|
بغداد والمسرح الوافد
لطيف حسن
الحوار المتمدن-العدد: 2579 - 2009 / 3 / 8 - 02:22
المحور:
الادب والفن
كانت ولاية بغداد في بداية القرن التاسع عشر غير مهيأة تماما لااستقبال نبتة المسرح الوافد ، الذي كان قد شق طريقه قبلها الى المدارس المسيحية في الموصل عن طريق المبشرين الفرنسيين ، ونشاطات مسرحية متفرقة اخرى ، لما يشكله من اهمية الموقع الجغرافي لولاية الموصل ، القريبة من تركيا وحلب ، و انفتاحها الثقافي على العالم ، عبر مسارب الطرق التجارة العالمية القديمة التي كانت تمر من عليها ، و تربط الشرق بالغرب .
فولاية بغداد آنذاك كانت اقرب الى الريف والقرية الكبيرة في مواصفاتها العامة منها من المدينة بمفهومها الحديث اليوم ، كانت تعيش حياة القرون الوسطى بمعنى الكلمة ، لم يكن تعداد نفوس العراق في ذلك الوقت بما فيها بغداد يتجاوز المليون ونصف المليون نسمة ، ولولا وجود مايدل على عمران المدن ، من مثل صرايا الوالي ، وبنايات ادارة و تصريف شؤون الدولة العثمانية للولاية ، ومراقد تاريخية مهمة لبعض أئمة المسلمين التي كان يتقاطر لزيارتها المسلمين من كافة انحاء العالم ، مع حركة خفيفة للتجارة ، وبعض بقايا عمران مهمل من زمن عز اسبق ، كالخانات الكبيرة والمقاهي ، لما بدت بغداد في مظهرها العام كمدينة عريقة ، او مركز اكبر الولايات العراقية الثلاث ، بسبب الاهمال الكبير و الطويل لها منذ تدميرها على يد التتر .
لم تعرف بغداد حتى اواسط القرن التاسع عشر أي صناعة ، بمعنى الصناعة الحديثة ، عدا بعض المعامل البدائية لدباغة الجلود ، وحياكة البسط والسجاد والعباءات الصوفية ، و معامل الفخار والطابوق والسيراميك والزجاج ، وكانت هناك ورش بدائية و دكاكين صغيرة للحرفين من صناع النحاس و الحدادين والنجارين والخياطين ، هذه البقايا من المؤسسات هي التي كانت تضفي على بغداد مسحتها القديمة كمدينة ، وتفرز سكانهاالى شرائح وطبقات متنوعة ، كان اكبرها مجاميع المزارعين والفلاحين .
وكانت المتطلبات المعيشيه للعائلة البغدادية بسيطة جدا كما في الريف ، تكاد ان تعتمد تماما على الاكتفاء المنزلي الذاتي ، وكانت تؤمن مأونتها سنويا لمرة واحدة من المحاصيل الزراعية التي كانت تزرع بعضها بنفسها و تشتري الباقي من السوق ، بأسلوب المقايضة في احيان كثيرة دون ان تتداول النقد ،
وكان من اهم المواد التي يحرص العراقي على توفيرها بكميات كافية تحوطا لعاديات الدهر ، ( وماكانت اكثرها في ذلك الزمان ) من جراء شحة المواد في المواسم الزراعية السيئة ، كتعرض الحقول الزراعية لموجات الجراد وفياضانات الانهر ، وغيرها من الازمات والكوارث الدورية العامة ، و كمية التخزين كانت تختلف حسب امكانات العائلة ، ومواد التخزين كانت الاولوية الى الطحين والتمر والرز والبرغل والدهن ( السمنه ) والدبس ، ثم تأتي الكماليات من الزبيب والمكسرات والفواكه المجففة والمربيات والدبس ، و يأتي بعد هذه المواد من حيث الاهميه في بعض المناطق ، الكشك والحمص والعدس والبقوليات المجففة ، وكان كل بيت يمتلك تنورا تستعمله ربة البيت لصنع خبزالعائلة . (6)
كانت بغداد بكلمة اخرى ، عبارة عن ريف شاسع من بساتين النخيل التي تزرع في ظلها الحمضيات والمشمش والرمان ومواسم الخضراوات الصيفية ، وكانت تسقى من ضفاف دجلة عن طريق السواقي وقنوات الري المتفرعة منها، و بسبب الاهمال كانت تتوزع مستنقعات المياه الراكدة والآسنة الكبيرة على كل مكان مكشوف، تعيش وترعى فيها المواشي من الجواميس والدواب ،
كانت عادات البداوة هي الغالبة على أخلاق السكان ، وهي التي كانت تحكم العلاقات والسلوك الاجتماعي عموما للفرد البغدادي ، بتأثير الجذور والعلاقة الثقافية الوثيقة التي كانت تربطه بقوة بالجزيرة العربية منذ الفتح الاسلامي للعراق ، أدام هذا الواقع حدوده الصحراوية الواسعة المفتوحة معها ، و التي كان من شأن هذا الوضع ، استمرارهبوب موجات واعاصير المد البدوي عليها ،
وكانت اخلاق البداوة في حالة صراع مستمرمع اخلاق المدينة ، يأخذ احيانا شكلا تخريبيا و دمويا مع العادات الحضرية والتقاليد المدينية المتجذرة في المراكز الحضرية منذ ماقبل دخول الاسلام والتي اعيد انعاشها نسبيا في الفترة العباسية .
كان المجتمع البغدادي الاسلامي عموما ، يؤمن روحيا بقوة بشفاعة الرسل والاولياء الصالحين ، وكان منقسما على نفسه بشكل حاد مذهبيا، الى مذهب السنة الموالي للعثمانيين ، ويعتبرون شفيعهم في الملمات الرسول محمد والصحابة ، والى غالبية شيعية ولائها لمرجعيتين فقهيتين مركزهما في النجف و في قم منذ قيام الدولة الصفوية ، وشفيعهم عند الملمات علي ابن طالب وذريته من آل البيت المعصومين ، وكانت هذه الطائفة مضطهدة على الدوام في العهد العثماني ، الذين كانوا ينتمون الى المذهب السني .
وكانت تتوزع بغداد على عدد من المحلات الشعبية المغلقة على نفسها ، لها وجهائها و مختارها وحماماتها العمومية وسقاتها ( الافراد الذين ينقلون بالاجرة مياه الشرب من دجلة الى البيوت بالقرب الجلدية المدبوغة ) وخاناتها ومقاهيها ، وعسسها الليلين وحماتها من( اشقيائها المعروفين)
شارع الرشيد عام ( 1920 )
ولم تكن في بغداد شوارع معبدة تذكر ، عدا شارع وحيد هو شارع الرشيد الحديث الذي شق في بداية القرن الماضي ، الذي يحاذي نهر دجله بأستقامة من جهة الرصافة بدءا من الباب الشرقي وينتهي عند باب المعظم ، حيث يقع الميدان مركز الولاية آنذاك ، ومركز تجمع المقاهي ودور اللهو والمواخير العمومية .
ولم يكن التنقل بين اطراف بغداد مأمونا ليلاعبر بساتينها الكثيفة ، لكثرة العصاة و قطاع الطرق والمسلبجية ، وكانت المدينة تنام مع غروب الشمس ، ولا يبقى في الحانات والمقاهي حتى الساعه الثامنة او التاسعة بعد غروب الشمس في اقصى حد ، الا من بعض الرجال الزكرتية ( العزاب ) واشقياء المحلات والعسس .
في هكذا وضع اجتماعي يتميز عموما بفقدان الامان الشخصي في بغداد القرن التاسع عشر، تبدو هيئة المدينه أشبه بالريف ، تحكم ناسها عادات البداوة والقوة والريبة المستديمة من الآخر ، وطبيعة تعدد الولاءات المذهبية والعشائرية في مجتمعها ساعدعلى تأجيج نار التناحر فيما بينها ، ولم يكونوا يتوحدون الا اذا تعرضوا ككل لموجات الامراض الوبائية كالطاعون والحمى الصفراء التي كانت تتناوب بأنتظام على المدينة مرة كل عشرة سنوات تقريبا، وكوارث اخرى كفياضانات دجلة الذي لايرحم ، . ان هذا الواقع الموضوعي الذي كانت عليه بغداد لاتشجع شروطه على قيام المسرح او تقبل فكرة المسرح الوافد بسهولة ، الذي هو ابن المدينة المستقرة ، و مناخه المجتمع الحضري المرفه ، والتفكير الحر.
لم تدخل المدنية الحديثة والمكننة الصناعية بغداد كما هو معروف ، الا بعد منتصف القرن التاسع عشر ، لتوقظها من سبات القرون الوسطى ، عندما بدأت السفن البخاريه لشركة ( بيت اللنج) تمخر في مياه دجلة في عام 1858، وترتفع من ضفافها اصوات محركات ( ماطورات السقي ) تنفث دخانها بشكل مخيف في الفضاء ، خلق حولها السكان الاساطير وحكايات عن الطناطل التي تظهر منها بعد غروب الشمس لتقذف المارة بالحجارة والخرافات المرعبة الاخرى ، ثم جاء بناء اول مستشفى (خستخانة الغرباء ) (مستشفى المجيديه ) عام (1872 )، وأنتصبت اعمدة التلغراف لاول مرة لتربط بغداد بالموصل عام (1861 )، ثم قامت شركه بريطانية بمهام نقل البريد ، عام (1868 )، وتيسرت وسائط النقل العامة الداخلية بتوفر عربات تسير على السكة الحديدية ( الكاري) تجرها الخيول عام (1870 )، ثم صدرت فيما بعد اول جريدة عراقية (الزوراء) مع افتتاح اول مطبعة حجرية ، مع هذا التحديث المدني الضروري وماتلاه من فتح المدارس الحديثة ، تشكلت الارضية الملائمة تقريبا ، لطرح فكرة المسرح التي نقلها بعض الشباب المثقف الى بغداد ، بعد ان سبق لهذا الشباب ان شاهد بعض عروضها في مصر وسوريا والاستانه وايران .
ان هذا الوصف لبغداد وحياتها الاجتماعية في بدايات القرن التاسع عشر ، لايعني ان بغداد لم تتمتع في يوم من الايام بمواصفات المدينه المستقرة والمزدهرة ، بل يشهد ناريخها المديد كما هو معروف منذ ان بناها ابو جعفر المنصور ، ان الحضارة الاسلامية نمت واينعت وتجذرت في هذه العاصمة الاسلامية ، وتحولت في الفترة العباسية الى مركز مهم للتقافة و الادب والشعر والغناء والموسيقى والفنون الاستعراضية الباذخة في قصور الخلفاء ، الى جانب انتعاش علوم الفلك والطب والكيمياء وفنون العمارة، مع ذلك نلاحظ انه لم يظهر فيها مسرح بمواصفاته المعروفة ، ولم تأخذ و تنقل اليها المسرح من حضارات الاقوام الاخرى في فترة تفاعلها مع الاخر وازدهارها هذا ، كما اخذت و نقلت عنها ، وترجمت منها باقي العلوم الانسانية والفلسفة وطورتها لتخلق منها الحضارة الاسلامية،
فلماذا اهملت واسقطت من ما اخذت من الحضارت الاخرى فن المسرح ،...؟
الجواب هو ان الاستقرار والامان والمجتمع المدني في ظل تحرر العقل ، تشكل الشروط الاساسية التي تضمن خلق المناخ المناسب و بناء الارضية التي يشب من عليها المسرح في أي منطقة في العالم .
ولكن وفق هذا المعيار ، وقد توفرت للعراق بعض شروطه في أكثر من فترة من الفترات التأريخية التي مرت . ومع ذلك لم يظهر عندنا المسرح ، ولا أيضا ظهر في البلدان الاسلامية الاخرى ، اذ كان الدور الاكبر في تجاهلنا وعرقلة ظهور فن المسرح عندنا ، يعود الى جوهر تعاليم وايدولوجيا الاسلام السكونية ، وتفسيراتها المختلفة والملتبسة لهذا الفن الجديد الذي لم بعرفه او يألفه البدوي ، ( بيئة الاسلام الاولى) فالاسلام في بداياته كان متشددا كما في المسيحية تجاه الفنون التشخيصية المختلفة ، بسبب ظروف وعادات المحيط الجاهلي الذي انبثق منه توا الاسلام ، وقد حرم النحت و رسم البشر، لئلا تتحول الى اصنام شفيعة جديدة تحل محل الاصنام التي حطمت و تعبد من بعد الله مجددا ، ومنع نظم الشعر الحسي الوجداني ، لكي لا يلهوا الناس عن ذكر الله وقراءة القرآن ( الشعراء يتبعهم الغاوون ) ، ومنع تقليد ومحاكات سلوك البشر( التمثيل ) ، التي أعتبرها من السفاهات ونوع من الاغتياب الذي نهى الله المؤمن عن اتيانه ، و حرم كل ما يتعلق بتقليد اعادة خلق ماكان قد سبق وان خلقه الله والتشبه بقدراته تعالى، فهذا اعجاز للبشر عن الاتيان به ، و غير جائز في الاسلام لأنه نوع من المروق وكفر بالشرع والدين .
كان لابد من انتظار بغداد أفول الايام الطويلة الداكنة الظلام للقرن التاسع عشر، والولوج ببطء في زمن القرن العشرين ، و تخطوا في درب المدنية الحديثة وتفتح الابواب على العالم ، لتتمكن من احتضان اول مسرحية في تاريخها ( المنذر بن النعمان ) في جو ثوري ، سنة 1920 ، التي اشرف عليها شباب ثورة العشرين ، وخصص ريعها لدعم الثورة ،
نشطت في نفس هذا الوقت ، مع بواكير تفتح العقل العراقي في المدارس الحديثة التي تأسست آنذاك في مجال المسرح المدرسي التربوي ، فقدمت المواضيع التاريخية ، (ليس بعيدا عن تأثيرات ايدولوجية حركة التحرر القومي انذاك ) من المسرحيات التي تمجد وقائع العرب الاوائل الشهيرة ، وتذكي فيهم روح التمرد والتحدي انذاك تجاه المحتل الانكليزي ،
ومعظم هذه المسرحيات كانت معدة حرفيا عن المرويات الشعبية ووما جاء في تدوينات التراث العربي الاسلامي القديمة ، من قبل المثقفين من المعلمين الذي كانوا في نفس الوقت منخرطين سياسيا في حركة التحرر والاستقلال والانبعاث القومي لتأكيد الهوية الوطنية والذات العرافية الجديدة التي كانت مغيبة طوال ايام العهد العثماني ،
يشير قاسم الخطاط في جريدة ( العرب ) عدد يوم 15/4/1964 الى مسرحية النعمان ابن المنذر ، تاليف نوري فتاح ( وهي ليست كما يبدو من وجهة نظره مسرحية المنذر النعمان - للبصير - التي قدمت في 1920 ) .
يقول الخطاط (.. واذا بنوري فتاح يحدثني عن فرقة مسرحية انشأها في بغداد بالاشتراك مع مجموعة من اخوانه عام 1919 , وفي تلك السنة قدمت مسرحيته ( النعمان ابن المنذر ) على مسرح سينما (اولومبيا) التي كانت تقع في شارع الرشيد في المكان الذي كان يوجد فيه محل ( صبري طعيمه ) وقد مثل شخصية كسرى انوشيروان في تلك المسرحيه الاستاذ قاسم العلوي المحامي )
ويشكك احمد فياض المفرجي بدقة رواية نوري فتاح حول تاريخ التقديم في 1919 ، ويرجح انها قد قدمت بعد عام 1920 ، وهي نفسها مسرحية البصير ( المنذر ابن النعمان ) .(2)
بعد مسرحية ( المنذر ابن النعمان ) ، قدمت المدرسة الجعفرية مسرحية (فتح الاندلس على يد طارق بن زياد ) في عام 1921 .
وبعدها بعام شكل خالص ملا حمادي ( الفرقه العربية للتمثيل)1922 ، من خيرة هواة المسرح من الشباب المتعلم ، ولاقت الفرقة نجاحا كبيرا ، دفعها ان تقوم باكثر من جولة الى الالوية العراقية ،
وكانت لجولات هذه الفرقة والفرق الاخرى الفضل الكبير في نشر الوعي المسرحي الراقي لدى الشباب العراقي في الالوية ( المحافظات ) التي زارتها ، والذي كان الشباب فيها يتهيب في البداية من العمل في مجال المسرح ، وظلت (الفرقة العربية للتمثيل ) هي الفرقة الوحيدة التي تشكلت في بغداد حتى سنة 1924 . .
في سنة 1924 تأسست في مدرسة التفيض الاهلية ، لجنه للتمثيل والخطابة ، برئاسة عبدالوهاب العاني الذي تربى على يديه الجيل الاول من الرواد بناة المسرح العراقي ، (حقي الشبلي ويحيى فائق وعبدالله العزاوي وعزيز علي ) ، والاخرين من الرواد .
الى جانب نشاطات مدرسة ( الاليانس ) اليهودية التي كانت قد تأسست منذ عام 1865 ، وبعدها تأسست المدرسة الثانية لليهود ( فرانك عيني) عام ( 1909) و أعتادت كلتا المدرستين ان تقدم معظم مسرحياتهما باللغة الانكليزية واللغة العبرية .
ولم يكن جمهور هذه الفرق المسرحية المدرسية آنذاك مقتصرا على الطلاب وذويهم ، بل كانت عروضهم عامة مفتوحة يحضرها كل الناس ، وكانت بهذه الطريقة تقوم مقام الفرق المسرحية التي لم يكن لها وجود حتى ذلك التاريخ والتي كانت في طور التشكل الجنيني ، وتمهد الارضية لظهور ما اعتبرت اول فرقة مسرحية ناضجة في العراق تواصلت في العمل .
(فرقة مدرسية عراقية في الثلاثينات من القرن الماضي على خشبة مسرح بنته بنفسها)
والمقصود هي الفرقة التي شكلها حقي الشبلي مع شلة من زملائه الموهوبين في التمثيل ، طلاب مدرسة التفيض ، بتأسيس ( الفرقه التمثيليه الوطنيه ) 1927 ، التي اصبح لها شأن كبير فيما بعد في تجذير المسرح الحديث ونشره في العراق.
وقد واصل المسرح المدرسي نشاطه الى جانب الفرق المسرحية بعد ان تشكلت ، تحت واجهة مايسمى باللجان التمثيبية ، او لجان الخطابة ، المنتشرة في كل المدارس المهمة في بغداد واللألوية (المحافظات ) الاخرى ،
ومن الجدير بالذكر ان هذه الفرق لم تكن محترفة ، حتى ظهور (الفرقة التمثيلية الوطنية ) التي كانت تصرف الرواتب للممثلين الوافدين من المصرين فيما بعد من اللذين تعاقدت معهم للعمل فيها من التخصيصات المالية لوزارة المعارف .
وكانت هذه الفرق تمول من قبل اعضائها ذاتيا من الذين كانت لديهم وظائف واعمال اخرى يعتاشون منها ، او من اعانات بعض الجهات و الجمعيات المستفيدة من نشاطات الفرقة ومن بعض التجار والاعيان المحسنيين ، وكانت عائدات عروضها تقدم كاملة كتبرعات ، لدعم ثورة العشرين مثلا ، او الى متضرري كوارث فياضانات دجلة والفرات ، او لنصرة فلسطين ، او الى جهات الاحسان كدور الايتام ، او لأعمال خيرية مختلفة اخرى .
وبشكل متوازي ، كان فن ( الاخباري ) في هذه الفترة قد انتقل في بغداد ، من الشوارع والاسواق والمقاهي الى مسارح الملاهي الليلية ، واخذت تقترب التمثيليات الهزلية التي كان يقدمها ( جعفر أغا لقل زادة ) من شكل العرض المسرحي ، دون ان يحقق هذا الاقتراب تحول الاخباري الى فن أخر هو المسرح ، و بقى الاخباري على حاله فن للمساخر الشعبية الساذجة ، حافظ على تقاليده وقوالبه ولم يتغير شي فيه الى ان اندثر وزال من الوجود في نهاية الستينات من القرن الماضي ، فقط الذي تغير فيه هو مكان العرض اذ انتقل على يد جعفر لقلق زاده من الساحات والشوارع العامة الى خشبة المسرح .
( احدى دور السينما في شارع الرشيد في بداية القرن الماضي كانت تستخدم كمسرح في بغداد )
وكانت ظروف عمل الفرق المسرحية التي تشكلت بعد العشرينات ظروف صعبة جدا ، اذ لم تكن هناك آنذاك قاعات للمسرح واجهزة اناره وغيرها من باقي لوازم المسرح ، ان كان في بغداد او في المحافظات الاخرى ، وكانوا يستخدمون قاعات بعض المدارس وهي بدائية اصلا ، او يستأجرون قاعات دور السينما بعد ان بني عدد منها في بغداد ، واكثرها دور عرض صيفية ، او يقيمون عروضهم في الفسحات التي يسيجونها بالحصران ويبنون عليها مسرحا طينيا خصيصا للمسرحية ، ثم يزيلونها بعد انتهاء العمل ، وقد أعنادوا ان يقيموا مسارحهم الطينية على الضفاف الرملية لدجلة صيفافي ( الجرادغ)
ان الانتعاش الذي شهدته الحركة المسرحية في العراق في هذه الفترة ، شجعت الصحفي الساخر المعروف نوري ثابت الملقب ب ( حبزبوز ) ان يشكل ( فرقة دار المعلمين للتمثيل ) في عام 1924 وكانت تقدم مسرحياتها من على مسرح الاعدادية المركزية ومسرح سينما ( رويال ) .
-
الصحفي الساخر نوري ثابت - في عام 1924 كان يشرف على ( فرقة دار المعلمين للتمثيل )
وقد تلقت فرقة نوري ثابت تشجيعا ورعاية واحتضانا ملحوضا من قبل المسؤولين الحكوميين ، لربما للمكانة الاجتماعية المتميزة والنافذة التي كان يحضى بها نوري ثابت ،
ففي احد عروض مسرحياته، مسرحية ( الصراف روبين ) التي قدمت في النادي العسكري ، تذكر الصحف الصادرة آنذاك انه ( قد حضرها تكريما لنوري ثابت، الفريق جعفر العسكري ) .
الى جانب ما كانت تلقاه مسرحياته عادة من اقبال جماهيري واسع ، بسبب الكوميدية وما تحويه من النقد الاجتماعي اللاذع الجريء ، وكان يكتبها بنفس اسلوب كتاباته الساخرة التي ينشرها في صحيفته ويوقعها بأسم ( حبزبوز ).
ثم تشكلت بعد ذلك ( الفرقة التمثيلية الوطنية ) في عام(1927 )من مجموعة من الشباب ترأسها حقي الشبلي ، ومن المرجح انها قد تشكلت من نواة لجنه تمثيل مدرسية ( مدرسة التفيض) ، التي كانت تضم عددا من طلابها الموهبين ، فالى جانب حقي الشبلي ، كان يحيى فايق ، وعبود الشالجي ، واحمد حقي الحلي ، وعبدالمجيد الخطيب ، وعثمان الشيخ سعيد ، وصبري ذويبي ، وناصر عوني ، وفاضل عباس ، ومحي الدين محمد ، وعبدالله العزاوي ، وسليم بطي ، وعزيز على ، والياهو سميره ، وفوزي الامين ، وحسقيل قطان ، واوكست مرمجي ، وعزة دانو ، وزهدي علي ، وابراهيم عبداللطيف ، ولويس ناصر ، وعبداللطيف داوود ، وعزة عوني ، ويوسف نقاش ، ونديم محمود ، وعبدالهادي صالح ، و الاخوين عبدالمنعم الدروبي ، وعبدالحميد الدروبي ، و يضاف الى الفرقة بعد تشكلها فيما بعد ، العنصر النسائي ، الرائدة مديحه سعيد .
من اهم المسرحيات التي قدمتها الفرقة في فتره العشرينات من القرن الماضي ، ( جزاء الشهامة ) و( البرج الهائل ) و( يوليوس قيصر ) و( الحاكم بامره ) و( لولا المحامي ) و( قاتل اخيه ) و( هملت ) والمسرحيه الاخيرة كانت ( السلطان عبد الحميد ) في عام ( 1928) وهي الوحيدة التي لم تكن من اخراج حقي الشبلي وكانت من اخراج صبري الذويب .
من اهم الخطوات التي قامت بها ( الفرقة التمثيلية الوطنية ) بعد تشكيلها ، هي رحلاتها الفنية الى محافظات العراق الاخرى التي كان لها الاثر الكبير فيما بعد في نشر الحركة المسرحية بين شباب هذه المحافظات ، وابتداءا من عام 1928 بدءا من جنوب العراق ،
(حقي الشبلي ويحيى فائق زملاء دراسة في ثانوية التفيض و ابرز الأعضاء في الفرقة التمثيلية الوطنية (1927)
بعد سفرحقي الشبلي الى مصر برفقة فاطمه رشدي ، انشطرت ( الفرقة التمثيلية الوطنية ) الى شطرين ، وتشكلت منها فرقتين متنافستين جديدتين ، الفرقه الاولى برئاسة عزيز علي عملت تحت نفس الاسم القديم ( الفرقة التمثيبية الوطنية ) وامتداد لها، و الفرقة الثانية برئاسة محي الدين محمد ، و عملت تحت اسم ( الفرقة العصرية ) وبقيت الفرقتان تعملان بشكل منفصل عن بعض حتى عام 1930 ، اذ اعاد بعدها حقي الشبلي من مصر ووحد فيما بعد الفرقتين مجددا في فرقه واحده حملت اسمه ( فرقة حقي الشبلي ).
في عام ( 1929 ) ، تشكلت فرقتين جديدتين مهمتين على الساحة البغدادية ، الاولى ( الفرقة التمثيلية ) برئاسة صبري شكوري والثانية ( جمعية أحياء الفن ) برئاسة كمال عاكف ،( وهو غير المخرج التلفزيوني كمال عاكف )
ان انتعاش الحركة المسرحية في العشرينات ، والنجاح الذي كانت تحققه ، شجع العديد من الفرق المسرحية المصرية ، على ان تزور العراق و تقوم بجولات فنية عديدة في بغداد والمحافظات الاخرى ، ابرز هذه الفرق ( فرقة عزيز عيد وزوجته فاطمه رشدي )
( عزيز عيد)
وقد تعلم الرواد الاوائل من الفرق المصرية الزائرة الكثير من اصول المسرح الكلاسيكي و الذي ظل الرواد الاوائل اوفياء فيما بعد لاسلوب هذه الفرق العربية في العمل ، حتى تخرج الوجبة الاولى من طلاب معهد الفنون الجميلة عام 1940 وتحولت الفرق المسرحية العراقية ( لاسيما الفرقة التمثيلية الوطنية ) الى مركز جذب للفنان العربي ضمت فيها خيرة نجوم المسرح المصري آنذاك ، و الذين عملوا فيها لعدة مواسم ، من امثال بشاره واكيم ، وعبداللطيف المصري ، ونوريالدين المصري ، و عبد الغني محمد ، ومحمد المغربي مع زوجته ، وعبدالحميد البدري ،
وما ان جاء عام 1930 حتى دخل المسرح العراقي بهذه المقدمات القوية ، ماسمي بعصره الذهبي الذي استمر حتى الاربعينات القرن الماضي
(هوامش ومصادر الفصل ) 1- جريدة ( العرب ) البغداديه / الصفحه الثالثه / عدد يوم الخميس في 16 /4/1964 . 2- الحركه المسرحيه في العراق - احمد فياض المفرجي. 3- اربعة فرون من تاريخ العراق الحديث - ستيفن همسلي - ترجمة جعفر الخياط - بغداد 1960 . 4- بغداد مدينة السلام - ريجارد كوك - ترجمة مصطفى جواد و فؤاد جميل - بغداد 1967 5- دراسه في طبيعة المجتمع العراقي - علي الوردي - بغداد 1965 6- بغداد القديمه - عبدالكريم العلاف - بغداد 1960
#لطيف_حسن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الموصل والمسرح
-
حقي الشبلي ودوره في تجذير المسرح العراقي
-
فنون اللهو والتسلية في مقاهي العراق ايام زمان و الاخباري جعف
...
-
سايكولوجية الجمهور المسرحي العراقي
-
ألأصل المقدس في الرقص الشعبي والأيقاع الموسيقي في العراق
-
المسرح العراقي المعاصر، لاعلاقة له بالطقوس الدينية والشعبية
...
-
فصول من تاريخ المسرح العراقي - العراق القديم ، عرف التمثيل ،
...
-
فصول من تاريخ المسرح العراقي - الطقوس الدرامية المقدسة ،والت
...
-
فصول من تاريخ المسرح العراقي - الفنانون الذين أضطروا لحمل ال
...
-
فصول من تاريخ المسرح العراقي - المسرح العراقي في الخارج
-
فصول من تاريخ المسرح العراقي - كربلاء وتشابيه المقتل والتعاز
...
-
فصول من تاريخ المسرح العراقي - دين الاسلام وفن المسرح في الع
...
-
حول مشروعي البرنامج والنظام الداخلي للحزب الشيوعي العراقي
المزيد.....
-
عن فلسفة النبوغ الشعري وأسباب التردي.. كيف نعرف أصناف الشعرا
...
-
-أجواء كانت مشحونة بالحيوية-.. صعود وهبوط السينما في المغرب
...
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|