|
راشديات الثقافة.... وثقافة الراشديات-الحلقة الأولى
ماجد الحيدر
شاعر وقاص ومترجم
(Majid Alhydar)
الحوار المتمدن-العدد: 2566 - 2009 / 2 / 23 - 10:16
المحور:
كتابات ساخرة
ضحك كالبكاء... لا أعرف بالضبط من أين جاءت لفظة (الراشدي) العراقية المرادفة للفظة (الصفعة) العربية الفصيحة، وفيما إذا كان لها أية علاقة بالرشاد العقلي أو بمستشفى "الرشاد" للأمراض العقلية الكائن في منطقة الشماعية أو بناحية "الراشدية" شمالي بغداد أو بالسيد "راشد" الذي واظبوا على إخبار الناس خلال حملة "نحو" الأمية الشهيرة في أواخر السبعينات بأنه "يزرع" جنباً الى جنب مع المواطنة الصالحة "زينب" التي "تعمل" حتى ظن بعض البسطاء أن جملة "راشد يزرع ، زينب تعمل" صارت إحدى شعارات الحزب القائد! وكنت أتمنى أن يكون المرحوم الشيخ جلال الحنفي حياً يزرق لأسأله عن معناها، إلا أن الرجل غادرنا حتى من قبل أن يكحل عينيه برؤية مسودات معجمه الفريد "معجم اللغة العامية البغدادية" مطبوعة متداولة، بيد أنه لم يكن لينسى بالتأكيد أن يخبرنا بطريقته الموسوعية أن "الراشدي" هو "القلم" باللهجة المصرية و"الكف" بالسورية والـ "شه ق" بالكردية والـ "slap" بالانكليزية و الـ " claqu" بالفرنسية والـ " "Schlagبالألمانية.. الخ الخ ! لكنني أعرف كما يعرف القراء أن الراشدي (وتوأمه الجِلاّق) يحتل مكاناً بارزاً في الثقافة الاجتماعية العراقية وهو أحد وسائل التعبير المرموقة عندنا إضافة الى كونه وسيلة تربوية راقية يلجأ اليها الآباء والأمهات والأزواج والمعلمون والمعلمات لتربية وتهذيب أبنائهم أو تلاميذهم أو زوجاتهم – وأزواجهن في بعض الأحيان ! أما الذين يحظون بشرف الاستضافة في مراكز الشرطة والأمن ومعسكرات الأسر ومقرات الأحزاب "المناضلة" ومنظماتها "الجماهيرية" وميليشياتها "المجاهدة" فيعرفون أن تلقيهم بضع راشديات في بداية اللقاءات الأخوية الحميمة ليست سوى مقدمة بسيطة تعبر عن واجبات وتقاليد عريقة في إكرام الضيف وخدمته، وإنهم، إذا كتب لهم الخروج أحياء من تلك المضايف سيظلون محتفظين بذكريات عزيزة ومثيرة (ووشوم جميلة) تنسيهم ذكرى تلك الراشديات الترحيبية الكريمة! ثم إن هناك من الإخوة السياسيين من "شبع راشديات" أثناء التعذيب في سجون ومعتقلات النظام البائد، وكنا نظن أنهم سيظلون أوفياء للقضية التي تحملوا من أجلها تلك "السطرات" أو للشعب الذي تلقوا لخاطره تلكم "الدفرات" لكنهم سرعان ما غسلوا وجوههم النظيفة ببــو..هم عندما انتقلوا الى مواقع السلطة فصاروا يصعرون خدودهم "المرَشَّدة" للناس ويمشون في الأرض.. عفواً في الهَمَرات مرحا. أما أنا فأحتفظ شخصياً بذكريات مؤلمة عن بضعة راشديات تلقيتها في الابتدائية ظلماً وعدواناً منها ذلك الراشدي الذي تلقيته في الصف الأول الابتدائي من قبل المعاون المرعب الذي أصر على معاقبتي لأن المرحومة أمي كانت قد لفت رقبتي وآذاني بـ "لفّاف" صوفي يحميني من برد الصباح القارص، ولم نكن أنا وأمي على علمٍ بأن ذلك اللفاف يعد انتهاكاً صارخاً لقواعد السلوك والأتيكيت المتبعة في مدارس اوكسفورد الداخلية التي كانت تتبعها مدرسة القدوة الابتدائية في مدينة الحرية الثانية خلف العلوة الشعبية!
لا أنكر أن من الناس من يفتحون شهيتك لصفعهم أما لقبحٍ في أخلاقهم أو لشيءٍ في خلقتهم يوحي بأنهم خلقوا ليُصفعوا .. شأنهم شأن ذاك الأحدب المسكين الذي خلده عبد الله بن النطّاح عندما رسم صورته الكاريكاتيرية القلمية:
قَصُرَتْ أخادعهُ وغاصَ قَذَالهُ فكأنهُ متوقِّع أن يُصْفَعَا وكأنه قد ذاقَ أوَّلَ صَفْعةٍ وأحَسَّ ثانيةً لها فتجَمَّعَا
لكن الصفعة في كثير من الأحيان تشكل إهانة كبيرة لمن يتلقاها خصوصاً إذا كانت علناً وعلى رؤوس الأشهاد .. وتعبر في أحيان كثيرة عن عدوانية وهمجية الصافع خصوصاً إذا وجهها ظلما الى من هو أضعف منه.. وقد تشكل عند قوم آخرين "ظاهرة صحية مستحبة" وعلامة على التحدي والثورة والغضب من ظلم واقع أو خسةٍ أو نذالة من جهة المصفوع وعندها قد يستدعي الأمر أن يُعانَ "الراشدي" العتيد بشيءٍ من ملبوسات الأقدام زيادة في الإهانة والحط من القدر، ومن هذا ما صرح به الشاعر:
قومٌ إذا صفعَ النعالُ وجوههم صاحَ النعال بأي ذنبٍ أصفَعُ!
وللصفع تاريخ قديم عند العرب، وقد ارتبط الصفع بالسياسة وأمور الحكم حتى أن عزل خليفةٍ أو والٍ أو قاضٍ دون أن يتلقى عدداً من الصفعات صار أمراً نادر الوقوع. يحدثنا صلاح الدين الصفدي أن الملك الناصر أمر ذات مرة بعزل قاضٍ يدعى شمس الدين بن عدلان فدخل عليه –أي على القاضي- شاعر هَجّاء يدعى أحمد بن عبد الدائم وقال له: يا سيّدنا والله ما سرَّني عزلُ ابنِ عدلانِ فقال له الشيخ شمس الدين: حاشاكم يا مولانا جزاكم الله خيراً، فقال: من غير صَفعٍ ولا والله أرضاني فقال: قبَحك الله يا نَجِس!
ولو أردنا أن نستعرض كل ما في "تراثنا الحضاري الزاهر" قديمه وحديثه من صور الركل والصفع ونتف اللحى لما بلغنا المنتهى، لكنني سأكتفي –في سرد العلاقة الحميمة بين الثقافة والراشديات- برواية ثلاث حالات من تاريخنا المعاصر كنت في الأولى شاهداً عليها وفي الاثنتين الأخريين سامعاً من محدثٍ لا أشك بصدقه، أما ما يجمع بين تلكم الحالات فهو، ويا للأسف، أن كلا من طرفي "العملية" أي الضارب والمضروب كانا من المثقفين أو من المحسوبين على المثقفين وفي ذلك عبرة لذوي الألباب: حدثت الواقعة الأولى في إحدى الأمسيات في أواسط السبعينات إذ كنت في زيارة لأقاربي في إحدى المحافظات القريبة وتصادف حضوري مع حفل كان سيقام عصراً بمناسبة "احتفالات شعبنا المناضل بذكرى ثورة 17-30 تموز المجيدة جدا". حصل قريبي على مقعدين "سفريين" في الحديقة الكبيرة وبدأ الحفل وتوالت الراقصات والمطربون والمطربات لكن الجميع كانوا بانتظار الفنان الكبير ح.ن. القادم من بغداد الذي تأخر في الظهور رغم تكرار الإعلان عن فقرته لسبب كنا نجهله. ولأنني كنت جالساً في الصف الأول ولأن خشبة المسرح لم تكن غير دكة أسمنتية مفتوحة وراءها غرفة صغيرة وجدار "ملبوخ" تحول بعد بضعة أعوام الى جدارية للرئيس القائد، فقد استطعت أن أرى الفنان الكبير (الذي كان وما يزال محط إعجابي) جالساً في تلك "الكواليس" يتجادل بشدة مع رجلٍ طويل لم أكن أعرفه. وفجأة رأيت ذلك الرجل وهو يرفع يده ويهوي بصفعة مدوية على خد الفنان الذي ذهل في البداية ثم انخرط في البكاء لينهض بعدها ويكفكف دموعه ويصعد الى المسرح ويصدح بأغنياته وكأن شيئاً لم يكن. أثار المشهد الذي جرى بسرعة البرق (والذي ما زال محفوراً في ذاكرتي) دهشتي واستغرابي وحاولت أن أجد له تفسيراً فلم تأتني غير جملة مقتضبة همس بها قريبي وهو يشير الى الرجل الطويل: هذا أستاذ فلان.. شاعر الحزب!! وشاءت الأقدار أن انتقل بعد تخرجي للعمل في تلك المدينة، وأن تجمعني بذلك الرجل صداقة حميمة رغم الخلافات والتقاطعات في كثير من وجهات النظر، فقد اكتشفت فيه شاعراً قديراً مطبوعاً متمكناً من فنه ولغته وحائزاً –وهذا للعلم أمر مهم لمن لا يدري- على قدرٍ من الجنون والطفولة والمغامرة يؤهله للقب الشاعر. ولأنني لست متعوداً على أن "أبلع لساني" فقد واصلت سؤاله عن ذلك "الراشدي التاريخي" غير آبه بحرجه وتهربه من الجواب الى أن استسلم لإلحاحي وأفضى لي بروايته عن الواقعة فقال: كنتُ عريف الحفل والمسؤول عن تنظيمه وإدارته، وقد كنت حريصاً على مشاركة هذا الفنان بالذات، لكنه عندما حضر أفرط في الشراب حتى فقد توازنه، كما بدا أن بعض تصرفات الجمهور لم تعجبه، وعندما طلبت منه تقديم فقرته رفض بعناد فتجاوزته الى من يليه ثم عدت اليه فلم يقم وأصر في نوبة سكره أنه لن يغني حتى يكلمه "القائمقام شخصياً" فقلتُ له "أنا القائمقام" فقال "إذن فليأتِ مسؤول الحزب ويكلمني" فقلتُ له "أنا مسؤول الحزب" فقال "إذن أريد أن أتحدث مع مدير الأمن" فقلتُ له "أنا مدير الأمن" غير أنه واصل عناده فاضطررت الى أن أهوي على وجهه بتلك الصفعة لأعيد إليه صوابه، وهذا ما حصل بالفعل، فقد سكب دمعتين ثم أفاق من سكرته وقام ليغني كأحلى ما يكون" ثم تبادلنا القبلات والأحاديث الودية وعاد الى بغداد مودعاً بالسلامة! -"إذن فالأمر لم يتعلق بالسياسة" سألته متشككاً ومناكداً. -"لا والله، لا سياسة ولا بطيخ!" ورغم أنني ما زلت مصرا على أن الأمر مرتبط بالسياسة أو بموقع السلطة (أو القرب من السلطة إذا أردنا الدقة) الذي كان يتمتع به صاحبي في ظل "القيادة الحكيمة" وإلا لما كان ليفكر أصلاً في استخدام باطن كفه في حوارٍ "متكافئ" كهذا، فقد ملتُ الى تصديق روايته وخصوصاً يوم اجتمعنا نحن الثلاثة: أنا وصديقي اللدود والفنان الكبير في إحدى المناسبات العامة بعد عشرين عاماً من ذلك التاريخ واندمجنا في حوار جميل لأكتشف مدى رقة ذلك الفنان وثقافته ودماثته وطيبته. لكنني لم أنس أن أتطرق عامداً (لأعابث صاحبي وأغيظه) الى ذكر تلك المدينة وذكرى زيارته اليها فبدا وكأنه نسي أو تناسى تماماً تلك الحادثة ولم يذكر المدينة وأهلها إلا بكل خير! فالتفتت الى صاحبي وهمست له: -"انكسرت إيدك. كيف مددتها الى مثل هذا الانسان ؟!"
#ماجد_الحيدر (هاشتاغ)
Majid_Alhydar#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
وداعاً مكتبتي الشهيدة... مرحباً مكتبتي الجديدة!
-
مِن أدب الأطفال الكُردي..من سيُنزِلُ السكينةَ... على قلبِ مر
...
-
وا ابن رشداه.. اقد أحرقوا كتبي!
-
المسجد بيت الله
-
ضحك كالبكاء...ليش ما صرت حرامي؟!
-
مريم
-
الحُلَّةُ الغَرّاء في مُراسَلةِ الرؤساء...الرسالة الخامسة ال
...
-
تأخرتَ جداً
-
ضحكٌ كالبكاء خبر عاجل : مؤتمر الوحدة الإسلامية يرجئ مشاوراته
...
-
رباعيات
-
بين الأدب الساخر.. والتهريج الرخيص.. أكثر من خيطٍ رفيع
-
ترجمةُ الشعرِ... مهنةُ المجانين !
-
الرجل .. الذي.. عقر.. الناقة
-
مزامير راكوم الدهماء
-
وما الفائدة؟؟
-
ماجد الحيدر...ما بين ديالى ودهوك جسر من الحلم أعبره كل مساء
-
شتاء
-
الرسالة الرابعة الى رئس الجمهورية
-
سيادة العميد ..ضايج!!
-
عن حي المتنبي وستالين والمادة 140
المزيد.....
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
المزيد.....
-
فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط
/ سامى لبيب
-
وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4)
...
/ غياث المرزوق
-
التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت
/ محمد فشفاشي
-
سَلَامُ ليَـــــالِيك
/ مزوار محمد سعيد
-
سور الأزبكية : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
مقامات الكيلاني
/ ماجد هاشم كيلاني
-
االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب
/ سامي عبدالعال
-
تخاريف
/ أيمن زهري
-
البنطلون لأ
/ خالد ابوعليو
-
مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل
/ نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم
المزيد.....
|