|
التاريخ
عبد الغفور خوى
الحوار المتمدن-العدد: 2572 - 2009 / 3 / 1 - 08:21
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
الغفور خوى
إهــداء
إلى ابتسام، أسامة ونعيمة التاريخ هو الإنسان والباقي ف.بروديل ـــقديــــــم : قراءة التاريخ دائما تحيل إلى تصور ذهني أو منظومة معرفية لأنها قراءة دخلت في اختصاص النخبة : النخبة الدينية قديما والنخب المثقفة حديثا، على هذا الأساس جاءت قراءات التاريخ كمشاريع حضارية تؤول الماضي، ترفضه، تمجده أو تنتقي منه. إذا ادعت الوصول إلى الحقيقة اعترض عليها الفلاسفة بحجة أن الحقيقة نسبية إذا لم تتوفق في ذلك كانت كاذبة وتلك أم الكبائر. فالتاريخ مسلك من مسالك المعرفة وفيه يتحقق الوعي ولا يكون الحاضر سوى إحدى تجليات الماضي. من هنا نميز بين التاريخي واللاتاريخي بين الوعي وهو يتصل بالتصور الذهني للمجتمع عامة وبين الحوادث المتسلسلة في الزمان وهي ما اختص فيه المؤرخون التقليديون عموما فما تعلمه البشرية ينتمي إلى حقل التاريخ وما تجهله ينتمي إلى الطبيعة. لا تدرك الإنسانية إلا الجزء القليل من تاريخها الذي بدأ مع الكتابة والوعي بكينونة الإنسان مما جعل التاريخ مسارا عقليا لبني البشر في توافق زماني ومكاني. التاريخ إنساني بالتعريف : - إذا كان كوقائع تشمل ما يجري في المجتمع من أحداث وتطورات وصراعات فهو تاريخ حوادثي إنساني. - إذا كان كخطاب معرفي ومفهومي فهو يعطي للإنسان وجودا وصيرورة - إذا كان سردا فهو قصة إنسانية الإنسان جوهر التاريخ لكن لا يستقيم هذا المفهوم إلا بتعيينه زمانيا ومجاليا. هل يسير الزمان في حركة دائرية مغلقة أم يجري في خط مستقيم، هل هو تقدمي أم تراجعي ؟ إلى غير ذلك من الثنائيات. يبقى الزمان هو وعاء التاريخ أما المكان فلا يشمل المحيط ببعده الطبيعي فقط بل بكل تماساته مع الجوار أعني كل توسع أفقي لحضارة ما هو تعميق لإدراك بعد المكان في التاريخ. الإنســـان و التــــاريخ : الإنسان هو منفذ العملية التاريخية، تتجاذبه أبدا اهتمامات الحاضر وآمال المستقبل وذكريات الماضي (1) . فهو سواء كان فردا أو جماعة نتاج لتراكم قديم. كل اهتماماته لها جذور متعمقة في الماضي البعيد أو القريب. الإنسان ككائن تاريخي واع بمتغيرات الزمن هو كمن يعيش الأزمنة كلها. والماضي التاريخي بالنسبة للإنسان المتفاعل هو وعي مثل وعي الفرد بمراحل نموه الشخصية؛ فالمراحل التي شكلت هذا الفرد وأخرجته في صيغة معينة هي كالتاريخ بالنسبة للإنسانية، بل هو عند إمرسن أعلى مستوى من ذلك "فالإنسان هو العالم الأصغر والإنسانية هي العالم الأكبر" (2). تملك التاريخ هو استيعاب القوانين الشمولية التي تتحكم في المرئيات والتملك أساسه العقل الذي يميز الإنسان عن باقي الكائنات ويجعله فاعلا متفاعلا مع التاريخ لينمي وعيا جمعيا ويراكم تجارب تؤطر بمرور الوقت في ماض زماني بالنسبة لحاضر يتطلع إلى مستقبل. هذا التراكم قد يقود جماعة إلى الأحسن بتمثله واستثماره أحسن تمثل واستثمار أو يجعلها راكنة إذا أسيء إليه وحوكم بنزعات مصلحية. التاريخ هو بشري بالتعريف ودون ذلك فهو انتماء لحقول أخرى "فالتاريخ للبشر وبالبشر أما ما سواه فهو تاريخ بشري مقنع أو خاضع لمنطق الملاحظة أو الكشف " (3). على هذا الأساس فالمدة الزمنية للتاريخ قصيرة جدا إذا ما قورنت بزمن باقي الكائنات لأنه لا يهتم بماضي الإنسان إلا من حيث هو عاقل، ونستطيع أن نحدد هذا العمر ببداية التعايش البشري الجماعي واكتشاف الكتابة، لهذا تدعى المرحلة السابقة عنها بمرحلة ما قبل التاريخ. أي ماضي بشري جدير بالتسجيل والبعث والإحياء؟ "الماضي البشري بكل وجوهه"(4)، لكن هذا البعث تحكمت فيه أبدا عوامل اختلفت باختلاف الذهنيات والعصور : فهو مستودع السوابق السياسية بالنسبة لرجال الحكم أو هو انبعاث للسلف وتراثه الصالح لمحاكمة الذات المتخلفة عن الآخر كما هو الشأن بالنسبة لمفكري السلفية أو دروس في القومية والوطنية كما ذهب كتاب النهضة الأوروبية، بل هو مدرسة للديمقراطية وحقوق الإنسان عند فلاسفة الأنوار. تتعدد المنطلقات وتتنوع معها الأحكام على الماضي البشري فتكون انتقاءا أو تبريرا أو هروبا من واقع. هذا ما جعل روبير وولبول (1676-1745 م) يقول أن التاريخ ليس جديرا بالدرس لأنه يفتري الكذب لا محالة (5). التاريخ هو الإنسان في الزمان والمكان، هو الإنسان والباقي بعبارة فردناند بروديل، لذلك فهو معقد مركب تعقيد وتركيب الإنسان نفسه مما جعل من الصعوبة تصنيفه ضمن العلوم أو الفنون. فانقسم الباحثون في هذا الباب إلى معسكرين: أول : قال أن التاريخ لا يمكن أن يكون علما لأنه لا يستطيع إخضاع الوقائع لتبويب منظم ومقنن. ثان : قال أن التاريخ فوق العلم بكثير. رد هرنشو على الفريقين وقال " التاريخ علم نقد وتحقيق"(6) لا علم معاينة كالفلك ولا علم تجربة كالكيمياء، هو علم يتحالف مع متجاورين آخرين لتفسير الظاهرة الإنسانية. التاريخ كما سبقت الإشارة يشمل كل مناحي الحياة لذا فهو : "يشمل الحياة البشرية الماضية بجميع مظاهرها" (7) بما أنه إنساني فهو عقلي وأصيل في الحكمة كما قال ابن خلدون وحب الحكمة هو منبت الفلسفة، وكل من يحمل لقب مؤرخ فهو فيلسوف في نظر كروتشي بل هو تعليم الفلسفة نفسها بضرب الأمثال بعبارة بوليبيوس وقائد جوقة العلوم الإنسانية كما أشار فردناند بروديل. هو إذن ضرورة أخلاقية تهذيبية، مدرسة للسياسة منحى من مناحي البحث عن أسس الرقي وذاكرة الجنس البشري ما دام هو بشري بالتعريف.
الإنسان في التاريخ : نظر التاريخ إلى الإنسان نظرة اختلفت من مكان لأخر ومن زمان لأخر نظرة تنوعت بتنوع مشارب ثقافات المؤرخين والباحثين لكنها اجتمعت حول عدم براءة هذه النظرة، فليست ثمة قراءة للتاريخ لا تحركها نوازع تفرزها الفلسفات السائدة. فالمؤرخون القدامى اختلط لديهم الماضي البشري بالأسطورة فكانت كتاباتهم سجلا للبطولات التي أنجزها الإنسان أو الآلهة القديمة. قال تيت ليف كل ما يشبه الحق في الأمور القديمة يجب أن يعتبر حقا وهي مقولة تستمد مرجعيتها من ظرفية المؤرخ نفسه التي حتمت التغني بأمجاد روما وبطولات رجال السياسة والجيش. جاءت الديانات السماوية فخصصت للإنسان مكانة متميزة : فجسد الإنسان الذات الإلهية في المسيحية أما الإسلام فقد كرمه وجعله خليفة في الأرض "وإذا قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة" (8). لكن التناول المصلحي للماضي الإنساني ظل حاضرا. فقد خضع التاريخ الأوروبي لهيمنة الكنيسة باسم منحة قسطنطين لتبرير تسلط الأباطرة عدة قرون وظل عامل المنفعة في التاريخ الإسلامي من أهم محركيه فقد روي ان معاوية كان يجلس لأصحاب الأخبار كل ليلة بعد العشاء وكان أبو جعفر المنصور حريصا على الاتصال بالمؤرخ ابن إسحاق واستقدم المهدي أبي معشر السندي إلى بغداد (9). اعتبرت تجارب الإنسان الماضية أساسا يعين على الحكم الصالح وظلت وقائع الأبطال هي الجديرة بالاهتمام أكثر من غيرها إلى أن جاء ابن خلدون فنقل التاريخ الإسلامي من القصور إلى الأسواق أو من الصالون إلى المطبخ على حد تعبير الإنجليزية ايلين بارو. انتقل تأثير ابن خلدون وجماعة من مؤرخي الإسلام كالمسعودي وابن مسكويه وابن خلكان إلى أوربا عصر النهضة التي هي إنسية بالتعريف فانتفى الطابع البطولي والقدسي للإنسان، لكن أكسبته المرحلة كينونة جديدة قامت على أسس الحقوق والواجبات المدنية. وقال ماكيا فيللي بتشابه الأزمنة مادامت إنسانية " إن من شاء أن يتنبأ بالمستقبل فعليه أن يرجع للماضي لأن الأحداث البشرية تتشابه دائما" (10).مفهوم الإنسان في التاريخ نقلته النظريات التطورية إلى صف باقي الكائنات الحية فاصبح عنصرا من الطبيعة يتطور في شكله وعقله وفق قوانين النشوء والارتقاء. مفهوم قرأته الفرودية من منطلق اللاشعور يقول فرويد"نفترض ان الذكريات القديمة تورث من جيل لأخر، وبافتراضنا هذا نتخطى الهوة الفاصلة بين النفس الفردية ونفسانية الجماعة، فيمكن أن نعالج الشعوب كما نعالج الأفراد المصابين بالعصاب" (11). هذا الإنسان الفاعل في التاريخ أزيل عنه حجاب طالما تخفى وراءه مع نيتشه الذي أبان عن زيف أخلاق البشر فتبين أن الحضارة الحديثة لم تفعل سوى حجب الميل الطبيعي للإنسان إلى العدوان وما هو إلا ذئب لأخيه الإنسان بعبارة توماس هوبز لا يتردد القوي في الاعتداء على الضعيف فإن أعوزته القوة اصطنع الحيلة. إذا كانت الماركسية قد أعطت للإنسان بعدا تاريخيا ماديا وفلسفة الأنوار كرست مواطنته فإن الحربين العالميتين قد أبانتا بالملموس عن وحشية الإنسان، وحشية أفرزت نظرات للوجود تختلف عن سابقاتها. نظرات ساهمت في تشكيلها تراكمات الإنسان نفسه.
الهوامش
(1) قسطنطين زريف نحن والتاريخ دار العلم للملايين بيروت الطبعة الثالثة ص 142 (2) ج هرنشو علم التاريخ ترجمة عبد الحميد العباري دار الحداثة بيروت لبنان ص 142 (3) عبد الله العروي مفهوم التاريخ الجزء الأول المركز الثقافي في العربي الطبعة الأولى 1992 ص 34 (4) قسطنطين زريق مرجع سابق ص 55 (5) ج هرنشو مرجع سابق ص 100 (6) ج هرنشو مرجع سابق ص 16 (7) قسطنطين زريق مرجع سابق ص 55 (8) سورة البقرة الآية 30 (9) محمد عبد الغني حسن التاريخ عند المسلمين سلسلة كتاب الأمة عدد 32 دار المعارف ص 5-6-7 (10) ماكيا فيللي انظر منهج البحث التاريخي مصطفى أبو ضيف أحمد ص 90-91 (11) مقولة فرويد أوردها الأستاذ العرويفي مفهوم التاريخ الجزء الأول ص 165
إنك لا تستطيع أن تضع قدمك في النهر مرتين ديموقريطس
الزمـــان التاريــخي : من الصعوبة بمكان تعيين فواصل وحدود بين عدة مفاهيم تتجاور ومفهوم الزمان بل تنتمي إلى حقله مثل التأريخ، التوقيت، التحقيب، التقويم. إذ أن تناول مفهوم الزمان التاريخي كمعطى لا يستقر على شكل واحد ولا ينفصل عن التصورات الفلسفية لعصر من العصور يفرض بالضرورة تماسا مع هذه المفاهيم كأشكال فنية وتقنية لشرحه وتبويبه. من المستحيل تصور أية ظاهرة تاريخية خارج نطاق الزمان الذي يتحقق فيه الوعي الإنساني: الوعي بديمومة الزمان وحركيته. فالزمان حي والحياة زمانية(1) مما يجعل الزمان في التاريخ هو زمن الإنسان بأفعاله وانفعالاته المتواصلة أو المفككة. اعتبر المؤرخون التقليديون أن الزمان خط تتعاقب على طوله ما يراكمه الإنسان من بناء، إلا أن الدراسات الحديثة اعتبرت أن الزمان التاريخي له أبعاد ومستويات تتجاوز ذلك البعد الخطي التقليدي بل أن مفهوم الزمان اكتسى تعددية زمانية مع النسبية "تمة عدة أزمان تتوافق بلا ريب" (2). ارتبط فهم الزمان بما يفرزه كل عصر من تصور تشكله الفلسفة السائدة عن الماضي هل هو خطي، لولبي، حلزوني، تراجعي، تقدمي إلى آخره مما يجعل تناول ظاهرة الزمان تتجاوز حقل التاريخ والمؤرخ. الزمان التاريخي هو سلسلة انقطاعات لا تترابط إلا بالوعي الذي يمتلكه المؤرخ لربط النتائج بالأسباب ويمنح لكل حلقة قيمتها التاريخية، سواء كانت هذه الحلقة ذات بعد محلي يمس جماعة أو ملة أو أمة وهذا عمل المؤرخ أو ذات بعد كوني وهذه ممارسة فلسفية. الزمان في التاريخ البشري يستوعب أحداثا مميزة تفرض نفسها كفواصل زمانية تحدد كبدايات ونهايات لحقب متلاحقة لكنها تشكل اتصالا تاريخيا وتجيب عن سؤال مركزي يعتبر أساسيا في التاريخ هو متى؟ الجواب يستمد خصوصيته من كل عصر وكل حضارة، هو نقطة بدء. تتحدد هذه النقطة عند مؤرخ مسلم بالهجرة النبوية من مكة إلى المدينة وعند آخر مسيحي بميلاد عيسى بن مريم وعند عرب الجاهلية بعام الفيل أو بناء الكعبة أو نار حوران إلى آخره. هل يختلف الزمان التاريخي باختلاف نقط البداية، الجواب بالنفي طبعا. فنظرة الإنسان للزمان يحكمها تنوع المواقع وتعدد المنطلقات والتصورات. تسمى التجربة التقنية للزمان بالتقويم الذي ترسمه أغراض وحاجات المجتمعات. يقول ابن العبري في سنة 43 من ملك يوليوس قيصر الموافق لـ 309 من تاريخ الاسكندر ولد المسيح (3) وعدد الكافيجي عدة تواريخ كانت تستعمل في زمانه وهي الرومي، الفارسي، الملكي، اليهودي والتركي. تقاويم الزمان التاريخي متعددة لكن لضرورة منهجية وخلال ق 19 بدأ إفراغ تواريخ الأمم في قالب زمني واحد يتخذ من ميلاد المسيح نقطة بداية. التقويم يقسم التاريخ إلى فترات وعهود وحقب متمايزة كل حقبة تبدأ حياتها على انقاض موت سابقتها. لا تنفر منها كما ينفر حصان من آخر ميت لكن تشد إليها بأوثق العرى.
الزمان التاريخي قبل النهضة الأوربية : استخدمت الحضارات القديمة أساليب مختلفة لتقسيم التاريخ زمانيا لأغراض حياتية ويومية فابتكرت التقاويم لقياس الوقت، كان أبسطها التقويم القمري في حين انفرد قدماء المصريين بابتداع تقويم شمسي لضرورات تتصل بالزراعة وفياضانات نهر النيل وعلى أرضية التقويم ظهرت التحقيبات التي هي تجزئة للزمان التاريخي. حوالي 1100 ق.م ظهرت حوليات آشورية تتحدث عن الملوك وترتبها ترتيبا سنويا من سنة لأخرى. أما العبرانيون فقد رتبوا الزمان وفق مراحل تقدر بالأجيال (4). وعند الإغريق تولد الإحساس بالزمان في علاقة بالأحداث العظمى كقصة حصار طروادة ومقارنة أصول أساطيرهم بأساطير الحضارات التي احتكوا بها. بالإضافة إلى هذه التحقبيات سادت لدى الحضارات القديمة طرق أخرى لضبط مسار الزمان تعتمد سنوات الحكم وكان الحكام يفضلونها. أما اليهود والمسيحيون فقد تصوروا الزمان بشكل خطي وأدخل مؤرخوهم تحقيبا ثنائيا لاهوتيا : حقبة ما قبل خروج آدم من الجنة وحقبة أعقبت الخروج فأصبح الزمان تجليا للإرادة الإلهة وهو ما يتعارض مع فهمه عند الإغريق الذين ارتكز فهمهم للماضي على حس نقدي فتطور تصور الزمان لديهم بالبحث عن الأشياء الجديرة بالمعرفة وهو ما تعنيه كلمة "استوريا" التي هي منبت التاريخ الذي جزؤوه إلى عصور ذهبي، فضي، برونزي، عصر الأبطال، حديدي. تناول بولبيوس الروماني (198-117) مراحل توسع الإمبراطورية الرومانية وتطورها الدستوري إلى حدود 146 ق.م في نسق زماني منظم يروم العودة إلى الماضي للاعتبار واستخلاص الحكم فالتاريخ بالنسبة إليه هو تعليم الفلسفة بضرب الأمثال (5). وعندما تنصر قسطنطين (306-377 م) تحول التاريخ إلى اديرة الرهبان والقساوسة ليقيم عندهم طوال العصور الوسطى، وخلالها ظل الزمان لا هوتيا مسخرا تنتظم على طوله الخوارق والكرامات واتبع المؤرخون ما انتهى إليه القديس أوغسطين في "مدينة الله" الذي يقسم الزمان إلى ستة فترات كبرى نسبة إلى الأيام الستة التي خلق الله فيها العالم. سجن التاريخ في أديرة رجال الدين جعل الزمان مشيئة إلاهية، لكن الوجه المفيد لهذا السجن كان هو تناول هذا الزمان في شمولية وكونية فكان منشأ فلسفة التاريخ.
الزمان التاريخي بعد النهضة الأوروبية : النهضة إحياء، وحرفيا ميلاد جديد أو تكرار الولادة ومعناه ربط الماضي بالحاضر. اعتبرت مرحلة أساسية في بناء العقل الأوربي الذي مد جسرا في الزمان بين ماضيه وحاضره مستهدفا التحرر. لم يعد الزمان التاريخي بعد النهضة أمرا بديهيا بل تم الكشف عن عمقه الأيديولوجي ولم يعد التاريخ مجرد أحداث تتعاقب مع مرور الزمان بشكل خطي لكن الماضي عاد ليفعل في الحاضر : عادت روح أفلاطون وقوة يوليوس قيصر لتقويض سحر توماس اكويناس وسلطة كريكوري السابع "فالذكرى لا تعلم دون اسناد جدلي إلى الحاضر"(6). هكذا فند لورانزوفالا ما كان يعرف بهبة قسطنطين وألغى تلك السخافات التي طالما استند إليها البابوات وحرر الزمان من القدرية لكن سرعان ما عرف مفهوم الزمان ردة مفاجأة بظهور حركة الإصلاح الديني فأرغم على ارتداء صبغة لاهوتية جديدة واستخدم في حلبة الصراع بين الكاثوليكية والبروتستانتية في انتظار تجدر الاتجاه الإنسي وبداية ظهور معالم الرأسمالية وما سمحت به الكشوفات الجغرافية من توسيع الآفاق المعرفية فبدأ تقلص التصورات المحلية أو القدرية للزمان لصالح الزمان الكوني الذي تغذى على تنامي الفلسفات الحديثة. فسر جيوفاني باتيستا فيكو صيرورة الزمان بشكل لولبي وقسمه إلى 3 مراحل : زمن الآلهة، زمن الأبطال، زمن الجماهير والشعوب. مفهوم تجدر في الدنيوية أكثر مع فخته والعقلانية المعلمية مع ديدرو فولتير وغيرهم. أضفت الهيجيلية على الزمان بعدا كليا ومفهوميا ورأت أن الزمان كمدار الشمس. يبدأ من الشرق وينتهي إلى الغرب فالشرق بداية التاريخ والغرب نهايته وجزأ هيجل الزمان إلى ثلاث مراحل عصر الشرق، عصر اليونان والرومان ثم العصر الجرماني الحديث. هذه الخلفية هي أساس الماركسية التي تناولت الزمان في سياق مادي : قسمته إلى (المشاعة البدائية، العبودية، الإقطاع، الرأسمالية، فالاشتراكية). وقد حققت مدرسة الحوليات تحولا معرفيا هاما في حقل التاريخيات فاعتبرت الزمان الموضوع الرئيسي للتاريخ. والتاريخ علم الإنسان في الزمان. الزمان المتصل والدائم التغيير، وهو مع فردناند بروديل ثلاث مستويات: حدثي هو زمن الأفراد، دوري زمن الجماعات، وطويل هو زمن العالم. من خلال هذا التداخل صاغ مقولة التاريخ الكلي وأن الزمان لا يوجد إلا في علاقته بالباقي لذلك يتداخل الماضي والحاضر والمستقبل ليصبح الإنسان تحت وطأة الزمان والمكان.
الزمان التاريخي عند المسلمين : الإسلام مرتبط بالتاريخ الكوني والإسلام يجب ما قبله. لهذا فالزمان في الإسلام اتصال وانفصال في نفس الوقت : اتصال باستمرارية النبوة وقصة الخلق وتاريخ الرسل وانفصال عن تصور ظل سائدا لدى عرب الجاهلية قبله. تعامل العرب في الجاهلية مع مفهوم الزمان بنظرة أحادية تم التركيز فيها على النهاية الإنسانية وهو ما كان مثار قلق لدى العرب يقول طرفة بن العبد : لعمرك ما أدري وأني لواجل أفي اليوم إقدام المنية أم غذ؟ قد يكون مرد ذلك إلى الطبيعة الصحراوية التي لم تساعد على الاستقرار وسيادة طابع البداوة والثقافة الشفاهية (8). جاء الإسلام فأزال ذلك القلق وتمثل الزمان في ديمومة لا تتوقف مع الموت غير أنه حافظ على بعض الأنماط الزمانية القديمة فاستبدلت أيام العرب بالمغازي والتواريخ الحولية ونشأ الزمان التاريخي من هذا التركيب الذي يضمن ترابط الأحداث فامتزجت الأنماط بالحقب. بهذا المعنى أصبح للماضي حضور كبير في ذهنية المسلمين ولم تعد أعمال الإنسان منسية فامتزج الزمان بالتاريخ بل الماضي هو التاريخ بعينه على حد تعبير أحد المؤرخين المعاصرين"لتاريخ هو إدراك الماضي البشري وإحيائه"(9). لا شك أن تعدد التقاويم مثل عائقا حال دون تحقيق الاتصال في الزمان مما فرض ابتداع التقويم الهجري. يذكر أن عامل عمر بن الخطاب على اليمن أبو يعلى بن أمية هو أول من أرخ (10) فكانت كتبه تصل إلى الخليفة عمر واستحسن الأمر وباستشارة مع أصحابه اهتدى إلى التقويم الهجري كأداة فنية تضمن استمرار التاريخ وتميز الزمان الإسلامي عن غيره. اختار المسلمون إذن نقطة بدء لتحقيق الجماعة في الأمة والأمة في العالم لكن ظل التقويم الهجري مجرد طريقه للتوقيت نظرا لعدم توحد المعرفي بالإيديولوجي. عموما أصبح التقويم الهجري نقطة ارتكاز للروايات والأبحاث التاريخية (11) فبدأ التناول الفعلي للزمان في كتب السير والمغازي تحركه رغبة العلماء في معرفة تواريخ الأمم الغابرة وميل بعض القادة للاعتبار من دسائس الحكام السابقين، وحرص الموالي على التنويه بأمجادهم. لهذه الاعتبارات أفرغ مؤرخوا الإسلام أحداث الماضي في مسار خطي يبدأ من بداية الخليقة وينتهي غالبا عند عصر المؤرخ، وهذا شأن المؤرخين التقليديين والرواة والمحدثين. كونية الزمان تراجعت لصالح التواريخ المحلية عند المسلمين بعد تفكك الدولة العباسية (ابن عساكر- ابن عذاري - ياقوت الحموي) في انتظار ابن خلدون الذي تكمن مساهمته في النظرة الفلسفية إذ انتقل بحياة المجتمع من زمن تاريخي موحد خطي طبع حياته السياسية عند مختلف المؤرخين السابقين إلى زمن دائري يعتمد الجدلية ومن خلال هذا التصور حاول ابن خلدون تملك القوانين المتحكمة في الزمن. إن تحديدات الزمان في التاريخ لا يمكن استنتاجها من هذا الجرد القصير ولا من تصورات المؤرخين بل يتطلب ذلك تحديدا للمرجعيات النظرية والمعرفية لفلسفات متعددة ومقارنتها.
الهوامش
(1) غاستون باشلار جدلية الزمن ترجمة خليل احمد خليل الطبعة الأولى 1982 ص 15 (2) غاستون باشلار ن م ص 109 (3) عبد الله العروي مفهوم التاريخ الجزء الثاني ص 260 (4) مصطفى أبو صيف أحمد منهج البحث التاريخي بين الماضي والحاضر مطبعة النجاح الطبعة الأولى 1987 ص 9 (5) ج هرنشو علم التاريخ ص 32 (6) غاستون باشلار جدلية الزمن ص 47 (7) انظر هوامش ص 89 من منهج البحث التاريخي د مصطفى أبو صيف أحمر (8) سالم أحمد محل المنظور الحضاري في التدوين التاريخي عند العرب كتابة الأمة عدد 20 ص 43 (9) قسطنطين زريق نحن والتاريخ ص 49 (10) سالم أحمد محل مرجع سابق ص 80 (11) محمد أحمد ترحيني المؤرخون والتأريخ عند العرب دار الكتب العلمية بيروت لبنان ص 27
اعلم أن اختلاف الأجيال في أحوالهم إنما باختلاف نحلتهم في المعاش ابن خلدون
البعد المكاني في التاريخ : يعتبر المكان أو البيئة ركنا أساسيا في فهم الظواهر التاريخية، فالمجال الجغرافي هو مسرح العملية التاريخية مما يجعل الجغرافيا إحدى حقائق التاريخ وإحدى العوامل الفاعلة فيه إذ بدونها لا تستقيم الظاهرة التاريخية وتتوطن ضمن موقع يضمن تسلسلا زمنيا معقولا، بل إن مفهوم "إستوريا" الإغريقي الذي يرمي إلى الاهتمام بالأشياء الجديرة بالمعرفة منه تشكل معنى التاريخ كمصطلح عند الإغريق فولد في رحم الجغرافيا. يقول هرنشو " شرع ذلك الشعب العجيب ابتداء من حوالي 2000 سنة قبل الميلاد يهبط غازيا ومتطفلا أقاليم تأصلت فيها مدنيات البحر الأبيض المتوسط. ولما كانت أصول تلك المدنية تخالف أصول أساطيرهم فقد نشأ عن تصادمها في العقل الإغريقي نوع من الشك...وأقبلوا يتعرفون العلل الطبيعية لظواهر كانت حتى وقتهم تضاف إلى ما لا يحصى من أهواء آلهة لا تحصى"(1). من منطلق التوسع المجالي وبداية الاستئناس بمواقع جديدة درست المدنيات القديمة وبدأ البحث عن العوامل المتحكمة في ظهور الحوادث، ظهورها في هذا الموقع وعدم ظهورها في ذاك. مجرى التاريخ العام يفسر بالضرورة في إحدى جوانبه بما تقدمه البيئة من معطيات تضاريسية، نباتية، مناخية وغيرها مما يجعل حضارة شيدت في بيئة صحراوية تختلف في معالمها عن نظيرة لها في بيئة نهرية أو بحرية. صيرورة الإنسان في التاريخ تتأثر بالإطار الجغرافي: إذا كان الإنسان هو الركن الرئيسي في كل عملية تاريخية، ولا تاريخ إلا للإنسان : فالطقس يمارس تأثيرا على المزاج والطبيعة النفسية لهذا الركن. غالى البعض في ذلك حتى صيغت نظرية أطلق عليها الاتجاه الحتمي في الجغرافيا مع فريدريك راتزل وأصحابه (2)، وعلى النقيض تشكلت معالم اتجاه آخر مفاده أن الإنسان هو الذي يفعل في المحيط هذا ما قالت به المدرسة الإمكانية مع فيدال ذي لا بلاش وآخرون. وبين المعسكرين تموقع اتجاه ثالث توفيقي عرف بالاتجاه الاحتمالي. جدل بين مدارس جغرافية حول تأثير المكان في الإنسان أو الإنسان في المكان تستخلص منه الأهمية التي يلعبها المجال الجغرافي في تفسير انفعالات وأفعال الإنسان يقول ابن خلدون "اعلم أن اختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو اختلاف في نحلتهم في المعاش" (3) والمعاش خط حياة يقسمه ابن خلدون إلى شكلين كبيرين بداوة : حياة أهل البدو سكان الصحراء وحضارة والحضر هم سكان المدينة. حياة الأولى توحش وهو خط عام لسلوك القبائل المنفردة بالبادية والصحراء وصفات خلقية وجسمية يختص بها البدو والرحل نتيجة قساوة ظروفهم الطبيعية أما حياة الثانية فتعني في الأدبيات الخلدونية حياة الأرستقراطية الحاكمة التي تتميز بالرقة وفساد أخلاق الأفراد. المكان حسب ابن خلدون يساهم بقسط كبير في العمران البشري، في بناء الحضارة ومعناه في مجرى التاريخ. هناك من يذهب أبعد من ابن خلدون ويعزي الحضارة برمتها إلى دور المكان فقد قال S.Huntington بأن جميع سكان المناطق الحارة والمدارية متخلفون والحضارة والتقدم نتاجا للمناخ المعتدل البارد فقط. عموما فالتاريخ كمجرى حوادث فعلي وبحث في مخلفات الماضي يصاغ ويتشكل في علاقة بمحيط وهذا ما يجعل المؤرخ لا يستطيع التملص من الجواب على سؤال جوهري يعتبر من صميم عمل المؤرخ هو أين؟ أين وقعت معركة وادي المخازن؟ أين ظهر مؤسس الدولة العلوية؟ يهتم الجغرافي وعالم الاجتماع بتأثير العامل الجغرافي اهتماما كبيرا، لكن المؤرخ لا ينفي ذلك وإنما يهتم به لتعريف حادثة ما. هذا التعريف لا يتم أبدا بدون توطين(4). يستحيل إذن تمثل الزمن في بعده التاريخي دون توطين: معرفة أين ؟ والجواب يقود الباحث إلى الكشف عن العلل التي جعلت الظاهرة تقع بالفعل وفي موقع ما. قد تقع في عدة مواقع لكن حتما لا تكون بنفس الوقع هنا وهناك، فخصوصية الأمكنة لها مفعولها. مع كل هذا لا ينبغي أن نبالغ في دور المكان وما تتركه العوامل الطبيعية وفي الوقت نفسه يجب أخذه بعين الاعتبار لتفسير حركة التاريخ فجو أيونيا المعتدل قد أسهم بغير شك في إضفاء الصفاء والرقة على إشعار هوميروس لكن هذا الجو لا يخلق لنا شعراء من هذا الطراز (5). المكان بتنوع معطياته يؤثر في التاريخ : فقد يعدل سلوكا، يقلل من انفعال أو يزيد. يضفي طابعا خصوصيا على الحوادث، لكن وحده لا يصنع الحوادث التاريخية : فهي إنسانية بالتعريف، إزالة إنسانيتها يدرجها في الطبيعيات. يتميز المكان في التاريخ بالمرونة : قد ينتزع من زمانه إلى زمان آخر فيخدع الباحث فالشعراء العرب قد تغنوا بالفيافي حتى بعد أن سكنوا بغداد (6). فالمكان في "التاريخ بالتمثال" (7) ينتقل محمولا في ذهن الإنسان. حدود المجال في التاريخ ليست هي عينها من زمن لأخر. فدلالات الأندلس، إفريقية نوميديا، بورغواطة ليست هي هي في كل عصر. نستخلص أن المكان يفعل في التاريخ بثلاث معان : الأول : يؤثر في صياغة الحدث وإخراجه بشكل معين. الثاني : يؤثر في منحى المؤرخ ويؤطر منهجه في التعامل مع الماضي الثالث : يحفظ الشواهد أو يعجل بزوالها : أي يساهم في كتابة التاريخ لاحقا، أو يحوله إلى طبيعة. المكان ليس هو العوامل الطبيعية فقط بل هو شمولية وكينونة الإطار الجغرافي وما يحتويه، يلعب فيه الإنسان ككائن تاريخي دورا أساسيا.
البعد المكاني في التاريخ الأوروبي : سبقت الإشارة إلى أن مفهوم "إستوريا" قد تشكل عندما التقت الحضارة الإغريقية بجيرانها، وأشرنا أيضا أن البيئة تعتبر إحدى أركان التاريخ من حيث هو مجرى حوادثي ووعي إنساني. من هذا المنطلق سنتلمس آثار هذا الركن عبر مسار خطي منذ هيرودوت إلى بروديل إذ يتعذر أن نعرج على كل المؤرخين والأراخين. لقد صاغ هيرودوت تاريخه على أرضية جغرافية، فجولته في رحاب العالم القديم أهلته لتحليل حوادث عصره بروح لا تغفل البعد المجالي، إذ اعتبر الحروب مع الفرس اصطداما بين طرازين مختلفين من الحضارة : الهيلينية والشرقية أو بين أوروبا وآسيا (8) وأيضا بين بيئتين متمايزتين، فالأحداث التي نقلها لنا هيرودوت تحولت إلى مرئيات بفعل تباين مجالي وصيغت بفعل اختلاف المعطيات الاقتصادية الاجتماعية السياسية والجغرافية. هذه الحقيقة هي التي توصل إليها مؤرخنا وأقنعته في مقولته " لولا النيل لما كانت مصر". أما تيو قديد فقد تناول حروبا دارت بين مدينتين شقيقتين هما اسبارطة وأثينا، رأى في ذلك صراعا بين مدينة لها صلة وثيقة بالبحر والتجارة (أثينا) وأخرى تعتمد في اقتصادها على الأرض والفلاحة(اسبارطة) واستنتج أن حرب البيلوبونير كانت صراعا بين نظامين مختلفين. لم يغفل الروماني يوليوس قيصر (100-44 ق.م) أن الجغرافيا عامل مهم في صناعة الأحداث خلال تأليفه لكتاب "الحرب الغالية" فقدم وصفا دقيقا لمعالم المواقع التي دارت فوقها رحى المعارك. عندما تبنى أباطرة روما القديمة المسيحية كدين رسمي انتقل التاريخ من يد أصحابه إلى أديرة القساوسة والرهبان لمدة تربو عن الألف سنة وخلالها انحصر التاريخ في كتابة الحوليات التي افتقرت إلى الروح العلمي، إذ عجز المؤرخون عن تعيين حدود فاصلة بين ما هو ديني وما هو دنيوي فانتفى البعد المكاني من العملية التاريخية لصالح سيادة بعد زماني طولي تتحكم فيه مشيئة الخالق. قد نستثني من ذلك التواريخ التي عالجت الحروب الصليبية. انطلقت كتابة التاريخ في عصر النهضة من إيطاليا في توب مجالي تؤطره النزعة الاستقلالية للمدن الإيطالية وملامح القومية التي بدأت تتبلور، وهي عوامل صاغت مرجعيات مؤرخي المرحلة. هذه البيئة هي التي ساهمت في تشكيل شخصية ماكيا فيللي وطريقة تناوله للفكر السياسي والتاريخ وأخرى هي التي أطرت شخصية ابن خلدون وثالثة صنعت هيرودوت والمسعودي وغيرهم. لقد نما الفكر الجغرافي أيضا في تماس مع العلوم الأخرى لكن دلالة المجال في التاريخ تبقى من صميم التاريخ. فالألمان عندما درسوا أوضاع إمارتهم لمقارنتها مع دول منافسة كان هدفهم قومي، هدف ينتمي لكيانهم ووعيهم التاريخي، والمسلمون عندما استوعبوا المجال استوعبوه ضمن حدود التاريخ والإغريق كما أشرنا أسسوا "استوريا" ضمن واقع تميز بالتوسع المجالي. العلوم تتولد عن بعضها البعض تنمو في تماس مع بعضها ثم تخلق لنفسها تواجدا مستقلا : (الجغرافيا، الاكولوجيا، الاركيولوجيا وغيرها). هل انتزع المجال من التاريخ ؟ فالمجال في التاريخ كيان شامل جزء منه وفاعل فيه حتى وإن تقزم المجال الجغرافي إلى حدود الجهوية الضيقة . أدت الكشوفات الجغرافية إلى اتصال جديد بين أوربا وحضارات متنوعة ومختلفة عن الحضارة المسيحية، فكتب المؤرخون عن مجالين متناقضين، وخلالها توضحت معالم الأرض فلم يعد بحر الظلمات ينتهي بالمجهول. فقد أثبت ماجلان كروية الأرض عمليا مما زاد من رغبة أوربا في اكتساح العالم الجديد. أحداث صاغت الفكر التاريخي الحديث وتممت صياغته المفاهيم التي أنتجها النظام الرأسمالي وفلسفة الأنوار فجعلته يتملك أدواته المعرفية والنظرية (اعتقدت مدرسة مونتسكيو في تأثير العوامل الجغرافية وأوضح فولثير أن المناخ ونظام الحكم والديانة هي العوامل الثلاث المؤثرة في عقل الإنسان). لا يذوب التاريخ في المجال بل ينتج ويقرأ من خلاله لأنه هو نفسه الوعي بالزمان وبالمكان في صيرورة دائمة. يشير هيجل إلى أن أهمية البعد الجغرافي في التاريخ وبناء الحضارات. إنه يستبعد المنطقتين المتجمدة والحارة من دراما العالم لكونهما في نظره موقعين غير مناسبين لظهور التاريخ (9) كما استبعد العالم الجديد، ومن ثمة فالعالم القديم هو مسرح التاريخ العالمي لا سيما المنطقة التي تقع حول البحر الأبيض المتوسط. يقسم هيجل المجال العالمي إلى ثلاث أقسام : - الأولى : الأراضي المرتفعة ويعني بها افريقيا خصوصا، إذ يتعايش السلب والنهب مع الكرم وحسن الضيافة كنتاج لحياة الرعي. - الثانية : السهول الوديانية : داخلها تستطيع الملكية الخاصة الزراعية أن تنمو لتساهم في إنشاء الممالك والدول مثل الفرات والنيل ووديان الصين. - الثالثة : المناطق الساحلية خصوصا أوربا حيث الغزو والقرصنة والحرية الاجتماعية وهي المواقع القادرة على صنع التاريخ الذي هو مسار الشمس آسيا بدايته وأوربا نهايته أما فردناند بروديل فالتاريخ بالنسبة إليه يقوم على : - المدة الطويلة - تداخل الأزمنة - دور الجغرافية التاريخية فيما يخص النقطة الأخيرة فالبروديلية تهدف إلى أن يتجاوز التاريخ سرد الحوادث ليتفاعل مع عالم يتأسس على تداخل العلوم وتعدد المناهج. من هذا المنطلق تناول بروديل العالم المتوسطي كمدى زماني وبعد جغرافي ومفهوم تاريخي حتى قال عنه ايف لاكوت "بروديل مؤرخ كبير جدا، لكنه أيضا وأن نفي ذلك فهو جغرافي كبير" (10). نستخلص من البروديلية أن الجغرافيا تلعب دورا أساسيا في التطور التاريخي، الجغرافيا كوسط اقتصادي وبيئي في التاريخ والإنسان. فالتاريخ هو الإنسان والباقي حسب عبارة بروديل نفسه. كل شيء هو من صميم التاريخ : الأرض، البحر، الأنهار، الصحاري...فالعلاقات التفاعلية بين الإنسان وهذه المكونات تقود إلى حدث تاريخي متحرك وانفعالي أيضا. هكذا طرح بروديل المشاكل الإنسانية من منظور جغرافي ينظر إلى كيفية توزيع المشاكل في المجال مما يفرض على المؤرخين الاهتمام بالمكان وعلى الجغرافيين الاهتمام بالزمان. البعد المجالي في التاريخ الإسلامي : اهتم المسلمون بالتاريخ اهتماما قل أن نجد له نظيرا عند غيرهم فقد تناولوا أخبار العرب وأيامهم في الجاهلية والإسلام والمغازي والفتوح وتاريخ الرجال وطبقاتهم والمدن والأمصار.. ويبدو أن الذين كتبوا في التاريخ قد اهتموا أيضا بالمجال الجغرافي وذلك لأن التاريخ والجغرافيا كانا شقيقين في معارفهم التي انتظمت في إطار أدبي عموما. هذا ما فعله المسعودي الذي دعى إلى الاهتمام بالمشاهدة والمعاينة (11) والاحتياط من الاكتفاء بالسماع وبذلك يقف أمام الجاحظ لمناقشته في بعض المعارف الجغرافية التي ذكرها دون تمحيص ووصف المسعودي الأرض والبحار والتضاريس وناقش رأي بطليموس في ذلك. هذا أيضا ما فعله محمد بن هشام الكلبي والأصمعي والدينوري وغيرهم. إلا أن مفهوم المكان ظل ضيقا لا يتعدى شبه الجزيرة العربية ليتوسع في علاقة بتوسع الرقعة الجغرافية لحكم المسلمين ومتطلبات الخلافة والحاجة إلى معرفة أحوال المسالك ورغبة العلماء ورجال السياسة في معرفة معالم مجالات جديدة فتحت عنوة أو صلحا أو بعهد لأغراض دينية وجبائية. لهذه الأغراض رسمت الخرائط وترجمت مؤلفات بطليموس الجغرافية وقاس المأمون نفسه خط الزوال. يضاف إلى ذلك تعدد سجلات المواقع ومذكرات الحجاج والتجار التي ساهمت في توسيع مدارك البعد المجالي. عند نهاية ق 4 هـ ظهرت معالم جديدة في التآليف الجغرافية تمثل مرحلة النضج عند لعرب (12) تجسدت في الاهتمام بوصف أقطار العالم الإسلامي والميل إلى وضع معاجم جغرافية وموسوعات كبرى. التدوين التاريخي عند المسلمين استقام في علاقة بالمكان لأن أغلب أسبابه ارتبطت بالتوسع أو أهداف دينية واقتصادية. بين القرآن أن هناك غاية تغياها الله من الإنسان هي حمل الأمانة والاستخلاف في الأرض وبما أن الإنسان اعتبر مسؤولا في حياته فبيئته أصبحت وسيلة يتوسل بها إلى خالقه وهي بأبعادها المجالية مسخرة له : "ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معاشا قليلا ما تشكرون" (13). المؤرخون المسلمون حكمتهم اعتبارات متعددة في كتاباتهم منها البعد المكاني للأغراض السابقة الذكر فتنوعت مشاربهم وتصوراتهم وانقسموا إلى مدارس واتجاهات تباينت إقليميا (مدرسة المدينة ومدرسة العراق) ومذهبيا وعرقيا. غير أن أهم مساهمة في هذا الإطار ينفرد بها عبد الرحمان ابن خلدون يقول "الإنسان ابن عوائده ومألوفه لا ابن طبيعته ومزاجه" (14). إذ على المؤرخ في نظره أن يلم بعوائد البشر وكيفية كسبهم وأفكارهم في نظرة شمولية داخل نسق عام سماه بالعمران البشري وعلى التاريخ أن لا يقتصر على ثنائية الخير والشر وسير العظماء بل عليه تناول التفاعل بين البشر والمجال. ابن خلدون يعتبر رائدا في هذا الباب حتى قال عنه توينيي : "نجم لمع في سماء الحضارة العربية ثم تلاشى بدون أثر". الهوامش
(1) ج هرنشو علم التاريخ ص 27-28 (2) الحتمية الجغرافية إحدى نظريات الجغرافية الكلاسيكية تقول بأهمية العوامل الطبيعية في التأثر على الإنسان (3 ) ابن خلدون المقدمة ص 210 (4) عبد الله العروي مفهوم التاريخ ج II ص 256 (5) هيجل العقل في التاريخ ترجمة إمام عبد الفتاح إمام ص 52 (6) انظر مفهوم التاريخ ج I (صفحات 119-126) (7) ن م ص 119 (8) مصطفى أبو ضيف احمد منهج البحث التاريخي ص 24 (9) هيجل العقل في التاريخ ص 52 (10) فردناند بروديل حركية الرأسمالية طـ I ترجمة محمد البكري / محمد بولشي ص 89 (11) محمد عبد الغني حسن التاريخ عند المسلمين كتاب عدد 32 ص 54 (12) محمد أحمد ترحيني المؤرخون والتأريخ عند العرب ص 171 (13) سورة الأعراف الآية 10 (14) ابن خلدون المقدمة ص 338-339
استـنــتـــاجات نستطيع أن نستخلص مما سبق أن الإنسان هو مشيد الحضارة بتداعياتها السلبية والإيجابية. فهو كائن لا يرضى بالوثيرة الواحدة ولا الجمود لذلك نجد له تاريخا بينما ينعدم لدى الكائنات الأخرى (1). والحضارة نفسها تجسيد ملموس للتاريخ. التاريخ الذي يصنعه الإنسان : - أولا : كجماعة وهذا ما ذهبت إليه النزعة الاجتماعية التاريخية إذ تصورت الظواهر التاريخية إفرازا اجتماعيا خارج إرادة الفرد الذي يتلقى توجيه الجماعة - ثانيا : كفرد وكبطل وهذا ما تصوره كثيرون (توماس كارلايل وآخرون) فالتاريخ نتاج ملموس لأفراد خلاقين ومبدعين. والفرد هو الذي يحدد معنى التاريخ (2) - ثالثا : كجماعة وكفرد وهو تصور يرى أنه يستحيل النظر إلى الفرد والجماعة ككيانين مستقلين. فالفرد له كل صفات الجماعة كنقطة دم تلخص خصوصيات دم الجسم ككل (مارسيل موس). مهما تنوعت التصورات فالأفراد في حقيقتهم إفراز لظروف الزمان والمكان. فإذا كانت الرأسمالية نتاجا طبيعيا لخصوصيات التاريخ الأوروبي فإن لها أفرادا وازنين قد شكلوا معالمها من أمثال أدم سميت ودافيد ريكاردو وغيرهم. وإذا كانت الثورة البلشفية خيارا حتمته خصوصيات التاريخ الروسي فلها أبطال كلينين وتروتسكي وآخرون. البناء الحضاري استمرار في التاريخ وديمومة لا تنقطع بطلها الإنسان كفرد أو كجماعة، يختلف فعله التاريخي باختلاف الزمان والمكان لكن وعيه يبقى شرطا ضروريا في هذا البناء. فلا تاريخ إلا بالوعي. أما الزمان التاريخي فنستنتج أنه اتصال وانفصال : اتصال بما هو مسلسل وقائعي إذ أن الأحداث تقع باستمرار وبدون توقف. تبتعد عن الحاضر يوما بعد يوم أي أن تقادمها مستمر لكن معارفنا حولها تتقدم باستمرار أيضا بفعل التقدم التكنولوجي. الزمان انفصال لأن كل لحظة هي جديدة رغم أن لها جذورا تضرب في عمق القديم. هي جديدة لأنها لا تعيد القديم بل تحاوره وتتحرر منه فالطفل يصبح حرا عندما ينفصل عن أمه وكذا التلميذ عندما يتجاوز أستاذه والمريد شيخه. انفصال لا يكون إلا بالوعي الذي يتحقق في الماضي وينحل فيه. الزمان من حيث تناوله فهو تصوران اثنان : الأول ديني تبنى رؤية خطية وحثمية لمسار الزمن، فالوقائع في تسلسلها تسعى إلا بلوغ غاية تحكمها المشيئة الإلهية من البداية إلى النهاية. الثاني دنيوي اختلفت النظرة إليه باختلاف ذهنيات الجماعات والمواقع فتباينت بين نظرة : تقدمية، تراجعية، دائرية، حلزونية، لولبية وغيرها كثير. حدثت هذه الاختلافات في عمق التحولات المعرفية الفلسفية التي أعطت للتاريخ تحقيبا مفاهيميا فتحول الزمان من إطار خارجي للتاريخ إلى وعي به. انتقل المكان في التاريخ من عامل جغرافي مؤثر في الأحداث والوقائع إلى مفهوم يتجاور مع الزمان لتشكيل مستويات معرفية تجعل التاريخ تمازجا بين ما هو سياسي واقتصادي واجتماعي بل حتى معيشي يومي. تطور البعد المكاني في التاريخ أثناء لحظات التوسع الأفقي للحضارات مثل التوسع الإغريقي في العالم القديم ثم الفتوحات الإسلامية والكشوفات الجغرافية وصولا إلى المرحلة الاستعمارية واتصال الحضارات الإنسانية المتباينة وأخيرا - في العصر الحديث - نهاية الجغرافيا وليس نهاية التاريخ كما يقول فوكوياما.
الهوامش
(1) د تركي الحمد عن الإنسان أتحدث : تأملات في الفعل الحضاري دار المنتخب العربي بيروت لبنان طـ I ص 34 (2) د توفيق الطويل الحضارة الإسلامية والحضارة الأوروبية دراسة مقارنة ص 13
المحتـــوى
- تقديم - الإنسان والتاريخ - الإنسان في التاريخ - الزمان التاريخي - الزمان التاريخي قبل النهضة الأوروبية - الزمان التاريخي بعد النهضة الأوروبية - الزمان التاريخي عند المسلمين - البعد المكاني في التاريخ - البعد المكاني في التاريخ الأوروبي - البعد المكاني في التاريخ الإسلامي - استنتاجات
لائحة المراجع
(1) ارنست بلوخ فلسفة عصر النهضة : ترجمة إلياس مرقص دار الحقيقة : بيروت (2) إمام عبد الفتاح إمام هيجل محاضرات في فلسفة التاريخ الجزء الأول : العقل في التاريخ دار التنوير بيروت الطبعة الثانية 1981 (3) ابن خلدون المقدمة دار العلم بيروت 1980 (4) توفيق الطويل الحضارة الإسلامية والحضارة الأوروبية دراسة مقارنة مكتبة الثراث الإسلامي. (5) تركي الحمد عن الإنسان أتحدث تأملات في ††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††††وت لبنان (8) مهدي عامل في علمية الفكر الخلدوني : دار الفارابي بيروت 1986 (9) محمد عبد الغني حسن التاريخ عند المسلمين : سلسلة كتابك عدد 32 دار المعارف القاهرة (10) عبد الله العروي مفهوم التاريخ : المركز الثقافي العربي الطبعة الأولى 1992 (11) غاستون باشلار جدلية الزمن ترجمة خليل أحمد خليل الطبعة الأولى 1982 بيروت لبنان (12) فردناند بروديل حركية الرأسمالية ترجمة محمد البكري ومحمد بولعيش الطبعة الأولى 1987 (13) قسطنطين زريف نحن والتاريخ الطبعة الثالثة 1974 دار العلم للملايين بيروت لبنان (14) سالم أحمد محل المنظور الحضاري في التدوين التاريخي عند العرب كتاب الأمة عدد 60 1997 (15) هرنشو علم التاريخ ترجمة عبد الحميد العبادي الطبعة الأولى 1988 (16) مجلة الطريق العدد 4 غشت 1990 بيروت لبنان (17) مجلة الفكر العربي المعاصر عدد 76/77/ 1990 مركز الإنماء القومي
#عبد_الغفور_خوى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأنشطة الموازية للخطة التعليمية.. أي مهارات يكتسبها التلامي
...
-
-من سيناديني ماما الآن؟-.. أم فلسطينية تودّع أطفالها الثلاثة
...
-
اختبار سمع عن بُعد للمقيمين في الأراضي الفلسطينية
-
تجدد الغارات على الضاحية الجنوبية لبيروت، ومقتل إسرائيلي بعد
...
-
صواريخ بعيدة المدى.. تصعيد جديد في الحرب الروسية الأوكرانية
...
-
الدفاع المدني بغزة: 412 من عناصرنا بين قتيل ومصاب ومعتقل وتد
...
-
هجوم إسرائيلي على مصر بسبب الحوثيين
-
الدفاع الصينية: على واشنطن الإسراع في تصحيح أخطائها
-
إدارة بايدن -تشطب- ديونا مستحقة على كييف.. وترسل لها ألغاما
...
-
كيف تعرف ما إذا كنت مراقبًا من خلال كاميرا هاتفك؟
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|