أوري أفنيري
الحوار المتمدن-العدد: 790 - 2004 / 3 / 31 - 08:41
المحور:
الارهاب, الحرب والسلام
500 من أفراد حماس جلسوا أمامي بلحاهم السوداء والبيضاء، شيوخ يعلو الوقار وجوههم وشباب أيضا. على جانبي المسرح اصطفت بعض صفوف النساء. وقفت على المسرح وتحدثت إليهم بالعبرية، وكنت أتقلد على قميصي علمي إسرائيل وفلسطين.
كما رويت أكثر من مرة فقد كان ذلك كما يلي: في أواخر عام 1992 أبعد رئيس الحكومة الجديد، إسحاق رابين 415 من النشطاء الإسلاميين – وأغلبيتهم من أفراد حماس – إلى الحدود اللبنانية. وقد أقمنا خياما احتجاجية للاحتجاج على ذلك أمام مكتب رئيس الحكومة في القدس. قضينا هناك 45 يوما وليلة، نشطاء سلام إسرائيليين (الذين أسسوا لاحقا "كتلة السلام") وعرب من مواطني إسرائيل، معظمهم أعضاء في الحركة الإسلامية. ساد البرد القارص أغلبية الوقت هناك وقد غطى الثلج خيامنا في بعض الأيام. انتهزنا هذه الفرصة لإجراء النقاشات وتعلمنا شيئا ما عن الإسلام وعلّمنا شيئا ما عن اليهودية.
لقد مكث المبعدون أنفسهم لمدة سنة في منطقة التلال، بين الجيشين الإسرائيلي واللبناني. لقد راقب العالم كله معاناتهم. بعد انقضاء المدة سمح لهم بالعودة، وقد استقبلهم زعماء حماس في غزة باستقبال مهيب في أكبر قاعة في المدينة. لقد دعوا الإسرائيليين أيضا الذين احتجوا على عملية الإبعاد. طلب مني أن ألقي كلمة، فتحدثت عن السلام. في الاستراحة دُعينا لتناول الطعام معهم، وأعجبت بالتعامل الحميم الذي لقيناه من مئات الحاضرين.
لا شك في أن الشيخ أحمد ياسين والناطق بلسان المبعدين، عبد العزيز الرنتيسي، كانا سيحضرا الاحتفال لولا وجودهما في السجن.
أذكر هذه المناسبة هنا كي أنوه إلى أن اعتبار حماس عدوة السلام اللدودة ليس دقيقا. صحيح أنه قد مرت منذ ذلك الحين 10 سنوات وقد سفكت دماء كثيرة في العمليات الانتحارية وفي "التصفيات"، غير أن هذه الصورة معقدة أكثر مما تبدو عليه.
توجد في حماس توجهات مختلفة. النواة الأيديولوجية الصلبة ترفض فعلا أية تسوية أو سلام مع إسرائيل حيث تعتبر إسرائيل عشبا ضارا في البلاد، التي تعتبر حسب الشريعة الإسلامية وقفا إسلاميا. غير أن كثيرين من مؤيدي حماس لا يرون في المنظمة إطار أيديولوجيا بل آلية للنضال ضد إسرائيل، بهدف تحقيق أهداف أكثر واقعية.
لقد صرح الشيخ ياسين ذاته قبل عدة أشهر في صحيفة ألمانية بأن النضال سينتهي عند إقامة الدولة الفلسطينية ضمن حدود 1967. وكان قد اقترح هدنة لثلاثين سنة. (هذا يذكرنا باقتراح أريئيل شارون بانسحاب إسرائيل من غزة ومن جزء من الضفة الغربية في إطار تسوية مرحلية تستمر 20 سنة).
لذلك، لم يخدم اغتيال الشيخ ياسين أي هدف إيجابي. لقد كان مجرد حماقة.
الجنرالات الثلاثة الذين يديرون إسرائيل من الناحية العملية – أريئيل شارون، شاؤول موفاز وموشي يعيلون – يدّعون أنه رغم أن الاغتيال سيزيد العمليات الانتحارية على "المدى القريب"، إلا أنه على "المدى البعيد" فإن ذلك سيساعد على "سحق الإرهاب". إنهم حذرون جدا بشأن تعريف نهاية "المدى القريب" وبداية "المدى البعيد". جنرالاتنا لا يؤمنون بالجداول الزمنية.
أسمح لنفسي بأن أقول لهؤلاء الاستراتيجيين الثلاثة: هذا هراء، وإن صح التعبير: هذا هراء دموي.
تلحق هذه العملية الخطر بأمننا الشخصي على المدى القريب وتلحق خطورة أكبر بأمننا القومي على المدى البعيد.
لقد زادت هذه العملية، على المدى القريب، تصميم أفراد حماس على إنجاز العمليات الانتحارية الفتاكة. كل إسرائيلي يفهم ذلك جيدا ويتوخى الحذر أكثر مما كان عليه في الماضي. غير أن النتائج الخفية لهذه العملية أكثر خطورة بكثير.
تنتاب قلوب مئات آلاف الأطفال في المناطق الفلسطينية وفي الدول العربية زوبعة من الغضب ورغبة الانتقام بسبب الاغتيال، وهي ممزوجة بأحاسيس من الإحباط والإذلال أمام تقاعس العالم العربي. لا ينمي هذا آلاف المنتحرين الجدد فقط، بل ينمي أيضا عشرات آلاف المتطوعين في المنظمات الإسلامية المتطرفة في مختلف أنحاء العالم العربي. (أعلم ذلك لأني كنت قد انضممت إلى الحركة السرية في سن 15 سنة، بظروف مشابهة).
لا يوجد لدى أي حركة سرية سلاحا أنجع من القديس المعذب. يكفينا أن نذكر أبراهام شطيرن ("يئير")، الذي قتله البريطانيون في تل أبيب. لقد أنبت دمه منظمة "ليحي" التي أدت وظيفة رئيسية، بعد مرور 4 سنوات، في نضالها لطرد البريطانيين من البلاد.
إلا أن مكانة يئير لا تكاد تذكر أمام المكانة التي حظي بها الشيخ ياسين. فقد ولد هذا الرجل ليكون قديسا: شخصية دينية، إنسان مقعد على كرسي متحرك، معاق جسديا ولكن ليس روحيا، ناشط مكث في السجن عدة سنوات، زعيم واصل نضاله حتى بعد أن نجى بأعجوبة من محاولة اغتيال سابقة، بطل قتل بشكل جبان من الجو عندما خرج من صلاته في المسجد. حتى كاتب مبدع لم يكن له أن يخلق شخصية أكثر ملائمة ليؤيدها مليار مسلم، في هذا الجيل وفي الأجيال القادمة.
مقتل الشيخ ياسين سيزيد التكتل بين المنظمات الفلسطينية المقاتلة. هنا أيضا يمكننا رؤية وجه الشبة مع الحركة السرية العبرية. ففي مرحلة معينة من النضال ضد البريطانيين زاد التمرد في أوساط منظمة "الهغناه" ("فتح" في تلك الأيام). كانت تبدو "الهغناه" (وبضمنها "البلماح") غير نشطة في وقت ظهر فيه أفراد "إيتسل" و"ليحي" على أنهم أبطال، ينفذون عمليات مثيرة (وبشعة). لقد أدى هذا التمرد إلى خلق مجموعة داخل المنظمة كانت تدعى "عام لوحيم"، دعت إلى التعاون بين كل الحركات السرية. حتى أن بعض أفراد "الهغناه" انتقلوا إلى "ليحي".
هذا ما يحدث الآن لدى الفلسطينيين. فالحدود بين المنظمات آخذة بالتلاشي. أفراد فتح يتعاونون مع أفراد حماس والجهاد الإسلامي، خلافا لتعليمات المؤسسات الوطنية انطلاقا من التوجه القائل "يقتلوننا معا، إذا هيا نقاتل معا". ستتعاظم هذه الظاهرة وستزيد من نجاعة العمليات الانتحارية.
لقد ارتفعت شعبية حماس لدى الجمهور إلى أعلى حد، ولذلك ازدادت قدرتها على تنفيذ العمليات. لا يعني هذا أن الجمهور يقبل بفكرة الدولة الإسلامية، أو أنه قد تخلى عن تطلعه إلى إقامة دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل. هناك في حماس أيضا كثيرون ممن يؤيدون هذه الأهداف. غير أن التأييد العارم للعمليات الانتحارية ولمنفذيها تعكس الإيمان بأن الإسرائيليين يفهمون لغة القوة فقط وأن التجربة قد أثبتت أنه بدون قوة متطرفة لن يتم التوصل إلى أي شيء.
للأسف الشديد، لا يوجد أي إثبات على أن هذا الإيمان هو إيمان مغلوط. فالحقيقة هي أن الفلسطينيين لم يحرزوا أي شيء دون استخدام العنف، ولذلك لا توجد أي قيمة للعرائض التي تنشرها شخصيات فلسطينية حائزة على التأييد، التي تنادي الآن بوقف الكفاح المسلح. لا تتمتع هذه الشخصيات القدرة على طرح أي طريقة حقيقية بديلة، يمكنها إقناع الجمهور. أما حكومتنا بالمقابل فتعتبر ذلك دائما إشارة للاستسلام.
تكمن، على المدى البعيد، في مقتل الشيخ ياسين خطورة حقيقية. فقد كان النزاع الإسرائيلي الفلسطيني على مدى خمسة أجيال بالأساس نزاعا قوميا – مواجهة بين حركتين وطنيتين كبيرتين، كل منهما تطالب بالبلاد لنفسها. النزاع القومي هو بالأساس هو نزاع منطقي، ويمكن حله عن طريق التسوية. يمكن لذلك أن يكون صعبا ولكنه غير مستحيل. إن ما أقلقنا دائما هو تحول النزاع الوطني إلى نزاع ديني. كل دين يصبو إلى الحقيقة المطلقة، ولا تسوية في النزاعات الدينية.
إن تحويل الشيخ ياسين إلى قديس معذّب يبعد أكثر فأكثر احتمال وصول إسرائيل، في أية مرة من المرات، إلى السلام والسكينة، بينما تكون متواصلة مع جاراتها ومنتعشة من الناحية الاقتصادية والاجتماعية. إنها تزيد من الخطورة الكامنة في أن تنظر إليها أجيال العرب والمسلمين القادمة على أنها عشبا ضارا، زرع بالقوة في هذه المنطقة وأن على كل مسلم نزيه، من المغرب وحتى إندونيسيا، أن يعمل على اقتلاعه.
إن مثل هذا الإدراك بعيد من أن تدركه إليه حكومتنا الدموية. شارون، موفاز، يعيلون وأشباههم لا يفهمون شيئا سوى انتهاج القوة لخدمة العنصرية الضيقة. فالسلام لا يسحرهم، والتسوية هي كلمة يمقتونها. من الواضح تماما أنه من الأفضل لهم أن يتزعم الشعب الفلسطيني مقاتلون متدينون متطرفون من أن يتزعمه رجل تسوية مثل عرفات.
#أوري_أفنيري (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟