نورس محمد قدور
الحوار المتمدن-العدد: 2572 - 2009 / 3 / 1 - 01:03
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
في السنوات الستين الماضية لم تكن ثمة ثروات عظيمة في امريكا، باستثناء القليل، ومع ذلك فلم تعرف البلاد الفقر. واليوم ثمة بعض الفقر(مع انه وصل في مناطق قليلة الى مستوى الاملاق)، وكثيرا من الثروات العظيمة وبعض الثروات الفاحشة كما لم يعرفه بلد آخر في العالم.
هذا ما ذهب اليه "جون ستيل جوردون" John Steele Gordon في كتابه إمبراطورية الثروة: التاريخ الملحمي للقوة الاقتصادية الأمريكية في جزئه الثاتي من سلسلة عالم المعرفة العدد 358 ، 2008.
الفصل الرابع عشر: (صليب من ذهب)
كانت كلمة "عاطل عن العمل" حتى سبعينيات القرن التاسع عشر تطلق على كل فرد لا مهنة لديه وتشمل حتى الاطفال دون الخامسة من العمر وربات المنزل، وفي عام 1878 حينما كان الكساد الذي عصف بذلك العقد يشارف على نهايته، أعاد مسح إحصائي أجري في ماساتشوستس تعريف العاطلين عن العمل بأنهم الذكور الذين تجاوزوا 18 سنة " وكانوا من دون عمل ويبحثون عنه" وفي منتصف القرن التاسع عشر عد هؤلاء بالملايين. إن السبب المباشر للكساد الجديد هو فرط التوسع الاقتصادي نتيجة افتقاد البلاد مصرفا مركزيا يعمل مكابحه وقت الضرورة. والسبب الغير مباشر هو السياسة النقدية التي سعت الى تحقيق غليتين متنافيتين في آن معا.
وحققت الحكومة في ثمانينيات القرن الثامن عشر فوائض هائلة في الميزانية ساعدت على إخفاء حالة الازدواج في السياسة النقدية. ولكن عندما آذن انهيار السوق ببدء مرحلة كساد جديدة وذلك عام 1893 تحول رشح الذهب من الخزانة الى نزيف .
ومع تراجع إيرادات الحكومة سارع الكونغرس الى وقف العمل بقانون شيرمان. لكن الناس والحكومات الاجنبية، فقدوا الثقة بالدولار وتصاعد الطلب على ذهب الخزانة بمستويات عظيمة. وأصدرت الحكومة سندات لشراء كميات إضافية من الذهب لتعويض النقص الحاصل في احتياطي الذهب، لكن الذهب ظل ينزف من الخزانة.
لقد أصيبت الحكومة بالشلل وبعد مدة قصيرة كان ممكننا رؤية الذهب يتدفق خارج البلاد عندما كانت سبائك الذهب بملايين الدولارات تحمل علة متن سفينة في نيويورك قاصدة المصارف المركزية الاوربية. وقامت مضاربات في وول ستريت حول موعد نفاذ الذهب من الخزانة لتضطر الدولة حينها الى وقف التعامل بمعيار الذهب.
واستقل جي بي مورغان، بعد أن تناهت إليه أخبار لا تبشر بخير القطار الى واشنطن ليحول دون ذلك. كان الرئيس كليفلاند مدركا تماما أنه كان على رأس حزب كان كثيرا من أعضائه يطمحون إلى التخلص من معيار الذهب ، ويحملون كرها كبيرا لوول ستريت وكل أفعالها. ورفض مقابلة مورغان. لكن تفاقم الوضع سوءا من ساعة الى أخرى، حمل كليفلاند في صباح اليوم التالي على اإصغاء الى ما سيقوله مورغان. وطرح كليفلاند عليه السؤال التالي: " ألديك ما تقترحه؟ " وكان لدى مورغان ما يقترحه فعلا، ذلك ان اصدار مزيد من السندات في السوق المحلية لن يفيد على الاجل الطويل بأي حال. ولأن الذهب سيكمل دورته الة خارج الخزانة في نهاية المطاف.
كان مورغان راغبا في أن يحول دون تدفق الذهب الى أوربا، وكان هذا عملا من ضروب الشجاعة . وبفضل سمعته التي ملأت الآفاق واللجوء الى تقنيات متطورة في أسعار الصرف استطاع مورغان الوفاء بالوعد الذي قطعه على نفسه ، وفي عام 1895 بدأ الاقتصاد يتعافى ،وهكذا أنقذ مورغان معيار الذهب.
كانت الولايات المتحدة في السنوات الاولى من القرن التاسع عشر تشهد ازدهارا لم يسبق له مثيل.وفي السنوات العشر ، ما بين 1897و 1907، تضاعفت الصادرات الامريكية، كذلك الواردات . وازدادت كمية النقد المتداول من 1,5 مليار$ الى 2,7 مليار $، بينما حققت ايداعات المصارف ارتفاعا هائلا من 1,6 مليار $ الى 4,3مليار $ ، وهذا الرقم يتجاوز الناتج الاجمالي المحلي للعام 1860، وارتفعت قيمة موجودات المصارف وبيوت السمسرة وشركات التأمين من 9,1مليار$ في العام 1897 الى 21مليار$ بعد عشر سنوات تلت. الدول المتقدمة الاخرى كانت أيضا تشهد ازدهارا عظيما.
الفصل الخامس عشر: (لجم الاسعار في حدود القوة الشرائية):
كان اقتصاد نهاية القرن التاسع عشر عصر الصناعة الثقيلة. وسيشهد عقد العشرينيات من القرن الجديد ولادة اقتصاد أكثر تركيزا على "المستهلك" وهي نزعة تسارعت في البقية من القرن. لكن بذور الاقتصاد الجديد ولدت من رحم الاقتصاد القديم. لم تكن السيارات اختراعا أمريكيا على الرغم من أن محامي براءات الاختراع من روشستر، اسمه جورج بي سيلدون، لم يصنع سيارة حقيقية لكنه حصل على براءة اختراع سيارة مطورة تعمل "بمحرك هيدروجين سائل بآلية الضغط" في العام 1879، حتى قبل أن تدخل كلمة "سيارة" اللغة الانكليزية .
"هنري فورد" الذي كان ابن مزارع من ديربورن بميتشيغان درس في المدارس العامة هناك الى أن اتجه الى العمل في عمر السادسة عشرة كمتدرب في ورشة للآلات . وقد أظهر على الفور مهارة مميزة في علم الميكانيك و شغفا به ، مع انه لم يكن واسع الثقافة والتعليم، وبدأ يمارس أعمال الصفاحة على محركات الاحتراق الداخلي في مطلع تسعينيات القرن التاسع عشر، وفي العام 1896 صنع أول سيارة في مرآب للعربات حيث كان سكنه. وفي السنوات القليلة التالية صنع عددا من سيارات السباق ذات سرعات قياسية، وكذلك بمساعدة عدد من أعوانه أسس شركة فورد موتورز في العام 1903.
ولم تصب الشركة في البداية نجاحا يذكر. ومن ثم في العام 1908 خرج فورد بنموذج تيModel T لقد صمم هذا النموذج ليكون ذا قدرة عالية على التحمل والسير على الطرقات الرديئة التي شاعت آنذاك، وأن يكون ذا تكلفة متدنية. كان سعرها الاولي 850$ وهذا يشكل نسبة لا تذكر من تكلفة معظم أنواع السيارات الأخرى وكذلك تكاليف تشغيلها كانت منخفضة نسبية أيضا.فبيع من النموذج تي 10607 سيارات في ذلك العام.
لقد أسفر سعي هنري فورد، الذي لم يعرف الكلل، الى الحد من تكاليف تصنيع النموذج تي، عن واحدة من أعظم قصص النجاح الاقتصادي في تاريخ العالم. فعلى مدة تسعة عشر عاما أنتجت الشركة 15 مليونا من سيارات النموذج، ولما أوقفت الشركة إنتاجه كانت قد جنت في العام 1920 نصف عدد السيارات المصنعة في العالم . وقد ساعد النجاح الباهر للنموذج تي على انطلاق صناعة السيارات بمجملها.
ولن يكون من قبيل المبالغة القول بأثر السيارة في الاقتصاد الامريكي في عشرينيات القرن. اذ لم تكن صناعة السيارات توظف مئات الالوف العاملين، بل حرضت الصناعات الاخرى بدرجة كبيرة. ففي عشرينيات القرن كانت صناعة السيارات تستخدم 20% من الفولاذ المنتج محليا و80% من المطاط و75% من الزجاج المصقول. وقد أدت صناعة السيارات الى ارتفاع عظيم في أعمال الطرق وتعبيدها، بحيث صارت جزء أساسيا من صناعة الانشاءات وحفزت كثيرا أعمال المقالع وتصنيع الاسمنت.
في القرن السابع عشر كانت الكهرباء لغزا عصيا على الفهم وحيلة ساحرة، عندما سعى أشخاص مثل بنجامين فرانكلين الى اكتشاف ماهيتها. ومع أن مطلع القرن التاسع عشر تميز بمعرفة أكثر بالكهرباء ،فإن الكهرباء لن تفرض حضورها في الحياة اليومية إلا في نهاية القرن. ولم يكن لأحد الفضل الأكبر في هذا كما كان لتوماس أديسون الذي أثبت أنه عبقري مثلما كان شيكسبير عبقري في الدراما.
الفصل السادس عشر: (الخوف بأم عينه):
التاريخ دائما يبدو للقارئ أكثر انتظاما وإثارة من الاحداث التي يرويها أولئك الذين عايشوها يوما بعد يوم.
على الرغم من أن سوق الاسهم كانت الشغل الشاغل على المستوى القومي في العام 1929، فإن انهيارها لم يخلف أثرا مباشرا في كثيرامن العائلات. وقد أوردت البورصة أن عدد مالكي الاسهم في امريكا لعام 1928 بلغ 20 مليونا، مع أنه في الواقع لم يصل الى عشر هذا الرقم ، ولم يكن أكثر من 2,5% من السكان يملكون حسابات من السماسرة . وبينما خسر كثير من أولئك المضاربين والمشترين بالهامش (بالتمويل الجزئي) استثماراتهم، فان كثير منهم أيضا قاوموا فترة الهلع وكانوا لا يزالون محتفظين بأسهمهم.
أما عن مصرف الولايات المتحدة فكان شيئا آخر، اذ كان متعدد الفروع، وقد اتخذ من عاصمة البلاد المالية- نيويورك- مقرا له. كانت لدى المصرف ايداعات بقيمة 268 مليون $ يملكها 450 ألف مودع، أكثرهم من صغار التجار وأبناء الطبقة العاملة اليهود الذين اشتغلوا في صناعة الملابس واسعة الانتشار في المدينة.
وعندما بدأ وضع المصرف بالتأزم ، حاولت كل من السلطات المصرفية في ولاية نيويورك ومصرفي الاحتياطي الفدرالي جاهدين انقاذه. وسعوا الى دمجه مع ثلاثة مصارف اخرى. لكنهم كانوا بحاجة الى قرض بقيمة 30مليون $ من أكبر بيوت الصيرفة في وول ستريت لانجاح الصفقة. ورفضت وول ستريت مد يد المساعدة. و كتب جوزيف إي بروديريك رئيس الرقابة المصرفية في ولاية نيويورك "أحذرهم! إنهم يرتكبون الأخطاء في تاريخ مصارف نيويورك".
ومع نهاية العام 1931 واجهت الولايات المتحدة ظروفا اقتصادية لم تعرفها قبل على الاطلاق. فقد وصل عدد المصارف المفلسة الى 2293 في ذلك العام، وكانت كل حادثة افلاس تعني مأساة ألمت بمئات وآلاف العائلات التي رأت سندها الوحيد في مواجهة أثر البطالة يتلاشى أمام عيونها. ودبت البطالة بصورة هائلة في أركان الاقتصاد الامريكي. وهبط الناتج القومي الاجمالي بمعدل 20% أيضا. وتراجع انتاج السيارات من 4,5 مليون في العام 1929 الى 1,9 في العام 1931, مما أدى الى تسريح أعداد هائية من العمال ليس فقط من شركات السيارات ولكن من شركات المطاط والزجاج والفولاذ ووكالات السيارات وشركات التأمين أيضا.
وارتفعت البطالة في أواخر العام 1931 الى 15,9 % . وبدأت شوارع البلاد تكتظ برجال مهلهلي الثياب يبحثون عبثا عن عمل.
ولم يكن مستغربا في المناطق الريفية أن تقرع أبواب البيوت أشخاص يبحثون عن عمل لقاء وجبة طعام أو قضاء ليلة في الحظيرة. واصطفت في المدن طوابير الخبز على امتداد مجمعات الابنية(هذا وقد كانت الولايات المتحدة هي السباقة لطوابير العيش ،وكنت أظن أن هذا الشيء من ابداعنا لكن وللأسف الشديد حتى الأزمات نقلدهم بها، وتصل إلينا متأخرة ،لكن أسرع من المعلومات والاختراعات).
وانتشرت الكتل المتداعمة من الأكواخ ومنحدرات السطوح.لقد بدأ النظام الاقتصادي كله ينهار، وفسدت المحاصيل الكاسدة في أنحاء البلاد.وكان البعض يقصد حاويات القمامة بحثا عما يأكله في بلد كان يعتبر من أغنى بلدان العالم.
#نورس_محمد_قدور (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟