيخوف باللغة العربية على ما أظن. فجنَّ جنون السلطة وبدأت حملة مسعورة لاعتقال المشرفين على المجلة وكتّابها وذلك في صيف عام 1954، لكنني كنت قد سافرت إلى بريطانيا آنذاك لنيل الدكتوراه في الجغرافيا فنجوت من الاعتقال. وحينما عادت مجلة (الثقافة الجديدة) إلى الصدور في أعقاب ثورة تموز عام 1958، كان أول كتاب أصدرته من منشوراتها هو كتابي (الكرد والمسألة الكردية). وهو أول كتاب يدعو إلى منح الأكراد الحكم الذاتي كحل للمسألة الكردية، وقد منع تداوله بعد صدوره بأسبوع. ويسرني أن أكون أول من طرح هذا الحل من المفكرين العرب العراقيين. وقد وجدتُ صعوبة يومذاك في إقناع القائمين على المجلة بقبول مثل هذا الطرح، ولم يكن قد تبنى هذا الحل أحد، حتى الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي تبناه في عام 1960، ثم تبناه الحزب الشيوعي العراقي في عام 1961. وبعد جدال طويل معهم اتفقنا على أن أستبدل عبارة (الحكم الذاتي) بعبارة (الإدارة الذاتية). وهكذا ترى أن لي مع مجلة (الثقافة الجديدة) تاريخاً عريقاً أعتز به، وما أزال أعتز بهؤلاء المناضلين الذي هم على استعداد دائم للبذل والعطاء بلا مقابل، وهذا أكثر شيء أحبه فيهم وأكبرهم عليه. ▪ أخيراً، وبصراحة.. هل أنصفك النقد؟ ولماذا؟ ▫ لا أعتقد أنك في حاجة لأن تسأل مثل هذا السؤال يا أخي كريم لأنك تعلم أنه لم ينصفني النقد إلا في مرحلتي الأولى. وبهذه المناسبة قال لي أحد الأساتذة الأكاديميين من النقاد مرة «أنت ظالم ومظلوم». فسألته «وكيف ذلك؟» فأجاب: «أنت لا تحاول أن تقدّم نفسك للمعنيين، والمعنيون قد ظلموك لأنهم لا يتحدثون عنك بما تستحقه، وهكذا ظلمت نفسك وظلموك». ويؤسفني أن أقول إن مجلات الشيوعيين على اختلافها من جملة من ظلمني، فهي تتجاهلني لأنني لستُ شيوعياً، فلا داعي لأن يطبّلوا لي ويزمروا، بل إنهم لا يجدون مبرراً لأن يضعوا اسمي على غلاف المجلة باعتباري كاتباً ثانوياً في حين يضعون أسماء لا ترقى إلى مكانتي الفكرية والأدبية، مع أنني أكثر من دافع عن الشيوعيين بمن فيهم كتابهم والمحسوبين عليهم. ولا أظن أن أحداً ينسى روايتي (الحقد الأسود) والتي نشرت فيما بعد بعنوان (السؤال)، وكذلك مسرحية (الشيء) ورواية (حكايات من بلدتنا) والتي كتبت حول أحداث عام 1963 الدامية، شاهداً على ما أقول. وأعتقد أن أدبي هو الشاهد الوحيد على ما ارتكبت من جرائم تجاه الشيوعيين والوطنيين يومذاك، فقد دخل مئات الأدباء والشعراء من الشيوعيين المعتقلات، لكنهم التزموا الصمت حول بشاعة وإجرام ما حدث فيها، أو كتبوا شذرات لا تغني. كما أنني أعزو سبب تجاهل أعمالي -الأخيرة- وأقصد التي صدرت في أواخر الثمانينات، وهي مستمرة في الصدور حتى اليوم، لكونها تطبع وتنشر في اليمن ومجالها كما تعلم ضيق جداً فلم يطلع عليها الكثيرون ومع ذلك قد تدهش إذا قلت لك إن تجاهل أدبي من قبل النقاد لا يعني لي شيئاً كثيراً. فأنا أكتب من أجل أن أكون شاهداً على عصري ومتفاعلاً معه ومنفعلاً به. وهذا هو هدفي الأول من الكتابة، ثم لأرضي شاكر خصباك قبل كل شيء، وإرضاؤه أمر عسير في هذا الزمن الذي ساده الطغيان والتجبر والذي يحكمه حكام عديمو القيم وأعداء للإنسانية. وأنا أربأ بنفسي أن أطبّل لأدبي وأزمّر وأتصل بفلان وعلان من الكتّاب ليكتب عن أدبي كما يفعل الكثير من الأدباء اللامعين الذين يستجدون الكتابة عن أدبهم. هذا فضلاً عن أن أدبي يتعفف عن دغدغة الغرائز الجنسية. وحالي هذا شبيه بحال المرحوم غائب طعمة فرمان الذي لم يتملق الكتّاب يوماً ليكتبوا عنه. ولحسن الحظ أنه وجد في الكتّاب الشيوعيين مناصرين له ومقدّرين لأدبه. ولعل المتحمس الوحيد لأدبي في الوقت الحاضر هو أنت، وبدون مقابل، فبارك الله فيك. وأخيراً وليس آخراً: ما قيمة أدبي تجاه أدب تولستوي ودستويفسكي وتشيخوف وشكسبير وهمنغواي وبروست؟ ورحم الله من عرف قدر نفسه. حوار مع عالم الجغرافيا الدكتور شاكر خصباك □ أجرى الحوار/ د. مالك الدليمي
الأستاذ الدكتور شاكر خصباك عالم جغرافي. لقد شدتني كثيراً فكرة الوفاء للآخرين التي طرحها الشاعر والأكاديمي الكبير الدكتور عبد العزيز المقالح في هوامش يمنية بمجلة الكويت، العدد 270 التي كان عنوانها (الدكتور شاكر خصباك وجناية الشهرة العلمية على المبدع) والتي كان مضمونها غياب التعريف وتسليط الضوء على أستاذنا المبدع الدكتور شاكر خصباك في نتاجه الأدبي الذي بدأ به المبدع الدكتور شاكر خصباك وهو في سنوات دراسته الإعدادية والثانوية في مدينة (بابل) منذ بداية عام 1945م التي وصلت إلى خمس عشرة رواية وتسع مسرحيات طويلة وأربع عشرة مسرحية قصيرة إلى جانب ما نشره من ذكريات أدبية عن أدباء عاصرهم. إن الفكرة التي طرحها أستاذنا المبدع الدكتور عبد العزيز المقالح حول أستاذنا الدكتور شاكر خصباك قد هزّتني جداً. الدكتور شاكر خصباك وأنا طالب في قسم الجغرافية بكلية الآداب جامعة بغداد في عام 1969م وهو الأستاذ القدير الذي كان من الأساتذة القلائل الذي يدخل القاعة فيجد أن المقاعد مملوءة، والكل ينتظر وصوله بكل انتباه، وأقول أن أستاذي الذي أعتز بعبارة يرددها (ابني مالك) منذ عام 1969م وما زال يخاطبني بها حتى الآن وأنا أبلغ من العمر ستين عاماً، وأنا الآن أزامله في قسم الجغرافية بكلية الآداب بجامعة صنعاء في التدريس. وقد وجدت نفسي أشارك أستاذنا الكبير الدكتور عبد العزيز المقالح الرأي في أن عالمنا المبدع الأستاذ الدكتور شاكر خصباك لم يأخذ حقه في التعريف ليس في نتاجه الأدبي فحسب بل حتى بتسليط الضوء بصورة صحيحة على جهده الجغرافي الذي وصل إلى (22) كتاباً مؤلفاً ومترجماً. وقد تذكرت كيف شجعني أستاذي الكبير الدكتور شاكر خصباك منذ أيام الجامعة للتوجه إلى الدراسات العليا والتحصيل العلمي، فكانت رحلتي إلى فرنسا لنيل شهادة الدكتوراه عام 1975م. وقد خطرت لي فكرة الكتابة عن العالم الجغرافي الدكتور شاكر خصباك لأنه جدير بذلك بعد هذه الرحلة الطويلة في عالم الجغرافية. لا يمكن أن تخلو أية مكتبة لمهتم أو متخصص في الجغرافية من مؤلفات أستاذنا الجليل في هذا الحقل الشحيح في التأليف والترجمة والتي أبدع فيها عالمنا الكبير. وقبل البدء بالحوار مع أستاذنا عالم الجغرافية لابد من التعريف بسيرته الشخصية والعلمية. ولد أستاذنا في عام 1930م في شهر آذار في مدينة الحلة (بابل) وتتلمذ في مدارسها الابتدائية والمتوسطة وأنهى دراسته الثانوية فيها. وحصل على الليسانس من جامعة القاهرة عام 1952م. وعاد إلى العراق ليعمل مدرساً في مدارس المنصور والغربية المتوسطة ببغداد. ثم سافر في عام 1954م إلى إنجلترا لنيل شهادة الدكتوراه وحصل عليها من جامعة (ردنك) في عام 1958م. وعاد إلى العراق ليبدأ رحلة العمل للتدريس في جامعة بغداد ما بين الأعوام 1958 - 1963م، ثم عمل في جامعة الرياض للتدريس ما بين الأعوام 1964 - 1968م، ثم عاد إلى بغداد للتدريس ما بين الأعوام 1968م - 1981م. ثم شد الرحال للتدريس في جامعة صنعاء منذ العام 1985م وحتى يومنا هذا. هذا هو أستاذنا الكبير الدكتور شاكر خصباك الذي يشكّل مدرسة في الفكر الجغرافي والفلسفة الجغرافية، والذي كان له الفضل بنقل أمهات الكتب لكبار الجغرافيين العالميين وقد بذل بذلك بترجمتها الجهد والعمر، من أجل أن يضعها بين أيادي طلبته في الدراسات الأولية والعليا في جامعات الأقطار العربية. إذن تعالوا معنا نتعرف على رحلة أستاذنا الجليل في الجغرافية والتي أبى إلا أن يزامنها مع رحلته الأدبية ولنكتشف سر هذا الرجل الذي أحب العمل بهدوء فنقل بصبر الحروف المكتوبة بلغة غير لغته فأجاد نقلها بلغة علمية بسطها على الرغم من صعوبة مفرداتها ومصطلحاتها ليقدمها هدية من دون مقابل إلى أبناء قومه فكان هذا الوسام الذي يفخر به ويفخر به أصدقاؤه وطلابه وزملاؤه الأوفياء. ▪ ماذا تعني الجغرافية لأستاذنا القدير الدكتور شاكر خصباك؟ ▫ الجغرافية حتى نهاية القرن الثامن عشر كانت تعني المعرفة بالبلدان. وعلى الرغم من كل ما حصل من تطورات على الصعيد العالمي الذي حول العالم إلى قرية صغيرة إلا أن الجغرافية كانت ظلّت تهتم دائماً بهذه الوظيفة وهي التعريف بالبلدان سواء على نطاق ضيق أو واسع. وأعتقد كما يعتقد الغالبية أن هناك قيمة متزايدة للجغرافية الإقليمية كونها تهتم بالتعريف بالبلدان، وهذه هي الوظيفة الرئيسية للجغرافية. وكما تعلم أن المناهج تعددت وتغيرت، وحتى الوظيفة الأسـاسية للجغرافية تطورت إلى مفاهيم مختلفة كالجغرافية الراديكالية التي تهتم بالشعوب -أحوالهم ومشاكلهم- والجغرافية الماركسية والجغرافية السلوكية. ولكن مهما يكن الأمر علينا أن لا نهمل الوظيفة الأساسية للجغرافية وهي التعريف بالبلدان. ونحن نفخر كعرب ومسلمين أن أجدادنا استطاعوا أن يسهموا إسهامة مهمة بالتعريف بالبلدان، وكانت الخارطة من إضافاتهم الجغرافية والتي أسهموا بتطويرها ونشرها. ▪ كيف ينظر أستاذنا إلى مكانة الجغرافية في الدراسات الجامعية وفي التعريف بهذا العلم ونشره؟ ▫ بعد هذه الرحلة الطويلة أعترف أن فكرتي عن واقع الجغرافية في الجامعات لا تسر وكانت آمالنا كمختصين في هذا العلم أن تسهم الجغرافية إسهامة أكبر في التطوير الوطني. لكن البحث العلمي ما زال مهملاً فهو يحتاج إلى أموال وميزانيات وهي غير متوفرة. وقد دفع ذلك أساتذة الجغرافية للاهتمام بحرفة التدريس فحسب مكرسين نشاطهم فيها. وزاد من معاناتهم أن مستوى الطلبة أخذ بالتدني بدل الارتفاع. فهناك قصور الطلبة في تعليم اللغات الحية الأخرى مما يصعب عليهم الاطلاع على ما يكتب أو ينشر بلغة غير العربية. وللأسف ليس لدينا كتب جغرافية مهمة إذا ما استثنينا ما نشره الأستاذ المرحوم الدكتور جمال حمدان. أما فيما يتعلق بدور الاتحادات والجمعيات الجغرافية العربية فهي ضعيفة ومن المعلوم أن أول جمعية جغرافية عالمية أنشئت في باريس عام 1821م على يد الأستاذ الألماني الكسنور فون هوملدت الذي كان يعيش في حينه في باريس، ثم تبعتها الجمعية الجغرافية الإنجليزية عام 1828م. ثم توالت تأسيس الجمعيات الجغرافية في أوربا كألمانيا وإيطاليا وروسيا. أما في وطننا العربي فتأسست أول جمعية جغرافية في مصر في أواخر القرن التاسع عشر. وفي الحقيقة كانت أهداف هذه الجمعيات خصوصاً في أوربا مقتصرة على عمليات الاكتشافات الجغرافية والاستحواذ على الثروات في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية لكنها أضافت إضافات مهمة، حيث كان الكثير من الجغرافيين البريطانيين الراديكاليين ينتقدون توجهات هذه الجمعيات قديماً. وعلى الرغم من أن نشاطاتها كانت ضعيفة في جوانب جذب القراء والزائرين لمقراتها، إلا أن نشرياتها كانت ذات قيمة كبيرة خصوصاً المجلات الجغرافية التي كانت تصدرها. أما بالنسبة الجمعيات الجغرافية العربية فللأسف لم تستطع أن تقدم خدمة واضحة للعلم الجغرافي العربي، حتى على صعيد النشريات العلمية، ولعل من أهم العوامل التي أضعفت دورها هي الحاجة إلى الدعم المالي من الحكومات المعنية. ▪ لماذا اختار عالمنا الجليل الجغرافية؟ وكيف بدأت الرحلة مع هذا العلم؟ ▫ لقد طرح عليّ هذا السؤال مراراً، والجواب كان دائماً يبدأ بأنني نشأت أدبياً مهتماً بحقول السرد والرواية والقصة والمسرح، ولي كتابات عديدة بهذا الحقل، وفي الأدب بمختلف جوانبه قصة ونقد منذ عام 1945م وأنا تلميذ في الدراسة المتوسطة والثانوية. فكان أمراً غريباً أن أكون جغرافياً، ولم أكن أفكر في احتراف الجغرافية كاختصاص مستقل. إلا أنه في عالم 1947م وفي اختبار البكالوريا للدراسة الثانوية حصلت على درجة عالية جداً في الجغرافية أهلتني للبعثة الحكومية ففرضت الجغرافيا نفسها عليّ. وشددت الرحال إلى مصر وانتسبت إلى جامعة فؤاد الأول (القاهرة حالياً) ونلت في عام 1951 شهادة الليسانس في الجغرافية. وعندما درست الجغرافية كاختصاص علمي أدركت أن لها مزايا قريبة من الأدب تمكنني من أن أكون أديباً وجغرافياً. فعملت في كلا الحقلين آن واحد. وقد بلغت كتبي المنشورة العلمية الآن (22) كتاباً بين تأليف وترجمة سنأتي على ذكرها لاحقاً. وفي الأدب استطعت أن أكتب (14) رواية وثلاث مجموعات قصصية وسبع مسرحيات طويلة وخمس عشرة مسرحية قصيرة إضافة إلى كتابات أخرى في الأدب. وأعود إلى الرحلة الجغرافية فأقول إنه بعد حصولي على شهادة الليسانس من جامعة القاهرة عدت إلى بغداد لأدرّس في مدارسها (متوسطة المنصور، والمتوسطة الغربية). وفي عام 1954م) سافرت إلى إنجلترا للحصول على شهادة الدكتوراه في الجغرافية التي تلتها في عام 1958م من جامعة ردنك والتي كان يرأس قسم الجغرافية فيها آنذاك البروفسور أوستن ميلر العالم المشهور بالمناخ. وكنت على صلة جيدة جداً به وأحسست بتواضع العلماء في سلوكه وتعامله مع الجميع. ولابد من القول إن منهج التدريس في الجغرافية في الجامعات البريطانية مختلف عما هو في جامعاتنا العربية مما يساعد على ظهور الإمكانات لدى الطلبة وتطوير القابلية والإبداع لديهم لأن المنهج لا يستخدم أساليب التلقين بل يؤمن بالحرية الفكرية كما تهتم الجامعة بتوافر المراجع العلمية التي تزخر بها المكتبات الجامعية. وإن لم يتوافر مصدر ما تقوم الجامعة بجلبه من مكتبة أخرى أو حتى من أي بلد أوربي آخر.
وأذكر لك أن أطروحتي نالت استحسان الكلية والجامعة وكتب العالم الكبير أوستن ميلر كتب لي رسالة قال فيها أن أطروحتك فخر credit لك ولجامعتنا. ولا أزال أذكر باعتزاز قيام رئيس الجامعة آنذاك السير وولفندن woolfenden وهو الشخصية المعروفة برفع قبعته لي عند تسليمي شهادتي للدكتوراه من ضمن خمسة ممن تسلموا شهاداتهم. ▪ مما تقدم يتهيأ لي أن هاجس الترجمة كان قديماً لديك. كيف تم توظيفه جغرافياً؟ ▫ نعم وبكل تأكيد. أستطيع القول أنها أصبحت هدفاً رئيسياً. ولقد توزعتني ثلاثة محاور في عملي الأكاديمي.
الأول: التركيز على دراسة مشاكل بلادي ومن أهم مشاكلها كما تعلم المشكلة الكردية وهي مشكلة معقدة منذ الاحتلال البريطاني للعراق. وقد نشرت في العام 1959م كتاب (الكرد والمسألة الكردية) الذي طالبت من خلاله الحكومة آنذاك بحل المشكلة حلاً ديمقراطياً سليماً ومنح الأكراد حقهم في الحكم والإدارة الذاتية. وعلى الرغم من أنني مواطن عراقي عربي الأصل لكن اهتمامي بالمشكلة الكردية ينبع من خوفي على مصير البلاد ومستقبلها وتوفير الاستقرار فيها. وعلى الرغم من أن الكثيرين لم يفهموا حقيقة ما طرحته إلا أنهم أدركوا بعد ذلك أن الحل كان لصالح العرب والكرد. فلم تفلح القوة العسكرية في حل هذه المشكلة. ويمكنني القول أنني أشعر بالارتياح لمساهمتي الجادة في طرح حلّ المشكلة الكردية في زمن لأنني أعتقد أن التلاحم بين العرب والأكراد هو تلاحم حقيقي مبني على أمور كثيرة منها الاشتراك في الدين والاشتراك في المصير والاشتراك في المصالح العامة. إلى جانب عامل المصاهرة بين العرب والأكراد. وأقول اليوم بفرح بأنني قد أسهمت بتعريف العرب بإخوانهم الأكراد من الناحية التأريخية والعرقية. وكذلك فعلت في كتابي الآخر (الأكراد - دراسة جغرافية أثنواغرافية). أما كتابي (العراق الشمالي) فقد تحدثت فيه عن الأكراد والقوميات الأخرى في شمال العراق وهم العرب والتركمان والكلدواشور وتطرقت إلى أصولهم وعقائدهم وطوائفهم المختلفة. وكانت محاولة مخلصة لخدمة وطني العراق وهي واجب عليّ كجغرافي عراقي عربي. أما المحور الثاني الذي تبنيته في عملي الأكاديمي فهو خدمة التراث الجغرافي العربي الإسلامي، ذلك أن الجغرافيين العرب للأسف لم يكترثوا لهذا التراث إلا نادراً لاعتقادهم بأنه ليس بذات أهمية للعلم الجغرافي. وهذا اعتقاد خاطئ فتراثنا الجغرافي جزء من تأريخ الفكر الجغرافي العالمي. والتراث الجغرافي العربي الإسلامي يمثل فعلاً قيمة كبيرة في هذا الميدان خصوصاً بين القرنين الرابع والثامن الهجريين. ولدينا مؤلفون مهمون وكتب مهمة جداً يذكرها باحترام العديد من علماء العرب المهتمين بالجغرافية. وفي مقدمة علمائنا العرب المسلمين الإدريسي. ولعل من أشهر كتب الرحلات العربية التي ترجمت إلى لغات عديدة رحلة ابن بطوطة. وقد أصدرت أربعة كتب هي (في الجغرافية العربية - دراسة في التراث الجغرافي العربي) وكتاب (ابن بطوطة ورحلته) الذي درست فيه رحلة ابن بطوطة، وابن بطوطة نفسه موضحاً القيم والمفاهيم والمعلومات الجغرافية البالغة الأهمية التي أضافها ابن بطوطة عن بلدان الشرق الأقصى والشرق الأوسط والدول العربية والشمال الإفريقي العربي، ودول غرب إفريقيا. والكتاب الثالث كان (الجغرافية عند العرب) ثم الكتاب الرابع الذي كان (كتابات مضيئة في التراث الجغرافي العربي). وأزعم أنني استطعت أن أخدم التراث الجغرافي العربي والإسلامي خدمة مرضية. أما المحور الثالث الذي نال اهتماماتي العلمية فهو الذي يخص تطور الفكر الجغرافي والفلسفة والمناهج الجغرافية. وهذا المحور في الحقيقة استأثر منذ باهتماماتي في النصف الثاني من حياتي الأكاديمية. وقد ركزت فيه على الترجمة لأن المفاهيم الجغرافية واضحة المعالم لدى الجغرافيين في الغرب لكنها غامضة في أدبياتنا. وأزعم أن من يقرأ كتبي المترجمة يستطيع أن يأخذ فكرة عامة وشاملة وواضحة تماماً عن مفاهيم الجغرافية ومناهجها منذ القدم حتى نهاية القرن العشرين كما أزعم بأنني قدمت خدمة من خلال هذه التراجم لطلاب الجغرافية في العالم العربي الذين يشكون ضعفاً في اللغات الأجنبية. وأستطيع القول بأننا بحاجة ماسة في هذه المرحلة من حياتنا العلمية للترجمة كما حدث لأجدادنا العرب المسلمين في بداية نهضتهم العلمية في القرن الثالث الهجري حينما أولوا الترجمة اهتماماً كبيراً. لكنني أود القول بأن اهتمامي بالترجمة لم يصرفني عن التأليف، فقد قمت بتأليف العديد من الكتب ومنها (تطور الفكر الجغرافي) و(دولة الإمارات العربية المتحدة) وهو دراسة في الجغرافية الاجتماعية. ويسرني القول أنني قد تنبأت في وقت مبكر بنجاح هذا النوع من الاتحاد الفدرالي. فلقد ازدهرت دولة الإمارات العربية فعلاً كنموذج مرموق في وطننا العربي.
▪ هل يسمح لي أستاذي أن أسأله عن أسماء هذه الكتب المترجمة وهي آخر أسئلتي. ▫ بكل سرور. فهذه الكتب هي: 1- أعلام الجغرافيين الحديثة. 2- دراسة الجغرافية. 3- الارتياد والكشف الجغرافي. 4- قرن من التطور الجغرافي. 5- أصول الجغرافية البشرية. 6- جغرافية الرفاه الاجتماعي. 7- طبيعة الجغرافية (بجزئين). 8- مستقبل الجغرافية. 9- التحليل الموقعي في الجغرافية البشرية. 10- الجغرافية تأريخها ومفاهيمها. 11- الجغرافية والجغرافيون. وهناك كتابان آخران معدّان للطبع هما (العوالم المتغيرة للجغرافية) للعالم الإنجليزي بيرد، وكتاب (مقدمة للبحث الجغرافي العلمي) ألّفه عدد من العلماء. هذا هو أستاذنا الكبير الدكتور شاكر خصباك عالم الجغرافية الذي أفخر أن أحاوره عالماً بعد أن تتلمذت على يديه طالباً وزاملته تدريسياً وباحثاً، أدعو له بالصحة وطول العمر لينفعنا بعلمه من أجل أن تستمر مسيرة العطاء للإنسان والأوطان. بمناسبة صدور الأعمال الكاملة للدكتور شاكر خصباك(*) □ أجرى المقابلة الشاعر/ محمد حسين هيثم قبل أن ألتقي به قبل ثلاثة أعوام في المقيل الأسبوعي بمركز الدراسات والبحوث اليمني، كان اسمه يحضر إلى الذاكرة باعتباره أحد آباء القصة العراقية، وجيل الريادة عندما يحضر، تشعر بحاجز كثيف من الزمن يقف بينك وبينه. غير أن الأستاذ الدكتور شاكر خصباك يلغي هذا الحاجز ببساطته وطيبته وعمق ثقافته. والأستاذ د. خصباك بالإضافة إلى كونه ناقداً وروائياً وقصصياً ومسرحياً، يعد أحد العلماء الجغرافيين المعدودين وله مؤلفات كثيرة في هذا المضمار، وقد اعتبرته إحدى الجمعيات العلمية الأميركية (رجل العام) في سنة 1991م. هذا اللقاء أجري قبل عامين، لأسباب كثيرة لا مجال لذكرها لم أتمكن من نشره في حينه، أما وقد أتيحت الفرصة للنشر فلا مجال للتأخير، والمناسبة تتمثل في إقدام مؤسسة ثقافية يمنية خاصة هي (مركز العبادي للدراسات والنشر) مؤخراً على نشر الأعمال الأدبية الكاملة للأديب شاكر خصباك. ويحاول هذا اللقاء الإلمام ببعض جوانب تجربته، وآرائه، ويأتي نشره كتحية بمناسبة الأعمال الكاملة. ▪ ما الجدوى من الكتابة الآن؟! هذا سؤال الروائي عبد الرحمن منيف في رسالة أخيرة إليك قرئت في الندوة الأسبوعية. ألا ترى أن السؤال يحمل قدراً كبيراً من اليأس؟ ونحن نعلم أن الكتابة هي ضد اليأس، هل تتصور عالماً بلا كتابة ولا كُتّاب؟!
▫ أنت يا أخي هيثم قد أجبت نيابة عني حينما ذكرت أن الكتابة هي ضد اليأس، وأعتقد أن هذا هو جواب كل كاتب، وبما أن هذا السؤال قد انتُزع من سياقه في رسالة الصديق عبد الرحمن منيف وقد يوحي للقراء أن عبد الرحمن منيف أصبح من اليائسين، وهو في الحقيقة أبعد الناس عن اليأس، فلابد لي أن أقتطف نبذة من رسالته المذكورة لتكشف للقارئ المرارة التي يعاني منها الدكتور عبد الرحمن منيف بسبب ما يجري في العالم اليوم. قال عبد الرحمن: «والآن يمكن أن نتبادل الهموم والأفكار.. والأحلام أيضاً، خاصة في ظل الجوّ الكابوسي الذي نعيشه الآن والذي لم أتصور، بل لم أتخيل أننا يمكن أن نصل إليه. إن أوضاعنا الآن تشبه تلك الدمية الروسية التي تتوالد نفسها على شكل مسوخ تصغر مرة بعد أخرى إلى أن تتلاشى. ماذا بقي للروائي أن يكتبه؟! إن هذا السؤال يتحدّاني باستمرار في ظل مسرح اللامعقول الذي نعيشه كل يوم، كل ساعة. لقد فاق الواقع كل خيال وتجاوزه بحيث لم يبق للروائي ما يفعله، وبالتالي لابد من اختراع وسائل تعبير تتجاوز الرواية والخيال في محاولة لقراءة ما يجري.. ما بال العالم وقد أصبح مخصيّاً هكذا؟! أين هي الأفكار والأحلام التي ملأت النصف الأول من هذا القرن؟! أين هي الثوابت التي تشكل أفقاً أو احتمالاً للمستقبل! ما هذا الذي يجري في أنحاء متعددة من الأرض وكأن الكثيرين كانوا ينتظرون اللحظة التي يغفو فيها الضمير، يتعب. لكي يتحولوا إلى وحوش مرة أخرى؟ ماذا يجري في يوغسلافيا وأفغانستان وأذربيجان وأماكن كثيرة أخرى من العالم؟! أين كانت تلك الأحقاد والحسابات والشعارات مختبئة؟ أكاد في لحظات كثيرة لا أصدق وأعتبر أن ما يجري مجرد كابوس ولابد أن ينتهي بسرعة، لكن في لحظات أخرى أعتبر أن كل ما تعلمناه كان بسيطاً ساذجاً وأن قوانين الحياة أقسى وأكثر تعقيداً مما افترضناه أو رغبناه، وبالتالي لابد أن ندفع الآن ثمن جهلنا وبساطتنا، وبلاهتنا أيضاً، وعلينا أيضاً أن نرتفع ونبلغ سنّ الرشد وإلا لا عذر لأحد ولا يمكن الدفاع عن البلاهة أو تبريرها. هل هناك حاجة لأن أستمر في كتابة الرواية؟ وإذا فعلت فلماذا وما هي النتائج التي أريد الوصول إليها أو التي يمكن أن تتحقق؟ إنني أطرح على نفسي بشكل جدّي وأحار في الإجابة خاصة والكثير مما يقال وكأنه غناء في البريّة؛ صراخ في أودية الشيطان، أوهام نعلل بها أنفسنا لكي نكمل مشوارنا على هذه الأرض ونقنع أنفسنا أننا حاولنا، أننا فعلنا شيئاً في هذه الحياة.. ولكن علينا أن نداري أوهامنا أو حقائقنا الصغيرة وأن نستبقي مساحة للحلم. وعلينا أن نحاول أيضاً لعلّ فيما هو آت يحمل إلينا إمكانية انتهاء هذا الكابوس». ومعذرة إن كنت أطلت الاقتباس من رسالة الدكتور عبد الرحمن منيف، وذلك لكي لا تتداعى إلى ذهن القارئ صورة مشوهة عن عبد الرحمن منيف نظراً لما تكشفه هذه الرسالة من حقائق مرّة. حقاً إننا نواجه اليوم خيبة أمل شديدة يا أخي هيثم في الآمال التي كنا نعقدها على الإنسان الذي عاش في ظل الأنظمة التي تهدف إلى احترام الإنسان ورعايته.. تلك الأنظمة التي كان المفروض أن تصقل عقل وروح الإنسان وترسخ فيه المحبة والمساواة بصرف النظر عن تباين الأعراق والأديان. وإذا بنا نكتشف أن تلك الأنظمة (وأقصد النظام الذي كان سائداً في الاتحاد السوفيتي ويوغسلافيا) قد عجزت تعاليمها عن أن تنفذ حتى إلى ما تحت جلد الإنسان. ولكن هل هذه الظاهرة المخيبة للآمال ثمرة للأنظمة المذكورة أم أنها تتعلق بصميم البنية الداخلية للإنسان والتي حاول الأنبياء والحكماء والمفكرون إصلاحها منذ آلاف السنين؟! والحقيقة أن مثل هذا السؤال قد خطر في ذهني بل وعرضته في أدبي منذ أكثر من ربع قرن حينما تناولت ظاهرة القهر والتعذيب والقمع التي يمارسها زبانية أنظمة معينة تبسط سيطرتها بالقوة على البلاد. ففي مسرحيتي (الشيء) ورد الحوار التالي: «الأستاذ فاخر: الضوضاء لا تمنعني من النوم. لكنني أصارحك يا فائز بأن ذهني يعاني دوامة من الأفكار المتصارعة التي لا ترحمني من إرهاقها ساعة واحدة منذ دخلنا هذا المعتقل. فائز: لم يكن الأمر سهلاً عليك بالطبع خاصة أنها المرة الأولى التي تدخل فيها المعتقل. الأستاذ فاخر: لا أدعي أن الأمر سهل عليّ فقد كنت أحسبني لا أستطيع العيش يوماً واحداً بلا كتاب. فلم يفارقني الكتاب منذ كنت في العاشرة من عمري، وإن حرماني منه عقاب قاس جداً. لكن الإنسان يتميز عن غيره من المخلوقات بتكيّفه للظروف. وسرعان ما تكيفنا جميعاً لظروفنا وتجاهلنا رغباتنا على اختلافها. لكن أفكاري المرهقة لا ترحمني يا فائز وحدّتها لا تخفّ على مرّ الأيام. فأمامي سؤال يستعصي عليّ جوابه.. كيف يقسو الإنسان على أخيه الإنسان المخالف له في الرأي هذه القسوة الوحشية؟! إنه موقف يعجزني في فهمه مهما أتعمق في تحليل دوافع السلوك البشري. فائز: لا أظنه موقفاً يستعصي على الإدراك يا فاخر فالتعصب الأعمى يفقد الإنسان صفته البشرية فينقلب حيواناً لا يختلف إلا في المظهر عن حيوان الغابة. الأستاذ فاخر: ولكن ما الداعي إلى كل هذه القسوة؟! ما الذي يبرر هذه القسوة البشعة؟ أين ولّت إذن جهود الإنسان المضنية عبر آلاف السنين لتثقيف عقله وتهذيب سلوكه وتنمية حضارته؟ كيف يمكن أن تلغي تلك الجهود الجبّارة في غمضة عين؟! إن ما لقيه الأستاذ فائز وأكرم وعبوسي وجنكيز والعديد ممن نراهم عند خروجنا إلى (التواليت) من تعذيب فظيع يثبت أننا ما نزال نعيش في القرون الوسطى. وإذا كان يمكن أن يبرّر مثل هذا السلوك السياسي في القرون الوسطى حيث كانت الثقافة ما تزال مقصورة على عدد محدود من الناس فلا يمكن أن يبرّر اليوم بعد أن بلغ الإنسان هذه المرحلة من الرقيّ. ولكن يبدو أن بإمكان أي حاكم متجبّر أو جماعة متسلطة أن تعيد عجلة الزمن إلى الوراء.. إلى أيام البربرية وأن يتنكروا لحقوق الإنسان المتعارف عليها. ويبدو أن الإنسان لا حيلة له في تحمل قسوة أخيه الإنسان مهما تقدمت به الحضارة».
وهكذا تلاحظ أيها الأخ هيثم أن هذا التساؤل الذي طرحه الدكتور منيف قد طرحته أنا من سنين طويلة. فمسرحية (الشيء) قد نشرت في عام 1966م. ولكن هل يعني مثل هذا التساؤل أن يكفّ الكتّاب والمصلحون عن رسم تصوّراتهم للمجتمع الأمثل! أبداً لم يحدث هذا، ولن يحدث في المستقبل القريب والبعيد. فلم يكف الأنبياء والمصلحون عن نشر دعواتهم، ولم يكف الفلاسفة والكتّاب عن نشر كتاباتهم بالرغم من الخيبات المستمرة. وأنا أعتقد أن أمثال هؤلاء المفكرين لابد أن يتحلّوا بالصمود وإلا لما حقق المجتمع البشري أيّ تقدّم. وإن أصحاب الرأي عموماً،والكتّاب ذوي الأهداف النبيلة على نحو الخصوص، لن ييأسوا في يوم من الأيام مهما واجهوا من خيبات، وإن شعروا بالمرارة، ولن يكسروا أقلامهم. فالكاتب الواعي لابد أن يكون له موقف من الحياة، والموقف من الحياة يعني الاستمرار في الكتابة، والكتابة ضد اليأس بالضرورة، ولذلك لست أتصور عالماً بلا كتابة ولا كتّاب. قد ييأس الفرد العادي، أما الكاتب ذو الرسالة فلا يعرف اليأس. وأقول لك يا أخي هيثم! لا تصدق أن عبد الرحمن منيف قد يئس ولم يعد له من يقوله لهذا العالم المجنون وأنه بلا شك لن يكسر قلمه في يوم من الأيام. ▪ علاقتك بالكتابة تعود إلى نصف قرن تقريباً -ربّنا يعطيك الصحة لتواصل العطاء- ماذا أعطتك الكتابة؟ وماذا أخذت منك؟ ▫ إن الكثير من القراء الشباب لا يعرفون هذه الحقيقة يا أخي هيثم، وذلك لأنني احتجبت عن الجوّ الأدبي لسنين طويلة لأسباب عديدة. والحقيقة أنني بدأت الكتابة الأدبية مبكراً جداً، منذ عام 1945م على نحو الدقة. وكتابي (كتابات مبكرة) الذي صدر مؤخراً ضمن سلسلة (الأعمال الكاملة) يشهد بذلك. وكان من أوائل المقالات التي نشرتها دراسة مسهبة عن أدب محمود تيمور وقد نشرت في مجلة (الفكر الحديث) العراقية بعددها الثالث عشر من السنة الأولى الصادر في كانون الأول عام 1945م. وهذا يعني أنني كنت يومذاك في الخامسة عشرة من عمري ذلك أنني من مواليد عام 1930م، وكنت يومذاك في السنة الثالثة الإعدادية. وكنت في تلك المرحلة المبكرة من حياتي غزير الكتابة في المجلات العراقية والعربية كـ(الأديب اللبنانية) و(الرسالة المصرية) وكنت أكتب في نقد الكتب القصصية ودراسات عن القصصيين وفي القصة القصيرة، وكذلك في ميدان الكتابة الاجتماعية ذات الطابع السياسي. فمن مقالاتي المبكرة مثلاً (بحث في السجون) و(الغناء في البلاد العربية) و(مكانة المرأة في بلادنا) و(حديث عن الفن) إلى جانب العديد من الدراسات الأدبية عن القصصي الكبير محمود تيمور ونجيب محفوظ الذي كنت أول من بشر بمستقبله الروائي العظيم (منذ عام 1946م) وعن رئيف خوري وسهيل إدريس وعن العديد من الكتّاب والشعراء العرب والعراقيين فضلاً عن تناولي بالنقد لأهم الأعمال القصصية التي كانت تصدر يومذاك. ولعلك تدهش لو قلت لك إنني كنت في فترة أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات أكثر شهرة في الميدان الأدبي منى الآن. ولذلك حينما ذهبت للدراسة في مصر عام 1948م كان عدد غير قليل من الكتّاب المصريين يعرفونني، بل كنت على صلة بهم قبل قدومي إلى مصر وذلك عن طريق المراسلة، ومنهم على سبيل المثال محمود تيمور ونجيب محفوظ وعبد الحميد جودة السحار.. أما اليوم، فكم هم الذين يعرفون الأديب شاكر خصباك، عدا المخضرمين؟ قد أكون معروفاً في ميدان تخصصي (الجغرافيا) لأنني نشرت عدداً كبيراً من الكتب العلمية في هذا التخصص تأليفاً وترجمة. أما في ميدان الأدب فلا أظن أن معارفي كثيرون. فإذن لا أستطيع أن أزعم أن الكتابة الأدبية قد أعطتني شيئاً من الناحية العملية. ولحسن الحظ أنني لست ممن يستهويهم بريق الشهرة. بل يمكنني القول إن الكتابة الأدبية قد أخذت مني الكثير دون أن تعطيني شيئاً. فبما أنني آليت على نفسي منذ البداية أن ألتزم بقضايا الناس وأن أكون شاهد عصري فقد طردت من عملي مرات عديدة وتعرضت للاعتقال والمضايقة. طردت من عملي عام 1954م وطردت عام 1963م وكذلك في 1980، واضطررت أن أعيش خارج وطني لسـنين طويلة -وما زلت كذلك- إذن ماذا أعطتني الكتابة الأدبية؟! أعطتني يا أخي هيثم الشعور برضى الضمير.. الشعور بأنني قد أديت بعض الواجب الملقى عليّ كإنسان يعيش على هذا الكوكب ويتمنّى لإخوته من بني البشر أن يعيشوا سعداء.. بعيداً عن الجوع والإرهاب والتعسّف والقهر والحروب المدمرة. وهذا الشعور بالرضى الناجم عن الالتزام بالمثل العليا يساوي عندي الكثير والكثير. ▪ خلال زمن عطائك الطويل ثمة أزمنة متغيرة ونتائج ثابتة وأصلية ومحطات عابرة، وثمة مكاتبات بينك وبين أدباء كبار -راحلين وأحياء- تشهد على تلك الأزمنة والوشائج والمحطات. هل من الممكن أن تحدثنا عن ذلك، ولماذا لا تخرج تلك المكاتبات والشهادات إلى النور؟ هل تفكر بكتابة مذكراتك؟ ▫ لقد تهيأت لي بالفعل فرصة مواكبة المسرح الأدبي وتتبع أحداثه لعقود عديدة. وقد وفّرت لي فرصة التنقل بين بغداد والقاهرة وبيروت معرفة العديد من أدباء الجيل الماضي معرفة حميمة. وقد أمضيت أربع سنوات في القاهرة أثناء دراستي الجامعية الأولى -بين عام 1948م و1951م- وكانت حافلة بالنشاط الأدبي. وفي خلال تلك الفترة عرفت غالبية الأدباء الشيوخ والشباب الذين كانوا يحتلّون الصدارة في عالم الأدب. عرفت محمود تيمور معرفة وثيقة، وكان ثمة صداقة بيني وبين نجيب محفوظ وعبد الحميد جودة السحار وعلي أحمد باكثير -وكنا نجتمع صباح كل جمعة في كازينو أوبرا- وكان يتردد على هذه الندوة العديد من كتّاب ذلك العهد منهم عادل كامل ومحمد عبد الحليم عبد الله ويوسف السباعي ومحمود البدوي وآخرون، وكنت دائم الحضور في ندوة أخرى يعقدها المرحوم أحمد حسن الزيات عصر الاثنين في دار مجلة (الرسالة) كان يحضرها الأستاذ توفيق الحكيم وأنور المعداوي وعباس خضر وغيرهم كثيرون. وانعقدت صداقات متينة بيني وبين أدباء يمكن اعتبارهم شباباً بالقياس لمن ذكرت أعلاه منهم أحمد بهاء الدين ونعمان عاشور وأحمد عباس صالح ويوسف الشاروني وكانت تربطهم صداقة حميمة. وتهيأت لي فرصة معرفة محمود أمين العالم فقد كان يعمل -قبل أن يودع السجن- مديراً لمكتبة قسم الجغرافيا. لكن صلتي الوثيقة جداً كانت بمحمود تيمور الذي كان يعاملني كأحد أبنائه والذي لم يكن يمضي أسبوع دون أن ألتقي به -وكان يومذاك يعيش في شبه عزلة- وكنت أحبه حبّاً جمّاً. وقد ترك أطيب الأثر في نفسي، وما زلت أعتبره حتى الآن أفضل شخصية عرفتها في حياتي. وربطتني لفترة من الزمن زمالة في المسكن مع الدكتور عبد القادر القط، وزمالة في المطعم مع الدكتور محمد خلف الله حيث كنا نتناول غداءنا يومياً في نفس المطعم. وقد أسفت فيما بعد لأنني لم أسع لمعرفة المرحوم الأستاذ عباس محمود العقاد لأن أدبه لم يكن يستهويني، كما لم تتح لي فرصة معرفة المرحوم إبراهيم عبد القادر المازني لأنه توفي بعد وصولي إلى مصر بعام، والحقيقة أنني لم أكن متحمساً لأدبه. وهناك العديد من الأدباء المصريين الآخرين الذين عرفتهم آنذاك والذين لا تحضرني أسماؤهم الآن. وقد أفادتني تلك المعرفة في إثراء حصيلتي الأدبية في جوانب عديدة، لأن التقائي بهم كان يمثل ندوات فكرية حقيقية، ويمكنك أن تتصور اتساع نطاق أفكار ونقاش تلك الندوات بما كانت تجمع من شخصيات من شباب وكهول وشيوخ ومن ذوي اتجاهات فكرية متباينة. وتهيأت لي الفرصة لمعرفة عدد من أدباء لبنان بحكم ترددي على لبنان والنشر في مجلاتها ومن بينهم ألبير أديب صاحب مجلة (الأديب) وسهيل إدريس صاحب مجلة (الآداب) ورئيف خوري صاحب مجلة (شهرزاد). أما أدباء العراق المعروفون يومذاك من الشيوخ والشباب والذين كانوا يتواجدون على الساحة الأدبية في الأربعينيات والخمسينيات على نحو التخصيص -وقد اختفى العديد منهم اليوم- فكنت أعرفهم جميعاً تقريباً بلا استثناء، حتى الشعراء منهم، مع أنني لم أكن على صلة قوية بالشعر. وكان الشعراء الشباب يومذاك من أصدقائي المقرّبين من أمثال المرحوم بدر شاكر السيّاب وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري وسعدي يوسف، وهناك العديد من أدباء ذلك العهد الممتازين الذين حُبست شهرتهم داخل بلدهم مع الأسف. أما قصصيّو ذلك الجبل من الشباب فكانوا أصدقائي أمثال المرحوم غائب طعمة فرمان وعبد الملك نوري وفؤاد التكرلي. وأعتقد أنني أسهبت في الجواب على هذا السؤال، لكن ذلك أمر طبيعي فهو يتعلق بذكريات عزيزة على قلبي. وأود أن أذكر لك حقيقة أنا مقتنع بها وهي أن كتّاب ذلك العهد كانوا أكثر تواضعاً وتقبّلاً لبعضهم بعضاً من كتّاب الجيل الحالي. ويبدو لي إن الكثيرين من كتّاب الجيل الحالي من الشباب يعانون من عقدة النرجسية، والبعض منهم يعتقد أنه قد أتى بالعجب العجاب وأن من سبقه من الكتّاب لم يثر الأدب كما أثراه هو. ويخيل إليّ أيضاً أن الكثيرين منهم أيضاً يعانون من نقص في ثقافتهم الأدبية. وإذا ما خاضوا غمار الفكر ردّدوا أفكاراً استقوها من مصادر ثانوية قد تكون غير دقيقة وغير صحيحة. وأشهد أن من عرفتهم من كتّاب الجيل السابق سواء في مصر أو في لبنان أو العراق كانوا على اطلاع واسع وثقافة ثرية. إن معرفتي بهذا الكم الكبير من كتّاب الجيل السابق قد أفادني أيضاً في عقد حوارات ومراسلات معهم، والبعض من تلك المراسلات كان ثميناً حقاً. وجواباً على سؤالك يا هيثم القائل: «لماذا لا تخرج تلك المكاتبات والشهادات إلى النور؟» أقول إن هذه الفكرة كانت تراودني دائماً. فلديّ اليوم مثلاً عدد ثمين من رسائل الروائي عبد الرحمن منيف التي أحتفظ بها هنا في صنعاء. أما الرسائل والشهادات القديمة فقد كنت أحتفظ بها في داري في بغداد. وكنت أنتظر الفرصة المناسبة لأنشرها في كتاب ولكن ليس كل ما يتمنى المرء يدركه كما يقول الشاعر. فقد تأخر تنفيذ هذه الفكرة بسبب مشاغلي الأكاديمية. وضاعت مني الآن هذه الفرصة الثمينة إلى الأبد. فقد فجعت بحرق منزلي وأنا في صنعاء إثر صدور مسرحيتي (الدكتاتور) -وهو جزء مما يدفعه الكاتب الحر من ثمن- وأتى الحريق على كل ما فيه من أثاث وكتب، واحترقت المكتبة بأكملها. وكانت فجيعتي هي في احتراق تلك الوثائق والرسائل والكتب المهداة لي من قبل أصدقائي الأدباء خلال خمسين عاماً. وهكذا لم يعد في الإمكان إخراج تلك الوثائق والمكاتبات إلى النور. أما الشطر الآخر من سؤالك فيما إذا كنت أفكر بكتابة مذكراتي، فقد قمت بذلك بالفعل وسيخرج هذا الكتاب إلى النور قريباً بعنوان (ذكريات أدبية). ▪ ما رأيك بالكتّاب التالية أسماؤهم: عبد الرحمن منيف، يوسف إدريس، سعد الله ونوس، نجيب محفوظ، الطاهر وطاّر، غائب طعمة فرمان، هاني الراهب، رشيد بو جودرة، إلياس خوري، الطاهر بن جلون، محمد شكري، زكريا تامر، صنع الله إبراهيم، جمال الغيطاني، فؤاد التكرلي. ▫ قبل الجواب على هذا السؤال لابد لي أن أذكّرك بأنني أستاذ جامعي متخصص في الجغرافيا، والجغرافيا علم واسع متداخل مع علوم كثيرة منها الاقتصاد والاجتماع والتاريخ والإنثروبولوجيا وعلم السياسة، إضافة إلى علاقاته الواسعة بعلوم الأرض الطبيعية المختلفة. وهذا يعني أن على أستاذ الجغرافيا مهاماً كثيرة وقراءات واسعة إضافة إلى مشغولياته الأكاديمية. فليس من المتوقع إذن أن يتسع وقتي لمتابعة كل ما يصدر من أدب روائي في العالم العربي لا سيما وأن اهتماماتي تشمل فروع الأدب القصصي من رواية وقصة قصيرة ومسرحية، ولذلك فلا يمكنني أن أدّعي أنني مطلع على كتابات جميع الروائيين العرب وخصوصاً المحدثين منهم، ولن يكون باستطاعتي إصدار أحكام على أسماء الأدباء المذكورين جميعاً فلم أقرأ للبعض منهم وقرأت للبعض الآخر عملاً أو عملين مما لا يؤهلني للحكم عليه، فأرجو أخذ هذا الأمر بعين الاعتبار. عبد الرحمن منيف: روائي متميز فكراً وعملاً، وقد ارتفع بفنه الروائي خلال مسيرته القصيرة ارتفاعاً كبيراً، وهو بلا شك في طليعة الروائيين العرب. نجيب محفوظ: رائد الرواية العربية الحديثة وسيظل لفترة غير قصيرة أكبر كاتب روائي عربي معاصر، ولقد تنبأت له بهذه المكانة في وقت مبكر في مقال نشرته عن أدبه في عام 1946. يوسف إدريس: في طليعة كتّاب القصة العرب، لكن قصصه المبكرة أفضل من قصصه اللاحقة. وقد أضاف دماء جديدة للقصة القصيرة العربية. لكن قصصه كثيراً ما تنقلب إلى (دردشة) إدريسية وتكاد شخصيته الذاتية تنعكس في معظم القصص. ويكاد يكون يوسف إدريس في نظرته إلى الحياة وفي أسلوبه الساخر متمثلاً في كل قصصه. ونادراً ما استطاع أن يسبغ (الاستقلالية) على قصصه وهذا عيب كبير. كذلك تفتقد قصصه (الوحدة) المطلوبة، كما ينطوي أغلبها على تفصيلات لا ضرورة لها ولا علاقة بموضوع القصة الأصلي سوى إظهار المعرفة والثقافة. وقد تنقلب هذه التفصيلات إلى مجرد ثرثرة، وإلى تمطيط متعمد للقصة مما يفقدها الوحدة الفنية. ولكن قصصه جميعاً تكشف عن ذكاء وقّاد وحسٍّ فكاهي ودرامي ممتاز مع فهم عميق لحياة أبناء الريف المصري على نحو الخصوص. أما مسرحه فلم يرتفع إلى مستوى تفوّقه في القصة القصيرة، وفيما عدا مسرحية (الفرافير) لم يغن المسرح العربي بمسرحياته الأخرى. سعد الله ونّوس: ركن مهم من أركان المسرح العربي، وتكشف مسرحياته عن تمكن واضح في الكتابة المسرحية، ولكن مسرحياته حافلة بتفصيلات ينفد صبر القارئ معها. وأعتقد المشاهد أيضاً. وكأنه يريد أن يقول كل شيء في مسرحيته. وهذا عيب خطير مشترك في كل مسرحياته. كما أن مسرحياته لا تقدم نماذج إنسانية تتشبث بذهن القارئ شأن المسرحيات الإنسانية العالمية، لأن تركيزه دائماً على الصنعة المسرحية. أما مسرحياته التي حاول فيها تقليد أسلوب (مسرح الطليعة) فلا أجدها مهمة. الطاهر وطار: من الروائيين العرب الطليعيين. غائب طعمة فرمان: زميل وصديق عزيز رحمه الله، وروائي متميز، لكن بعده عن الدعاية لنفسه حصر أدبه ضمن نطاق ضيق ولم ينل حظاً من الشهرة التي يستحقها. ولعل الأيام تنصف أدبه في المستقبل. هاني الراهب: يؤسفني القول أنني عاجز عن الصبر على استطراداته المسبهة في رواياته. زكريا تامر: قصاص ذو فكر ناقد ممتاز ولكنه يبدد موهبته في كتابات صحفية عابرة لا ترتفع إلى مستوى الأدب الباقي. وقد تحفل بعض قصصه باستطرادات لا يمكن الصبر على قراءتها. صنع الله إبراهيم: روائي مبدع ومن المؤسف أن الزمن لم يتح له عطاء غزيراً. ولعله أول من مزج ببراعة بين التفصيلات السياسية التاريخية والأدب الراقي. جمال الغيطاني: أدبه فوق مستواي ولم أستطع استيعابه. وهو ذاتي أكثر مما ينبغي. فؤاد التكرلي: رائد مهم من رواد القصة العراقية الحديثة. أما بقية الكتّاب المذكورين فلم أطلع على أدبهم اطلاعاً كافياً يؤهلني للحكم على أدبهم. ▪ في غمرة هذا الشتات والضياع العربي تبرز الديمقراطية كخلاص، كيف تنظر إلى هذه الإشكالية؟
▫ لديّ جواب جاهز لسؤالك هذا يا أخي هيثم. فقد سبق أن شغلتني هذه القضية وتكرر بحثها في كتاباتي، وسأقتطف لك هذا الجواب من إحدى الخواطر في كتابي (تساؤلات) وهي الخاطرة المعنونة (الديمقراطية). «- أصحيح ما يزعمه البعض يا صاحبي بأن شعوب عالمنا الصغير بحاجة إلى الدكتاتورية العادلة لأنها لم تنضج سياسياً بعد؟ - هذه فرية ينشرها السلاطين الطغاة وحواريهم، فالدكتاتورية مهما كان نوعها، أكانت ديكتاتورية فردية أم حزبية، لابد أن تؤدي في النهاية إلى خلق طبقة مميزة من النفعيين التي تصبح ذات الحل والربط ويعتلي أفرادها رقاب الناس ويستأثرون بالمناصب والمغانم بينما يتحول بقيّة المواطنين إلى شعب سلبي ضعيف الإرادة يتخذ الهرج مذهباً والانتهازية شعاراً والمصلحة الفردية مناراً ويستسلم للمقادير ويقبل الذلة ويعنو لسلاطينه الطغاة، وهذه النتيجة وحدها كافية لإلغاء أية مزايا محتملة للنظام الديكتاتوري لأنها ستحطم الروح المعنوية الخلاقة للمواطن وتقتل فيه الطموح والنزاهة والمُثل العليا وكل الرغبات الخيّرة. - ولكن بعض سلاطين هذا النظام يا صاحبي خدموا بلدانهم فعلاً ورفعوا شأنهم وعملوا على ازدهارها. - قد يكون هذا صحيحاً ولكن أمثال هؤلاء لابد أن يتحولوا في النهاية إلى طغاة مستبدين إذا انفردوا في الحكم فيمسي همّهم الوحيد الاحتفاظ بالسلطة بكل طريقة متاحة، بل لابد أن يتوهموا بتشجيع من حواريهم أنهم أحكم وأرجحُ عقلاً من غيرهم وأنهم مقتدرون وعظماء لكثرة ما يسمعونه من تملق وإطراء وينسون كيف دانت لهم السلطة فيصبحون بالتالي المتصرفين الوحيدين بشؤون البلاد والبشر، وينتهي بهم الأمرُ إلى خلق الكوارث لبلدانهم وشعوبهم». وأظن يا أخي هيثم أن في هذه الخاطرة المكثفة جواباً عن سؤالك حول أهمية الديمقراطية يغني عن صفحات عديدة، هذا فضلاً عن أن ما نلمسه في بلدان العالم العربي اليوم من تدهور سياسي واقتصادي وتبعية للقوى الاستعمارية الكبرى أكبر شاهد على غياب رأي الفرد في شؤون وطنه وتسلّط أنظمة شمولية مستبدة لا تعترف بوجود (شعب) بل تعامله بكونه (رعيّة). ▪ القمع والاستلاب إشكاليتان رئيستان في أدبك وخاصة في روايتي (السؤال) و(حكايات من بلدتنا) اللتين صدرتا في منتصف الستينات ومسرحية (الشيء) التي صدرت في أواخر الستينات. كما أنهما إشكاليتان رئيستان في أدب عبد الرحمن منيف وخاصة في روايتي (شرق المتوسط) و(الآن . هنا) أين تلتقيان وأين تختلفان في معالجة هاتين الإشكاليتين؟ ▫ إن ظاهرة القمع التي تعاني منها الشعوب العربية، ظاهرة قديمة وتعود إلى عهود سحيقة، لذلك أطلق بعض المؤرخين على نمط الحكم في بلدان الشرق اسم (الاستبداد الشرقي)، ويكفينا أن نتذكر فراعنة مصر وملوك العراق القديم الذين زعموا أنهم ينحدرون من سلالة الآلهة. أما الأنظمة العربية التي حاولت أن تتستر على هذا الاستبداد وادّعت الديمقراطية فلم يكن ادعاؤها سوى محض افتراء. ودليل كذبها أن نتائج الانتخابات لديها في انتخابات الرئاسة قد تصل إلى 99% والحزب الحاكم هو القائز دائماً. ولقد اقترن هذا الميل إلى الاستبداد بظاهرة القمع والاستلاب للفرد العربي التي تشتد أو تضعف حسب الظروف وتتخذ أشكالاً عديدة لكنها تقوى في الفترات التي تقف فيها القوى المعارضة وقفة صلبة تجاه السلطة. وأنا شخصياً أؤمن بأن الأديب مرآة للمجتمع، أو كما سميته في كتابي (تساؤلات) «ضمير الشعب»، ومن هذا المنطلق اعتبرت الأديب العربي مقصراً في مهمته تجاه مجتمعه، وأحب أن أثبت هنا ما قلته في الخاطرة المعنونة «ضمير الشعب» في كتابي (تساؤلات). «- هل ترى يا صاحبي أن الأدباء في عالمنا الصغير من كتّاب وشعراء قد أدّوا في الماضي ويؤدون اليوم واجبهم تجاه شعوبهم؟ وبعبارة أدق: أيمكن اعتبارهم (ضمير الشعب)؟ - إذا لم نكن متشددين فبوسعنا القول أنهم قاموا إلى حدّ ما بهذا الدور. - وكيف يمكننا قول ذلك مع أنهم لم يؤمنوا أصلاً بأقدس مهام الأديب وهي الانتصاف للمستضعفين والمضطهدين والمسحوقين من سلاطينهم الطغاة؟ - لقد قام البعض منهم بذلك فعلاً. - ومتى حدث ذلك يا صاحبي؟ فأنت تعلم أنه على امتداد تاريخ عالمنا الصغير لم يقم كتّابنا وشعراؤنا إلا بدور مدّاحي السلاطين أو وعّاظ السلاطين على أحسن الفروض. - قد يكون هذا حالهم في الماضي، أما اليوم فهناك من يرفع صوته عالياً ضد استبداد السلاطين ومن أجل الحرية والعدل وكثيراً ما فقد هؤلاء حياتهم دون هذا الهدف النبيل أو أمضوا أعواماً طويلة في السجون أو تشردوا في ديار الغربة... إلخ». فهذه الخاطرة توضح موقفي إذن كأديب وهو موقف (الأديب الملتزم) ويتطلب مني هذا الموقف أن أكون (ضمير الشعب). ولذلك فقد عكس أدبي منذ البداية هموم مجتمعي. وبما أن ظاهرة القمع أساسية في مجتمعاتنا فقد كان لزاماً عليّ أن أتصدى لها. والحقيقة أن هذه الظاهرة كانت تشغل تفكيري دائماً، فقد بدا لي أنها مسؤولة عن سحق المواطن وتدمير شخصيته. وقد ذكرت أنت قبل قليل أنني تصديت لها في روايتي (السؤال) و(حكايات من بلدتنا) ومسرحية (الشيء) وكلها قد صدرت منذ أوائل الستينيات. لكنني في الواقع تصديت لها قبل ذلك في قصصي التي صدرت عام 1959م، وعالجتها أيضاً في مسرحية (بيت الزوجية) التي صدرت عام 1962، ولمحت إليها في مسرحية (الغرباء) التي صدرت عام 1965م. وتدور مسرحيتاي المعنونتان (القضية والمخذولون) اللتان صدرتا في كتاب واحد عام 1992م حول هذا الموضوع. أما كتابي (تساؤلات) الذي صدر عام 1991م فهو يعالج هذه الظاهرة. أما مسرحيتي (الدكتاتور) التي صدرت عام 1995م فتدور بكليتها حول هذا الموضوع. فأنت ترى إذن يا أخي هيثم أنني كرست أدبي لعلاج ظاهرة القمع في مجتمعاتنا والتي لا تخلو منها كل كتاباتي الأدبية ولا أعرف أديباً عربياً آخر شغلته هذه الظاهرة بقدر ما شغلتني. تصور أن أديباً كبيراً كنجيب محفوظ لم يتصد لهذه الظاهرة بصورة مباشرة في أدبه إلا في روايتي (الكرنك) و(قلب الليل). أما ما يتعلق بموقف الدكتور عبد الرحمن منيف من هذه الظاهرة فلا أراهُ يختلف عن موقفي. ولكن بما أنه أحدث عهداً بالكتابة مني فقد انعكست في أدبه بصورة متأخرة، في السبعينات والثمانينات، ويخيل إلي أنني والدكتور منيف متفقان إلى حدّ بعيد حول مسألة مسؤولية الأديب تجاه مجتمعه وكلانا يعتقد أن على الأديب أن يعكس هموم شعبه وهموم الإنسان عموماً وأن يكون شاهد عصر وضمير شعبه. ▪ عملك الأكاديمي وتخصصك العلمي (الجغرافيا).. إلى أي مدى أثّر في عطائك الأدبي والفكري؟ ▫ هذا سؤال مهم يا أخي هيثم وكان لابد من التصدي له. لقد بدأت أديباً وبدأت في وقت مبكر كما ذكرت. وقد أحببت الفن القصصي منذ كنت طفلاً. فمنذ سنواتي المبكرة في المدرسة الابتدائية شغفت بالقصة وأصبحت القراءة في عهد الطفولة هوايتي المفضلة. ولقد تزييت بزي الكبار وأنا صبي، وصارت المجلات العربية الشهيرة أمثال (الرسالة) المصرية تكتب بجوار اسمي لقب (أستاذ) وأنا طالب في الثانوية. وطبعاً ما كان ذلك إلا ليزيدني جدية. وكانت في مدينتي (مدينة الحلة) مكتبة عامة عامرة بالأدب العالمي، ولها فضل كبير عليّ لا يمكنني أن أنساه. ففي كنفها عرفت أساتذة الرواية العربية والعالمية. ولقد قادني شغفي بقراءة القصص إلى هواية التأليف المبكر، فألفت وأنا ما أزال طفلاً في الخامس الابتدائي مجموعة قصصية وعرضتها على معلم اللغة العربية فبالغ في الإطراء عليها أمام الصف مما زاد من شغفي في الكتابة والقراءة القصصية. فإذن كنت عاكفاً على الأدب منذ طفولتي ولم تكن الجغرافيا إحدى هواياتي بأي شكل من الأشكال. ولم يخطر لي يوماً أن أكون جغرافياً، لكن حصلت على درجة عالية في الجغرافيا في امتحان البكالوريا للدراسة الثانوية فرشحت للبعثة العلمية لوزارة المعارف وسافرت إلى القاهرة للدراسة في جامعتها جامعة فؤاد الأول -كما كانت تسمى يومذاك (عام 1948-. وخلال دراستي في جامعة القاهرة ما بين عام 1948 و1951 كانت الجغرافيا تحظى بآخر اهتماماتي. وكنت لا أكاد أفرغ من المحاضرات حتى أهرع إلى إحدى مقاهي القاهرة التي أجتمع فيها بمجموعة -أو (شلة) بالتعبير المصري- من الأدباء نتناقش في الأدب ونتطارح إنتاجنا، وما كان أكثر تلك (الشلل). وقد أوضحت في مكان آخر صلتي بعدد من أدباء ذلك العهد. فإذن لم أكن جدياً في دراستي للجغرافيا في فترة (الليسانس) وانصرفت بكليتي إلى الأدب إلا بالقدر الذي تتوجبه مسؤوليتي الجامعية. وكنت أعدّ (الجغرافيا) جسراً لنيل الشهادة الجامعية. أما عملي الحقيقي فهو الأدب. وقبل أن أنتهي من دراستي الجامعية أصدرت مجموعتي القصصية (عهد جديد) في بداية عام 1950. وكنت قد أصدرت مجموعتي القصصية الأولى وهي (صراع) في مطلع سنتي الجامعية الأولى. إذن متى انصرفت إلى دراسة (الجغرافيا)؟ الحقيقة أن الصدفة هي المسؤولة عن ذلك. ففي نهاية عام 1953 كنت المحرر الأدبي لمجلة (الثقافة الجديدة) ومنذ صدور العدد الأول منها أثارت ضجة كبرى في البلاد لانتقاداتها اللاذعة للنظام فأغلقت المجلة وسحب امتيازها. فعمل المسؤولون عنها إلى إصدارها باسم جديد هو (الثقافة الحديثة) فسحب امتيازها ثانية، وقامت الحكومة بحملة ضارية للقبض على محرريها. أما أنا فاستطعت أن أفر إلى إنجلترا ونجوت من الاغتقال بينما فرض على المقبوض عليهم من محرريها أداء الخدمة العسكرية في أحد معسكرات الجيش القريبة من بغداد. وكان من بينهم الدكتور صلاح خالص والدكتور صفار الحافظ والدكتور فيصل السامر والشاعر عبد الوهاب البياتي. وأثناء تواجدي في إنجلترا قبلت في إحدى جامعاتها لدراسة الدكتوراه في الجغرافيا. وهكذا بدأت صلتي الحقيقية بالجغرافيا. ومنذ بدأت مرحلتي الدراسية الجديدة آليت على نفسي أن أكون جغرافياً جاداً. وحدث شبه طلاق بيني وبين الأدب لفترة دامت أربع سنوات هي الفترة التي نلت بعدها الدكتوراه في عام 1958م. ماذا يعني إذن أن أكون جغرافياً جاداً؟ ولعل علم الجغرافيا هو أكبر العلوم الإنسانية تداخلاً مع حقول إنسانية أخرى. فالجغرافي الجاد مضطر أن يقرأ في علم التاريخ فضلاً عن قراءته في حقول الجغرافيا العديدة، وهذا يعني أن وقته يضيق عن الاهتمامات الفكرية الأخرى. وقد كانت هذه المعادلة في بداية دراستي للدكتوراه شاقة جداً عليّ، إذ كان يتعذر عليّ انتزاع نفسي من الجو الأدبي. غير أني ما لبثت أن وجدت حلاً وسطاً يشبع هوايتي الأدبية من دون أن يؤثر على عملي الأكاديمي، وهو أن أنصرف طيلة النهار إلى دراساتي الجغرافية وأخصّص ساعات المساء بعض هواياتي الأدبية وهو المسرح. فكنت أمضي نهاري كله في مكتبة جامعة لندن، أما ساعات المساء فأكرسها لمشاهدة المسرح. وهكذا انعقدت الصلة بيني وبين المسرح ولم يكن من قبل يستحوذ على اهتمامي. وينبغي أن أذكر هنا أن لندن وباريس وموسكو كانت تمثل أعظم مراكز المسارح في العالم، ولعل لندن كانت هي الأعظم، وإن كان البعض يصر على أن باريس هي الأعظم؛ وقد كانت لندن في أواسط الخمسينات كخلية النحل في مسارحها. وهكذا توافرت لي الفرصة لأطمئن جانباً من شغفي بالأدب. فإذن لا يمكنني القول أنني هجرت الأدب كلياً أثناء دراستي العالية. وبعد حصولي على الدكتوراه عدت إلى العراق عام 1958م وعينت أستاذاً في جامعة بغداد. وكان لابد لي أن أكون في مستوى عملي الجديد وأن أبرهن على أنني جدير بهذا المركز فانصرفت بكليتي إلى البحث العلمي. واتفق موعد عودتي إلى العراق قيام ثورة 14 تموز وهي الثورة التي غيّرت نظام الحكم في العراق من الحكم الملكي إلى الحكم الجمهوري. وساد البلاد جو سياسي ساخن وبرزت تطاحنات سياسية لم يكن من الممكن لأي مثقف أن يكون بمنأى عنها. وشغلت السياسة جانباً كبيراً من هموم المفكرين العراقيين. وخلقت الصراعات والانقلابات السياسية جواً من القمع عانى منه المواطن العراقي على اختلاف ولاءاته الحزبية والعقائدية. ووجدت نفسي ككاتب ملتزم مسؤولاً عن رصد هذه الظاهرة المؤسفة. وبسبب ملابسات لا مجال للحديث عنها في هذا الظرف أدرت ظهري للأدب في نهاية الستينات لأن ظروف القمع السياسي لم تكن تسمح لي بذلك. ولم يكن من الممكن أن أتنكر في أدبي لرصد أمثال هذه الظواهر البشعة الجديدة في الجوّ السياسي الجديد. فانصرفت بكليتي للبحث العلمي لفترة قاربت العشرين عاماً. ولكن رب ضارة نافعة كما يقول المثل. فقد بلغ إنتاجي العلمي بين تأليف وترجمة ما يقرب من العشرين كتاباً. وقد وزعت جهودي العلمية على حقول متعددة. فقد استأثرت باهتمامي مثلاً المشكلة الكردية وهي أهم مشكلة عانى منها العراق وما زال يعاني حتى اليوم، وقد ذهب ضحيتها منذ قيام الحكم الوطني في العراق في مطلع العشرينات حتى اليوم ألوف من أبناء العراق الأكراد والعرب. والحقيقة أنني أصبحت من المختصين بهذه المشكلة وكتاباتي فيها يرجع إليها دائماً. كذلك استأثر باهتمامي التراث الجغرافي العربي الذي لم يحظ إلا باهتمام القليلين من الجغرافيين العرب مع أن المستشرقين عكفوا على دراسته منذ أوائل القرن الماضي. وقد أصدرت عدة كتب في هذا الحقل حظيت باهتمام المعنيين بالتراث، هذا فضلاً عن اهتمامي بـ(الفكر الجغرافي) تطوراً وتاريخاً وفلسفة، وقد نشرت فيه كتباً عديدة، تأليفاً وترجمة.
أما عن مدى تأثير الجغرافية على كتابتي الأدبية فلا يبدو أنها قوية على نحو مباشر. فالقارئ لا يستطيع أن يدرك من قراءته لأدبي أنني جغرافي، لكنها تركت تأثيراً قوياً عليّ بلا شك بصورة غير مباشرة إذ أنها وسعت مداركي الثقافية ومن تفهمي لظروف الإنسان لاسيما وأن اختصاصي هو الحقل الجغرافي المسمى (الجغرافية الاجتماعية) Social Geography. ▪ كتبت في القصة والرواية والمسرح والتأملات الفلسفية والنقد والمقالة الصحفية، فأين تجد نفسك؟ ▫ لقد ذكرت لك في مكان آخر أنني بدأت الكتابة مبكراً وبالذات منذ عام 1945م. ومنذ اقتحمت ميدان الكتابة آمنت بأنها ليست مجرد إشباع هواية بل مسؤولية إنسانية وأن الكاتب لابد أن يكون معبراً عن مجتمعه وعن هموم الإنسان المسحوق، وربما طغت الغاية الاجتماعية على الفن في بداية عهدي بالكتابة. وفي تلك المرحلة من حياتي -مرحلة الأربعينات- كان الجو الفكري في العراق مشبعاً بالروح التحررية، وقد تشربت تلك الأفكار منذ صغري ورسخها في نفسي الجو المدرسي، فلقد كان معظم مدرسينا في الإعدادية يتحمسون لهذه الآراء. ومن شب على شيء شاب عليه، فلم أستطع بقية حياتي أن أتحرر من هذا الاتجاه وإني. أشكر الظروف التي أتاحت لي هذا التوجه الفكري لأنها جعلتني أعتبر الكتابة مسؤولية وطنية. ولقد توزعت اهتماماتي منذ البداية على حقول فكرية متعددة. ففي الوقت الذي كانت فيه القصة تتصدر تلك الاهتمامات كانت مشكلات الناس الحياتية تستأثر بنصيب وافر منها أيضاً، لذلك نشرت العديد من المقالات الاجتماعية في تلك الفترة المبكرة. وبما أنني كنت أعدّ نفسي قاصاً فقد عنيت بكل ما يتصل بالقصة والقصاصين. وقد عقدت بالفعل صلات حميمة مع بعض القصاصين الذين كانوا يستأثرون بإعجابي، وكان ذلك مدعاة لي للكتابة عن آثارهم القصصية وآثار غيرهم. ولا يمكن القول بالطبع أن تلك الكتابات كانت خاضعة للمقاييس النقدية العلمية بمعناها الحديث بل كانت أقرب إلى الانطباعات الذوقية. ولكن لعل ما أكسبها شيئاً من القيمة أنني كنت يومذاك معنياً بقراءة كتب النقد، وكانت قليلة جداً. وينبغي أن أؤكد هنا أن تلك الكتابات النقدية استندت إلى خبرتي الذوقية في عالم القصة والرواية وهي خبرة تكونت لديّ نتيجة قراءاتي الواسعة. ولابد من الإشارة هنا إلى أنني أدين بفضل كبير في ذلك إلى مجلتي (الرسالة) و(الرواية) ولا سيما مجلة (الرواية) وكان يصدرهما الأستاذ أحمد الزيات. وقد لعبت مجلة (الرواية) على نحو الخصوص دوراً مرموقاً في نشر الوعي القصصي بين القراء العرب بمترجماتها الرائعة. ولحسن الحظ أنني لم أنصرف في تلك المرحلة من عمري إلى قراءة الروايات العديمة الأهمية التي كانت شائعة على نطاق واسع يومذاك من أمثال روايات (روكامبول) و(أرسي لوبين) مع أنها كانت أكثر جاذبية للفتيان والشباب من الأدب الراقي، كما أنني لم أنجذب إلى الروايات الإسلامية التي كتبها جورجي زيدان. ولم أكن متحمساً حتى لقراءة ترجمات المنفلوطي باعتبارها أدباً رومنسياً مغرقاً. كذلك لم أكن متحمساً لروايات جبران خليل وكنت أراها أدباً روائياً ساذجاً. فإذن كنت أنحو بقراءاتي الروائية منحى جاداً خلق لديّ مقاييس ومفاهيم متقدمة عن القصة والرواية. ولعل تلك المفاهيم هي التي أكسبت مقالاتي النقدية شيئاً من القيمة يومذاك. وأعود إلى لب السؤال وأتساءل معك مرة أخرى: أين كنت أجد نفسي؟ لا شك أنني كنت أعد نفسي (قاصاً) قبل كل شيء، أو هكذا كنت أصنف نفسي، لذلك كانت قراءاتي وكتاباتي تتجه بالدرجة الأولى إلى هذا الحقل. وخلال عشرة أعوام كتبت عشرات القصص القصيرة فيما بين أواخر الأربعينات وأواسط الخمسينات. وأود أن أسجل هنا أنني لم أعدّ نفسي يوماً (روائياً) بل كاتب قصة فحسب. فبالرغم من شغفي بقراءة الروايات الجادة عربية كانت أم أجنبية فإنني لم أجد من نفسي ميلاً إلى كتابة الرواية. وحتى الروايتان اللتان تحملان عنواني (السؤال) و(حكايات من بلدتنا) ليستا روايتين بمعنى الكلمة بل قصتين طويلتين من النوع المسمى بالإنجليزية Long Short Story. ومن الجدير بالذكر أن الكاتب الروسي أنطون تشيخوف كان أستاذ هذا النمط من القصة ومن أشهر قصصه من هذا النوع (المبارزة) و(العنبر رقم 6) و(النطّاطة) و(قصة رجل مجهول). واشتهر قبله بهذا النمط الكاتب الفرنسي جي دي موسان. ومن قصصه المشهورة من هذا النوع (بول دي سوف) و(حياة امرأة). وكتب الكاتب الإنجليزي أوسكار وايلد هذا النوع من القصص أيضاً مثل (صورة دوريان جراي). وحتى الكاتب المصري يوسف إدريس لم يكن روائياً في الحقيقة بالرغم من أنه كتب أعمالاً يطلق عليها البعض اسم (روايات) مثل (العيب) و(الحرام) و(البيضاء) و(السيدة فينا). ويمكن أيضاً تصنيف روايتي محمود تيمور (كليوباترا في خان الخليلي) و(سلوى في مهب الريح) تحت هذا الصنف. ولم يكن محمود تيمور كاتب رواية بل كاتب (قصة). أما موقفي من المسرح فقد تغير منذ أوائل الستينات أي منذ عودتي من أوربا. فمن بداية الستينات حتى عام 1967م كتبت ثلاث مسرحيات مطولة هي (بيت الزوجية) و(الغرباء) و(الشيء). وأعترف أنني وجدت القصة المسرحية تحقق فهمي للأدب بكونه مرآة للمجتمع أكثر مما تحقق القصة أو الرواية. فهي تمنح الكاتب حرية أكبر في طرح الآراء التي يتبناها. فالأدب المسرحي بعد كل شيء عبارة عن تبادل للحوار بين شخوص تواجه مواقف وأزمات معينة في الحياة. ومثل هذا الحوار يمكن أن يكون أكثر مباشرة وفعالية في نفس القارئ أو المشاهد. وأنا أميل إلى تأييد رأي المسرحي الروسي اسكندر استروفسكي بهذا الخصوص، فلقد قال: «إن المؤلفات المسرحية أقرب إلى الشعب بمقارنتها بالمؤلفات الأدبية الأخرى حيث تخاطب الأخيرة فئات المتعلمين. ولذلك يجب على الكاتب المسرحي أن يكون واضحاً قوياً في أدائه. والكاتب المسرحي الذي يستحق أن يصفه التاريخ بأنه كاتب كبير وعبقري هو الكاتب الذي يكتب للشعب عامة. كما أن المؤلفات المسرحية الجيدة يمكن أن تصبح مع مرور الزمن مفهومة وذات قيمة للشعوب الأخرى ومن ثمة للعالم أجمع». ولعل أفضل دليل على صحة قول استروفسكي هذا الذي صرح به في أواخر القرن الماضي أن مسرحيات تشيخوف التي تعالج مشاكل صميمية للشعب الروسي، وهو مجتمع يختلف في مقوماته وتقاليده وعاداته عن المجتمعات الغربية، تمثل اليوم على مسارح أوربا الغربية في كل عام وتلقى الاستحسان والإعجاب، ولا يكاد يخلو موسم من المواسم الإنجليزية أو الفرنسية أو السويدية أو الأمريكية من إحدى مسرحيات تشيخوف. وبعد أن عدت أخيراً إلى هوايتي الأخرى -هواية الأدب- وجدتني أعود إلى المسرح ولم أعد إلى القصة القصيرة، وبالفعل كتبت مسرحيات عديدة بين طويلة وقصيرة منذ أواخر الثمانينات حتى اليوم. ولكنني لابد أن أوضح أنني لا أكتب مجرد (تمثيليات) لتخرج على خشبة المسرح بل أكتب أدباً مسرحياً. وهناك فرق كبير بين (التمثيليات) التي تكتب لغرض التمثيل وبين الأدب المسرحي الذي يقع ضمن صنوف الأدب بمقوماته المعروفة. ▪ تصنف ضمن جيل الرواد في القصة العراقية. ما هي إنجازات جيلكم، وكيف تنظر إلى القصة العراقية اليوم؟ ▫ المقصود بمصطلح (جيل الرواد) بالنسبة للقصة العراقية الجيل الذي ظهر في أواخر الأربعينات وأوائل الخمسينات، ويطلق على هذا الجيل (جيل الخمسينات). وابتداء أود أن أقول أيها الأخ هيثم أنني لا أوافق على هذه التسميات، وعلى نحو الخصوص تصنيف الكتّاب حسب العقود الزمنية. فقد شاعت هذه التسميات بين القصاصين والشعراء، فصار هناك جيل الستينات وجيل السبعينات وجيل الثمانينات..إلخ. وبالغ الشعراء على نحو الخصوص في العراق فصار هناك لكل عقد من السنين جيل من الشعراء، وآخرها كان جيل الثمانينات. ولا أدري إن كان قد ظهر جيل (التسعينات) أم لم يظهر بعد. ولو كان الهدف من هذه التسميات معرفة التسلسل الزمني للأدباء لكان طبيعياً ومقبولاً، لكن الهدف الحقيقي من ورائها تحديد التطور والتجديد وبالتالي (القيمة الأدبية لإنتاج ذلك الجيل). فجيل الخمسينات أكثر تطوراً من جيل الأربعينات وجيل الستينات أفضل من جيل الخمسينات، وهكذا ولست أدري من أي قطر استمدت هذه الأحكام، ولا أعرف لها شبهاً في الأدب الغربي. وإذا كان الأمر بالنسبة للقصة والأدب الروائي هيناً، فالقصة على أية حال حديثة في أدبنا العربي، لكنه أمر خطير تماماً بالنسبة للشعر، ذلك لأننا نمتلك شعراً يضرب في أعماق التاريخ. فإذا كان شعراء الأجيال الأكثر حداثة يلغون أهمية من سبقهم من شعراء الأجيال القريبة، فما بالك بشعرائنا القدامى!! إن الغرب يعتز بأدبائه وشعرائه الذين ينتمون إلى كل القرون، سواء القديمة أم الوسطى أم الحديثة، وهم مقرؤون دائماً ما داموا قد أثبتوا جدارتهم في عصرهم كأدباء متميزين مهما كان لونهم الشعري أو القصصي. وأنا ممن يعتقدون أننا ينبغي ألا نربط قيمة الأدب وأهميته بفترة زمنية معينة أو بمرحلة من مراحل التاريخ الأدبي. لقد سقت هذه المقدمة لأنتهي إلى القول إلى أن من يطلق عليهم اسم الرواد في القصة العراقية الحديثة أو جيل الخمسينات لا يمثلون البداية في القصة العراقية ولا يلغي دورهم الريادي ما سبقه من أدوار ريادية لكتاب آخرين ظهروا قبلهم بأكثر من عقدين. ومما لا شك فيه أن تاريخ القصة العربية عموماً حديث وقد لا يتجاوز عمره أقل من قرن. وقد ظهرت بداياته في مصر ولبنان في أوائل القرن الحالي وربما في نهاية الربع الأول من القرن الحالي وبالتحديد في نهاية الحرب الكبرى الأولى. وما زال الكتاب في مصر يؤرخون أدبهم الروائي بظهور رواية (زينب) للدكتور محمد حسين هيكل باعتبارها رواية فنية مكتملة وأتذكر أنها ظهرت في حوالي عام 1914م. ثم أخذ الفن الروائي والقصصي في مصر يتطور على يد طائفة من الشباب مثل محمد تيمور وأخيه محمود تيمور وطاهر لاشين ويحيى حقي وطه حسين والحكيم والمازني ثم نجيب محفوظ إلى آخر هذه السلسلة الطويلة من الكتّاب. ويمكن القول أن الكتّاب العراقيين بدؤوا يمارسون هذا الفن في العراق على استحياء منذ أوائل الثلاثينات. أقول على استحياء لأن العراق كان بلد الشعر، وكان وطن الشعراء الكبار. وكان ثمة أسماء رنانة تدوي في سماء الأدب يومذاك من أمثال الرصافي والزهاوي والجواهري والبصير والشبيبي والكاظمي.. إلخ، وهم ورثة مجد شعري تليد يضرب جذوره في أعماق التاريخ. فلم يكن هناك من مجال لأن يحوز هذا الفن الجديد في العراق -وأعني الفن القصصي- القبول والإقبال من القراء. ومع ذلك غامر عدد من الكتّاب باقتحام هذا الميدان غير هيابين ولا وجلين، وكان على رأسهم محمود أحمد السيد. ولأمثال هؤلاء الكتاب تدين القصة العراقية بالفضل الكبير. ولقد ثابروا على دعم هذا الوليد الجديد بإصرار بالرغم من أن كتبهم لم تكن تلقى من يتولى نشرها. وحتى عند نشرها لم تكن تحقق من المبيعات سوى ضمن أرقام العشرات. فهؤلاء هم إذن الرواد الحقيقيون للقصة العراقية، الذين حاولوا أن يثبّتوا جذور القصة في التربة العراقية الجدباء وأن يبنوا جدارها لبنة لبنة. ولم يكن عددهم قليلاً في الحقيقة ولست أتذكر الآن سوى بعض أسمائهم كمحمود أحمد السيد وعبد المجيد لطفي وذو النون أيوب وعبد الحق فاضل وجعفر الخليلي وعبد الوهاب الأمين وشالوم درويش ويعقوب بلبول. وينبغي ألا نستهين بقيمة إنجازات هؤلاء الرواد. طبعاً لم يتحقق لأدبهم ما يستحق من الذيوع والانتشار، ربما عدا استثناء واحد هو ذو النون أيوب، ذلك لأنهم كما قلت كانوا يحرثون في أرض قاحلة. وأحب بهذه المناسبة أن أعرض لتهمة تلصق بأدب هؤلاء الرواد وهي أن القصة التي كتبوها عبارة عن (حكاية) وأنها كانت خلواً من العناصر الفنية المألوفة في الغرب. وأنا شخصياً أعتقد أن هذه التهمة باطلة إلى حد كبير. ومن الطبيعي ألا نبحث فيها عن (النضج الفني) كما حققته القصة العراقية والعربية عموماً في العقود اللاحقة، ولكنها لم تكن مجرد (حكاية) بالتأكيد. وكان كتابها يتفاوتون بالطبع في مقدراتهم ونضجهم الفني ولكنهم كانوا جميعاً كتاب قصة ناجحين. كما أنهم كانوا على اطلاع ودراية بالقصة الغربية. ولابد لنا أن نبذل عناية أكبر بأدبهم لا أن نطرحه جانباً على أنه أدب فج. ثم أنني أريد أن أطرح هذا السؤال: لماذا يقدر الغربيون قصص الكاتب الإيطالي بوكاتشيو مثلاً التي كتبت في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، وهي مترجمة إلى معظم اللغات الأوروبية، وهي بعيدة عن شروط القصة الفنية بينما نهمل نحن كتابات هؤلاء الكتّاب بحجة أنها ليست من القصة الفنية في شيء؟ وأعود إلى سؤالك يا هيثم وهو: ما هي إنجازات من يسمون بجيل الرواد في القصة العراقية، أو على الأصح جيل الخمسينات؟! أود أن أقول بادئ ذي بدء أن كتّاب هذا الجيل كانوا أكثر التصاقاً بالأدب الغربي في مناهله الأصلية، وكانوا يقرؤون كثيراً. وعلى سبيل المثال يعكس أدب عبد الملك نوري تأثراً بكتّاب غربيين معينين أمثال كافكا وجميس جويس وفرجينيا وولف. ويعكس أدب فؤاد التكرلي تأثراً ببعض الكتاب المذكورين وبأدب دوستويفسكي أيضاً. ويعكس أدبي تأثراً بأدب أنطون تشيخوف. وكذلك الحال بالنسبة لأدب المرحوم غائب طعمة فرمان وهذا التأثر يعود بلا شك إلى الاستغراق في قراءة القصة الغربية. وبالمناسبة فإن الأسماء التي تردد بكونها ممثلة لهذا الجيل وهي عبد الملك نوري وفؤاد التكرلي وغائب طعمة فرمان وشاكر خصباك، لم تكن وحدها الممثلة لهذا الجيل بل كان إلى جوارها أسماء أخرى أسهمت في بناء القصة العراقية من أمثال نزار سليم ومهدي عيسى الصقر وأدمون صبري وغيرهم. فإذن يمكن القول أن ممثلي هذا الجيل كانوا أكثر اطلاعاً واستيعاباً للقصة الغربية من الجيل الذي سبقهم. فكانت قصصهم أقرب إلى القصة الغربية، بل وفي حالات كثيرة تقليداً لها. وبناء على ذلك تعد خطوة متقدمة (من الناحية الفنية) بالنسبة لنمط القصة التي سبقتها. كما يعد أدب أولئك الكتّاب نقلة مهمة للقصة العراقية. أما مرحلة القصة العراقية التي أعقبت مرحلة الخمسينات فهي بلا شك ثرية ولكنها لم تحقق التفوق المرجو على ما سبقها. هذا على الرغم من أن من يكتبون القصة في العراق يعدون اليوم بالعشرات. ولا شك أن قصاصي اليوم لم يعانوا ما كان عانوه قصاصو الأمس، فسبل النشر أمام الكثيرين منهم ميسرة، بينما كان جيلنا يعاني الكثير من صعوبات النشر. وتقوم (دار الشؤون الثقافية العامة) التابعة لوزارة الإعلام بنشر العديد من دواوين الشعر والأدب الروائي وتدفع للمؤلفين بسخاء، في حين كان مؤلفو جيلنا يضطرون أحياناً إلى تمويل كتاباتهم بأنفسهم. وتتولّى هذه الدار تسويق تلك الكتابات وإن لم تنجح بتسويقها خارج العراق، في حين أن هذه القضية كانت تعد من المعضلات بالنسبة لنا. ولكن لابد لي احتراماً للتاريخ أن أسجل هنا أن أبواب هذه الدار لم تكن مفتوحة للجميع على حد سواء، وأن بعض الكتّاب كانوا يلاقون عنتاً في قبول كتاباتهم لسبب أو لآخر. وهنا أيضاً يبرز السؤال التالي: لماذا لم يظهر كتّاب بعد مرحلة الخمسينات يحققون طفرة حقيقية للقصة العراقية؟! للإجابة عن هذا السؤال أقول أن على رأس تلك الأسباب محدودية الثقافة القصصية لكتّاب الأجيال اللاحقة مقارنة بجيل الخمسينات. فلا شك أن كتّاب ذلك الجيل كانوا أكثر اطلاعاً واستيعاباً للأدب القصصي الغربي من الأجيال اللاحقة. فللأسف أن كتّاب الأجيال اللاحقة ليس لديهم من الصبر على القراءة الواسعة كما هو حال جيلنا عدا القليلين منهم. بل وفي غالب الأحيان اقتصرت ثقافتهم القصصية على ما يقرؤونه من مترجمات إلى اللغة العربية، والقليلون منهم من حاول إتقان اللغات الأجنبية. ولذلك ظل اطلاعهم على الأدب الغربي محدوداً. وحتى التيارات الأدبية لم يطلعوا عليها إلا عن طريق ما كتب عنها باللغة العربية ولم يكن دقيقاً دائماً، وبما أن ثقافتهم الروائية والقصصية محدودة فقد كان الكثيرون منهم يصابون بالغرور ويتصورون أنهم قد أتوا بالعجب العجاب، في حين أن كتّاب جيلنا كانوا يدركون أن ما يضيفونه إلى الأدب العالمي لا يساوي قطرة في بحر! ولكن بالرغم مما يعاني منه الأدب القصصي العراقي في الوقت الحاضر، وبالرغم من أن مؤاخذاتنا على الكتّاب القصصيين من جيل الشباب فإنهم مظلومون؛ ذلك أن أدبهم حبيس جدران وطنهم وهم غير معروفين خارج العراق إلا على نحو محدود جداً لا بسبب ضعف أدبهم بل بسبب سوء توزيع كتبهم وضآلة الدعاية لهم. ولابد لي في الختام أن أؤكد أن البعض من قصاصينا الشباب -الشباب تجاوزاً فهم لم يعودوا شباباً في الحقيقة- قد حقق نجاحاً مرموقاً في هذا الميدان. ▪ أي القضايا يشغل تفكيرك في الوقت الراهن أكثر من أي شيء آخر؟ كيف ولماذا؟ ▫ ما يشغل تفكيري أيها الأخ هيثم هو ما يشغل تفكير كل عربي غيور وهو التدهور الذي أصاب الأمة العربية من المحيط إلى الخليج (شعار الستينات الشهير!). فحالنا اليوم حال الصخرة المنحدرة من فوق جبل ولابد لها أن تصل إلى الحضيض، وما زلنا لم نبلغ الحضيض بعد. فإذا كان حالنا هذا كما نراه في أواخر القرن العشرين، فكيف سيكون حالنا في بداية القرن الحادي والعشرين؟ صحيح أنني لست يائساً ولكن لابد من الاعتراف أيضاً أن ما كنا نرعاه من آمال في قلوبنا يوم ذاك عن مستقبل الأمة العربية قد لقيت فشلاً ذريعاً. أما حلمنا بالديمقراطية وارتفاع مستوى المعيشة والثقافة للفرد العربي فقد تقهقر كلياً وتوارى وراء جدران الواقع الكالح. فها أنت ذا ترى أن الأنظمة الدكتاتورية بصورة أو بأخرى هي السائدة في غالبية الدول العربية إن لم تكن في كل الدول العربية على الإطلاق. وبات الفرد العربي مسحوقاً حتى العظم. وكان المستقبل يبدو لنا في مرحلة الخمسينات والستينات مشرقاً وواعداً بالآمال بينما يبدو لنا المستقبل اليوم ونحن في نهاية القرن العشرين مثقلاً بالخيبات على جميع المستويات السياسية والاجتماعية والثقافية، فمّن مِن الكتاب الواعين في الوطن العربي ينام اليوم وهو قرير العين من دون أن تقلق نومه الكوابيس المفزعة؟ ▪ تقف كتاباتك الأدبية على أرضية واقعية صلبة مع ميل في مجال المسرح إلى تكثيف رمزي ذهني، كيف تقيم الاتجاهات الأدبية (الحداثوية) و(التجريبية) في الرواية والقصة والمسرح؟! ▫ ليس من الغريب أن تقف كتاباتي في القصة والمسرح على أرض صلبة من الواقع، كما أنه ليس من الغريب أن تميل إلى تكثيف رمزي ذهني. فبما أنني أعدّ الأدب في خدمة الإنسان والمجتمع فلابد أن أوصله إلى أكبر شريحة ممكنة من مجتمعي، ولست بحاجة بالطبع إلى القول أن الكاتب ينبغي ألا يغيب عن ذهنه أنه فنان وليس داعية سياسي أو اجتماعي. ولذلك فواقعيته لا يمكن أن تكون من النوع (الفوتوغرافي) أو (الريبوتاجي) أو (الحكواتي). أقول ذلك لأن هناك شيئاً من سوء الفهم لدى بعض الكتّاب ممن يسمون كتّاباً (واقعيين). وكما أشرت في سؤالك يا هيثم فأنا أومن بأن الكاتب في حاجة دائماً إلى تكثيف رمزي وذهني على أن لا يقحم الرمز إقحاماً على العمل الأدبي. ومن حسن حظي أنني لم أجد في نفسي ميلاً إلى محاكاة أسلوب أي كاتب من الكتاب الذين أعجبت بأدبهمْ، صحيح أنني تأثرت بأساليب البعض منهم لكن هذا التأثير لم يغص في أعماقي. وهو ينعكس أحياناً في بعض كتاباتي بصورة غير مقصودة. ولم أقل لنفسي يوماً «عليّ أن أكتب بأسلوب أو طريقة الكاتب الفلاني» وهناك عدد من الكتّاب من حاول أن يكتب بالفعل على طريقة كافكا أو فرجينيا وولف أو جميس جويس أو ناتالي ساروت أو غارسيا أو غيرهم من الكتاب، كما أن هناك عدداً آخر من الكتّاب ممن حاول أن يأتي بـ(صرعة) جديدة تقليداً لكتّاب الغرب فجاء عمله الفني مخلوقاً مشوهاً. وحتى لو أصابت أمثال هذه (الصرعات) شيئاً من النجاح بسبب جدتها أو طرافتها فإن مثل هذا النجاح في رأيي لن يدوم طويلاً ولابد له أن يتوارى وراء جدران النسيان خلال عقود قليلة لأنه شيء غير أصيل. لذلك فإن مسألة (الحداثوية) و(التجريبية) لم تشغل بالي يوماً. هذا مع العلم أن أولئك الذين يتحدثون عن (الحداثة) أخفقوا عموماً في توضيح مفهومهم لهذا (المصطلح). ثم إنني أريد أن أسأل: متى كانت (الحداثة) مقياساً لجودة العمل الفني؟ لو كان الأمر كذلك ما قرأنا اليوم باستمتاع الأدب المسرحي لسوفوكليس ويوروبيدس وأريستوفان وشكسبير وموليير وراسين وسترندنبرغ ولاكتفينا بقراءة مسرحيات برتولد بريخت ولويجي بيراند كلو وبيكيت ويونسكو. ولما قرأنا باستمتاع روايات شارلس ديكنز وتولستوي وتورغنيف وفكتور هوغو والعشرات غيرهم ولا اكتفينا بقراءة أدب وليم فولكز وفرجينيا وولف وجميس جويس ومن لفّ لفّهم. فقيمة الأدب أيها الأخ هيثم ليس بما ينطوي عليه من (حداثة) بل بما يشتمل عليه من صدق فني ومهارة شخصية ولا يمكن أن يكون التصنع و(الافتعال) معياراً لنجاح العمل الفني مهما أتى به الأديب من جديد. وطبعاً يأتي على رأس التمييز بين أديب وآخر (موهبته) أو على الأصح مقدرته الفنية، وفي ذلك يتفاوت الكتّاب تفاوتاً كبيراً. ومن خلال تجربتي القصصية أو المسرحية لم أختر يوماً (شكلاً) معيناً لعملي الفني بل كان (المضمون) هو الذي يفرض عليّ (الشكل) وأنا أرى أن (الشكل) و(المضمون) يتلازمان في ذهن الكاتب دائماً وأنهما يفرضان نفسهما على الكاتب في معظم الأحيان. ولأضرب لك مثلاً من إحدى رواياتي وهي المعنونة (حكايات من بلدتنا). إن هذه الرواية (أو القصة على نحو أدق) تعالج موضوعاً من أشد المواضيع واقعية وهو تعرُّض بلد من البلدان إلى نظام حكم ديكتاتوري متسلط فرض القمع والبطش والقهر على أبناء البلاد. وتصور القصة ما تعرض له الشعب من مآسي تحت ظل النظام الجديد. ومع ذلك فإن أسلوب هذه القصة لا علاقة له بالأسلوب الواقعي. بل إن القصة تعتمد أساساً (الرمز). وأؤكد لك أنني لم أتصنع هذا الأسلوب وأنني لم أعصر ذهني لكي أصل إلى هذا (الشكل) بل هو الذي فرض نفسه علي. أما قضية التكثيف الرمزي والذهني فهو أمر لا غنى عنه للكاتب الفنان وإلا ما اختلفت كتابته عن كتابات الكتّاب في الحقول الأخرى كعلم النفس والفلسفة وغيرها. وهذا الإيحاء الذهني والرمز هما اللذان يحركان خيال وذهنية المتلقي فيساهم بدوره في صنع العمل الفني حسب ثقافته وذوقه وخياله. غير أن الذي لا استسيغه هو الغموض الشديد الذي يلجأ إليه بعض الكتّاب -وخصوصاً الشعراء منهم- بحيث تصبح كتابتهم مجرد (فوازير) زاعمين أن على القارئ أن يجهد ذهنه ليرتفع إلى مستوى الكاتب. ويصبح الأدب لدى أمثال هؤلاء الكتّاب والشعراء مجرد حذلقة ذهنية وقد يتحول إلى خطاب شخصي ربما كانوا هم أنفسهم يعجزون عن تفسيره. وأخيراً أقول فلينتج الكاتب عملاً فنياً (صادقاً) لا افتعال فيه وليكتب بالأسلوب الذي يحلو له.
شاكر خصباك المؤلف الموسوعي(*) □ حوار/ شاكر نوري
ثمة أسماء تغيب ردحاً من الزمن لكنها تبقى مضيئة في الذاكرة، وهي كالنبتة التي ترفض العيش في الأرض الضارة، لذا تراها هائمة، قلقة تبحث عن مستقر. وشاكر خصباك، هذا الرجل الموسوعي، الذي استطاع أن يجمع بين الأدب والعلم والجغرافيا والتاريخ، لم يضل طريقه إلى جنة عدن. الأكاديمية الصارمة، حيث يعمل أستاذاً في جامعة صنعاء، ومن قبل ذلك في جامعة بغداد، لم تمنعه من الخوض في غمار الأدب المنفلت من أية ضوابط... فقد كتب القصص القصيرة. (صراع، عهد جديد، حياة قاسية) وكتب الرويات (حكايات من بلدتنا، امرأة ضائعة، الطائر وغيرها)، كما كتب المسرحيات (بيت الزوجية، العنكبوت، الدكتاتور، المخذولون، الجوار وغيرها). خاض شاكر خصباك أيضاً غمار كتابة الرحلات الأدبية من خلال معرفته بعدد من البلدان والأدباء، وكتب أيضاً مؤلفات علمية لها قيمتها التاريخية النادرة مثل كتبه العديدة عن الأكراد حتى أن الأكراد اعتبروه كردياً رغم أنه عربي الأصل كما أخبرنا لدى زيارتنا له في منزله العامر. وأخذت الجغرافيا قسطاً كبيراً من اهتمامه كما ترجم أمهات الكتب الجغرافية مثل (الارتياد والكشف الجغرافي) تأليف وود و(أعلام الجغرافيا الحديثة) تأليف كرون. و(قرن من التطور الجغرافي) تأليف فريمان. و(أصول الجغرافيا البشرية) تأليف فيدال دي لابلاش وغيرها من الكتب. مؤلفات الأستاذ شاكر خصباك تتميز بالغزارة وتنوع ميادين المعرفة، وتشكل ذخيرة هامة للمكتبة العربية، وقد التزمت إحدى دور النشر في صنعاء بطبع أعماله الإبداعية الكاملة... ومما يؤسف له أن مؤلفاته وخاصة العلمية منها نافذة وهي تنتظر إعادة الطبع. بتواضعه الجم ورحابة صدره، أجاب على أسئلتنا.
▪ باعتبارك واحداً من رواد الواقعية في القصة العراقية، هل ترى أن الواقعية تصلح في الوقت الحاضر لاجتذاب القارئ؟ ▫ أراني ملزماً يا أخ شاكر إلى أن أوضح بأن كلامك يمت إلى فترة ما قبل الخمسينات أو إلى أوائل الخمسينات، أي إلى قبل حوالي النصف قرن، وبالتالي فقد يتصور القارئ أنني ما زلت أكتب بنفس الأسلوب الذي كنت أكتب به قبل نصف قرن، وأنني لم أواكب تطور الزمن. وسؤالك هذا على كل حال يذكرني بمقال لتوفيق الحكيم نشره في أواسط الثمانينات في كتابه (الوقت الضائع) وهو آخر كتاب نشره في حياته. واقتطف من ذلك المقال المقطع التالي: «سئلت أثناء وجودي في باريس هذا السؤال: إذا أردت أن تكتب اليوم من جديد (عودة الروح) و(عصفور من الشرق) و(أهل الكهف).. كيف تكتبها؟ وأقول: إذا صنّفنا العمل الأدبي على أنه رواية أو مسرحية فمن واجبنا أن نحلل الظروف التاريخية والأدبية والاجتماعية التي اقتضت ظهور هذا العمل في ذلك الزمان والمكان بصفته التي ظهر بها. ذلك لأن الأدب أو الفن، إذا كان صادقاً فلابد أن يكون وجوده بالصفة التي ظهر بها مرتبطاً بضرورات التطور الحضاري للبيئة التي وجد فيها». وأنا أؤكد هنا على عبارة «من واجبنا أن نحلل الظروف التاريخية والأدبية والاجتماعية التي اقتضت ظهور هذا العمل في ذلك الزمان والمكان بصفته التي ظهر بها». فيمكنني إذن أن أستخلص من قول الحكيم أن العمل الأدبي مرتبط بظروفه التاريخية التي يرتبط المجتمع بدوره بها. فإذا كان أدبي الذي كتبته في أواخر الأربعينات وأوائل الخمسينات يصنف أدباً واقعياً فلأن الظروف التاريخية كانت تقتضي هذا اللون من الأدب. وكان هو اللون الذي يستسيغه الكاتب العراقي خصوصاً والكاتب العربي عموماً، خصوصاً وأن الأدب الواقعي كان يتبناه الكتّاب الذين يلتزمون بقضايا شعوبهم، فإذا لم يكتبوا أدباً يعبر عن هموم أفراد الشعب وباستطاعتهم فهمه، فكيف يمكن أن يكون ذلك الأدب مقبولاً لديهم؟ وكيف يمكن للكاتب أن يؤدي رسالته؟ فأي نوع من أنواع الأدب الذاتي لم يكن يلقى هوى في نفوس القراء آنذاك. ثم إنني أحب أن أؤكد هنا بأن ما سمي بالأدب الواقعي الذي كنت أكتبه يومذاك لم يكن أدباً مسطحاً غرضه نقل الواقع كما هو أو رسم صورة الحياة كما هي، بل كان فنا. أقول هذا ليس عن أدبي فحسب بل عن أدب جيلي من أمثال عبد الملك نوري وغائب طعمة فرمان وفؤاد التكرلي ومهدي عيسى الصقر وغيرهم. وقد اعترف فعلاً بأدبنا نحن جيل الرواد في القصة كما يطلق علينا كفن متطور عن مرحلة الفن القصصي لسابقينا. والواقع أن ما يمكن أن يطلق عليها (القصة العراقية الواقعية) قد مرت بمراحل قبل أن يكتب جيل الخمسينات القصة الواقعية الفنية. فقد بدأت بمرحلة محمود أحمد السيد الذي يعتبر رائداً للقصة العراقية، والذي بدأ يكتب القصة منذ أواخر العشرينات وخلال النصف الأول من الثلاثينات، وكان معاصراً لبدايات القصة القصيرة المصرية أيضاً على يد روادها من أمثال الأخوين محمد ومحمود تيمور ويحيى حقي وطاهر لاشين، وكانت قصص محمود السيد تعكس الفن القصصي في بداياته الأولى وكان فنها فجاً بطبيعة الحال. ثم تلت هذه المرحلة مرحلة الكتّاب الواقعيين أمثال عبد المجيد لطفي وعبد الوهاب أمين وشالوم درويش وجعفر الخليلي، وقد ظلت واقعيتها فجة فنياً أيضاً لكنها تمثل في الوقت نفسه تقدماً على مرحلة محمود أحمد السيد. ولعل من أسباب عدم النضج الفني لقصص هذه المرحلة هو عدم تماس كتّابها بالقصة الغربية الفنية. ولا أقول جهل كتّابها بها، فقد كانوا ولا شك يطلعون على ما يترجم منها إلى اللغة العربية، لكن القصة الغربية المترجمة كانت محدودة في عهدهم. ثم حلّت مرحلة ذو النون أيوب وهي مرحلة متميزة للقصة الواقعية بالنسبة لما سبقها، ولعل من جملة الأسباب تماس ذو النون أيوب بالقصة الغربية، وقد قام بترجمة البعض منها إلى اللغة العربية مثل رواية (الأم) لمكسيم غوركي. ثم تلت مرحلة ذو النون أيوب مرحلة القصة الواقعية الفنية في أوائل الخمسينات التي كثيراً ما عُدّت قفزة متميزة للقصة العراقية على أيدي جيل الخمسينات المذكور. والواقع أن هذا الجيل قد كتب القصة القصيرة بتقنياتها المعروفة في الغرب. وكما ذكرت قبل قليل فلم يكن كتّاب هذا الجيل ناقلين للواقع بتفاصيله الفوتوغرافية بل مصورين لعالم الواقع كما يتخيله حسهم الفني وكما تدركه عقولهم الواعية. وأعود إلى الشطر الثاني من سؤالك القائل: «هل تصلح الواقعية في الوقت الحاضر لاجتذاب القارئ؟». وأجيب على هذا التساؤل بالقول إن ما يقرب من هذا السؤال قد طرح في إحدى محطات التلفزة الفضائية على عملاق الواقعية العربية نجيب محفوظ، فكان جوابه بأن الشخوص التي قدمها في أدبه في أواخر الأربعينات وفي الخمسينات والستينات باتت دون ما يواجهه المجتمع في حياته اليومية من أحداث وشخوص تفوق الخيال مما لم يعد هذا الأدب» يمثل إدهاشاً للقارئ، وبالتالي أصبح اعتيادياً وصارت أحداث الواقع تتفوق عليه. وهكذا أخذ الأدب القصصي والروائي ينحو أكثر وأكثر إلى أدب ذاتي وابتعد عن الواقعية. كما أنه أخذ يستخدم الحيل والأساليب الفنية غير المألوفة لإثارة دهشة واهتمام القارئ. وأعتقد أن جواب نجيب محفوظ هذا يمكن أن يمثل ردي أيضاً على الشطر الثاني من سؤالك، لكنني لا أتفق معه تماماً. وأريد أن أشير إلى نغمة الاستخفاف التي تظهر في كتابات بعض الكتّاب وهم يتحدثون عن الأدب الواقعي. فهل صار الأدب الواقعي دلالة من دلالات تخلف الأدب؟ وإذا كان الأمر كذلك فلماذا كنا وما نزال ننظر إلى دوستويفسكي على أنه أعظم روائي أنجبته البشرية؟ ولماذا تسجل روايات وقصص عمالقة كتّاب القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين أعظم المبيعات لدى القارئ الغربي؟ وأود أن أذكر لك أنني شهدت قبل سبع سنوات مسرحية على إحدى مسارح لوس أنجليس مقتبسة من روايات شارلز ديكنز هي (التوقعات الكبرى) وقد استغرق عرضها ست ساعات وكان الإقبال عليها عظيماً. كما أنني شاهدت قبل ثلاث سنوات على أحد مسارح شيكاغو مسرحية مقتبسة من رواية (البؤساء) لفتكور هوغو وكان الإقبال عليها عظيماً أيضاً، لا يقل عن إقبال الجمهور على مسرحيات المسرحيين الأمريكان المعاصرين من أمثال يوجين أوتيل وآرثر ميلر وتنسي ويليامز. وهكذا ترى أن أقطاب الواقعية في القرن التاسع عشر ما زالوا يجتذبون قراء نهاية القرن العشرين! ▪ جيل الخمسينات الذي تنتمي إليه كان عليه أن يؤسس لقصة عراقية جديدة. لكن ثمار ذلك لم تظهر إلا في وقت متأخر. فهل ساعد تقدم الزمن الكتّاب اللاحقين على نضج الرؤية الإبداعية؟ ▫ سؤالك هذا ينطوي على إنكار ما حققه أقطاب من سمّوا بجيل الخمسينات من تقدم في مجال القصة والرواية العراقية. وكأن أولئك الأقطاب -وعلى رأسهم عبد الملك نوري وفؤاد التكرلي وغائب طعمة فرمان وشاكر خصباك- قد توقفوا عن العطاء والإبداع وتسلم المشعل منهم كتّاب آخرون أنضجهم الزمن فصاروا أكثر وعياً منهم للأشكال الفنية للقصة والرواية مما مكّنهم من إحداث قفزة نوعية في القصة والرواية العراقية. وقبل أن أجيب عن هذا السؤال دعني أوضّح بأنني لا أقلل بجوابي من شأن كتّاب القصة والرواية الذين أعقبوا جيلنا، فلا شك أن البعض منهم قد أمد القصة العراقية بنماذج ترقى إلى مستوى أعلى نماذج القصة العربية، لكنني أبادر إلى القول أيضاً أن أمثال هؤلاء الكتّاب المبدعين لم يكونوا أكثر وعياً لفن القصة والرواية من جيلنا لسبب بسيط هو أن الأقطاب الأربعة من الروّاد على نحو الخصوص لم يكونوا دون الكتّاب اللاحقين ثقافة ووعياً بالقصة والرواية على أرقى مستوياتها. فلقد كان أولئك الأقطاب على دراية واطلاع عظيمين على الأدب الغربي، ولا أعتقد أن أي كاتب من اللاحقين قد بزّهم في ذلك. فالمرحوم غائب طعمة فرمان كان يحسن اللغة الإنكليزية والروسية وعاش ردحاً من الزمن من حياته في محيط أدبي على مستوى راقٍ جداً هو مدينة موسكو. بل إنه قام بترجمة بعض أمهات روايات دوستويفسكي. والأستاذ فؤاد التكرلي يحسن الإنكليزية والفرنسية، وهو مطلع اطلاعاً واسعاً على الأدب الغربي. وكذلك حال عبد الملك نوري، ولعلك تعلم أن عبد الملك نوري كان قد توقف عن الكتابة منذ أواسط الخمسينات، وستدهش إذا ما عرفت سبب توقفه. فبسبب ثقافته الواسعة واطلاعه على الأدب الغربي كان يطمح إلى أن يبلغ في كتابته مستوى الكتاب الغربيين الكبار في القصة والرواية من أمثال فرجينيا وولف وفرانز كافكا وجيمس جويس وفوكنر. وكان هؤلاء يمثلون طليعة الاتجاه الجديد في الأدب القصصي العالمي. ولما وجد نفسه عاجزاً عن اللحاق بهؤلاء الكتاب أضرب عن الكتابة فخسر الأدب العراقي أديباً فذاً. ولا شك أن عبد الملك نوري لم يكن مضطراً للتوقف عن الكتابة لأنه كان قد بدأ بالفعل يشق طريقاً جديداً للقصة العراقية الحديثة والتي تمثل بمجموعته القصصية الرائعة (نشيد الأرض). والله يعلم أي مدى كان سيبلغ بالقصة العراقية لو أنه واصل الكتابة حتى اليوم. وبالمناسبة فهو ما زال على قيد الحياة وقد أشرف على الثمانين. فإذن أستطيع القول أن ثقافة جيل الخمسينات القصصية لم تكن قاصرة عن ثقافة الكتّاب اللاحقين الذين يوحي سؤالك بأنهم طوّروا القصة والرواية العراقية بما توفر لديهم من ثقافة بمرور الزمن. وبهذه المناسبة فإنني أحب أن أسجل اعتراضي على فكرة التفاضل بين السابقين واللاحقين وهي فكرة تكاد تنعدم لدى الكتاب الغربيين. فالمفروض أن كل كاتب يتميز بأسلوبه وإمكاناته وإضافاته الإبداعية. وليس هنا من مبرر للقول إن فلاناً أفضل من فلان. صحيح أن هناك كتاباً لامعين معترفاً بتفوقهم على صعيد محلي أو عالمي. لكن تباين أساليب الكتاب لا يعني تفضيل كاتب على آخر لمجرد أن أحدهم يفضل تيارات اللاوعي وآخر يفضل الأسلوب الواقعي والثالث يكتب بأسلوب الفانتازيا. وهذا الأمر لا يمثل مشكلة في الأدب الغربي. فحينما ظهرت ناتالي ساروت مثلاً في فرنسا والتي أدخلت حداثة فريدة على القصة القصيرة لم ينظر القارئ الفرنسي إلى قصص جي دي موبسان على أنها صارت عتيقة الطراز لا تستحق القراءة ولم تعد ذات أهمية، مع أن قصص موبسان كانت تمثل البداية في القصة القصيرة. كذلك الحال بالنسبة لروايات شارلز ديكنز في انكلترا، فإن ظهور أنماط جديدة من الكتابات الروائية على أيدي جيمس جويس وفرجينيا وولف وغيرهما لم يقلل من أهميتها أو الإقبال على قراءتها من قبل القارئ الإنكليزي، وما زال ينظر إلى شارلز ديكنز بأنه عملاق الرواية الإنكليزية. وهناك الكثير من الكتّاب الإنكليز الناجحين الذين يكتبون على نمطه ومن أمثلتهم إحدى حفيداته مونيكا ديكنز. أما هنا في عالمنا العربي ونحن لم نعرف الأدب القصصي والروائي إلا حديثاً، فقد قسم الشعراء والقصصيون حسب العقود الزمنية، واعتبرت أفضل الكتابات هي تلك التي كتبها جيل التسعينات وربما سيكون جيل الألفين! أما الكتّاب السابقين لهم فهم أدنى مرتبة وأقل براعة.. اسمح لي أن أرفض هذا المنطق فأنا أؤمن بالتعايش السلمي بين جميع أنواع الأساليب الكتابية في القصة أو في الشعر. المهم أن يكون الكاتب بارعاً وموهوباً وقادراً على احتواء إعجاب القارئ الواعي وليكتب بعد ذلك بأي أسلوب يشاء. ثم دعني أسألك أخيراً: كيف يمكننا القول بأن كتّاب الأجيال اللاحقة قد تفوقوا على كتّاب جيل الخمسينات مستفيدين من تقدم الزمن مما أنضج رؤيتهم الإبداعية... في حين أننا نعلم أن أقطاب جيل الرواد لم يموتوا بعد وأنهم ما زالوا يكتبون حتى اليوم (عدا عبد الملك نوري الذي انقطع عن الكتابة منذ أواسط الخمسينات كما ذكرت). فغائب طعمة فرمان لم يمت إلا في أوائل التسعينات وقد ظل يكتب إلى آخر سنة من حياته، وقد أمد المكتبة العربية بطائفة من أجمل الروايات، ولكن نصيبه من الرعاية ضئيل لسوء الحظ. فلم تعرف رواياته على نطاق واسع في العالم العربي، فضلاً عن أنه كان بطبعه لا يحب الدعاية لنفسه. والأستاذ فؤاد التكرلي ما يزال مستمراً في نشاطه الأدبي وإن كان مقلاً، وقد كان كذلك منذ بداياته الأولى، وقد أصدر مؤخراً رواية (خاتم الرمل) وهي من أجمل الروايات التي ظهرت مؤخراً. أما أنا فما زلت مستمراً في الكتابة الأدبية حتى اليوم، على الرغم من مشاغلي الأكاديمية، وكان آخر أعمالي الأدبية روايتان قصيرتان بعنوان (قصة حب) و(الطائر) اللتان صدرتا في كتاب واحد في مطلع عام 1988. وهكذا أجدني أرفض سؤالك هذا جملة وتفصيلاً. ▪ هل أستطيع أن أسألك يا دكتور شاكر.. لماذا أقبلت على كتابة القصة وانصرفت عن الشعر؟ ▫ سؤالك في محلّه، والواقع أن منطق الأمور كان يقتضيني التوجه نحو الشعر لا القصة، لا سيما وأنه كان فارس الميدان الأدبي في العراق في النصف الأول من القرن العشرين، ولم يكن لكتاب القصة العراقيين يومذاك شأن يذكر. وكانت الإشادة في كتبنا المدرسية بالشعراء بينما لم يكن للقصصيين ذكر فيها. ولا أظنني مبالغاً إن قلت إن العراق كان يضم في النصف الأول من هذا القرن أكبر عدد من الشعراء الكبار قياساً إلى بقية أقطار العالم العربي أمثال الزهاوي والرصافي والجواهري. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن بيئتي الأسرية كانت بيئة شعر. فمعظم أعمامي كانوا يقرضون الشعر. وقد عرف خالي الدكتور محمد مهدي البصير بأنه شاعر ثورة العشرين وله عدة دواوين مطبوعة. وقد حاولت بالفعل وأنا طفل أن أكون شاعراً مدفوعاً بهذا التراث الأسري. ولكن ظروفاً نفسية شرحتها في كتابي (ذكريات أدبية) ولا أرى من داع لتكرارها هنا صرفتني عن الشعر. لكنني يجب أن أعترف بأنني لم أكن منذ البداية مخلصاً في توجهي نحو الشعر ولا أدري ما هو السبب، في حين أن انصرافي إلى القصة كان جاداً، وقد تركز لديّ منذ سنتي الخامسة الابتدائية. وقد تجمع لديّ خلال مرحلة دراستي الابتدائية مجموعة لا بأس بها من القصص القصيرة شكّلت ما يشبه الكتاب، لكن تلك المجموعة المبكرة فقدت مني ولا أكاد أتذكر منها شيئاً. وأستطيع القول أنني واصلت مسيرتي القصصية منذ ذلك اليوم، وقد بدأت بنشر أقاصيص على صفحات المجلات العراقية والعربية منذ نهاية مرحلة الدراسة المتوسطة وخلال مرحلة الدراسة الثانوية. وقد تخيرت منها عدداً شكّل قوام مجموعتي القصصية الأولى المعنونة (صراع) التي صدرت عام 1948. وفي هذه المرحلة المبكرة من حياتي الأدبية مارست كل أنواع الكتابة الأدبية وكان النقد القصصي ركناً مهماً منها. وقد ضم كتابي المعنون (كتابات مبكرة) والذي اشتمل على مقالات نشرت فيما بين عام 1945 و1947 ألواناً متنوعة من نشاطي الأدبي. ▪ مدينة (الحلة) مسقط رأسك هي المحطة الرئيسية بالطبع في تكوينك الثقافي والسياسي والإبداعي، كيف كانت (الحلة)... مناخها العام، حركتك فيها، مشاربها الثقافية وأقصد من سؤالي التحدث عن تكوينك الثقافي في إطاره العام؟ ▫ مدينة (الحلة) التي ولدت فيها (وقد ولدت عام 1930) وأمضيت فيها طفولتي وصباي هي من المدن الرئيسية في العراق بعد الموصل والبصرة. لكن أهميتها لا تنبثق من عدد سكانها أو قيمتها الاقتصادية بل من خصوصية موقعها في الصرة من سهل الرافدين والحقيقة أن موقعها هذا أكسبها أهمية عظمى في تاريخ البلاد (بلاد ما بين النهرين) في حضارات العالم القديم، فلم تكن (الحلة) سوى الامتداد لمدينة (بابل) العظيمة مركز الحضارات الأكدية والبابلية والكلدانية. وتقع آثار بابل على مسيرة خمس دقائق بالسيارة من الحلة وكثيراً ما كنت وأنا صغير أمضي أيام الأعياد أنا ورفاقي بين آثارها نلهو ونمرح. وكان البابليون القدماء يعتقدون أن (بابل) هي صرّة العالم. فمدينة (الحلة) إذن لها عراقة حضارية وخصوصية تاريخية. وقد اكتسبت أهمية خاصة أيضاً في بعض مراحل الحضارة العباسية.
ولابد أنك تعلم أنها أنجبت أحد الشعراء المشهورين هو صفي الدين الحلي. كل ذلك جعل منها مركزاً ثقافياً متميزاً بين المراكز الثقافية الأخرى في العراق. وهكذا ترى يا أخ نوري أنني فتحت عيني منذ طفولتي على جو ثقافي يعطي اعتباراً خاصاً للشعر والأدب، والحق أن أسرتي بالذات من ناحية الأب والأم شاركت في هذا الجو الأدبي وخصوصاً في الشعر. وكانت مدارس البلدة حتى الابتدائية منها تهتم اهتماماً خاصاً بعقد المباريات الأدبية والشعرية لتلامذتها، وكانت تصدر فيها مجلات ثقافية عديدة، وقد خرج منها أدباء مرموقون من أشهرهم المرحوم علي جواد الطاهر. فإذن كانت أجواء مدينة الحلة تشجع على الاهتمام بالأدب والثقافة ولا شك أن تلك الأجواء قد وجهتني منذ وقت مبكر نحو الاهتمام بالأدب والثقافة. وقد عشقت القراءة منذ انتقلت إلى السنة الرابعة الابتدائية. وعرفت دربي إلى المكتبة العامة في المدينة وأخذت أمضي فيها كل أوقات فراغي. وانصرفت إلى القراءة الجادة لكتب الأدب المؤلفة والمترجمة منذ ذلك الوقت. وقد تهيأ لي في تلك الفترة الاطلاع على أمهات الكتب العربية والأجنبية. ولا أدّعي أنني كنت أستوعب قيمة تلك الكتب كما يستوعبها القارئ الناضج لكنني انتفعت منها انتفاعاً كبيراً ووسعت من مداركي وزادت من شغفي الأدبي. وعندما انتقلت إلى الدراسة المتوسطة كنت مهيأ للاندماج في الجو السياسي الذي كان يسود (الحلة) يومذاك. وينبغي لي أن أحدد تلك المرحلة الزمنية لأنها مرتبطة ارتباطاً قوياً بالجو السياسي العالمي يومذاك. فقد انتقلت إلى مرحلة الدراسة المتوسطة في مقتبل عام 1943. وكان هذا التاريخ يمثل بداية انكسار الزهو النازي وتراجع الجيوش الألمانية أمام المقاومة السوفييتية. وكانت السنوات السابقة (منذ أوائل الحرب حتى نهاية عام 1942 تمثل قمة انتصار وزهو النازية مما مكّن الدعاية النازية أن تستأثر بالنفوس في عموم البلاد العربية، (لاسيما أن بلداننا العربية كانت تخضع لنير الاستعمار الإنكليزي والفرنسي وتتمنى زواله) فأفلحت المقاومة البطولية للشعب السوفييتي في تغيير الصورة المضللة للنازية وفتحت عيون شعوبنا على حقائق جديدة. وأخذت الأفكار اليسارية تجد لها مرتعاً خصباً بين الطبقات المثقفة في عموم الدول العربية وربما هيمنت على أجواء العراق الثقافية والسياسية أكثر من أي بلد عربي آخر. وكنت مستعداً نفسياً للانحياز إلى تلك الأفكار بطبيعة توجهي للآراء التي تنتصر للإنسان المسحوق. وقد قوى هذا الميل في نفسي الجو الذي كان سائداً في بيتنا والمؤيد للأفكار الحرة ونبذ التعصب. فلم يكن غريباً إذن أن تجد الأفكار اليسارية مرتعاً خصباً في نفسي. وهنا يأتي أيضاً دور المدرسة في ذلك. ففي العام الذي انتقلت فيه إلى المدرسة المتوسطة انضم إلى الهيئة التدريسية في مدرستي مدرس للاجتماعيات كان عضواً بارزاً في أحد الأحزاب اليسارية. وكان ذا شخصية ساحرة، وقد استطاع بدماثته ولطفه وقوة حجته أن يؤثر في نفوس تلامذته تأثيراً بالغاً وأن يجتذبهم إلى أفكاره. ولم يكن هذا الأستاذ بدعاً بين مثقفي المدينة بل كان رافداً من روافد كثيرة للأفكار المتحررة التي هيمنت على المدينة. وكانت الأفكار اليسارية تمثل في أذهان الناس الاتجاه الموالي للشعب والوطن والمعادي للسلطة الرجعية المتهمة بموالاتها للإنكليز والاستعمار. وهكذا كانت (الحلة) منذ أواسط الأربعينات من بين مدن العراق المتميزة باتجاهها اليساري المتحرر. ولعلك تتساءل الآن: أين كان موقعي من ذلك النشاط السياسي الغوّار؟ فأقول لك بأنني كنت بلا شك مندمجاً فيه اندماجاً كبيراً، فلم أكن أفوّت الفرصة للإسهام في المظاهرات الوطنية التي كانت تنطلق بين الحين والحين ضد السلطة. وأحب أن أروي لك بهذه المناسبة حادثة تدلل على مدى تعسف سلطات الأمن يومذاك، فكما هو معروف أثارت معاهدة بيغن - صالح جبر لعام 1948 مظاهرات عارمة في البلاد. وكنت قد سافرت إلى مصر للدراسة في جامعة القاهرة قبل تلك المناسبة بفترة قصيرة فلم أشهد المظاهرات. ومع ذلك اعتقل شرطة الأمن أخي الكبير، الذي لم يكن له أي نشاط سياسي، مطالبين بتسليمي بزعم أنني كنت أخطب على رأس المظاهرة التي انطلقت في المدينة.
وكنت أسهم كذلك إسهاماً فعالاً في الأنشطة الثقافية الوطنية التي تتمثل في كتابة المقالات التي تعالج قضايا الشعب والوطن، لكن مساهماتي ذات الطابع السياسي البحت كانت ضعيفة، وبمعنى أدق أنني لم أجد في نفسي ميلاً للانضمام إلى أي من الأحزاب الحرة ولعل سبب ذلك أنني كنت أنفر من الوقوع تحت السيطرة الحزبية التي تلغي تفكيري التراثي. وربما كان هناك سبب آخر وهو انصرافي كلياً إلى الثقاقة قراءة وكتابة مما كان يستأثر بكل وقتي ولا يترك فراغاً لمشاغل السياسة. فقد كنت في تلك المرحلة من حياتي (وخصوصاً مرحلة الدراسة الثانوية) غزير الكتابة. وكان اسمي يتردد دائماً على صفحات الصحف والمجلات العراقية والعربية المعروفة كالأديب وشهرزاد والطريق والرسالة.. إلخ، وبالتالي فلم أكد أجد وقتاً للسياسة، لاسيما وأنني كنت تلميذاً مجداً أيضاً وكنت من بين الطلبة الأوائل دائماً. ▪ في أغلب كتاباتك ثقل اجتماعي وهم إنساني مرفود بوعي سياسي رافض بجدة ووضوح لإهدار كرامة الإنسان.. لو تحدثنا في إطار المقولة الشائعة عن علاقة الثقاقي بالسياسي والسياسي بالثقافي.. ما موقعك كأديب ملتزم؟ ▫ أنا من المؤمنين بأن الأدب ينبغي أن يكون في خدمة الإنسان. وقد تبنيت هذا الرأي منذ حداثة سني، أي منذ بدأت الكتابة، وظللت مخلصاً لهذا الرأي حتى اليوم، ومعنى ذلك أنني لا أعدّ الأدب ضرباً من ضروب التسلية. وفي اعتقادي أن على عاتق الأدب مهمة أساسية هي الانتصاف للإنسان المسحوق. وبما أن بلداننا ترزح دائماً تحت الأنظمة الديكتاتورية فقد كانت الديمقراطية هاجساً من هواجسي الدائمة. وقد سخّرت قلمي دائماً ضد الاستبداد والدكتاتورية وللدفاع عن كرامة الإنسان. ولكن هل كنت -بهذا المعنى- سياسياً؟ الواقع أنني لم أنتم إلى أي حزب من الأحزاب كما ذكرت مع أن هواي كان مع البعض منها، وكان ثمة تطابق بين آرائي وآرائها. فقد كنت أدرك أن انتسابي إلى أحد تلك الأحزاب يعني بالضرورة الالتزام بطروحاتها وربما اضطررت إلى أن أجعل قلمي بوقاً لها، لكنني كنت أقف مع تلك الأحزاب مؤيداً لها في مواقفها السياسية طالما كنت مؤمناً بصحة تلك المواقف وإن عرّضني ذلك إلى الأذى أحياناً. وهكذا استطعت طوال حياتي أن أحافظ على التوازن بين ما هو سياسي وما هو ثقافي. فكوني أديباً يعتز بانتسابه إلى عالم الأدب لا يعني عدم مساهمتي في صنع النظام الأمثل الذي أرتضيه لأبناء وطني خصوصاً وأبناء الإنسانية عموماً بواسطة قلمي، بل إنني اعتبرت ذلك واجباً من أخص واجباتي كأديب. والحقيقة أنني تعرضت لهذه المسألة في أكثر من عمل أدبي ولاسيما مسرحيات (المخذولون) و(الدكتاتور) و(القضية). فإذن أنا لست من المؤمنين بأن الأديب ينبغي أن يظل بمعزل عن السياسة، ولكنني في الوقت نفسه ضد أن يكون الأديب بوقاً سياسياً لاتجاه سياسي معين أو لحزب معين. فالأديب قبل كل شيء فنان ثم مفكر. وعليه أن يتذكر ذلك دائماً، فترويج فكرة معينة أو اتجاه سياسي معين هي من مسؤولية الكتّاب السياسيين أو المفكرين أو الباحثين في حقول أخرى. وبالرغم من أنني حاولت جهد استطاعتي أن ألتزم بهذه الفكرة فإن بعض دارسي أدبي يقولون عنه بأنه أدب مسيس، ولا أدري ما المقصود بهذا القول. فهل يعني التزام الأديب جانب الإنسان المسحوق والدفاع عنه ومهاجمة من يحاول سحق كرامته وسلب حقوقه الأساسية يعني أن أدبه صار مسيساً؟ أنا أرفض بشدة مثل هذا الطرح. ▪ تنوع الأساليب كان سمة من سمات تجربتك الإبداعية.. كيف تفسر ذلك؟! ▫ أعتقد أنني كنت مؤمناً بضرورة التجديد الدائم في أساليب الكتابة الإبداعية القصصية والروائية والمسرحية منذ بدء خوضي ميدان الكتابة القصصية.. فإذا ما تصفحت أول مجموعة قصصية لي وهي مجموعة (صراع) التي صدرت عام 1948 ستجد هذه السمة واضحة في قصصها بالرغم من أنني كنت واقعاً يومذاك تحت سلطان المدرسة الواقعية. فكل قصة من قصصها العشر مكتوبة بأسلوب يغاير الآخر. وهكذا ابتعدت منذ البداية عن أسلوب القص المجرد. وكنت مؤمناً بأن القص يجب أن يكون فناً لا مجرد رواية أحداث. ويمكنك أن تطلق نفس الحكم على مجموعتي الثانية المعنونة (عهد جديد) التي صدرت عام 1951 ومجموعتي الثالثة المعنونة (حياة قاسية) التي كتبت عام 1954. غير أن تنوع الأساليب برز بصورة أقوى وأوضح في الروايات القصيرة السبع التي كتبتها لاحقاً، فلا تكاد تجد رواية منها كتبت بنفس أسلوب الرواية السابقة، فكل أسلوب منها يغاير أسلوب الأخرى، ويمكنني أن أقول نفس الشيء عن مسرحياتي الطويلة والقصيرة.
وهكذا ترى يا أخ نوري أنني كنت من المؤمنين منذ البداية بضرورة تجدد الأساليب الإبداعية وتطورها وأن الجمود يتناقض مع الإبداع. والحقيقة أن عنصر التجديد في الكتابة الإبداعية كان ملازماً لها منذ أزمان سحيقة، ولولا إيمان الكتاب المبدعين بذلك ما تجمع لدينا هذا الكم الهائل من الإضافات في الشعر والقصة والرواية على مر العصور. بل إن كلمة (الإبداع) تنطوي بحد ذاتها على معنى (التجديد). غير أن هناك نقطة لابد من إيضاحها بهذا الخصوص وهي أن بعض الكتاب يفهمون (التجديد) بأنه ينطوي على كتابة شيء بأسلوب لم يكتب من قبل وخارج عن المألوف وأن يكون عصياً على إدراك القارئ ومحيراً ومدهشاً له. ولذلك فكثيراً ما تنطوي أمثال هذه الكتابات على إبهام شديد، وأكاد أجزم أن بعض أمثال هذه الكتابات لا يفهمها حتى الكاتب نفسه. وهو يفخر أحياناً بأنه غير مطالب بتقديم تفسير لنصوصه الإبداعية! وأن هذه هي سر عظمة الكتابة الإبداعية. وأنا أرفض هذا النوع من الأدب ولم أجد نفسي منساقاً إلى تجربته بل ولا أستطيع الاستمرار في قراءته. أنا أفهم أن ينطوي الأدب على شيء من الغموض المحبب بحيث يحمل القارئ على التفكير والتأمل فيه، ولكن أن يبلغ هذا الغموض حد الإبهام فهذا أمر لا أستطيع استساغته. فبعد كل شيء لا يكتب الكاتب لنفسه بل لجمهرة من القراء ومن واجبه أن يكون مفهوماً لديهم. وأود أن أقول أخيراً أن التنوع في أساليب رواياتي ليس مقصوداً لذاته ولا مقحماً على العمل الإبداعي وإلا كان تصنعاً ممجوجاً بل ينبثق من صميم العمل نفسه ومن روحه، وهو جزء لا ينفصم منه. منذ البداية أردت لأدبي أن يكون مع الحرية والعدل وخدمة الإنسان حوار مفتوح مع الأستاذ الأديب الدكتور شاكر خصباك □ حاوره: أ. د. جبار العبيدي
الأديب الدكتور شاكر خصباك لا يلتفت في كتاباته إلى جمال المفردة اللغوية لذاتها وإنما يريدها كائناً متحركاً قادراً على سبر أغوار تلافيف المجتمع، ويجترحها عنوة لتشكل موقفاً موضوعياً واقعياً.. فهو يكتب للقارئ العام بثقافته وهمومه ولا ينشد الإيغال في الإبهام والغموض لأنهما عنصران طاردان للقارئ ومعطلان بالتالي انتشار الأدب بأنواعه.. ولكنه في الوقت نفسه يقدم زاداً أدبياً على شكل قصة أو مسرحية أو حوار، يتمتع برؤية خاصة وفن عذب.. إن شاكر خصباك يتواضع بمفرداته لكنه يتجاوز القارئ برؤيته وتصوراته.. ومن هنا تبدأ متعة القارئ لأعمال هذا الأديب.. ولأن الجغرافية علم واسـع -وهي اختصاص الدكتور خصباك- تشتمل على الإنسان والطبيعة والسياسة، وكذلك هو النتاج العلمي للدكتور شاكر خصباك.. يبدأ مع قارئه بتحية محلية ويأخذ به عبر مسارات إنسانية وخرائط جغرافية مناخية واجتماعية وسياسية.. أدبه محلي بمعنى الموضوعات والأفكار والشخوص والحوارات والأسماء والأمثال وبعض المفردات (العامية)، ولكنه إنساني بمعنى الآفاق واللمسات والمعاناة والاغتراف من محيط التجربة الإنسانية الكبيرة.. وشاكر خصباك الأديب يبشر بضرورات حياتية هامة: الحب والعدل والمساواة والحرية واحترام الآخر ونبذ العنف والسلطوية وترجيح العقل على اللاعقل.. وتبدو لهذه العناوين قواعد مشتركة عند عموم الناس... وهذا صحيح ولكنها تكتسب شكلاً ومضموناً آخرين عند الدكتور خصباك.. ولعلك تسمعه معي حينما يقول في كتابه (تساؤلات).. «إذن متى يحلّ اليوم الذي يصبح فيه للعقل السلطان الشامل على البشر فينقذهم مما يتهددهم من دمار؟» و«متى سيتخلى الإنسان عن أنانيته وعنجهيته ويذعن لحكم العقل يا صاحبي؟؟»، لا أحد يدري.. ولكني أدري أني سأتحاور مع الأستاذ الأديب الدكتور شاكر خصباك ولنبدأ سؤالنا الأول. ▪ يقال إن الجانب الأكاديمي قد انتزعك عنوة من جوانبك الإبداعية في السنوات الماضية ولكن بواعث الإبداع في النهاية انتصرت فأصدرت الأعمال الكاملة. ما تعليقكم على ذلك؟ ▫ أستطيع القول إن هذا الكلام صحيح عموماً ولكن ليس مائة في المائة. فلقد حصلت على شهادة الدكتوراة في الجغرافيا في إنجلترا عام 1958م وعينت في أيلول (سبتمبر) مدرساً في جامعة بغداد - قسم الجغرافية وكنت قد بدأت في دراسة الدكتوراه في عام 1954م. فإذا أردنا أن نكون دقيقين فينبغي أن يكون عام 1954م هو عام القطيعة بيني وبين الأدب. ولابد لي أن أذكرك أنني اقتحمت عالم الأدب منذ عام 1945م كما تثبت إحدى المقالات التي تضمنها كتابي المعنون (كتابات مبكرة) وهو الكتاب رقم (3) لي من سلسلة أعمالي الكاملة. والواقع أن معظم مقالات هذا الكتاب قد نشرت في عام 1946م. وإذا راجعت هذا الكتاب وجدته يتضمن حقولاً متعددة منها الدراسات الأدبية عن كبار كُتاب ذلك العهد أمثال محمود تيمور ومنها النقد الأدبي للكتب القصصية التي صدرت يوم ذاك ومنها الأبحاث الاجتماعية مثل (بحث في السجون) و(مكانة المرأة في بلادنا).. إلخ. وقد كنت يوم ذاك غزير الإنتاج أنشر على نطاق واسع في المجلات المصرية واللبنانية والعراقية على نحو خاص، إضافة إلى كتاباتي القصصية. ومعنى ذلك أنني اقتحمت ميدان الأدب وأنا ما أزال طالباً في المتوسطة (الإعدادية) والثانوية. وقد نلت الشهادة الثانوية في عام 1948م وكنت أحد أعضاء بعثة وزارة المعارف العراقية لدراسة الجغرافية في جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة) الحالية، فدخلت الجامعة المصرية عام 1948م. وأحب أن أذّكرك أن مجموعتي القصصية الأولى وهي (صراع) قد صدرت في عام 1948م في القاهرة أي أنها كتبت في أثناء دراستي الثانوية. أما مجموعتي القصصية الثانية فقد صدرت عام 1951م في أواخر سنوات دراستي الجامعية عن دار لجنة النشر للجامعيين (وهي مكتبة مصر حالياً). أما مجموعتي القصصية الثالثة فقد صدرت عام 1959م ولكنها في الحقيقة كانت قد كتبت فيما بين عام 1951م و1954م وبسبب انشغالي بدراسة الدكتوراه لم تنشر إلا بعد عودتي من إنجلترا وحصولي على الدكتوراه. لقد استطردت في هذا الشرح الطويل لكي أخلص إلى القول بأنني كنت محباً للأدب قبل أن أنغمر في دراستي الجامعية الأولى والعالية. وموضوع دراستي الجغرافية بعيد عن الأدب بالطبع، وقد قبلته مرغماً في بادئ الأمر بسبب انتمائي لبعثة وزارة المعارف العراقية ثم صار مهنتي، لكن حبّ الأدب لم يخبُ في نفسي قطّ. وإذا كان إنتاجي الأدبي منذ عام 1954 أي منذ بدء دراستي للدكتوراه لغاية أواخر الثمانينيات كان ضئيلاً فإن قراءتي للأدب لم تنقطع في يوم من لأيام، وكنت أخصص له ساعات معينة من وقتي. وفي أثناء دراستي في إنجلترا أولعت بالمسرح ولعاً خاصاً ولم أكن أترك فرصة دون مشاهدة المسرح، والمسرح الإنجليزي هو من أغنى المسارح الأوربية وأرقاها. وقد شاهدت عشرات المسرحيات العالمية الهامة على مختلف مسارح لندن مما أكسبني ثقافة مسرحية طيبة، إضافة إلى ولعي بقراءة الأدب المسرحي. وهكذا ترى أن الأدب بشتى أنواعه كان هاجسي. وأحب أن أذكّرك يا دكتور جبّار بأنني أصدرت كتباً أدبية خلال عملي الأكاديمي فيما بين أوائل الستينات وأواسطها تضمنت ثلاثة أعمال مسرحية هي (بيت الزوجية) و(الغرباء) و(الشيء) وروايتين هما (حكايات في بلدتنا) و(السؤال) وكان عنوانها الأول (الحقد الأسود). فأنا في كل الأحوال لم أهجر الأدب، ولكنني أستطيع القول أنني فيما بين أواسط الستينيات وأواسط الثمانيتيات لم أكتب في حقل الإبداع الأدبي. ويعود سبب ذلك بالدرجة الأولى أنني وجدت من واجبي أن أخلص لعملي الأكاديمي وأن أمدّ المكتبة الجغرافية بما أستطيع واعتبرت ذلك واجباً أساسياً من واجبات الأستاذ الأكاديمي. واستطعت بالفعل أن أنتج ما يزيد على عشرين كتاباً علمياً بين تأليف وترجمة. وأعتقد أن البعض منها قد نال رضا المختصين من الأساتذة العرب الجغرافيين. وبعد أن أرسيت مكانتي الأكاديمية نوعما عاد هاجس الأدب يلح عليّ ووجدتني في الوقت الحاضر أقسم وقتي بين الإنتاج العلمي والإنتاج الإبداعي، وقمت بكتابة مسرحيات عديدة طويلة وقصيرة وعدد من الروايات وآمل أن أستمر في هذا النشاط، كما أنني أعدت النظر في إنتاجي القديم وقمت بتنقيحه في الطبعات الأخرى التي صدرت ضمن سلسلة الأعمال الكاملة. ▪ القراءة المتأنية لأعمالك القصصية ترشد القارئ إلى تلمس شيء من الرمزية تارة، وإلى الواقعية تارة أخرى، كيف تبرعم هذا الأسلوب، ولماذا هذا المزج المتفرد بين رمزية مستقبلية وأخرى حاضرة؟ ▫ في البداية أحب أن أقول أنني منذ اقتحمت عالم الأدب كان يشدني الهاجس الاجتماعي. وبعبارة أوضح فإنني منذ البداية وضعت نصب عيني أن يكون أدبي وفني في خدمة الإنسان. وهذا يفرض عليّ أن أعالج مشاكل أبناء بلدي. فالإنسان هو الإنسان في كل مكان والتعاطف مع أبناء بلدك معناه التعاطف مع أبناء البشرية في كل مكان. والواقع أن الأدب المحلي الصادق هو في نفس الوقت أدب عالمي. وهذا ما أثبته أدب نجيب محفوظ. فمن المعروف أن روايات نجيب محفوظ ذات نكهة محلية حادة، وحتى هو نفسه لم يكن يتصور أنها يمكن أن تلقى اهتماماً عالمياً. وأتذكر أنني سألته يوماً في أوائل الخمسينيات: لماذا لا تترجم رواياتك إلى اللغات الأجنبية يا أستاذ نجيب؟ فأجابني: لا أعتقد أنها تهم القارئ الغربي يا شاكر لأنها ذات نكهة محلية قوية. وقد أثبتت الأيام خطأه فها هي رواياته المبكرة مثل (القاهرة الجديدة) و(زقاق المدق) و(بداية ونهاية) تترجم إلى كثير من اللغات العالمية وتلقى إقبالاً واسعاً. فأنا إذن كنت ولا أزال أعتقد أن أدبي ينبغي أن يكون في خدمة إنسان بلدي والإنسان في كل مكان. ولذلك لابد أن أكتب بأسلوب يستطيع القارئ المتوسط على الأقل أن يفهمه. لذلك نأيت بنفسي منذ البداية عن الغموض والإبهام. ومن المؤسف أن بعض الكُتاب والشعراء يحاولون أن يوحوا إلى قرائهم بأن ما في أدبهم من إبهام هو دليل أكيد على حذقهم وبراعتهم. وكلما أوغلوا في الإبهام كان ذلك مدعاة لتثمين براعتهم وارتفاع كعبهم في فنون الأدب.
فأنا إذن ضد هذا التفكير على طول الخط، لكنني في نفس الوقت لابد أن أؤكد لك بأن فنون الأدب على اختلافها تتميز عن صور الحياة العادية المألوفة. فهناك دائماً رؤية الفنان الخاصة للحياة وأسلوبه الخاص في التعبير عنها، والذي يرفع إبداعه فوق مستوى التعبير الاعتيادي للناس العاديين. وإذن فالرمز الجميل والعبارات المنتقاة والصور والأخيلة الجميلة المبتكرة، كل ذلك هي من سمات الأعمال الإبداعية. ولذلك فإن أي عمل من أعمالي لابد أن يعكس هذه النكهة المتميزة. ولكنني أحب أن أقول لك إنني لم أحاول يوماً التشبه بفلان أو علان من الكُتاب في كتاباتي القصصية أو الروائية أو المسرحية. فموضوع القصة القصيرة أو المسرحية القصيرة أو الطويلة أو الرواية هو الذي يفرض عليّ (تقنيته) الخاصة. فإذا كان هناك من رمز أو طريقة غير مألوفة أو اتجاه خاص في كتاباتي فإن مرده إلى الموضوع الذي أتناوله. وأنا شخصياً لا أؤمن بالشروط المسبقة للكتابة الروائية أو المسرحية. فنحن نعجب بكتابات أدبية قصصية كانت أو شعرية يعود عمرها إلى مئات بل ألوف السنين رغم تغيّر المفاهيم والأساليب فيها. وأكبر مثل لذلك الأدب اليوناني القديم المسرحي والروائي والشعري، وكذلك شعرنا الجاهلي القديم. فالأدب القوي المتين المنبثق من موهبة عالية يفرض نفسه على القارئ مهما يكن الأسلوب الذي كُتب به. ولذلك فأنا أرفض ما يسمى بشعر الخمسينيات والستينيات والسبعينيات.. إلخ. ولا أدري إذا كان هذا التصنيف قد انسحب أيضاً على الكتابات القصصية العربية. أكتب كيفما تكتب ما دمت على ثقافة واسعة في الميدان الذي تكتب فيه وما دمت موهوباً وما دمت صادقاً في كتابتك. ▪ أعمالك بشكل عام تقول للقارئ إن التغيير لن يحدث بسبب سياسيين أو مثقفين داخل المجتمع. إنما الذي يدفع للتغيير هو عندما يمارس كل فرد حالة الانتماء إلى ذاته ليعي حقيقة وجوده. وعند ذاك يحدث التغيير الفعلي والتفاعل بين السياسي والثقافي والمفكّر. ▫ أنا أؤمن بالفرد.. أؤمن بالإنسان. وهذا قد أكدته في بداية جوابي عن أسئلتك، فماذا تتوقع إذن من كاتب يتبنى هذا الاتجاه؟! وسأبوح لك بسر ربما سأفشيه لأول مرة وهو أنني على امتداد حياتي الفكرية التي بدأت منذ يفاعتي لم أستطع أن أنتمي إلى حزب معين. صحيح أنني تبنيت اتجاهاً فكرياً معيناً، وهو الاتجاه الذي يضمن للإنسان إنسانيته. وبعبارة أوضح فإنني معادٍ للأنظمة الدكتاتورية بكل أشكالها، كما أنني معادٍ للأنظمة التي تسمح للفرد أن يجمع ثروات طائلة وآخر لا يكاد يستطيع توفير حياة كريمة له ولأسرته.. نعم أنا معادٍ لأمثال تلك الأنظمة مهما يكن نوعها. ومع أن الساحة العراقية أو العربية قد شهدت انبثاق أحزاب تُدين بالأفكار التي أُدين بها، لكنني لم أستطع الانضمام إليها، لا لكوني ضد الأحزاب، فهي في الواقع سمة الأنظمة الديمقراطية، ولكن لأنني لمست بأن الأحزاب في عالمنا العربي على نحو الخصوص تقع في النهاية تحت هيمنة طبقة متميزة ضمن الحزب، وربما تحت هيمنة فرد واحد، وتفرض آراءها على المجموع بصورة أو بأخرى. وربما يصبح المحرّك لقراراتها ليست المصلحة العامة للشعب بل المصلحة الفردية. أنا لا أقول أن رأيي هذا قطعي وثابت ودائم ولكنه على أية حال وراء عدم انتمائي إلى حزب معين، مع أنني حسبت في عهود عديدة على أحزاب معينة بسبب أفكاري. ولعل عدم رغبتي في تبوؤ مركز سلطوي هو الذي زهّدني أيضاً في الانتماء إلى الأحزاب. وبطبيعة الحال لابد أن ينعكس موقفي هذا على أدبي. ويسرني جداً أنك قد نوهت إلى هذه الظاهرة في أدبي، ولعلك أول من أشار إليها. وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على تمعنك في قراءة أدبي ومحاولة الغوص فيه فشكراً لك.
شاكر خصباك: المناخ الثقافي والحرية في اليمن ساعداني في الكتابة الأدبية والإبداعية(*) □ متابعة/ محمد القعود - جميل مفرح أكد الشاعر والأديب الكبير (عبد العزيز المقالح)، رئيس مركز الدراسات والبحوث اليمني، أن الكاتب المسرحي والروائي الأديب الدكتور (شاكر خصباك)، بتجربته الإبداعية الأدبية وإنتاجه الثقافي المتميّز، يُعدُّ واحداً من الرُّوَّاد المتميزين والمثابرين القلائل على مستوى الوطن العربي، مُشيراً إلى أنَّ الاحتفاء به وبإنتاجه احتفاءٌ بالأدب والثقافة العربيين، تقديراً لما أسهم ويُسهم به في رفد الثقافة العربية من إنتاج كبير ومتنوعٍ في أشكالٍ وفنونٍ مختلفة من أشكال الكتابة والبحث العلمي والأدبي والفكري. جاء ذلك في افتتاح الاحتفاء التكريمي الذي نظمه أمس مركز الدراسات والبحوث اليمني والملتقى الثقافي العربي بمناسبة صُدور الأعمال الإبداعية الكاملة للروائي والمسرحي الرائد (شاكر خصباك)، والذي شارك فيه مجموعة من الأدباء والنقاد والباحثين بشهادات وأوراق عملٍ تناولت جوانب مختلفة من التجربة الإبداعية والأدبية للمحتفى به، والتي تنعكس في إنتاج ثري يصل المطبوع منه إلى أربعين إصداراً حتى الآن بين أعمال روائية وقصصية ومسرحية وبين بُحوثٍ ودراسات نقديةٍ وفكريةٍ وجُغرافيةٍ أثرى بها المكتبة العربية على امتداد أكثر من خمسين عاماً في الحياة الثقافية والبحثية والفكرية. واستعرض الدكتور (المقالح) ملامح تجربة المحتفى به، مُتوقفاً عند بعض المحطات والإشارات التي تتميَّز بها تجربته، واصفاً -على سبيل المثال- الفنّ الروائي لدى الدكتور (خصباك) بأنه ليس لغة جميلة ولا حكاية مُسلية أو ارتجالاً في عوالم غامضة مُبهمة، كما هُو شائعٌ في كثير من التجارب المعاصرة، وإنما هو تدوين فنيٌّ رفيعٌ لوقائع إنسانية، وأنَّ شُخوص رواياته جميعاً تكون هي ذاتها من لحم ودم، وإطارها مكان له ماضيه ويتسع لاحتضان آفاق الحاضر، بل وتطمح هذه الشُّخوص إلى أن يكون لها وجودٌ في المستقبل. من جانبه أبى الشاعر العربي الكبير (سُليمان العيسى) أن يغيب أو ينأى عن فعالية احتفائية بهذا العلم الإبداعي المتميّز، على الرغم من إقامته الحالية في دمشق، فحضر الاحتفائية عبر رسالة خطّية قرأها الدكتور (المقالح)، وكان مما جاء فيها: «سيلٌ من الذكريات ينهمر على ريشتي وأنا أخطّ هذه الكلمة العجلى في تكريم جاري وصديقي العزيز الدكتور (شـاكر خصـباك)، هذا الذي تحار ماذا تسـميه؟ عالم الجغرافيا الكبير -والجغرافيا أمُّ العُلوم، كما يصفها البعض- أم كاتب القصة والرواية المتميز، الذي يأسرك ببساطته وغنى أفكاره.. أم المتحدث البارع الذي يفاجئك بآرائه الحرة، وأفكاره التي يعارض فيها الكثير من السائد والمألوف؟». وسرد الشاعر الكبير (سُليمان العيسى)، خلال رسالته، مجموعة من الذكريات التي تجمعه بالكاتب المحتفى به. الاحتفائية -كما أشرنا سلفاً- شارك فيها وأثراها مجموعةٌ من الأدباء والكتَّاب والباحثين والأكاديميين بأوراق عملٍ وشهاداتٍ ودراساتٍ حول المحتفى به وتجربته الإبداعية وعطائه الثقافي والأكاديمي والبحثي، وكان ممن ساهموا في هذه الاحتفائية: الأستاذ الدكتور (أحمد محمد شُجاع الدين)، رئيس جامعة إب، رئيس المجلس التنفيذي للجمعية الجغرافية اليمنية، الدكتور (عبد الله حسين البار) رئيس اتحاد الأدباء والكتَّاب اليمنيين، الأستاذ الدكتور (محمد يُسر)، عميد كُلِّية الآداب، الدكتور (حاتم الصكر)، الدكتور (علي حداد)، (عبد الباري طاهر)، (محمد الغربي عمران) والدكتور (عبده علي الجسماني) والدكتور (إبراهيم الجرادي) وغيرهم من الأدباء والباحثين والأكاديميين. وفيما يلي نستعرض مجموعة مما تضمَّنته الاحتفائية من مُساهمات نقدية وأوراق عمل وكلمات احتفائية، ابتداءً من ورقة عمل الأستاذ الدكتور (عبد العزيز المقالح)، رئيس مركز الدراسات والبحوث، التي جاءت بعنوان (شاكر خصباك روائياً): روائي متمرس: في ورقة (شاكر خصباك روائياً) تناول الدكتور عبد العزيز المقالح رئيس مركز الدراسات والبحوث اليمني التجربة الروائية للدكتور شاكر خصباك.. بدأها بقوله: «ورقتي التكريمية التي أعددتها لهذه المناسبة هي بعنوان (شاكر خصباك روائياً)، ولكن وقبل قراءة الخطوط العريضة لهذه الورقة، أود أن أقول: إنه لشرفٌ عظيمٌ لجامعة صنعاء، وشرفٌ لنا جميعاً في هذه البلاد أن يكون الدكتور شاكر خصباك الأستاذ والروائي والقاص والكاتب المسرحي والمفكر، قد اختار صنعاء مقراً لإقامتهِ من بين سائر العواصم العربية التي ترحبُ به وبعلمهِ وإبداعاته وبشخصه، وهو المثقف العربي الوطني المعروف بمواقفه التي لا تعرف المهادنةَ، ولا تقبلُ بالأمر الواقع تحت أي ظرف كان، ومن قِبَلِ أية جهة كانت. هكذا نشأ، وهكذا تكوّنت أفكاره ومبادئه ومواقفه». وتوقف الدكتور المقالح عند عدة نقاط رئيسية في ورقته.. عرضها كالتالي: أولاً: تشير هذه الورقة إلى أن الدكتور شاكر روائي ورائد متمرس في مجال الكتابات الأدبية، إذ أن أعماله الإبداعية تربو على ثلاثين عملاً بين روايةٍ ومسرحية ومجاميع قصصية قصيرة، وحظ الرواية منها في حدود متابعتي وقراءتي لا تقل عن أربع عشرة رواية. ثانياً: الفن الروائي بالنسبة للدكتور شاكر ليس لغةً جميلةً، ولا حكايةً مسلية أو ارتحالاً في عوالم غامضة مبهمة، وإنما هي تدوين فني رفيع لوقائع إنسانية، وتكادُ شخوصُ رواياتهِ جميعاً تكون من لحمٍ ودم، وإطارها مكانٌ له ماضٍ، ويتسع لأحضان آفاق الحاضر، وتطمح في أن يكون لها وجود في المستقبل.
ثالثاً: إن الدكتور شاكر لا يسعى في أعماله الروائية إلى إغراء القارئ بالاقتراب من محذور الجنس، كما فعل ويفعل العشرات ممن يكتبون الرواية، وإذا حدثَ ولامستْ رواياتُه هذا الجانب، فإنها ملامسةٌ فنية خفيفة لا تخرج عن حدود المقبول والمعقول. رابعاً: يتميز الدكتور شاكر عن كثيرٍ من الروائيين المعاصرين بتكثيف النص الروائي، والابتعاد به عن مناطق الثرثرة، وهو يعجبُ كيف يجدُ بعضُ الروائيين والشبانُ منهم بخاصة هذا الكم من الكلام يملأون به مئات الصفحات؛ دون أن يضيف شيئاً إلى القارئ أو إلى موضوع الرواية. خامساً: يبدو جلياً لمن أُتيح له أن يتابعَ المجاميعَ القصصيةَ الأولى للدكتور شاكر أن يدرك أن هاجساً روائياً يكمن في تلك الأعمال القصصية، لكن ظروفه وما واجهه في حياته العملية والعلمية من تعقيدات ومضايقات، جعلته يكتفي في بداية حياته الأدبية بكتابة القصة القصيرة سريعة الأثر ومحدودة وقت الكتابة. إلا أنه ما كاد يستقر به الحال حتى انفتح أمامَه عالمُ الكتابةِ الروائية وكانت البداية مع رواية (حكايات من بلدتنا)، وأحدثها ظهور رواية (الأصدقاء الثلاثة)، التي تُعدّ من حيث الموضوع والتقنية، خلاصةَ تجربةٍ عميقة وطويلة وواحدة من أهم الروايات العربية، وتتناول الواقع المأساوي في العراق، وهي كسائر أعماله الروائية تخلو من المباشرة وتميل إلى الرمز. وعلى الرغم من أن روايات الدكتور شاكر كبقية أعماله الإبداعية تنطلق من الواقع ومن التجارب المعاشة، فإن وعيه الروائي يحررها من المباشرة، وهذا ما يجعله يقدم الواقع على شكل مدهش. سادساً: يلاحظ الدارس كما القارئ أن الأفكار في روايات الدكتور شاكر تتحرك كما تتحرك الشخوص نفسها، وكل رواية تنطوي على قيم فكرية تصل إلى أقصى مداها، كما في أحدث أعماله الروائية، وأعني بها (الأصدقاء الثلاثة) الذين يموتون جميعاً دفاعاً عن أفكارهم، فالفكرة عند الدكتور شاكر كالشخصية المحورية تماماً تناضل وتقاوم الظلم والفساد واللامبالاة. سابعاً: الدكتور شاكر واحد من الشهود الصادقين على عالمنا المعاصر، وكتاباته بعامة والروائية منها بخاصة، تعبر عن نزعة إنسانية واقعية، ولا مكان للتفاؤل الساذج في رؤيته ولا للشعور الطاغي باليأس. إبداع خصباك المسرحي: الدكتور عبد الله حسين البار رئيس اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين نائب عميد كلية الآداب بجامعة صنعاء، قدم ورقة عن (الأدب المسرحي في إبداع الدكتور شاكر خصباك، تناول فيها المسرحيات التي كتبها خصباك وسماته الفنية في كتاباته المسرحية، وانعكاسات اهتماماته الثقافية الأخرى على أدبه المسرحي مشيراً إلى إبداعاته المتنوعة قائلاً: «هذا التنوّع في مجال الإبداع الأدبيّ في إنتاج الرجل يدلّ على ثراء ثقافيّ متنوّعٍ، ويدلّ على موهبةٍ خصبةٍ قادرةٍ على سبر أغوار الحياة وتفهّم أبعادها ثمّ التعبير عنها كما استكنّت صورتها في الوجدان، ويدلّ على رغبة المبدع في تجريب قدراته على الكتابة دون حشرها وحشدها في مجال إبداعي واحد. وتلك هي صورة المبدعين في عصور التّنوير، فكان طه حسين باحثاً وناقداً وكاتب روايةٍ وشيئاً آخر غير هذا وذاك. ومثله كان العقّاد والمازنيّ وحتّى الحكيم حين تُذكر رواياتُه مثل عودة الرّوح ويوميّات نائب في الأرياف وسواهما من الأعمال. وما هؤلاء إلا أمثلةٌ شوارد نستشهد بذكرها هنا لأن المقام يضيق عن الإحاطة بالجميع». ويضيف الدكتور البار: «ولقد كتب الدكتور خصباك في أدب المسرح جملةً من الأعمال، منها ما هو مسرحيّة طويلة مثل (الدكتاتور وبيت الزوجية والشيء والقضيّة). ومنها ما هو مسرحيّة قصيرة من ذوات الفصل الواحد المتعدد المشاهد، ومن أمثالها (التركة والجدار والغرباء واللص والعنكبوت والغائب)... إلى آخر ما هنالك من ذلك. وإنّ قارئ هذه المسرحيّات بعضها أو كلّها لا يخطئه ما فيها من نزوعٍ إلى ما أسماه الحكيم بالمسرح الذّهنيّ أو الفكريّ، وهو مسرحٌ يميل إلى عرض الأفكار على المسرح يتجادل بها شخوص المسرحيّة ممّا يقلّل من حدّة الصّراع، فيخفت فيها عنصر الفرجة الذي هو أساس العمل التمثيليّ. وتلك دعوى تنقضها الأعمال الإبداعيّة ذاتها، إن في مسرح الحكيم نفسه وإن في مسرح من ساروا على الدّرب الذي سار عليه من قبلهم. وأعني بهذا القول أنّ في هذا المسرح الفكريّ عناصر الفرجة ظاهرة، ولم تخلّ منه وإن جرى الزّعم بسواه، وسأضرب لك مثلاً شروداً من أدب الدكتور خصباك يؤكّد لك ما أدّعيه. في مسرحيّته (أين الحقيقة؟) يستخدم ما يمكن تسميته بطريقة المسرح الشّعبيّ، حيث يسقط الحائط الرّابع الذي ينشئ الوهم عند المشاهدين بأنّ ما يجري على خشبة المسرح حوادث واقعيّة لا مجرد تمثيلٍ يتفرّجون على وقائعه، ويتلمّسون من مشاهدة عرضه غاياتٍ ومقاصدَ شتّى. وتلك هي صيغة المسرح كما عرفه العالم الغربيّ حتى كسر نسقه المبدع الألمانيّ بريخت حين قدّم صيغةً جديدة مغايرة أسماها بالمسرح الملحميّ». وبعد أن توقف الدكتور البار أمام عدة سمات فنية في مسرح خصباك، اختتم مداخلته قائلاً: «النّاظر في أدب المسرح عند الدكتور خصباك يكتشف تعالي مسرحه عن فنّ (الأوتشرك) الذي عرفه مسرح تشيخوف، ويقصد به أن تتخذ المسرحيّة صيغة (الريبورتاج) وسيلةً لها. فالشّخصيّات والأحداث لا تتطوّر وفق المنظور الأرسطيّ: بداية وأزمةٌ تتعقد بها الأحداث والشخوص ثمّ يكون الانفراج ويتجلّى الحلّ. وإنما هو يصنع أحداث مسرحيّته وشخوصها وفق ما يتجلّى أمامه من شخصيّاتٍ لكلِّ منها قصتها، ومشكلتها فيختار منها -على ما بها من خصوصيّة- ما رام، ثم يتعالى بها لتغدو همّاً عاماً ينشغل به الآخرون، ولعلّ في مسرحيّته (الدكتاتور) ما يدلّ على ذلك ويشير إليه. وفي هذه المسرحيّة يتّكئ الدكتور خصباك على بعض ما عرف في فنّ المسرحيّة عند اليونان من حيث استخدام (الجوقة) وجعلها بطلاً من أبطال المسرحيّة، فهي فاعلةٌ فيها، ومسهمةٌ في تحريك الحدث وتنويع نغماته. لكنّه يتجاوز ذلك فيلجأ إلى إحداث تداخلٍ بين حاضر الزمان وماضيه، فتتعدّد صوره لكنّ جوهرها واحدٌ من حيث دلالتها على طبيعة الدكتاتور في كلّ الأزمنة. ولعلّ إخراج نصٍّ مسرحيٍّ مثل هذا لا يتأتى إلا حين يعمد مخرجه إلى استخدام أسلوب المسرح الملحميّ الذي تتداخل فيه الوسائل وتتنوّع. وما كان لهذا الأمر أن يكون كذلك لولا أنّ المبدع قد أدرك أبعاد هذا المسرح ووعى خصائصه فضمّن بعضها في مسرحيّته هذه». التجاهل والعرفان: وفي ورقته الموسومة بـ(شاكر خصباك: التجاهل والعرفان) تناول الناقد الدكتور/ حاتم الصكر تجربة خصباك ومسيرته الإبداعية والعلمية، وأهمية الاحتفاء بمبدع لم ينل حقه من التقدير والتكريم.. حيث قال: «يمثل صدور المؤلفات الإبداعية لشاكر خصباك بثمانية مجلدات (دار نينوى، دمشق، 2007) تنبيهاً من المؤلف وهيئة أصدقاء في غربته إلي أن هذه الصفحات الغزيرة والمتنوعة (رواية، قصة، مسرحية، مقالات، ذكريات) إنما هي اعتراض على ما لقي خصباك من جناية (التجاهل والإهمال) وردّها الدكتور عبد العزيز المقالح المشرف على الإصدار في تقديمه إلى طغيان أو جناية الشهرة العلمية لخصباك كمتخصص متعمق في الجغرافية وذي مؤلفات ومترجمات فيها فضلاً عن عمله في تدريسها منذ عقود. كما فسّر الشاعر إبراهيم الجرادي محرر الإصدار في الاستهلال ذلك الإهمال بالشهرة الجغرافية ومحدودية نشر نتاج خصباك في اليمن التي يقيم فيها منذ منتصف الثمانينيات. وأياً ما تكن الأسباب فإن التجاهل والإهمال النقدي كما يتردد كلما تذكرنا شاكر خصباك أو قرأناه لا يمثل تقصيراً من جانب واحد هم النقاد السرديون في العراق والبلاد العربية، بل لأن تاريخ الكتابة السردية العراقية خاصة لم تنل ما ناله الشعر من القراءة التعاقبية والرصد الفني لموجات التحديث والتنوع الأسلوبي وتطور التقنيات والمعالجات والتحديث والتثاقف، وظلت أغلب الكتابات حول السرد تؤكد ملامح عامة من الجهد الروائي والقصصي الشحيح، قياساً إلى الشعر في فترة النهوض والتجديد. ولعل هذا أبرز أسباب ما عرف بالإهمال والتجاهل لاسيما إزاء كتابات الخمسينيين العراقيين، وهو ما أفصح عنه الكاتب الراحل فؤاد التكرلي على لسان أحد شخصياته الروائية بالقول: إن جيلنا الخمسيني كان مغبوناً لأن لم يعش كما يستحق ولم يحسن التعبير عن نفسه. مرجعاً السبب إلى الجيل نفسه الذي أرى أن اصطفافه كان عشوائياً وبوصاية السياسي ومواقفه، كما أن فرص التعبير عن نفسه لم تكن كافية كما هو حال الشعراء في الفترة الريادية نفسها. ذلك ما يجب التنبيه عليه لا لتبرئة النقد العراقي والعربي من التجاهل والإهمال بل للبحث عن أسباب أخرى لغياب العرفان الذي تأخر عقوداً بصدد شاكر خصباك بالذات. ثم إن خصباك غائب عن محيطه مبكراً: دراسته الجامعية والعليا في مصر وبريطانيا نهاية الأربعينيات حتى نهاية الخمسينيات، أسفاره للعمل خارج العراق في السبعينيات، ثم استقراره في صنعاء منذ قرابة ربع قرن..». وأضاف الدكتور الصكر قائلاً: «لقد ارتبط جهد خصباك الروائي والقصصي بالواقعية التي هيمنت في الخمسينيات كوجه للصدام مع النظام الملكي والانتماء للجماهير الرافضة للملكية المرتبطة بروابط متنوعة بالاستعمار الذي تحرر العراق منه شكلياً بقيام دولته، وافتقاد العدل والمساواة والحرية مما تنبهت إليه الحركات السياسية وعبأت الثقافة لبلورته وتجسيده تزامناً مع التأثرات الواضحة بالمناهج الواقعية التي تؤكد ارتباط الأدب بالشعب والمجتمع، وتمثيل ذلك انعكاسياً ومرآتياً..».
الرؤية ومساحة الانتقال: أما الناقد الدكتور/ علي حداد فكانت ورقته عن (مسرح شاكر خصباك.. الرؤية ومساحة الانشغال)، ومما قاله: يذهب (شاكر خصباك) في مسرحياته -كما هي رواياته وقصصه القصيرة- وجهة تنماز بخصلتين أساسيتين لم يعرف عنها أنها فارقتهما أو سعت إلى غيرهما، الأولى وتتمثل في الرؤية الواقعية الرصينة التي هي عليها، والأخرى كونها تعلن عن انتماء جيلي خالص لما تناءى عنه على مساحة الامتداد الزمني الذي تشغله. فأما كونها ذات وجهة واقعية رصينة فإنها تخبر عن تشبث صاحبها بتلك الرؤية ويقينه الراسخ بقيمها، وهي حالة تتجاوز التمثل الفكري وانهماكاته لتصبح ارتكاناً لا حياد عنه ومحارسة سلوكية يتم استنطاقها في الممارسة الأدبية وبحرص شديد على كامل اشتراطاتها. إن الكتابة عند شاكر خصباك -وبمختلف أجناسها وتنوعها التعبيري- هي تمثل لواقع إنساني تؤثر قيمه وتقول كلمتها فيه وتحاور متلقيها ليشاركها اليقين السلوكي والمعرفي الذي تتبناه. وفي ذلك يؤسس خصباك لفاعلية التواصل مع (الآخر) تلك التي يعدها واحداً من مبررات توجهه الكتابي، حيث يعلن أن «من جملة بواعث انصرافي إلى الكتابة المسرحية هي رغبتي في إيصال أفكاري إلى القراء على نحو مباشر»، منطلقاً من القناعة بأن «الأدب المسرحي يتحمل هذا النوع من الخطاب المباشر الذي يمكن أن يجرى على ألسنة أبطال المسرحية». لقد دلف (شاكر خصباك) -ومن خلال هذه القناعة- إلى جيله الخمسيني في الأدب العراقي، وتلك هي الخصلة الدلالية الأخرى التي وسمت منجزه الأدبي كله، فعبر المذهبية الواقعية التي ترسم محمولاتها الفكرية والتعبيرية أدب ذلك الجيل تشكلت مساحة مهمة ومؤثرة في الواقع الثقافي والإبداعي العراقي مستجيبة لجملة من العوامل والدوافع التي تبناها المشهد السياسي واستوعبها الواقع بمحدداته القيمية الاجتماعية، وصدح بها الفكر باتجاهاته وهي تتلقى ما يعكس وعياً جديداً على مستوى الفكر الإنساني وطروحاته الثورية الضاجة التي وجدت لها استجابات عميقة الغور في بنية المجتمع العراقي الناهض حديثاً. وأضاف قائلاً: لقد جسدت مسرحيات (خصباك) تلك الرؤية، فتلمست طريقها نحو منجز مسرحي واقعي يتمثل القيم الاجتماعية وما تتأسس عليه من أشكال متصارعة، في مواقف يقينية تعد الأدب رصداً لتفاعلات الواقع الاجتماعي والممارسات السائدة فيه على مستوى وعي الذات الفردية بها، وفي أفق حضورها الجمعي المعلن. ومن هنا ذهبت تلك النصوص المسرحية التي قدمها الكاتب لترصد المشكلات الاجتماعية والتفاعلات السلوكية، وهي تواتر حضورها في تكيف إنساني يكررها على رغم المسيرة المتصاعدة للبشرية في دعائم وجودها المعرفي والمتحقق العلمي لها. وهي قناعة ذات ترسخ بعيد في رؤية (شاكر خصباك). تكريم لجهد دؤوب: من جانبه تحدث الشاعر/ الدكتور إبراهيم الجرادي أستاذ الأدب الحديث بجامعة صنعاء عن المحتفى به وما قدمه للمكتبة العربية من مؤلفات إبداعية وعلمية وما يتميز به إبداعه.. وقال: إن احتفالنا بالدكتور شاكر خصباك ليس منَّةً ولا هِبةً وليس توصيفاً فائضاً وليس زياً ثقافياً طارئاً وعارضاً نتباهى به هنا وهناك، بل تكريم لجهد إنساني دؤوب وصبور ومعطاء، امتد على أكثر من خمسين عاماً محتشداً بالمعاجم والأقلام والمراجع والسهر والأرق والكتابة، وإعداد الأجيال التي تقدر العلم وتشقى به ومن أجله، لقد زادت أعمال الدكتور خصباك على الستين، منها أكثر من 30 عملاً في وسائل التعبير المختلفة: الرواية والقصة والمسرحية جسدها جميعاً للدفاع عن كرامة الإنسان العربي وقيمه المهدورة على أعتاب الاستبداد والعسف والظلم والطغيان، مثلما جسّدها شكلاً إبداعياً ضد الحيادية واللامبالاة وفقدان حس المواطنة، وحس المواجهة والاستسلام للمصير الظالم، كما فاقت أعماله العلمية على الثلاثين أيضاً. أيها المبدع الرائد والعالم الجغرافي الجليل.. يا وريث الأصالة والخلق والعدل ومواجهة السواد.. وردة لك.. وأخرى لمن معك!
أديب من زمن العمالقة: وتحدث القاص محمد الغربي عمران في كلمته عن المحتفى به متوقفاً أمام ما قاله العرب عن خصباك.. قائلاً: شاكر خصباك.. عالم جغرافي.. مفكر.. مسرحي.. روائي.. مثقف شامل. فهو.. أديب من زمن العمالقة.. تربو إصداراته عن الخمسين مؤلف.. وزعت بين الترجمة.. والجغرافيا والرواية والمسرح والقصة القصيرة.. وكتابات فلسفية وأدبية بدأ بنشر كتاباته القصصية منذ عام 1945م ثمانية مجلدات. يقول الأستاذ علي جواد الطاهر عن أولى إصداراته القصصية.. بعنوان (صراع) 1948م: «أنت تلمح الروح القصصي جلياً في كل مكان.. وأنك أمام قصاص في كل ما تقرأه.. قصص لها طابعها الفني..». ويقول الأستاذ غائب طعمة فرمان -مجلة الرسالة المصرية العدد (870) بتاريخ 6/2/1950م: «تراه لا يحتفل بالحوادث والمفاجآت.. بل (إنه) يخلق من الحوادث الصغيرة عملاً فنياً.. بإطار من التحليل النفسي.. ويخلق الجو المشوق الذي يدفعك إلى الاعتراف بأن للكاتب موهبة فنية ووعياً في جميع الأمور.. وأغلب أقاصيص شاكر بهذا النوع من التحليل النفسي..». وأضاف الغربي: وفي موقع الزوراء الإلكتروني قرأت تحت عنوان الفصول الأربعة: «القاص والروائي العراقي شاكر خصباك.. أجده يصطف إلى جانب أسماء ذات فاعلية في السرد العربي والعراقي خاصة. بالاحتكام إلى الجانب التاريخي على الأقل.. فهو يحضر ضمن جيل.. عبد الملك نوري.. فؤاد التكرلي.. مهدي عيسى الصقر.. ذا النون أيوب.. جعفر الخليلي.. وسواهم من كتاب القصة والرواية الذين يسجلون عبر إرثهم السردي.. تطور الرؤية والمعالجة الموضوعية.. وتخفيف ثقل الواقع.. كمرجع أساسي في المنظور الروائي التقليدي..
شاكر خصباك يحس بالمأزق الذي تعيشه الواقعية.. والذي وظف الأحداث وأفعال السرد وجعلها هي التي تؤطر.. بل تصنع طبائع الشخصيات وقيمهم السلوكية والنفسية.. وهي التي تجدد وجهات النظر والرؤى ومصائر السرد كله.. وهذا ما ينطبع على أعماله السردية أيضاً.. وهذا ما يسمى بإنعاش الواقع المصور في الرواية». لمحات نفسية: وتطرق الدكتور/ عبده علي الجسماني في مداخلته عن اللمحات النفسية في أدب خصباك قائلاً: إن ما كتبه الدكتور (شاكر خصباك) يكون موسوعة أدبية حديثة تعكس حقيقة هموم الإنسان كما يعيشها في واقع حياته اليومية وما يُكابده أبطال قصصه ورواياته ومسرحياته من صراعات مع الذات، من جهة، ومع واقع الحياة، من جهةٍ أخرى. لقد أنجز الدكتور (خصباك) أعمالاً ريادية من حيث الشكل والمضمون، بعيداً عن الرمزية وبمنأى عن التورية والمجاز والاستعارة، وتُؤكد أدبيات علم النفس أن صاحب الموهبة الفذة ينوّع في شعره إذا كان شاعراً وفي أعماله الأدبية إذا كان قاصاً أو روائياً، وإلى جانب ذلك فهو يتمهَّل ويتأمل لتكامل الفكرة لديه، ولتتّضح الطبيعة التي ترفد موهبته فتغدو سمةً له. الدكتور (شاكر خصباك) في كتاباته الأدبية لا يجعل الصلة مقطوعة بينه وبين قُرَّائه، وهذا ملمحٌ نفسيٌّ مهمّ، لأن القطع كثيراً ما يفضي إلى نسيان العلاقات الزمانية والمكانية التي تُعد من عوامل ترسيخ المعنى في الخاطر، والدكتور (شاكر خصباك) لا ينأى عن واقعية البيئة في كل ما كتب من أعمال إبداعية، بيد أن هذا لا ينفي أنه حريص على إبقاء المُتلقّي قريباً من الواقع، مع التشويق بإعمال الخيال إلى حد معقول، وفي هذا ترويض للخاطر وتربية للذوق، فالخيال عند علماء النفس هو قوَّة في النفس يحفظ ما يدركه الحس المشترك من صور المحسوسات بعد غيبوبة المادة.
وطني الثاني: ختام الفعالية الاحتفائية كان موعداً طبيعياً ومكاناً لازماً للدكتور شاكر خصباك ليلقي كلمة أوضح فيها عن عجزه عن الشكر والامتنان لمن نظم واجتهد وبذل في تنظيم هذه الفعالية جهات وأشخاصاً ولكل من شارك فيها وأثراها بالمساهمة.. وقدم شكره قبل كل ذلك لليمن التي أصبحت وطناً ثانياً له والتي ألفها وصادقها وعشقها على امتداد ربع قرن مقيماً في ربوعها.. وقال: في هذا الوطن تهيأ لي أن أكتب ما أريد ولعل ذلك ما يهمني.. مشيراً إلى أنه نال كامل حريته كاتباً ومؤلفاً في اليمن. لم يجد من يمنعه عن كتابة ما يريد أو يحاسبه على أي نوع من الكتابة.. فقد قال وكتب فيها ما يريد بحرية مطلقة، كتب في مسرحياته ما لم يكتبه في بلد آخر ولم يعترض على ذلك أي كان.. وقال: ما حصلت عليه في اليمن من حرية فكرية ما كان يمكن أن أحصل عليه في أي مكان آخر.. وهذا وحده أعتبره جميلاً لا يمكن إنكاره أو التقليل من شأنه وأهميته لأي كاتب أو مبدع.. وقدم المحتفى به شكره الخاص للدكتور عبد العزيز المقالح الذي وقف إلى جانبه وسانده في الكثير من المواقف والظروف طوال الربع قرن الماضية التي تمثل عمر إقامته في اليمن حتى الآن.. وتعرض الدكتور شاكر خصباك في كلمته لواقع الثقافة في اليمن وارتقاء مستواها.. وكانت آخر عبارات كلمته قوله: «المناخ في الثقافة والحرية في اليمن ساعداني على الاستمرارية في الكتابة الأدبية والإبداعية».
احتفاء به وتقديراً لدورة الإبداعي والعلمي وبمناسبة صدور مؤلفاته الإبداعية (ثمانية مجلدات) مركز البحوث والدراسات اليمنية والملتقى الثقافي العربي بصنعاء يكرمان المبدع الرائد الدكتور/ شاكر خصباك وذلك في الساعة العاشرة من صباح يوم الثلاثاء 10/6/2008م في مركز البحوث والدراسات اليمنية صنعاء- شارع بغداد
ملاحظة: المساهمات في هذه الإحتفائية وغيرها ستصدر في كتاب تقويمي تكريمي بإشراف الدكتور عبد العزيز المقالح وتحرير الدكتور/ إبراهيم الجرادي. المتحدثون في الإحتفائية
= د. عبد العزيز المقالح. رئيس مركز البحوث والدراسات اليمنية- مستشار رئيس الجمهورية الثقافي. = د. أحمد شجاع الدين. رئيس جامعة إب- رئيس جمعية الجغرافيين اليمنيين. = د. عبد الله البار. رئيس اتحاد الكتاب والأدباء اليمنيين- أستاذ الأدب والنقد في جامعة صنعاء- كلية الآداب. = عبد الباري طاهر. رئيس اتحاد الصحفيين اليمنيين سابقاً. = محمد الغربي عمران. قاص- رئيس نادي القصة (المقة) في الجمهورية اليمنية. = د. نورية حمد استاذة علم الإجتماع في جامعة صنعاء- كلية الآداب- رئيسة قسم الخدمة الاجتماعية. = د. عبده علي الجسماني. باحث في التراث. استاذ علم النفس في جامعة صنعاء- كلية الآداب. = د. حاتم الصكر. أستاذ الأدب الحديث والنقد في جامعة صنعاء- كلية الإعلام. = د. مالك الديلمي. أستاذ الجغرافيا في جامعة صنعاء- كلية التربية خولان. = د. علي الحداد. استاذ الأدب الحديث والنقد في جامعة صنعاء- كلية اللغات. = د. إبراهيم الجرادي. أستاذ الأدب المقارن في جامعة صنعاء- كلية التربية.
شاكر خصباك
= ولد شاكر خصباك في مدينة "الحلة" (بابل) عام 1930م. = درس الابتدائية والأعدادية والثانوية في مدارسها ونال شهادة الثانوية عام 1948م. = التحق بجامعة القاهرة [جامعة فؤاد الأول] في سبتمبر عام 1948م ونال شهادة الليسانس(BA) في الجغرافية عام 1951م. = التحق بالجامعات الانجليزية عام 1954م ونال شهادة الدكتوراه في الجرافية عام 1958م. = نال درجة (الأستاذية) عام 1974م. = بدأ الكتابة الإبداعية منذ عام 1945م. = اختارته ((المؤسسة الأمريكية لسير الحياة)) واحداً من صفوة مثقفي العالم لعام 2004م لتميزه في ثلاثة حقول هي الأدب والجغرافية والتعليم. = درّس في جامعات بغداد والرياض وصنعاء. = تخرج على يديه العديد من الطلاب العرب في درجتي [الماجستيراه] و[الدكتوراه] في الجغرافيا. = له سجل علمي حافل إذ تربو كتبه العلمية المؤلفة والمترجمة على عشرين كتاباً. = إشتهر بدراساته العلمية عن التراث الجغرافي العربي الإسلامي.. وكذلك بدراساته العلمية عن العراق والوطن العربي.. وبدراساته وترجماته عن تطور فكر وفلسفة الجغرافية. ونالت دراساته العلمية عن الأكراد شهرة واسعة. وهو أول مفكر عربي عراقي نادى بضرورة حل المشكلة الكردية حلاً ديمقراطياً سلمياً بعيداً عن القهر وبضرورة منح الأكراد حقهم في الحكم الذاتي وذلك منذ عام 1959م في كتابه المعروف [الكرد والمسألة الكردية].
كتابات الدكتور/ شاكر خصباك
الكتابات الإبداعية:-
م الكتابات الموضوع م الكتابات الموضوع 1. حكايات من بلدتنا رواية 2. تساؤلات خواطر فلسفية 3. الدكتاتور مسرحية 4. القضية مسرحية 5. كتابات مبكرة كتابات أدبية 6. امرأة ضائعة رواية 7. عهد جديد مجموعة قصصية 8. البهلوان مجموعة مسرحيات 9. صراع مجموعة قصصية 10. قصة حب والطائر روايتان 11. السؤال رواية 12. الخاطئة رواية 13. حياة قاسية مجموعة قصصية 14. موت نذير العدل رواية 15. ذكريات أدبية سيرة حياة 16. أوراق رئيس رواية 17. التركة والجدار مسرحيتان 18. نهاية إنسان يفكر رواية 19. هيلة رواية 20. خواطر فتاة عاقلة رواية 21. الغرباء واللص مسرحيتان 22. الرجل الذي فقد النطق مجموعة مسرحيات 23. مسرحية القهقهة مجموعة مسرحيات 24. عالم مليكة رواية 25. العنكبوت والغائب مسرحيتان 26. الفصول الأربعة رواية 27. الهوية رواية 28. الأصدقاء الثلاثة رواية 29. بيت الزوجية مسرحية 30. أين الحقيقة والواعظ مسرحيتان 31. الشيء مسرحية 32. انطون شيخوف دراسة وترجمة.
الكتابات العلمية أولاً:المؤلفات:- م الكتاب الموضوع 1. الكرد والمسألة الكردية دراسة في الجغرافية السياسية 2. ابن بطوطة ورحلته دراسة في أدب الرحلات العربي 3. الأكراد دراسة جغرافية أثنوغرافية 4. العراق الشمالي دراسة لنواحيه الطبيعية والبشرية 5. في الجغرافية العربية دراسة للتراث الجغرافي العربي 6. دولة الإمارات العربية المتحدة دراسة في الجغرافية الإجتماعية 7. كتابات مضيئة في التراث الجغرافي العربي. 8. تطور الفكر الجغرافي دراسة في تاريخ ومناهج الفكر الجغرافي 9. الجغرافية عند العرب. ثانياً: التراجم:- م الترجمة المؤلف 1. أعلام الجغرافية الحديثة كرون 2. دراسة الجغرافية موغي 3. الارتياد والكشف الجغرافي وود 4. قرن من التطور الجغرافي فريمان 5. جغرافية الرفاه الاجتماعي سميث 6. أصول الجغرافية البشرية فيدال دي لا بلاش 7. طبيعة الجغرافية [جزئان] تأليف هارتشورن 8. مستقبل الجغرافية مجموعة من العلماء 9. التحليل الموقعي في الجغرافية البشرية هاغيت 10. الجغرافية تاريخها ومفاهيمها جنسن 11. الجغرافية والجغرافيون جونستون 12. العوالم المتقيدة للجغرافية بيرد 13. مقدمة للبحث الجغرافي العلمي مجموعة من الأساتذة
فهرس الموضوعات الموضوع الصفحة
تحية احتفائية - 3 - من سليمان العيسى في دمشق - تحية - 6 - شاكر خصباك 60 عاماً من الإبداع - 8 - (تحية احتـفائية) - 8 - الدكتور شاكر خصباك مبدعاً - 14 - محنة الإبداع والظفر بمزاياها! - 18 - ( عن هذا الكتاب وصانعيه ) - 18 - الدكتور شاكر خصباك أديباً - 27 - علاقتي بالأدب والمجلات الأدبية - 30 - رسالة من د.شاكر خصباك إلى د.عبد العزيز المقالح - 30 - شاكر خصباك: التجاهل والعرفان - 44 - لمحات نفسية في أدب الدكتور شاكر خصباك - 54 - قراءة نفسية في تساؤلات شاكر خصباك - 68 - وخواطره الفلسفية - 68 - الوعي النقدي - 73 - في (كتابات) شاكر خصباك (المبكرة) - 73 - شاكر خصباك: أصالة المعنى ودقة العلم - 91 - بساطة ووضوح وجرأة وروعة من نوع آخر -96- ذكريات أدبية - 97 - تحية إلى الأستاذ شاكر خصباك -101- شاكر خصباك مثقف عراقي - 103 - جسر بين العرب والأكراد - 103 - أستاذ أكاديمي.. ومبدعٌ في الجغرافيا والأدب -121- روائياً وقاصاً ومسرحياً عالمياً أهمله النقاد - 124 - أول عربي كتب بحماس وبشمولية ومعرفة علمية - 128 - عن الكورد وقضيتهم القومية - 128 - شاكر خصباك.. ريادة ممتدة - 141 - نبوءة مبكرة بعبقرية نجيب محفوظ - 146 - القاص شاكر خصباك -149- بمناسبة صدور (صراع) - 152 - مجموعة (صراع) - 161 - صراع - 164 - صراع - 165 - صراع - 166 - صراع - 167 - (صراع) والقصة العراقية - 169 - مجموعة (عهد جديد) - 174 - عهد جديد - 176 - عهد جديد -181- عهد جديد - 182 - عهد جديد -183- عهد جديد - 184 - الدكتور شاكر خصباك في روايته الجديدة (الأصدقاء الثلاثة) - 186 - الدكتور شاكر خصباك والأصدقاء الثلاثة - 189 - الرواية الشظية(*) - 193 - □ غسان كنفاني - 193 - العراق بعيون عراقية - 196 - دراسة نقدية للنتاج الأدبي للدكتور شاكر خصباك - 196 - مصائر في جحيم مشترك - 223 - أوراق رئيس - 227 - ضمير الأنا في رواية خواطر فتاة عاقلة - 229 - أوراق رئيس - 232 - شاكر خصباك (طريق الخير شاق) - 235 - دراما الواقع الحصيفة - 240 - قراءة في الأعمال المسرحية للدكتور (شاكر خصباك) - 240 - شاكر خصباك مسرحياً - 264 - مخزون معرفي عال لتقديم شخوص الحياة - 270 - عن الأدب المسرحي في إبداع الدكتور شاكر خصباك - 286 - شاكر خصباك المسرحي (ثلاثية خلاص) - 293 - حوار مع القاص والروائي - 299 - شاكر خصباك - 299 - القاص والكاتب المسرحي والروائي - 308 - شاكر خصباك - 308 - حوار مع عالم الجغرافيا الدكتور شاكر خصباك - 324 - بمناسبة صدور الأعمال الكاملة - 333 - للدكتور شاكر خصباك - 333 - شاكر خصباك المؤلف الموسوعي - 363 - منذ البداية أردت لأدبي أن يكون مع - 378 - الحرية والعدل وخدمة الإنسان - 378 - حوار مفتوح مع الأستاذ الأديب الدكتور شاكر خصباك - 378 - شاكر خصباك: المناخ الثقافي والحرية في اليمن - 386 - ساعداني في الكتابة الأدبية والإبداعية - 386 - احتفاء به وتقديراً لدورة الإبداعي والعلمي - 399 - المتحدثون في الإحتفائية - 400 - شاكر خصباك - 401 - كتابات الدكتور/ شاكر خصباك - 402 - الكتابات العلمية - 403 - فهرس الموضوعات - 408 -
#شاكرخصباك (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قصة حب
المزيد.....
-
الحكومة الأوكرانية تلزم ضباط الجيش والمخابرات بالتحدث باللغة
...
-
تناغمٌ بدائيٌّ بوحشيتِه
-
روائية -تقسيم الهند- البريطانية.. وفاة الكاتبة الباكستانية ب
...
-
-مهرج قتل نصف الشعب-.. غضب وسخرية واسعة بعد ظهور جونسون في
...
-
الجزائر تعلن العفو عن 2471 محبوسا بينهم فنانات
-
أفلام كوميدية تستحق المشاهدة قبل نهاية 2024
-
-صُنع في السعودية-.. أحلام تروج لألبومها الجديد وتدعم نوال
-
فنان مصري يرحب بتقديم شخصية الجولاني.. ويعترف بانضمامه للإخو
...
-
منها لوحة -شيطانية- للملك تشارلز.. إليك أعمال ومواقف هزّت عا
...
-
لافروف: 25 دولة تعرب عن اهتمامها بالمشاركة في مسابقة -إنترفي
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|