أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - سعيد وهبة - محمود العالم مفكر من نسيج خاص، صليت خلف د. عمارة في مسجد معتقل الواحات















المزيد.....



محمود العالم مفكر من نسيج خاص، صليت خلف د. عمارة في مسجد معتقل الواحات


سعيد وهبة

الحوار المتمدن-العدد: 154 - 2002 / 6 / 8 - 07:46
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


محمود أمين العالم مفكر مصري من نسيج خاص، يستعصى على التصنيف والقوالب الجاهزة، ورغم كونه ماركسياً ممارساً للفكر مشتبكاً مع قضايا الواقع،

عبر انتمائه الحركي والتنظيمي للاحزاب والتنظيمات الشيوعية منذ الخمسينيات وحتى الان، الا انه أحد النقاد البارزين للمقولات الشيوعية سابقة التجهيز.

محمود أمين العالم مفكر ينتمي الى قبيلة التنويريين العرب، ويتفرد بينهم بمزيجه الخلاق بين الفكر والممارسة، فهو ليس مفكراً من أصحاب الأبراج العاجية، بل لم تصرفه هموم الفكر والتنظير عن قضايا الواقع.

محمود أمين العالم متعدد الاهتمامات، ففي شخصه تتجمع ادوار الناقد الادبي ذو الرؤية النافذة، والأديب، والمشرف على المسرح المصري في فترة من أزهى فترات صعوده، وهو الصحفي المسئول عن إدارة اكبر دار صحفية «أخبار اليوم» في فترة تحولات سياسية ماجت بها مصر، ونجح لحد كبير في اختلاق هوية جديدة للصحافة، تربطها بالواقع ولا تكتفي بجعل الصحفي مجرد ناقل للخبر، بل مشارك في صنعه ونجح في تخليص الصحيفة من صيغة الاثارة، وطعمها بمسحة الرصانة.

محمود أمين العالم سياسي وحزبي يتجاوز برؤيته الانسانية قيود الحزبية، ويتعالى على جراحه ويأبى ان يصبح سجيناً لها، وخلافا لكثيرين ممن تاجروا خلال حقبة السبعينيات بقصص قليلها حقيقي واكثرها وهمي عن التعذيب في سجون عبدالناصر، وقف العالم في مصر وفي منفاه بباريس مدافعاً صلباً عن ثورة عبدالناصر، وقدم نقداً علمياً ذاتياً لرفاقه الذين اصطدموا مع زعيم الثورة لخطأ في التحليل السياسي وقراءة الواقع.

محمود العالم يقترب من عامه الثمانين، وعطاؤه متواصل متجدد وشاب شعره ومازال قلبه ينبض بالشباب على طريق معاركه الفكرية، وسعيه الدؤوب للامساك بالحقائق وتعديل مسار الواقع من أجل عدالة رحبة ومشروع نهضوي يتسع لكل ابناء الأمة واقترابا منه كان هذا الحوار.

ما ان انتهى الحوار مع المفكر الكبير محمود أمين العالم.. حتى نهض يودعني حتى باب الغرفة، الى باب القاعة، وحتى باب الشقة، وأنا أستوقفه، وأرجوه أن يعود الى مكتبه، فأنا أعرف الطريق، وقد اخجلني تواضعه الشديد وأدبه النبيل.

وعلى باب الشقة اعتذر بلطف لأن «الأسانسير» عطلان، ولأنني سوف أضطر لاستخدام السلم في النزول.

في البداية شاهدت لوحة خشبية صغيرة فوق مكتبه تقول: «من أجل تأصيل العقلانية والديمقراطية والابداع»! فقلت: العقلانية ولكن ليس على طريقة الدكتور زكي نجيب محمود! فانتبه ورمقني بنظرة فاحصة، قبل أن يقول: أنت متابع إذن لنقدي لعقلانية الدكتور زكي نجيب محمود؟! وقرأت كتابك «الوعي.. والوعي الزائف»! قال: الواقع أنني أحب الدكتور زكي نجيب محمود وأحترمه، ولم أختلف معه إلا حول مفهوم العقلانية، وكان خلافاً فكرياً.

ـ سألته في البداية: هل هو «قانون المصادفة» أن نشأ في الحي الشعبي نفسه، القاهرة الفاطمية القديمة «حي الدرب الأحمر» وهو نفس الحي الذي أنجب عددا من عمالقة الفكر والأدب مثل نجيب محفوظ وجمال حمدان؟! هل هي عبقرية المكان؟! ـ قال: لا أدري، لكن الحي الذي نشأت به كان عبقريا حقا، العمارة الاسلامية القديمة من بيوت ومساجد ومشربيات، وبوابة المتولي، وحي «الباطنية» بدلالته الدينية والذي تحول الى حي «الباطلية» وعرف بتجارة الحشيش في وقت ما.

في هذا الحي، أنت تشم رائحة الماضي، وتسكن التاريخ. والتراث حولك من كل جانب، التاريخ بدروسه وعظاته وخبراته وقوانينه ينبثق من تحت جلد الناس.. هذا التاريخ تحول الى كائن حي.. الى بشر وكائنات حية! في هذا الحي، دخلت المساجد، وحفظت القرآن واكتسبت خبرات مبكرة، وشاركت في المظاهرات التي كانت تخرج بعد صلاة الجمعة من كل أسبوع الى الشوارع في بداية الثلاثينيات، حيث كنت صبيا صغيرا، وكانت مصر تغلي ضد حكومة صدقي باشا.

وفي إحدى المظاهرات طاردني جندي بريطاني وضربني بعصا غليظة، فتجنبت الضربة، وسمعت صوت ارتطام العصا بالارض، ونظرت خلفي ووجدت الجندي قد اختل توازنه، واخترقت العصا بطنه وانكفأ فوقها، وراح يتأوه، وظننت أني قتلته أو هكذا تمنيت، وأطلقت ساقي للريح.

أبى سي السيد وشقيقي المتمرد وشاهدت السجن لاول مرة في طفولتي المبكرة، حين اصطحبني افراد اسرتي الى سجن «قراميدان» بالقلعة، لزيارة أخي «شوقي»، الذي كان ثائرا كغيره من الشباب، ووقفنا في الشارع، ننتظر أن يطل برأسه من وراء قضبان نافذة صغيرة بأعلى الزنزانة.. هذه النافذة تطل على الشارع، وشاهدت جزءا من وجهه! وبعد ثلاثين عاما، دخلت الزنزانة نفسها ويا لها من مصادفة قدرية وعرفت معنى عنوان الكتاب الذي أصدره شقيقي شوقي 50 ألف دقيقة في السجن» في اشارة لقسوة الزمن داخل السجن، وأن لكل دقيقة معنى، فالدقيقة طويلة جدا بين اربعة جدران، والزمن مسألة نسبية، الزمن الحقيقي هو الزمن «المعاش».. فلسفة الزمن فلسفة مهمة.

ـ أراك تأثرت بشقيقك «شوقي» بأكثر مما تأثرت بشقيقك «الشيخ أحمد»؟! ـ شقيقي شوقي كان متمردا أيضا، وكان مثقفا كبيرا، وقد طرد من الأزهر في السنة الثالثة الابتدائية لأنه ألف كتابا بعنوان «الأزهر فوق مشرحة» وشقيقي الشيخ أحمد هو الذي أخذ العالمية. ورغم ذلك، فإن «شوقي» أول من طالب بإنشاء المجمع اللغوي، وحين أنشيء كان أول موظف يعين به، وصار بعد ذلك عضواً للمجمع اللغوي. وكان لدى شوقي مكتبة ضخمة، وكان صديقا لعدد من أدباء ومفكري عصره، ومعهم كامل الكيلاني، وكان يصطحبني معه الى مكتبه بشارع الأزهر، وكان الكيلاني يتخذني معيارا لكتبه، وكان يطلب مني قراءتها ويسألني عنها، فقد كان رائد كتابة أدب الأطفال.

أما أخي «الشيخ أحمد» فقد كان كفيفا، وكان مرحا وظريفا ولم يكن متزمتا ولا متجهما. كان له فضل معرفتى الأولى بالتراث، فقد كان ينقل كتبه الدراسية إلى طريقة «بريل» وكانت مهمتي أن أملي عليه نصوص الكتب ويقوم هو بالباقي. وعرفت لأول مرة كتب التفسير وأصول الدين وعلم الكلام واللغة.

ولم يكن أخي أحمد هو رجل الدين في بيتنا كان أبي متدينا بل متزمتا، وكانت علاقتي به منذ الطفولة سيئة، كان سي السيد يجلس إلى المائدة ولا نتكلم، وننتظر حتى يوزع علينا الطعام، وكنت أتمرد عليه! وحين مات بكيته، ولكن بعد ثلاثة أيام من وفاته ذهبت إلى كنيسة «ماري جرجس» وكانت مقطوعات وسيمفونيات تعزف هناك وعلى إحدى سيمفونيات «موتزارت» بكيت أبي لأول مرة، بعد ثلاثة أيام من وفاته داخل الكنيسة! في طفولتي أيضا، طردت من المدرسة،لعدم قدرتي على دفع المصروفات، وتدخلت المصادفات، فقد مرض الملك فؤاد ولما شفي أعطوا مجانية في هذا العام لكل التلاميذ، فعدت للمدرسة مرة أخرى وواصلت تعليمي! وكنت أعشق كرة القدم وأمارس السباحة في حمام وزارة التربية والتعليم، ولم يكن يمنعني من ممارسة الكرة يوم الجمعة إلا اصطحاب شقيقي الشيخ أحمد إلى مسجد الجمعية الشرعية لالقاء خطبة الجمعة، والعودة به إلى البيت مرة أخرى.

ـ قاطعته: يعني كان ممكنا أن تصبح لاعب كرة شهيرا تغدق عليه الشهرة مالا وفيرا! ـ ضحك قائلا: كان ممكنا أن أكون لاعب كرة، لكنني انحرفت وفسدت وإتجهت للثقافة والفلسفة والفكر! ـ وكان ممكنا بدلا من أن تكون ماركسيا أن تصبح شيخا للأزهر، خاصة وقد نشأت في أسرة صوفية ومناخ ديني؟ ـ وكان ممكنا أن أطرد من الأزهر كما شقيقي شوقي. إذا انتقدت مشايخه وطالبت بتجديد الخطاب الديني، وعدم الوقوف والجمود داخل النصوص، وهذا أرجح الاحتمالات! ـ عرفت المكتبات منذ طفولتك المبكرة؟! ـ أجل، كنت أذهب إلى «الكتبخانه» في باب الخلق والتي صارت «دار الكتب»، ومكتبات شارع الازهر، وبعد ذلك قرأت مجلة «الرسالة» وتابعتها، والتقيت من خلالها «بنيتشه» لأول مرة، وعرفت أشعار محمود حسن إسماعيل، وعبد الرحمن بدوي. ومقالات أحمد أمين والعقاد والمازني والرافعي وإحتفالية طه حسين بظهور توفيق الحكيم أول كاتب مسرحي في العالم العربي! وتلك كانت الينابيع الثقافية الأولى في حي الدرب الأحمر بأجوائه التاريخية الدينية وسكانه البسطاء الفقراء، وفي هذا الحي كان التفتح على خليط من الثقافات التراثية والشعبية، والثقافات الفلسفية والعلمية، وكان الصدام المباشر بالحاضر، والواقع السياسي المضطرب.

كانت هذه بدايات التمرد على الواقع الأكبر بعد ذلك.. والبحث عن إله خاص

أحمد أمين نصحني بالأدب واخترت الفلسفة ـ لماذا دخلت «قسم الفلسفة» بكلية الآداب ولم تدخل قسم التاريخ أو اللغة العربية مثلا؟ ـ دخلت «فلسفة» كي التقي «بنيتشه» فيلسوف الإرادة، وحاول الأستاذ أحمد أمين عميد الكلية وصديق أخي شوقي إثنائي عن ذلك ونصحني بدخول قسم اللغة العربية فأبيت. كان تأثير نيتشه على عقلي أكبر من تأثير «أحمد أمين».

وفي قسم الفلسفة وجدت «عبد الرحمن بدوي» أمامي وجها لوجه الفيلسوف الوجودي، نموذج نيتشه الآخر، وقد كنت شديد الإعجاب به، ورغم ذلك فقد كان لقائي معه إشكاليا! قلت مقاطعا: نقطة نظام سمعت أن وزارة التربية والتعليم تسعى لتقليص منهج الفلسفة لطلبة الثانوي، تحت شعار تطوير المناهج.. هل أنت موافق على ذلك؟ قال: أنهم يسعون لدمج الفلسفة مع التاريخ والجغرافيا في كتاب واحد تحت مسمى دراسة الإنسانيات. وقد اعترضت على ذلك فليس معقولا أن تدرس الفلسفة في الغرب المتقدم في رياض الأطفال، ونذهب نحن عكس الإتجاه ونقلص منهج الفلسفة في الثانوي.

ـ الفلسفة تدرس في رياض الأطفال؟ ـ لا تندهش، هناك يدرسون الفلسفة بالوسائل العملية وليس نظريا من خلال اللعب، بإستخدام مكعبات ملونة لتدريب العقل على العمليات الإبداعية، مثلا مربعات أخضر وأخضر وأخضر. هي جزئيات تتحول إلى كليات «أخضر»! ومربعات بألوان مختلفة لتدريب العقل على «الإستقراء» و«الاستدلال»! ـ وهل أنت راض عن نظام التعليم؟! ـ قال: التطوير يحتاج إلى فلسفة جديدة تختلف كليا عن الشعار المرفوع: تعليم من أجل تغطية احتياجات سوق العمل! ـ سوق العمل يحتاج حاليا إلى مندوبي مبيعات، فهل نواجه المنافسة الشرسة في نظام العولمة، بتعليم استهلاكي.

ـ بالطبع لا.. لهذا فأنا أقول بأن تطوير التعليم يحتاج إلى فلسفة مختلفة من شأنها أن تنهض بالأمة وتقود عملية التنمية الحقيقية، التي لا تتم إلا بقاعدة صناعية كبرى.

ـ حدثنا عن التحولات في حياتك، التحول من الروح المثالية، والفلسفة المثالية، والمرحلة الدون كيشوتيه إلى الفلسفة الواقعية والمادية الجدلية والتاريخية.. الماركسية؟ ـ حين تخرجت في الجامعة، عملت بحثا لكي أثبت أن العلم لا يقوم على أقدام ذاتية روحية قرأت آنذاك نظرية «الكم هايدجر» النظرية بإختصار عن العلاقة بين الالكترونية والبروتون في نواة الذرة.

حين تحاول تحديد سرعة الالكترون تعمل خلخلة لموضعه، وعندما تعيش مكانه تعمل خلخلة لسرعته.

حاولوا معرفة قانون العلاقة بين السرعة والمكان، فقرروا قانون «عدم التمديد» ويسمى أحيانا بقانون «المصادفة»! قلت «أمسك».. فذهبت أعمل بحثا في الفيزياء الحديثة لكي أثبت أن القوانين الخارجية ليست قوانين ولا موضوعية، وإنما تقوم على المصادفة، باعتبار أن الصدفة تعني آنذاك «انعدام» القانون.

لينين غير مجرى حياتي ـ ما هو الكتاب الذي غير مجرى حياتك الفكرية؟! ـ المادية والنقد التجريبي لمؤلفه «لينين» ودعني أكمل لك القصة حاولت تأكيد ذاتية وإنسانية القوانين العلمية وأثبت أن أساسها «إنساني» وليس موضوعيا، بل أن الإنسان هو الذي أسقط نفسه على الواقع، فقوانين الواقع هي قوانين إنسانية وليست موضوعية، وأتذكر أنني قرأت دراسة لمفكر اسمه إنجتون يقول فيها: أخذنا نبحث في شواطيء المجهول عن أسرار الطبيعة ومصدر قوانينها الأساسية وفجأة في إحدى الدراسات وجدنا آثار أقدام، فجعلنا نقيم نظريات حول من الذي ترك آثار أقدامه، وأخذنا جسد هذا الذي ترك أقدامه على آثار المجهول ونظرنا في وجهة، فإذا به «نحن» كنت قد إنتهيت تقريبا من الرسالة ولم يبق على مناقشتها سوى بضعة شهور إلى أن اصطدمت «بلينين» عثرت على كتاب: «المادية والنقد التجريبي» «لفلاديمير اليتش لينين» كنت أعرفه بشكل عام في الحركة الاشتراكية التي لم يكن لي بها علاقة وقت ذاك، وكنت وقتها في «الحزب الوطني» هذا الكتاب كان نقطة تحول هامة في حياتي الفكرية، فقد شدني إليه صدفة في عرضه لخصومه فهو يعرض أفكار خصومه عرضا أمينا، ثم يبدأ يدحض هذه النظريات، واكتشف أنه يعبر عن العلم بتصور مختلف عن تصوري، وهو موضوعيه الواقع فالواقع «موضوعي في قوانينه» وحتى لو أدرت للواقع ظهري فلن أغير من موضوعية، وقدرة الإنسان على أن يسعى لإدراك هذه الموضوعية بإستخدامه العقلي، وخاصة بالمنهج المسمى «المادي الجدلي» والمادية ليس بمعنى «الخشب والحديد» كما قد يظن البعض، وإنما بمعنى التحقق الموضوعي، والجدلية بمعنى أن هذه العلاقات بين هذه الأشياء الموضوعية ليست علاقة متسقة، وإنما علاقة مليئة بالتناقضات، فهذا يؤثر في ذاك وذاك يؤثر في ذاك، هناك علاقة مركبة متعارضة مليئة بالتناقضات هذه العلاقة ليست أحادية الاتجاه وليست تكرارية العلاقة، عناصر تدخل في عناصر، وبالتالي فهي علاقة جدلية، وشعرت بأن «المادية الجدلية» هي التي يمكن أن تفسر المصادفة ليس تفسيرا ذاتيا وإنما تفسيرا موضوعيا.

ودائما ما أضرب مثلا بأن شخصا ما يمشي تحت عمارة، وسقطت طوبة من العمارة بفعل الهواء، فما هي المصادفة لو أن هذه الطوبة وقعت أمامي أو ورائي أو يميني أو إلى يساري أو فوق رأسي؟ فأين المصادفة؟! ـ ما رأيك أنت يسألني الاستاذ العالم فأقول له أن سقوط الطوبه في ذاته ليس محض مصادفة هناك قوانين رياضية أسقطتها.

قال: كلامك فيه فعلا جانب كبير من الوصول إلى الحقيقة، فهناك خطان ضروريان وهي الطوبة الساقطة حسب قانون الجاذبية، والهواء والفاعلية، وفيه قانون طبيعي يحكمه ويختلف اللقاء، ممكن يكون على دماغك، أرسطو يقول هذه هي المصادفة لأنه يرى المصادفة عملية تتعلق بالذات، ومثله في ذلك أنك مدين لشخص، وذهبت إلى السوق لشراء شيء فقابلت هذا الدائن.. فهذه هي المصادفة إذن فهي ذات طابع ذاتي، وبالتالي لو كنت قلت لي كما يقول لي كثيرون «طبعا لو وقعت الطوبة على رأسي تكون المصادفة ولو وقعت في إتجاه آخر لا تكون مصادفة لكنت قلت لك كما أقول لهم أنتم «أرسطوطاليين» لكن في الواقع أنها لو وقعت في أي مكان فهي مصادفة، فالمصادفة هي فقط لقاء خطوط مستقلة عن بعضها البعض، ولهذا فإن عمليات واحداث كثيرة في التاريخ نسميها مصادفة لكنها ضرورة، أو لقاء ضرورات. وهذه هي القضية.

المصادفة ضرورة علمية إذن المصادفة ضرورة، ولهذا كان قانون المصادفة في الفيزياء، والآن في الرياضة وليس فقط المصادفة وإنما الفوضى، قانون الفوضى وهكذا بدأت أتساءل: أين أنا من العلم؟! هناك حقيقة موضوعية، وما نرى للمصادفة من عجب ليس افتقادا للقانون وإنما تعقيدا للقانون، فالواقع معقد وتريد أن تحصره في ذاتيتك، هناك شيء أجرأ منك.. هكذا ساءلت نفسي وإتخذت قراري بتأجيل الرسالة، ومكثت نحو ثلاث سنوات أعدل الرسالة وغيرت عنوانها بدلا من المصادفة في الفيزياء الحديثة إلى المصادفة الموضوعية، وآمنت بالعلم، وبالحقيقة المادية الجدلية والتاريخية كمنهج، لأن العلاقات في الحياة ليست لحظة سقط الطوبة، وإنما التاريخ. قبل هذه الطوبة هل وقعت طوبة أخرى؟ وفي كل شيء هناك زمنية تاريخية فهناك أولا العلاقة المتناقضة «الجدلية» وهناك العلاقة «التاريخية» التي هي حركة الأشياء والتغيير مع الزمن تتغير العلاقات وتتغير المصادفة والضرورات وفي آخر الرسالة قلت ألا نستطيع أن نطبق هذا في مفهوم الحرية؟ الحرية ضرورة ولكن هل من الحرية أن تلقي نفسك من النافذة؟ لا ولكن أن تسيطر على قانون الجاذبية فلا تلقي نفسك فلا تقع إذن الضرورة غير متناقضة مع الحرية، بل الحرية شرطها إدراك الضرورة. هذا في التاريخ، وفي الأدب هناك تساؤلات عن العلاقة بين الشكل والمضمون نستطيع اكتشاف علاقة جدلية في السياسة في العسكرية في الاقتصاد والاستراتيجية في الشطرنج «اللي أنا بلعبه»، الكلي والجزئي، كتاب المصادفة كان تهيئة لشيء جديد ومهم، وهذا كله بفضل لينين.

ـ إذن يمكن القول بأن طوبة هي التي غيرت مجرى حياتك الفكرية؟ أو أن حياتك الفكرية تغيرت بسبب «طوبة»! ـ يضحك.. أنه كتاب لينين، وقد كان رجلا عظيما!

الاتحاد السوفييتي سقط منذ ستالين ـ ورغم ذلك سقطت «الماركسية اللينية» في الإتحاد السوفييتي. وسقط الإتحاد السوفييتي في نهاية الأمر؟! ـ في رأيي أن الذي قتل الإتحاد السوفييتي ليس النظرية الماركسية، وإنما عدم تطبيق النظرية الماركسية لأن النظام الشيوعي في الإتحاد السوفييتي افتقد أهم مقومات الماركسية وهي «الجدل» فلقد جاء «ستالين» بعد «لينين»، فأفقد المجتمع «جدليته»، ولقد كان ستالين ديكتاتورا شرسا وقليل الأدب، لكن كان هناك عوامل موضوعية للفشل! أولا هو اعتبر التجربة الاشتراكية في الإتحاد السوفييتي هي الإشتراكية التي يقاس عليها وهذا يتعارض مع «المادية الجدلية» التي تفترض أن لكل ظرف معين اشتراكيته، ولكل تجربة جدليتها، ولكل ظاهرة قوانينها وعناصرها، وأن أهم شيء هو خصوصية الأشياء.

لقد فقد الاتحاد السوفييتي منهجه الأساسي وكانت تجربته الاشتراكية أحادية الاتجاه ومفروضة من أعلى، وفاقد لجدل العلاقة.

في الوقت نفسه خاض معركة مع النظام الرأسمالي أو استدرج لهذه المعركة، واختار طريق اللحاق بمستوى التقدم العلمي والتكنولوجي فخضع لقوانينه بينما كان المفروض أن يقدم نموذجا إنسانيا آخر يختلف عن النموذج الرأسمالي، وقد استدرجوه إلى سباق تسلح وحرب نجوم، وليس للإنتاج الذي يرفع مستوى المعيشة. صحيح أنه ساند حركات التحرر في العالم، إلا أن ذلك كان على حساب عائد الإنتاج ونتيجة لكل هذا اضطر لعمل «قبضة حديدية» في الحكم! وقد أخطأ أيضا حينما فرض نموذج الاشتراكية السوفييتية على الدول الأخرى، واخطأ حين دخل في خلاف مع الصين التي كان لها خصوصيتها وهي «صينية» الاشتراكية العلمية.

ـ قلت: أن ستالين الذي كان يؤمن بالفلسفة الماركسية، قتل الفلسفة في الاتحاد السوفييتي؟! ـ قال طبعا قتل الفكر والفلسفة، لأن الجدل انتهى و«احنا الماركسيين» كنا نعلم الكوادر الجديدة أن الحزب لا ينبغي له أن بحكم. فالحزب قوة أخلاقية، تقدم النموذج الصحيح وفي الاتحاد السوفييتي فإن الذي حكم هو الحزب الشيوعي، وفي البداية طلب لينين من الأحزاب الصغيرة والأحزاب البرجوازية أن يشاركوا فرفضوا، فإنفرد الحزب الشيوعي بالسلطة والحكم. ليس كإختيار مذهبي، وإنما كضرورات مرحلة، وبالتالي فشلت التجربة لأسباب موضوعية وذاتية.

ـ أعتقد أن «كارل ماركس» بريء من أسباب هذا الفشل! ـ طبعا «ديكتاتورية البروليتاريا» عند ماركس تقول معنى مختلفا، فحين كان ماركس منفيا في فرنسا، اكتشف كيف تكونت «الكوميونة» في باريس فبعد أن كانت الرأسمالية والملكية الفردية في السلطة، صارت في العمال والمنتجين، فقال بدلا من ديكتاتورية البرجوازية تكون ديكتاتورية البروليتاريا.

والبروليتاريا هنا بمعنى المنتجون بدلا من المالكين. المنتجون هم الذين يحكمون بدلا من المالكين.

وممكن أن يتسع المنتجون بعد ذلك، إلى فئات الطلبة، والموظفين وفئات أخرى.

أما الديكتاتورية هناك فتعني السلطة أي بدلا من سلطة اصحاب المال سلطة أصحاب العمل.

حتى في قضية. لم يكن أحد ضد الدين، بل أن لفظة «أفيون الشعوب» قديمة جدا.. ماركس كان ضد إستخدام الدين لحماية السلطة، ولينين له كتاب اسمه «أون ريلجين» وعنوان هذا الكتاب هو الذي طمأنني إليه في الحقيقة، لأن عندي عرق ديني وروحي حتى الآن ويقول لسنا ضد الدين كدين..ولكن ضد إستخدام الدين للإستغلال السياسي كأداة سياسية.

على فكرة أنا لا أحب أحيانا أن أتكلم عن الماركسية لأنها تأخذ طابعا ذاتيا.. وأتذكر في طفولتي أن مدرسا للغة الإنجليزية قال لنا في إحدى المرات: نحن مسيحيون وأنتم محمديون. قالها على سبيل التعالي والسخرية فقلت له غاضبا، نحن مسلمون.

لا أدري. فقد أحسست وقتها أنني أنتسب إلى الإسلام الذي ينتسب إليه نبينا محمد «عليه الصلاة والسلام» كذلك فأنا أنتسب إلى الاشتراكية العلمية، ولا أنتسب إلى كارل ماركس الذي له عبارة بليغة في هذا الصدد.

ـ «أنا لست ماركسيا» هكذا قال ماركس عن نفسه ليقطع الطريق على غلاة الماركسية وغلاة الإنغلاق الفكري والمذاهب السياسية.

ـ قال هذا صحيح: «أنا لست ماركسيا» ونطقها الأستاذ العالم باللغة الفرنسية، ومضى يقول: وأنا بالمناسبة أختلف مع لينين في بعض الأشياء وأحترمه رغم هذا الخلاف.

ـ أظن أن «ماركس» لم يأت بجديد مما قاله «هيجل» وما قاله آدم سميت ـ مصادر ماركس «هيجيلية» والاقتصاد السياسي «لآدم سميث» في إنجلترا، والاشتراكية غير العلمية، وأيضا أرسطو الذي تكلم عن القوانين الداخلية بين الكامن والظاهر. وفيها فكرة «الجدل» وعند الروافيين ستجد مفهوم الجدل بشكل أو بآخر، ورسالة الدكتوراة التي قدمها عن «أبيقور وديموقريطس».. أنه ثمرة تراث إنساني.

ولكن السؤال الآن: هل كفت العلوم من الجديد، والإجابة إنها تجاوزت كارل ماركس فهناك إضافات للماركسية في مفهوم الديمقراطية والبنية الاجتماعية، ومفهوم العمل السياسي، ومفهوم الطبقية، وفي طبيعة الجدل.. هناك إضافات في نتائج الفيزياء والبيولوجي على وجه التحديد لكن المهم والأساس هو المادية الجدلية والرؤية الموضوعية للواقع في حركته وفي جدليته وصراعيته وتعدد عناصره وتاريخيته! ـ أعتقد أن ذلك رأيك في مفهوم الدين ذكرته في كتابك «الإسلام السياسي».

ـ هذا صحيح قلت أن الدين لن ينتهي، ولكن سوف تتغير طريقة الدين، ولكن حيث مازال هناك مجهول، فهناك تطلع للكل.. وطالما هناك نقص، ودائما هناك نقص فهناك تطلع إلى الكلي إلى المجرد إلى المطلق.. إلى الله بشكل أو بآخر.

استرجع ذكرياته قال: حينما كنا في معتقل الواحات بنينا مسجدا وبنينا مسرحا، أما المسجد فكان اسمه «مسجد الشيوعيين». و«تفتكر من كان يؤم المصلين في هذا المسجد»؟ الشيخ محمد عمارة.. الدكتور عمارة! وقد كنا في المعتقل ثلاث فئات رئيسية: شيوعيون بمختلف الفصائل والإتجاهات و«إخوان مسلمين».. أما الفئة الثالثة فكانت عتاة المجرمين! وعلى فكرة عتاة المجرمين الذين كانوا معنا أناس طيبون جدا فيهم جدعنة ومروءة، وشاهدوا مسرحية عيلة الدوغري التي عرضناها على المسرح وبكوا.. لأنهم شاهدوا شيئا لم يروه من قبل، وأنا دائما أقول أن كل واحد منهم ولد في يده مفتاح.. لكنه فتح الباب الغلط.. ومن الذي جعله يفتح الباب الغلط ؟ نحن المجتمع، والتعليم، والمثقفون كل إنسان بداخله كنز لكن كيف نكتشفه ونخرجه؟ تلك هي المشكلة.


 



#سعيد_وهبة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- مدفيديف: مارك روته -أطلسي الهوى ومعروف بمعاداته لروسيا- وهذا ...
- بعد محاولة الاغتيال.. الشرطة تقتل شخصا قرب مبنى انعقاد مؤتمر ...
- لافروف يحذر.. واشنطن تدفع بأوروبا للهلاك
- لافروف: واشنطن تدفع بأوروبا نحو الهلاك
- لافروف يجري محادثات مع نظيره البحريني
- مصادر في الجيش الإسرائيلي: -حماس- في وضع يزداد صعوبة والعملي ...
- تسريب مكالمة ترامب مع المرشح المستقل كينيدي جونيور عقب محاول ...
- ليبيا.. مصرع سيدة وإنقاذ عائلات عالقة في تاجوراء وسط تصاعد ا ...
- الولايات المتحدة: هيئة محلفين تدين السناتور روبرت مينينديز ب ...
- تقارير تتحدث عن مؤامرة إيرانية لاغتيال ترامب وطهران ترد


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - سعيد وهبة - محمود العالم مفكر من نسيج خاص، صليت خلف د. عمارة في مسجد معتقل الواحات