|
الحزن الوسيم..(رواية)3
تحسين كرمياني
الحوار المتمدن-العدد: 2567 - 2009 / 2 / 24 - 08:52
المحور:
الادب والفن
(في صالة صاخبة) حين رفع(نوزاد)رأسه،رأى ساعة غرفته واقفة،قام من منامه،صعد فوق طبلة خشبية وأنزل الساعة الجدارية،لبرهة من الوقت،ظلّ صامتاً،كان جالساً والساعة بين أحضانه،ناحتاً عينيه في فراغ متحرك، وضع الساعة جانباً،نهض وتحرك نحو نافذة غرفته،أزاح الستائر وألقى نظرة،رأى أمّه جالسة مع جارتها أم(مريوان)،عاد وجلس على كرسي الحاسب الإلكتروني،سقطت عيناه على الساعة،هز رأسه متمتماً: ـ لا فرق بين حياتي وحياتك أيتها الساعة..!! كانت تلك هديّة تسلمها يوم التخرج،قرر أن يضعها في غرفته المتواضعة،فوق الصورة الكبيرة حيث(هه ولير)تتوسط المتخرجين والمتخرجات بشكل متميز ولافت للنظر،ترتدي ملابس كما لو أنها في ليلة زفافها، (طاووس في لحظة زهو..) ـ كلام ما زال يحتفظ به همسه زميله(محمود بستاني)في أذنه ـ لم تجذب هذا الكم الهائل من العيون في كل سنواتها،ربما أفاق الزملاء على برق خاطف،جمعهم على مائدة الصدمة،لم تكن تتحرك كما تتحرك في لحظة تخرجها،توزع جمالها وتنثر ابتساماتها بالتساوي على الكرنفال الشبابي،تلك الساعة ذات النغمات(الكنسية)تشعره بـ(هه ولير)،كلما دق منبهها،أو أراد أن يتأكد من الوقت،تذكره الساعة بآخر لحظة وآخر وقفة وربما آخر بسمة ورائحة في يوم لا ينسى،تقدما معاً وتسلما معاً الساعات والهدايا الأُخر مع زميل ثالث،جاء ترتيبه بعدهم،فتى(أربيلي)،وسيم وميسور،كان صديقاً مرغوباً محسوداً لكوكبة حسان الكلية،ثلاثة جاء ترتيبهم الأوائل على قسم الهندسة المدنية،ذهب(الدون جوان الأربيلي صلاح الدين)إلى مدينته،بعد توديع صاخب وتبادل التذكارات والتقاط الصور مع زميلاته،مضت(هه ولير)أيضاً دون أن تترك تلميحاً يفرحه وينعشه على أنه فتاه المرغوب،قام من كرسي الحاسب وتوجه لرفع الساعة،أعادها إلى المسمار،سحب كرسي الحاسب إلى النافذة،راح متلصصاً ينحت بصره في كل شيء متحرك،أنتبه إلى أمّه،صارت الآن تجلس مع خمس نساء،عادة قديمة لم تتركها أمّه،هكذا تنقضي الأصائل،هنّ يتبادلن الحكايات وهو من وراء ستائر نافذة الغرفة يقضي معظم وقته من غير رغبة،في تلك اللحظة تصاعدت نغمة من هاتفه النقّال،ظلّ جالساً لا يتحرك،عادت النغمات من جديد،لم يحرك ساكناً،كثيراً ما كان يهمل مكالمات تأتيه عبر أرقام غريبة،ولم يرغب أن يرد فيما بعد أيضاً كي يعتذر إذا ما كان صديقاً،بعدما يراجع قائمة المتصلين،لم تمض سوى ربع ساعة على آخر مكالمة لم يرد عليها،لمح مركبة حديثة تقف بالقرب من النساء المتحاورات،من داخل السيارة وجه غير واضح الملامح يلبس نظارة سوداء يلقي سؤالاً،وجد أمّه تشير باتجاه المنزل،تقدمت المركبة ووقفت أمامه،قام كمن بغت،وهرع خارجاً،أستقبله صاحبه معاتباً: ـ يومان وأنت لا ترد..جئت لأنهي رفقتي لك. ـ ليس قبل أن تعرف حالتي يا عزيزي. ـ وما بك يا عزيز أمّه ومدللها،فتاة ومضت،هل ينبغي إحراق حياتنا الحلوة من أجل فتاة لم تخلق من أجلنا. ـ هيّا أدخل. ـ أنت حقاً مجنون،هل نسيت الموعد. ـ أيّ موعد. ـ آه..كان يجب أن أتركك أن تتدحرج من على قمّة(أزمر)،لتخلص العالم من سأمك. ـ وضِّح..عن أي موعد تتحدث. ـ هيّا..أدخل وألبس،نسيت موعد المعرض الفنّي. شُده وأطرق برأسه صامتاً،لطم جبينه بكفه..تمتم: ـ آه..أنت محق حقاً،لو كنت أعلم بوجودك هناك،لتأخرت قليلاً كي أتخلص من عذابي. ـ هيّا..عجّل،أمامنا أربع وعشرون دقيقة فقط،عيب أن نكن مع المتأخرين. ـ لم لا تتركني..أريد أن أعتزل وأموت،أنا إنسان فائض عن اللزوم. ـ أدخل وإلاّ أخذتك عنوة بهذه الأسمال وأجعل الحضور يضحك عليك. ـ آه..أنسيتني،مبروك..مبروك على المركبة. ـ يوم لك،قريباً..قريباً..جداً. ـ لا..لا..لا تستهزئ،لن أجلس وراء مقوّد مركبة بتاتاً،المركبات من مقتنيات الأغنياء،إيّاك أن تمازحني. ـ ولم لا..غداً تتعين وتخصص الحكومة لك مركبة آخر موديل. ـ غداً..غداً..موت يا(……)..(وضع صاحبه كفه على فمه مقاطعاً).. ـ هيّا..ألبس ودعنا نذهب،لا تشبعنا ثرثرات فارغة. سحب كفه ودفعه إلى الداخل وهو يتبعه..!! *** وصلا ساحة وقوف المركبات،نزلا ومشيا بضع خطوات،كانت هناك مجاميع من الناس تتقدم من كل جهة صوب صالة العرض الفنّي،لحظة دخلا،أنتبه صاحبه الذي كان يراقب الفتيات ويتنقل ببصره بينهن،وجد الفنّانة واقفة تحاور كوكبة فتيات،مسك معصم(نوزاد)،سحب يده بعجالة..همس في أذنه: ـ نسيت ساعتك. ـ توقفت عن العمل وقذفتها. ـ سأشتري لك واحدة من النوع الجيد،شرط أن تكن على ما يرام،وأن تتصنع ابتسامة لائقة،تعرفني جيداً،لا أرغب مرافقة المكتئبين. تقدما معاً،كانت اللوحات تتوزع الجدران،كلها تنطق بجمال الإنسان والطبيعة الساحرة،وكان(نوزاد)كمن يسحب عنوة إلى مكان ثقيل،يتعثر بمشيته،عبرا مجاميع واقفة أمام لوحات،بعضهم يحمل كاميرات تصوير وآخرون يبرزون عدسات هواتفهم النقّالة،وكانت الموسيقى تنداح هادئة داخل القاعة الطويلة..همس صاحبه: ـ أخرّتنا عن لحظة الافتتاح. صمت ورمقه،لم يرغب أن يتكلم،وصلا نهاية القاعة،وقفا أمام لوحة زيتية،فتى(كوردي)يتسلق جبلاً عملاقاً،يحمل على ظهره طفلان،همس صاحبه: ـ أنظر..عليك أن تغدو مثل هذا الفتى،عليك أن تتسلق الحياة،أن لا تستسلم. ـ وهل للحياة درج كي أتسلق عليه. حدجه صاحبه بنظرة غاضبة،مسك معصمه وسحبه،أمام لوحة أخرى وقفا،تناغم صوت من وراءهما،التفتا معاً،كانت الفنّانة،مشرقة الوجه تقف،قالت وهي تقدم عبوتي ماء: ـ أرجو أن تكونا عطشانين. قال صاحبه: ـ ماء الدنيا لا يرويه،صاحبي مصدوم. قالت: ـ عجبي من شبابنا،لم يجربوا الحياة الجديدة بعد،يتظاهرون بالتعب والكآبة والهروب من الحقائق. قال صاحبه: ـ صاحبي مهندس معماري،مهندس بلا وظيفة،عاشق للفن النبيل والأصيل. ابتسمت الفنّانة،وراحت تفحصه بتأنٍ،شاب وسيم يرتسم الحزن بكل معانية وتجلياته على ملامحه،حزن عميق جداً،يبدو ناطقاً،بعين الفن رأت تلك الأوجاع والمتاعب والأحلام المتحطمة،أشياء غامضة تتوامض،كأنها رؤوس أسماك صغيرة تستنجد بحثاً عن أو كسجين..قالت : ـ بين الهندسة والفن وشائج متداخلة،الهندسة رسم أيضاً. قال صاحبه: ـ جئنا نباركك أولاً،ورغبنا أن نكون أوّل الحضور،لكن الظروف حالت دون ذلك. ـ المهم جئتما،أنا فرحة بكما،لم تخلفا الموعد. ـ نريد صورة معك،أرجو ذلك ولكن بلا إحراج. ـ مضى زمن الإحراجات،نحن في واقع جديد،الفنّان منذور من أجل سعادة الناس. أشارت إلى المصوّر،تقدم الشاب ووقف أمام الثلاث،برقت العدسة وامضة من عدة زوايا..قالت: ـ وأنت أما لديك رغبة للكلام. ـ أ..أ..نا.. ـ نعم أنت أيها الحزين الوسيم.. تدخل صاحبه: ـ تكلم يا حضرة الباش مهندس،تكلم وأعطي رأيك باللوحات. تكلم(نوزاد): ـ جميلة..لوحاتك..جميلة.. أجاب صاحبه: ـ من الجميلة،فنّانتنا أم لوحاتها. شعر بظلام يسود عينيه..تلعثم: ـ ها..ها..ماذا..ماذا تعني.. تدخلت الفنّانة: ـ دعه،لا تحرجه. تمالك(نوزاد)نفسه..قال: ـ أرجو أن لا تأخذي كلام صاحبي على محمل الجد،أنّه يحب المزاح. قالت: ـ المزاح والفن صديقان،على الفنّان أن يكون شفافاً ورقيقاً ويمتلك روحاً مرحة،أرجو أن تستمتعا هذا اليوم، لدي بعض الضيوف،خذا راحتكما،ربما سنلتقي فيما بعد. مبتسمة انسحبت..قال صاحبه: ـ ستظل غارقاً في كوابيسك،أفق يا عزيزي،كانت تحفر عينيها ـ بلهفة العطشى للماء ـ فيك. ـ أنت ستورطني بمشكلة ما. ـ المشاكل مع الجنس الناعم لها حلاوة يا عزيزي. ـ لست مستعداً لإهانة ما. ضحك صاحبة والتفتت إليهما فتاة كانت تتنكب حقيبتها..قالت: ـ ما الذي يضحكك. نظر صاحبه إليها،هز رأسه وأجاب بأدب: ـ لا..لا..ليس هناك ما يضحكني سوى صاحبي. قالت: ـ صاحبك،وما به،يبدو أنه أنيق وهادئ،لا..لا توهمني يا ولد. ـ صدقيني أنا ضحكت من كلامه. ـ وما هو كلامه. شعر صاحبه بإحراج،وكان هو ينظر صامتاً،بينما الجموع البشرية تقف تنظر إلى اللوحات وتمشي من حولهم،أردفت: ـ هل تحب الفن. ـ لولا حبي له لما جئت. ـ ولكنك ضحكت. ـ قلت من كلام صاحبي. ـ لا..لا أعتقد أنه قال ما يضحكك. استدارت الفتاة ومضت،وقف يواريها حتى اختفت،تكلم(نوزاد): ـ كدت أن تهوي في قاع مشكلة. ـ أيّة مشكلة،ألم أقل لك،المشاكل مع الجنس الناعم متعة ووسيلة سعادة. ـ هيّا نواصل تجوالاتنا،لا يجب أن نغدو منحوتين هنا. سارا من جديد،وصلا زاوية،وجدا حشد فتيات،تقدم صاحبه من اللوحات،التفت إلى الوراء وأشار برأسه،تقدم(نوزاد)،نقل عينيه حيث تشير سبّابة يد صاحبه،تحجرت عيناه،توقف تنفسه،ظلّ لوقت لا يعرف كم إستغرقه وهو يحدق في عالم غامض يتحرك،استمرت الغشاوة تظلل في عينيه الأشياء،كان قلبه ينبض بعنف،ربت صاحبه على كتفه،تلك الربتة جعلته يستعيد بعض الوضوح،رأى خمس لوحات محجوزة،وقرأ جيداً وبألم أسم حاجزة اللوحات الخمس،لقد كانت(هه ولير سليماني)..!! *** (هه ولير سليماني) هي وحيدة ثري،قرّة عينه وفلذة كبده ومساحة فرحه،كبرت بريئة،وصارت(مهندسة)،محبوبة كانت في طفولتها،ويوم كبرت غدت مصباحاً لا ينطفئ،أينما تكن ثمة فتيات يصاحبنها،وشبّان الوقت يحومون حولها،لافظين حسرات وناطقين بوضوح ما تسكنهم من وجع الرغبة،لم تمر ستة أشهر على تخرجها، وجدت نفسها أمام سؤال غامض،سؤال باغتها في وقت لم تكن مؤهلة لأسئلة الحياة الكبرى،كانت في غرفتها تبحث في(المواقع الألكترونية)عن أخبار وآخر لوحات الفنانين والمعارض الموسمية،دخلت أمّها..قالت: ـ لا يصح جلوسك هنا،لدينا ضيوف. ـ من هم. ـ ضيوف من مدينة ـ هه وليرـ. ـ وهل لدينا أقارب هناك،أنت لم تخبريني من قبل بذلك يا مام. ـ هيّا رتبي نفسك وتعالي،ناس أكابر،جاءوا من أجلك. ـ من أجلي. نظرت في عيني أمّها،كانت تحمل لها سؤال واحد،سؤال لم تعرف جوابه،هزّت رأسها،ونثرت شعرها إلى الوراء،بدت كأنها خارجة من الحمام،وجهها يلمع تحت وهج(النيونات)،سحبت نفساً عميقاً..تمتمت: ـ لا أفهم ما تقولينه يا أمّي. ـ حين تأتين ستعرفين كل شيء. باستغراب خرجت أمّها،ظلّت للحظات جالسة،تريد أن تعرف لم تريدها أمّها،لم يسبق أن نادتها من قبل،كان الضيوف يأتون ويمضون،لم تعنيها من هم،لم بالضبط وفي هذا المساء جاءت إليها أمّها وطلبت منها الحضور،ومن هم القادمون إليهم من ـ هه وليرـ، استغرقت أثنتا عشرة دقيقة وهي ناحتة بصرها في سقف الغرفة،قبل أن تنتبه إلى باب غرفتها يفتح برفق،وجدت نفسها مرة أخرى أمام أمّها وهي تسبق وافدة تتبعها،دخلت فتاة متوهجة الوجنتين،عينان زرقاوان،طامسة في حلي وأساور وثياب(كوردية)باذخة الألوان..تمتمت: ـ ما شاء الله،نور على نور. تدخلت الأم قائلة: ـ ليست على ما يرام،لكنها سترتب نفسها وتطل عليكم. قامت واستقبلت الزائرة،تعانقتا..قالت لها: ـ عذراً..أشعر بصداع منذ الصباح. ـ معذورة يا(أمّورة). قالت هه ولير: ـ تفضلي أجلسي. ـ لا..أشكرك،قالت أمّك أنك مرهقة ورغبنا أن لا نتعبك. توادعتا،مضت الزائرة مع أمّها على أمل أن تعودا بعد أسبوع تحديداً..قالت أمّها: ـ ليس من صفاتنا المعروفة عدم استقبال الضيوف. ـ ومن هم يا أمّي. ـ جاءتا تطلبان يدك. ـ يدي.!! ـ تريدانك زوجة. ـ زوجة.!! ـ ماذا دهاك،ألم تعرفي ما معنى زوجة. ـ ها..أعرف..أعرف.. هزت الأم رأسها وخرجت،عادت إلى جهاز الحاسب ومن جديد بدأت تداعب الأزرار،وجدت أناملها مرهقة،ليس لديها رغبة لمواصلة ملامسة الأزرار،أطفأت الجهاز وألقت بنفسها على فراشها،نحتت عينيها في السقف،أشياء غامضة وغريبة تجري من حولها،وجدت التفكير يتعبها،قامت وتوجهت نحو أمّها،كانت في المطبخ،تقدمت على استحياء عانقتها وطبعت قبلتين طويلتين على الوجنتين الرطبتين.. قالت: ـ لست على ما يرام،أنا متعبة يا مام. ـ لا عليك يا بنت،عليك أن تفكري جيداً،وأن لا تضيعي الفرصة القادمة. ـ ولكن أنا مازلت حديثة التخرج والتعينات لم تظهر بعد. ـ ناس أكابر ولديهم أملاك ونفوذ،عليك أن تقبضي على الفرصة،أنها لا تتكرر. ـ حسناً يا مام،لا أريدك أن تغضبي علي. ألقت بالصحن من يديها على الطاولة،تقدمت من البنت،احتضنتها،شعرت البنت بأن أمّها بدأت تبكي،سحبت نفساً عميقاً،سحبت نفسها..قالت: ـ لم البكاء يا مام. مسحت الأم عينيها،حاولت أن تصطنع ابتسامة..قالت: ـ أعرفك أنك ستوافقين،سابقى وحيدة بعد ذهابك إلى بيتك الجديد. ـ آه..يا مام..لا أريد أن أكون سبباً لعذابك. ـ كلا..كلا..بل سأفرح بك،بعدما أختار لك زوجاً ملائماً. دق جرس الباب،هرعت(هه ولير)،وجدت نفسها أمام والدها،فتحت الباب الرئيسي والخاص بموقف المركبة،دخلت المركبة وهبط والدها،استقبلته بقبلة سريعة،بدت أكثر نشاطاً،دخلا معاً وهما يحملان البضائع،كانت الأم واقفة في الصالة،تقدم الأب ووقف على مقربة منها..قال: ـ في عينيك دموع. ـ دموع فرح. ـ آه..يا ترى فرح من. ـ فرح سيشملنا جميعاً،هيّا لا تقفا،وراءنا سهر وكلام كثير..!! *** (خطوبة هه ولير) عادت الزائرتان بعد أسبوع،كانت(هه ولير)خارجة المنزل،ذهبت مع جارتها لحضور افتتاح المعرض الفني المقام في قاعة الفنون والمسرح العائدة لفرقة المسرح(الكوردي)،وقبل الغروب بقليل عادت،وجدت صالة البيت تضج بالضيوف،لم تكن تهتم بالموضوع مذ دخلت عليها الزائرة غرفتها،كانت تعيش في عالمها الخاص،عالم الفن الراقي واللوحات النادرة،كانت منشغلة بأمورها الخاصة،متابعة الفن وأخبارهم،التصفح في المواقع الفنية عبر الإنترنت،ملاحقة آخر صيحات الموضة،فرحة عادت من المعرض،تهيء أمكنة للوحات الخمس والتي لم يبخل عليها الأب دفع ما طلبت فنّانة المدينة من سعر باهض،الزائرات القادمات من (أربيل)لم تنشغل بهن مذ غادرن،فقط مرة واحدة تم مناقشة الموضوع بجدية وروية،لحظتها..قال الأب: ـ عائلة معروفة لها صيت في الغنى والمناصب. قالت الأم: ـ أرجو منها أن لا تفرط بالفرصة الذهبية. أجابت بعد صمت..بخجل: ـ ليس من طبعي أن أغضبكما،كل ما تريدانه سأتقبله بفارغ الصبر. لم يتناقشوا في القضية خلا تلك الليلة،ليلة مبارحة الزائرتين،وجدت نفسها بين قوسين،وقفت في الحديقة،اصوات نسائية وأصوات رجال،الأم تمرق فرحة،تقدمت ببطء وأستحياء،دفعت الباب المفضي إلى المطبخ،استقبلتها الأم وهي تنثر رذاذ فرح غامر،لم تتوقع أن الموضوع سيغدو أكثر جديّاً بهذه السرعة، قادتها الأم وأدخلتها على الحضور الذي وقف من دهشة مباغتة. صاح ثغر: ـ بسم الله ماشاء الله على هذا القمر السليماني. أطرقت برأسها،خجولة،مرتبكة،وجدت نفسها مقادة من قبل تلك المرأة التي ولجت غرفتها في تلك الليلة،إستجمعت المشهد في ذهنها،مشهد ما أرتسم من ملامح وأسمال تحتشد في صالة الضيوف،نساء مترفهات ورجال رزنين،جاءوا من مدينة ـ هه وليرـ كما كانت تعرف جهة طالبي يدها،ظلّت مطرقة الرأس،قبل أن تسمع صوت أمها: ـ أعذروها..خجولة أكثر مما يجب. سمعت صوت امرأة: ـ الخجل لا يليق بالحلوين يا(هه ولير). رفعت رأسها،تريد أن تتأكد،تريد أن تعرف أنها في الواقع،ليس ثمة كوابيس أو أحلام يقظة،تلاقت العيون،وأبتسم الولد الوسيم،تحجرت شفتاها،وشعرت بجفاف قديم يصدع لسانها،كان(الخطيب)ينظر إليها بعينين تعرفهما،عينان مليئتان بالفرح،تلك هي نظرات أصحاب المال والجاه في زمننا،حتى نظراتهم وابتساماتهم مرسومة ومهذبة وفق القياسات المطلوبة لتحقيق الأماني،سمعت صوتاً هادئاً: ـ كيف حالك(هه ولير). صوت ليس بغريب،صوت تعرفه،لكن غشاوة الخجل حجبت الرؤية،لم تعد ترى الأشياء كما هي،لملمت وعيها المتناثر،وجدت نفسها جالسة بكل كيانها أمام شاب لكم حاول أن يدنو منها وظلّت لا تبالي،سمعت صوت أمّها: ـ ردّي سلامه يا بنت، الولد يرحب بك. رفعت بصرها من الأرض ونقلته إلى أمّها،كانت فرحة وكان أبوها يحاور رجال بدوا مهمين،عن المال والأعمال،عن تلك الأيام السود في تاريخ المدينتين،تاريخ ما كان يجب أن يكون،ايام الكوابيس وحرب الأخوّة البغيضة،كانت(هه ولير)شاردة الفكر،تعتمل فيها بوادر فرح يطير من قسمات الأم الفرحة وكلام الأب المنسجم مع ناس تعرف فقط أبنهم،زميل الدراسة،الولد الغني كما كانوا يسمونه،أنتبهت ووجدت يدين تمدان قدحاً من العصير،كانت جارتها(نسرين)،زميلة تجوالاتها ومرافقتها إلى المعرض الفني الذي أقيم بمناسبة(يوم الحرية)،كيف دخلت ومتى،شيء غير ذي أهمية بالنسبة لها،التقت نظراتهما،غمزتها وهمست في أذنها: ـ حلو وغني ماذا تريدين بعد. ارتسمت ابتسامة ودودة على ثغرها،كلّهم فرحون،وحدها تحاول أن تجد لنفسها موقعاً مألوفاً،تريد أن تفرح،تريد أن لا تفرح،عالمان متضادان يجذبان بعنف،عالم السرور،وعالم الحزن الذي يكلل قسمات الأم بعد خروجها من الدار،دار الطفولة،دار الأب والأم والجارات العزيزات،سمعت الصوت ثانية: ـ أما زلت تعشقين الرسم،جلبت لك أجمل الأعمال الفنية في مدينتنا،هدية نجاحك. قالت الفتاة التي زارتها في غرفتها في زيارتها الأولى: ـ حكى(صلاح الدين)لنا عنك كثيراً. في تلك اللحظة تأكدت أن التلميذ الغني(صلاح الدين)معشوق الفتيات،زميلها لسنوات أربع في الكلية،هو الصقر القادم من رماد الذاكرة ليأخذها إلى عرين بعيد..بعيد جداً عن مدينة طفولتها..!! ***
#تحسين_كرمياني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الحزن الوسيم..(رواية)2
-
الحزن الوسيم..(رواية)1
-
مزرعة الرؤوس(قصة قصيرة)
-
خمس حكايات
-
لعبة الموت..البرلماني الغيور(حكايتان)
-
الشرفة الواشية..قبلة أزلية(حكايتان)
-
لقاءان..الكرة الزجاجية رقم 301(حكايتان)
-
معاقل الذباب..مزرعة الضفادع(حكايتان)
-
حجة الغائب..المهرج الأمبراطور)قصتان
-
في بلاد الأمبراطور..الموسوعة الأمبراطورية(قصتان)
-
خطبة حذاء..ية
-
في تلك القرية القصيّة..منظم الوقت(قصتان)
-
الكرسي..حكاية نادرة(قصتان)
-
الحذاء المنتظر
-
يقظة السيد علوان..(قصة)
-
لم يحسن التصرف..مأدبة الليل..(قصتان)
-
قصتان قصيرتان..
-
عين الشمس..تشابه الأسماء كان السبب(قصتان)
-
لكن الطائرات لم تجيء..(قصة)
-
لا أحد يريد ترك الدراما..(قصة قصيرة)
المزيد.....
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
-
شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
-
حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع
...
-
تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|