|
لويس عوض والبصيرة الحداثية
أبو الحسن سلام
الحوار المتمدن-العدد: 2569 - 2009 / 2 / 26 - 04:20
المحور:
الادب والفن
حينما نجد لويس عوض يقول : ( أنا ككاتب مصري جزء من التراث العربي ) وحينما نراه يكشف لنا عن ( أن التصدي لدرس الأدب العربي الحديث وتقويمه ونقده ليس يجدي إن لم ينهض على تصور معرفي وجمالي لحقائق الأدب العربي القديم ، فالأدب العربي يختلف عن الآداب الأخرى التي ينقطع حديثها عن قديمها انقطاعاً بائناً ) ، كيف لنا بعد هذا الإعلان الواضح المبين ، الذي يؤكد لنا صورة لويس عوض المفكر العالم الأديب الذي يزاوج بين الأدب والمجتمع ، والفكر الفلسفي والاقتصادي ، كيف لنا أن نصدق من تهجم عليه من الأصوليين ومن التقدميين على حد سواء ، دون دهشة منّا لالتقاء طرفي النقيض حول الهجمة الشرسة على فكر لويس عوض وجهوده التي تقرب الهوة الفكرية بين الأصالة والمعاصرة وهو ما أنفق في سبيله ما يقترب من سبعين السنة من عمره في تأسيس مشروع فكري مصري ليأتي ناقد تقدمي مصري نحترم قلمه * ، ليعلن فجأة دون موضوعية أو حياد عرفناه في كتاباته ( إن المشروع الفكري للويس عوض مشروع واحد ذو شقين : بلورة سيادة النموذج الغربي في الحضارة والفكر والأدب . واعتباره واجب الاحتذاء ومقياس الجدارة .. ) ( والشق الثاني نفى أي أصالة في الماضي أو قيمة في الحاضر أو جدوى في المستقبل عن أي مشروع حضاري عربي أو إسلامي ) فإذا كنا نتفهم هجوم أحد عتاة الأصولية على ما كتبه لويس عوض تحت عنوان ( على هامش الغفران ) محللاً لرسالة الغفران للمعري من منطلق النقد الأنثروبولوجي ، على اعتبار أن ذلك الهجوم قد انطلق من منطلقات التعصب الديني ، وإذا كنا نؤمن بما آمن به فولتير من أن ( وراء كل تعصب ديني عملية من عمليات النهب الاقتصادي ) وأنه ( ما من حرب تنشب باسم الدين إلاّ وكان غرضها نهب أموال الغير ) فقد بطل عندنا مثل ذلك الهجوم الذي يدفعه التعصب الديني . كذلك يبطله عند المثقف القارئ والمتتبع لتاريخ لويس عوض ونضاله الفكري من واقع كتاباته ومن صريح ما أعلنه ، وأثبتناه في بداية هذا المقال . لقد رأى لويس حنا عوض المولود في قرية شارونة بمحافظة المنيا في ديسمبر 1914م أن الفكر هو المنطلق الطبيعي والصحيح في توجيه الفعل الاجتماعي والحضاري توجيها يبقي الأمم ويطورها ( فالفكر لا يسمى فكراً إلاّ إذا بلغ درجة من التجريد والنظر في الكليات تجعله يتماسك في نظرية شاملة ) من هنا تجرد لكتابة تاريخ الفكر المصري الحديث - السياسي والاجتماعي على أساس أن الفكر هو الأساس النظري الذي إن صلح وارتبط ارتباطاً وثيقاً بالواقع المعيش ، تمكنت الدولة من أن ترقى إلى مصاف الدول المدنية الحديثة . ذلك أنه رأى ما رأه ( ديدرو ) من أن ( الأحياء التي تتوافق وتنسجم مع الطبيعة وقوانينها تبقى وتزدهر ، أما الأحياء التي تتناقض مع الطبيعة وقوانينها فتفنى وتندثر ) وتأسيساً على ذلك كتب لويس عوض بدءاً من الأربعينيات تسعة وأربعين كتاباً نهج فيها نحو التحليل ، التأصيل ، الموضوعية ، الحياد ، والثبت العلمي ارتكازاً على نظرية النقد الأنثروبولوجي - غالباً - وكان بشخصه وزارة ثقافة متحركة ، يشع تنويراً في واقعنا الثقافي ، بما كتب ونظم وترجم وألّف وعلّم ، وفلسف ، وناضل بالكلمة وبالفكر ، بما يطابق ما اقتنع به ، مما يجعله بحق وريثاً لطه حسين - كما رأى أحمد عبد المعطي حجازي حيث ( ملأ النصف الأخير من القرن بمثل ما ملأ العميد النصف الأول ) . ففي " كتابه الفكر المصري الحديث " الذي شغل بتأليفه بعد هزيمة يونيو 1967 أثار لويس عوض الكثير من القضايا والجدل حول الطبيعة المصرية في التطور ، حيث ينفصل الفكر عن الواقع في مجال التعليم وفي الإدارة وفي الحقوق والواجبات مما يكشف عن عدم اكتمال مقومات الدولة الحديثة في مصر والتي من شأنها إقامة كياننا الحضاري على الرغم من تيار التنوير الذي أتاحته الحملة الفرنسية على مصر وما واكب دولة محمد علي من بعثات ، فعلى الرغم من ذلك ظلت ثقافة الثوابت الروحانية طاردة للعلوم الوضعية والتكنولوجيا وثقافة المتغيرات ، وظلت مواجهات الفكر الديني لمقومات الحضارة الحديثة هي أهم مظهر يحكم توجهات الفكر المصري الحديث . وإذا نظرنا الآن إلى ما توصل إليه لويس عوض في كتابه هذا نجد أن الفكر المصري الحديث ما زال يدور في نفس المدار ، حيث لا فصل عند المصريين بين الدين والدولة حتى وقتنا هذا فيما يدور في ساحة الفكر في مصر العصرية مما ترتب عليه تعطيل التطور لسنوات متعددة ربما إلى ما يقرب من عشرين السنة المنصرمة حتى ظهرت بوادر إطلاق العنان للتطور بدءاً من الفترة الرئاسية الثانية للرئيس مبارك . لقد كان لويس عوض المعلم العاشر - كما وصف نفسه - ذلك المعلم الذي يخاطب العقل ، محاوراً له ومناظراً ؛ حين يقف معلماً وأستاذاً جامعياً ، وحين يقف ناقداً يلتزم التحليل الأنثروبولوجي والتأصيل العلمي الموضوعي والحيادي . وكان ذلك ديدنه في كل ما كتب في النقد والحضارة والمذاهب السياسية ، وتاريخ الفكر والأدب المقارن واللغة والسيرة الذاتية والشعر والمسرح والترجمات التسع من الإنجليزية واليونانية واللاتينية في تناغم تكمل بعضها بعضاً ، لتؤكد أن لويس عوض صاحب مشروع فكري مصري إصلاحي متكامل . ولأن طرفي الهجوم على جهود الرجل في الإصلاح الفكري أساساً للإصلاح الاجتماعي كليهما أصولي الفكر : الأول أصولي يميني يؤمن بتحول الدولة إلى دولة دينية والثاني أصولي يساري يؤمن بتحول الدولة إلى دولة بروليتارية ، فإن الفكر الإصلاحي للويس عوض الذي ترسخه كتاباته توجه المجتمع بعيداً عن هدف كل منهما مع تناقض الهدفين . إن البصيرة الحداثية في فكر لويس عوض تتبدى من اختياره للمنطلقات الأنثروبولوجية التي شكلت الركائز الأساسية لكتاباته بشكل عام ولكتاباته النقدية على وجه الخصوص لقد وجد لويس عوض فيما تناول من كتابات منطلقاً لإعمال بصيرته . ومصدراً حاضاً لقرائه المتعمقين على أن يعملوا بصيرتهم لتجاوز ( منامة الطقس ) عبوراً إلى ( نهار اليقظة ) ولا شك أن تجاوز ( منامات عصور الطقس ) تحتاج منّا إلى معاناة فكرية ووجدانية عميقة لا يقدر عليها من لم يتملك بصيرة لويس عوض الحداثية وأصالته معاً ، فلقد حمل لويس عوض عبء تقريب المسافات بين جيلنا والأجيال التالية على جيلنا ، وحملنا على متون كتاباته النقدية من سرير منامات عصور الطقس إلى صباح نهار اليقظة ، لنبصر بعين الحداثة وبصرها رسوبيات الثقافة التراتبية ، وننفض عنها ما يعوق انطلاقاتنا المأمولة إلى المستقبل . هذا هو لويس عوض ، الأستاذ ، المفكر ، الناقد ، الشاعر المولع " بشيلي " وشعره الثوري ، المترنم طوال حياته بقول شهير لشيلي : " تلهبني شهوة إصلاح العالم " . ولأن دعوة شيلي وقفت عند حدود الإصلاح ووقف لويس عوض نفسه على الترنم بها ، لذلك ركز لويس عوض جهوده الفكرية في المجتمع الثقافي والمجتمع العلمي المصري على مصالحة الآثار الفكرية والثقافية القائمة مع الواقع المستجد والمستهدف المأمول ، تمكيناً للعقل المصري المفكر من تخطي قيود التجمد انطلاقاً إلى عالم المعاصرة الرحيب من خلال دولة مدنية حدثية دون أن يقتلع جذوره من تراب أصالته . فعمل على كتابة ( تاريخ الفكر المصري الحديث - سياسياً واجتماعياً ) في فترة حوصر فيها فكره وصودر فيها قلمه عن مخاطبة جمهور المثقفين بعد هزيمة يونية 1976م . هذا هو لويس عوض الذي هوجم يميناً ويساراً ، وصودر كتابه التنويري فقه اللغة العربية 1981م وما يزال لأنه في تأصيله العلمي لتاريخ اللغة العربية ونشأتها وأصولها الأولى توصل إلى أنها آخر بنات مجموعة اللغات السامية وأن عمرها لا يتعدى الأربعة الآلاف من السنين . وأنها ليست مصدر اللغات وبذلك لا تعد قديمة . وهو بذلك قد طرح قضية أدارتها معركة السنة والأشاعرة مع المعتزلة في عصر المأمون حول قضية ( خلق القرآن - وقدمه ) التي راح ضحيتها الإمام أحمد بن حنبل . وقد وصل الأمر إلى ما هو أسوأ من مصادرة الكتاب إلى مناداة الجمعية الشرعية بقتله في صيف 1981م لأنه أعاد مناقشة إشكالية قداسة اللغة العربية وبشريتها وهو ما يثبت ما رآه لويس عوض حول حاجتنا إلى قبول الآخر لنصبح دولة حضارية حديثة . وإذا كنت مع من رأى تمحور جهود لويس عوض الفكرية والنقدية في مشوار نضاله حول فكرة مصر المدنية الحدثية ارتكازاً على منطلقات إصلاحية ، فإنني قياساً على رأي جورج برنارد شو بأن ( الثورات لا تندلع بسبب نجاح الدعوة إلى الإصلاح ، ولكنها تندلع بسبب فشل هذه الدعوة ) . أرى أن دعوة لويس عوض الإصلاحية لم تنجح حيث نرى الانهيار الاجتماعي والمناخ غير الحضاري ومناشط االتخريب والتنجيم والتسفيه والعنف الأمني والتفريط في حق الوطن وإهدار حقوق المواطن وسيادة ثقافة الإغارة الصحراوية فاشية في هذا العصر المنكود والزعامة المزمنة ، وهو ماينذر بما ألمح إليه جورج برنارد شو .
أ.د / أبو الحسن سلاّم أستاذ علوم المسرح بجامعة الإسكندرية
#أبو_الحسن_سلام (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المسرح ومفهوم الإيقاع
-
(البلطة والسنبلة) .. المهدي غير المنتظر
-
طالما .. وطال ما
-
عنكب يا عنكب وصبيان البحث المسرحي
-
مفكر وكاتب مسرحي من قنا
-
البحث المسرحي والنقطة العمياء
-
فلسفة الفوضي الخلاقة في عرض مسرحي بالجزويت
-
ليلة من ليالي على علوللا
-
بوسيدون يستبدل إكليل الغر بالغتره
-
سارتر وليزي وبوش
-
جماليات الأصوات اللعويةفي الأدوار المسرحية
-
سلم لي على -بافلوف-
-
جماليات التعبير بالأصوات اللغوية في الأدوار المسرحية
-
فلسطين بين ثقافة العنف والسلام- في حوارية قطع ووصل -
-
فلسطين بين ثقافة العنف والسلام
-
السكتة الكوميدية في الكتابة المسرحية
-
التباس الكتابة المسرحية بين المسرح السياسي ومسرح التسييس
-
أوركسترا عناكب الثقافة العنصرية ومعزوفة النشاز العصرية
-
معزوفة التواصل الحضاري
-
المتدفقون - عرض مسرحي -
المزيد.....
-
عن فلسفة النبوغ الشعري وأسباب التردي.. كيف نعرف أصناف الشعرا
...
-
-أجواء كانت مشحونة بالحيوية-.. صعود وهبوط السينما في المغرب
...
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|