|
التمركز العقدي في الرحلات السفارية / المثاقفة المستحيلة /الجزءالثالث
ابراهيم ازروال
الحوار المتمدن-العدد: 2564 - 2009 / 2 / 21 - 09:29
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
ولا يكتفي العمراوي ، بوسم الانجاز الحضاري الغربي بالدنيوية الخالية من المعنى ، فهو ينكر حتى الانجاز التثاقفي للإسلام الثقافي في عصر العباسيين . فالعقل الإسلامي ، لا يتصور العلاقة بين الذات والآخر ، خارج الجهاد الدعوي أو القتالي أو الجزية ، عكس التأويلات اللاتاريخية والارادوية للإصلاحية الإسلامية .واستغراب العمراوي النافي لواقعة" تاريخية" متمثلة في التحاور الحضاري بين هارون الرشيد وشارلمان ، هو نتاج الفكرية المغربية – الأندلسية ، الغارقة في تعميق الهوة الثقافية بين الذات والآخر للحفاظ على تمايز الجماعة الأصلية وضمان تواصلها الرمزي مع الجماعة التأسيسية .فقد افتقدت المغارب منذ تكريس المالكية ، إلى أي الق تناظري وأي تذاوت أو تحاور مؤسس على التناصف بين المذهبيات والفكريات والعقائد. فالمغارب عرفت الغيرية البرانية ولم تعرف الغيرية الجوانية مثل المشرق ؛ أي أن المغارب ، عرفت الغيرية اللافردية ، القابلة للرفض جملة ، أما الشرق الأدنى ، فقد اخترقت قوامه الثقافي ، فكريات مفردنة ومشخصة وذوات ذاتية مخصوصة.وعليه ، ليس غريبا أن يستبعد العمراوي، إمكان التثقاف بين هارون الرشيد وشارلمان من حيث المبدإ. ( أخبرونا أن من جملة ما عندهم في هذه الخزانة مصحف صغير الجرم مكتوب بالخط الكوفي أهداه هارون الرشيد العباسي لملكهم المعاصر له ومعه سفرة شطرنج من العاج عظيمة القطع مكتوب أسفل الرخ منها هذا ما صنعه لأمير المؤمنين هارون الرشيد المعلم فلان ذكر لي اسمه ونسيته ومجانة(يقصد الساعة ) تخدم بالماء وغير ذلك واستغربت كون هارون الرشيد يهدي لملكهم المصحف مع مكانته في الدين المشهورة ، وهمته السامية المسطورة ، مع أن الإسلام كان ذلك الوقت في عنفوان الشباب ، والكفر في غاية الهوان والتباب . ولعل هذا من افتراءاتهم وزخارفهم التي يموهون بها في ادعاءاتهم . ) ( -إدريس العمراوي – تحفة الملك العزيز بمملكة باريز – تقديم وتعليق : زكي مبارك – ص.83 -) فمركزيته العقدية ، تفترض رفض أي تثاقف فكري أو عقدي مع الآخر ؛ لأن كل تناظر ، يعني إمكان الندية والتساوي المبدئي بين المتحاورين أو المتناظرين ؛والحال أن المسلم يقر بأفضليته العقدية غير القابلة للمقارنة مع عقائد الآخرين بأي حال من الأحوال . ولئن تخلصت رحلة العمراوي من المناظرات اللاهوتية المألوفة في كتابات أفوقاي ( ناصر الدين على القوم الكافرين ) و الوزير والسفير ابن عثمان المكناسي ( البدر السافر لهداية المسافر إلى فكاك الأسارى من يد العدو الكافر ) ، فإنها احتفظت بنفس الرؤية العقدية المكفرة للآخرين ، والرافضة لأي تدبر عقلاني للخلاف الديني . يصرالعمراوي على التمترس بمواقعه اللاهوتية القروسطية وعلى الرفض الكلي للمثاقفة الايجابية ؛ وبناءا على هذا الموقف ، فإنه يسعى إلى إقناع القارئ ، بأفضليته رغم التقدم التقاني الغربي ، والى قراءة طلائع الأفول الطالعة من زخم ذلك التقدم ذاته . فبدلا من تدبر تجليات التقدم الغربي ، فإن العمراوي ، يطالب بتوسيع الهوة بين الفضاءين الثقافيين المتصادمين ، ويقدم خطابا تبجيليا للرؤية التقشفية الصوفية المسيطرة على الأذهان .تقوم استراتيجيته ، هنا على إفراغ التقانة من محتواها المعرفي من جهة ، وعلى إفراغ التحرر الاجتماعي والحداثة الجنسية من حمولتها التحريرية .فالحداثة التقانية والاجتماعية ، ليست ، في اعتقاده ، إلا أمارات على افتقاد الاجتماع الفرنسي والغربي عموما ، للدفق الرمزي وللنسغ الدلالي المتعالي . أما الذات الإسلامية ، فإنها مختارة ، ترتع في نعيم المعنى ، وفي جنان المتعالي ، وتهنأ ياليقين التداولي وبالمصيرالاسكاتولي المتوخى.
(وما تم إلا زخارف الحياة الدنيا وبهرجتها وسرابها الزائل وترهتها ، ولكن في الإطلاع على هذه الأمور ومعرفتها معرفة قدر نعمة الله على المؤمنين بتخليصهم من فتن الافتتان بزينتها والاغترار بعرضها الفاني الموجب للإعراض عن الله تعالى مع تحقق مصير هؤلاء إلى غضب الله وعذابه المقيم فانا رأينا أناسا من العباد عقولهم كعقولنا حكم عليهم بذلك وأنقذنا منه بفضله وكرمه وكره لنا كفرهم وفسوقهم وجبلنا على عداوة حالهم ظاهرا وباطنا فلو لم يحصل لنا غير هذا القدر لكان متجرا رابحا ، وسبيلا في طريق الخيرات ناجحا على أن من له أدنى مسكة من عقل و أقل نصيب من ميز وفضل ، لا يرضى بالعيش بحالهم ولا يغتر بسراب محالهم ويكفي في تقبيح سيرتهم وخبث سريرتهم غلبة النساء عليهم وجريهن مطلقات ألأعنة في ميادين الفجور والفواحش من غير أن يقدر أحد على منعهن مما يردنه من ذلك ولاتعنيفهن .) ( -إدريس العمراوي – تحفة الملك العزيز بمملكة باريز – تقديم وتعليق : زكي مبارك – ص.92-93) لا يملك العمراوي بخطابه التقريظي للذات المنجرحة ، إلا دغدغة مشاعر قارئه المثالي ؛ فالذات الشقية ، إذ تلاحظ حجم الفوارق الحضارية بين عالمين ، تتمسك بهناءة الرمز .فهو سليل الأمة المصطفاة ، المفضلة بموجب ، اختيار الهي ، والمنشغلة بالماوراء باعتباره الحقيقة الكبرى ، والمحترس من بهارج وسفاسف الحياة الدنيا . إن العمراوي ، يحيل الانشطار الحضاري بين المغرب وفرنسا ، إلى الانشطار الميتافزيقي ، بين الحياة الدنيا والحياة الماورائية . فالفرنسي المتفوق ، مازال متشبثا بالأدنى ، معنى ومصيرا ، أما العمراوي ، فمأخوذ بالحياة المثالية وبالمسلك العقدي والعبادي ، المفضي إلى النجاة هنا وهناك .وتلك آلية ،داورها التصوف المغربي باقتدار عجيب ، وحكم على التاريخ الثقافي والاجتماعي للمغارب ، بعطالة فكرية وثقافية مزمنة .
والحقيقة أن العمراوي ، لا يملك إلا أن يمتاح من بقايا الخطاب الفقهي المتعالي ، و أن يضمد جروحه النرجسية ، باحتكار السند المفارق .والحال أن الاندحار العسكري والسياسي المغربي آنذاك ، حمل مدلولات ثقافية ، شخصتها النخب الثقافية تشخيصا مبتورا ، وعللتها بالإحالة إلى إطارها المرجعي الديني المعتاد . فلئن ، حاول العمراوي ، أن يداري التقهقر الحضاري لبلاده ، باستدعاء الأفضلية العقيدة للأمة الإسلامية ، فإن عبد الكبير ابن المجذوب الفهري الفاسي ، أشار في إحدى خطبه، غب هزيمة تطوان ، إلى غياب الرعاية المفارقة للأمة المصطفاة ، والى استعصاء الحال العقدية أمام النصرانية المنتصرة . يقول عبد الكبير بن المجذوب الفاسي : ( وقد أظل المؤمنين ذلك الزمان ، الذي أظلم جوه وليس اخبر كالعيان ، لا يأتي يوم إلا والذي بعده شر ، ولا ساعة إلا وما بعدها أدهى و أمر ، ونحن غافلون نعسا ، نعلل أنفسنا للخير بلعل وعسى ، كما كنا هذه مدة نعللها بأخبار الواردين ، و أن النصر والغلبة لحزب الله المجاهدين ، وأغفلنا ذلك عما نعلمه من أن الحروب سجال ، فتارة و آونة ندال ، و أن من ظن في الحروب أن لا يصاب ، فقد أخطأ وما أصاب ، إلى أن دهينا بأمر يروع الأفئدة ويذهل العقول ، ويفني الحيل ويكل فيه المقول ، وقويت فينا أطماع الخبيث ، ومنه إلينا يساق الحديث ، وشن علينا الغارة ، و أنشب فينا أظفاره ، وأعلق بنا أطماعه ، ومد إلينا ذراعه وباعه ، مع ما بنا من التغافل عنه والتهاون ، إلى أن فاجأ بالمكر يتيمة العقد مدائن المغرب تطاون ....) (-محمد المنوني – مظاهر يقظة المغرب الحديث – دار الغرب الإسلامي – بيروت – لبنان – الطبعة الثانية - 1985- الجزء الأول –ص. 365) . إن خطاب العمراوي ، مشدود إلى البداهات الدينية والى المسلمات الجماعية للمخيال الإسلامي ؛ وعليه ، فالمعقولية العقدية ، هي المعقولية المعتبرة ، عنده في الحكم على الشيء وعلى نقيضه ، ولا يكاد يتصور قيام معقولية أخرى مخالفة أو مضادة للمعقولية الدينية حتى على سبيل الافتراض النظري. وهذا دليل آخر ، على غياب نخبة ثقافية قادرة آنذاك ، على التعليل العقلي للفوات الثقافي والحضاري للمغارب ، وعلى تدبر الرقي الأوروبي تدبرا عقليا . وبناء على ما تقدم ، فليس غريبا أن يبحث العمراوي على مخارج لانجراحه النرجسي ، عبر التأكيد على الأفضلية والتفضيل العقدين أو إعمال آلية الدنيوة التسفيلية للتحديث والحداثة التقنية طورا ، أو آلية الانهيار الوشيك للاجتماع الغربي ، وفق إوالية متشائمة بله عدمية طورا آخر .فبعد أن بالغ في تسفيل المنجزات التحديثية رغم اندهاشه المتحير بها ، فإنه يعود ليتقمص دور الرائي ، المبشر بالأفول الوشيك للتمدن الغربي ، وفق آلية معهودة في النص المؤسس وفي الأدبيات التراثية عموما .فتأكيد الأفضلية المضمونة بموجب إرادة الله ، تقتضي ، هنا ، الإسراع بتحقيق الوعد الإلهي الثابت، القاضي بظهور أمة الإسلام على أمة الضلال والكفر ، وانقضاء الاستثناء الفرنسي والغربي عموما ، وذلك بادراجه وفق الآليات الميثية ، في التاريخ الآخر والحاقة بمصيره العاصف . ( وفيه أدل دليل على أن أمورهم بلغت الغاية : وتجاوزت النهاية ، و أنه في الحال يعقبها الانحلال ، وتأخذ في الانعكاس والاضمحلال،فمعلوم أنه ما بلغ شيء الغاية إلا ورجع ولا نال منتهى الصعود إلا اتضح فإنهم يقولون اليوم من أشد منا قوة ونسوا مهلك ثمود وعاد . وارم ذات العماد ، ولم يعلموا أن سطوة الله لهم بالمرصاد ، و أن أمره إذا نزل بقوم فماله من دافع ولا صاد . ) ( -إدريس العمراوي – تحفة الملك العزيز بمملكة باريز – تقديم وتعليق : زكي مبارك – ص.86 -) يحاول العمراوي البحث عن المخرج النظري السليم ، لوضعيته الدليلية التراجيدية .فقد تعود كتاب الرحلات والجغرافية والتاريخ والملل والنحل والمناظرات طيلة العصر الإسلامي ، على التحكم في آليات الخطاب ، وتحديد الفويرقات الدلالية ، في تعيين الأنا والآخر انطلاقا من التفوق الظاهر للضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط ، أما كتاب الرحلات السفارية ، فقد اصدموا بوضع تاريخي مفارق ، ووجدوا صعوبات بالغة في إدارة الخطاب وتوجيه دفة المعنى . فافتقاد المبادرة الحضارية ، يحكم على الخطاب مهما التمس العون من السند النصي أو الغيبي ، ومهما امتاح من الهناءة التراثية أو العقدية المألوفة عند كتاب الملل والنحل ، بالتشنج الدلالي وبالانخرام المعنوي المتواصل . إن خطاب العمراوي ، محكوم بالتوتر العميق بين القوى البانية للدلالة وللامتلاء المعنوي وقوى القرض والانتهاك .فهو لا يبني يقينا ، إلا ليحيله إلى ما يقرضه ؛ وحين ينتبه ، وهو المسكون بالتمثلات المعيارية للمتخيل الإسلامي ، إلى عمل القرض في خطابه ، يعود ليحتويه بالإحالة على صور ميثية عقدية أو تراثية ، مريحة لوضعية الدليلية الأصلية ، في حلقة دوران ، لا تنتهي إلا لتعصف بتماسك الرؤية وتناسق البناء النظري للفكرة . فخطاب العمراوي ، هو نتاج ذاتية مشروخة ، تبحث في مخزونها المخيالي وفي موروثها الآلي ، عما يسعفها في تمثل وتفهم المنجز الغربي . ولما كانت الآليات العقدية والتراثية ، مصاغة من قماشة ابستمولوجية هي غير القماشة الابستمولوجية ، للحداثة الفكرية ، فإن الخطاب المنسوج ، مهلهل المبنى والمعنى .فربط الانجاز الحداثي ، بسرديات عاد وثمود وارم ذات العماد ،يشي بالارتهان الفكري للعمراوي ، للسجل الميثي ،وللتواريخ الدورانية الجديرة بالأمثولات الرمزية لا بالتاريخ العلمي المنضبط ، منهجيا ورؤيويا . ولئن رام العمراوي ، البحث عن آليات ميثية تراثية ، لاحتواء فرادة المنجز الغربي ، وفصله عن تاريخيته الانقلابية ،فإن الصفار قدم شهادة حارقة ، عن درامية الحالة الإسلامية . يكتب الصفار بعد حضوره لاستعراض عسكري ، أجري يوم السبت 17 يناير 1846: ( ومضوا وتركوا قلوبنا تشتعل نارا ، لما رأينا من قوتهم وضبطهم وحزمهم وحسن ترتيبهم ، ووضعهم كل شيء في محله ، مع ضعف الإسلام وانحلال قوته واختلال أمر أهله . فما أحزمهم وما أشد استعدادهم ، وما أتقن أمورهم و أضبط قوانينهم . وما أقدرهم على الحروب وما أقواهم على عدوهم ، لا بقلوب ولا بشجاعة ولا بغيرة دين ، إنما ذلك بنظامهم العجيب وضبطهم الغريب ، وإتباع قوانينهم التي هي عندهم لا تنخرم . إن صدرت من واحد منهم زلة أجروا عليه شريعتها ، سواء كان رفيعا أو وضيعا . و إن ظهرت لأحد منهم مزية أرقوه درجتها ، لا يطمع أحد منهم فيغير ما هو له ، ولا يخاف على ما في يده أن ينزع منه . فعلى ذالك يبدلون مهجهم في المعارك ، ويلقون بأنفسهم في المهالك . ولو رأيت سيرتهم وقوانينهم لتعجبت منها غاية العجب ، مع كفرهم وانمحاء نور الإيمان من قلوبهم ، وما راء كمن سمع الخ . اللهم اعد للإسلام عزته ، وجدد الدين نصرته بجاه النبي صلى الله عليه وسلم . ) (-سوزان ميلار – صدفة اللقاء مع الجديد – رحلة الصفار إلى فرنسا ( 1845-1846) – تعريب : خالد بن الصغير - منشورات كلية الآداب بالرباط – الطبعة الأولى – 1995- ص. 198-199) . فبقدرما رصد الصفار حقائق الترقي الفرنسي وعلل قيامه تعليلا عقلانيا ، فإن العمراوي ،لا يرصد المنجزات إلا ليطمس عينيتها وماديتها وتاريخياتها ، بالرجوع ، التلقائي ، إلى الآليات التفسيرية والتأولية التراثية . ولئن اختار العمراوي ، الظهور بمظهر الرائي المبشر بالاندحار السريع للمنجز الغربي ، فإن الصفار ، يقف موقف المستغرب من إمكان ارساء التحضر بدون أفضلية عقدية وبدون ضمانة متعالية .فالفرنسي ، حقق منجزه ، بفضل الانضباط وإقرار العدالة ،أي بفضل المسلكية العقلانية، لا بفضل أي سند عقدي أو أية إحالات ماورائية .كما يستغرب ، الصفار ، في العمق ، من تمكن الغربي من انجاز ما أنجز ، وهو المفضول عقديا ، والمفتقد للحمة الرمزية للدين الحق . فالعمراوي ، لا يشخص الوقائع إلا اعتمادا على عتاد تأويلي تراثي ؛ فهو لا يصف ، مظهرا من مظاهر التحضر الغربي ،إلا ليمرره من مصفاته العقدية والتراثية وفي راووق مجاله التداولي .فالواقع أن رؤيته الميثية ، تمنعه من تدبر القطيعة في التاريخيات والانقلاب في المعرفيات ؛ فأحوال العالم المعرفية والتاريخية ، تحددها آليات ميثية وضعها التوحيديون منذ قرون خلت ، ولا اعتبار للجديد طالما أنه استعادة ، على نحو آخر ، للقديم الأصيل المعتق في جرار القداسة التوحيدية .فالآخر مدين ، من هذا المنظور ، للذات المتوهجة بالنور الحضاري دوما ، ما خلا مراحل تاريخية استثنائية ، يمكن تجاوزها ، بمجرد العودة إلى استلهام النصوص التأسيسية واستيحاء سيرة السلف ! فلا يمكن القبول بأي مظهر من مظاهرالحداثة الفكرية أو التقانية أو الاجتماعية ، إلا بعد صبغه بصبغة تراثية ، وبعد تسويغه تسويغا معياريا شرعيا .والذات المسوغة ، لا يهمها إمكان التبيئة التراثية ، لفكريات مناقضة للفضاء العقلي للعصر الوسيط ، مادام مشغولة ،برتق الفتق وإنقاذ الذات من جروحها النرجسية ومن تماسكها المشروخ . (...(ونعتذر ) لأولي النقد الأعلام عما زلت به الأقلام وجلبته من فضول الكلام ، و إن رأوا عورة فليسدلوا عليها الغطا : فما على مثلي يعد الخطأ وليظنوا بي الظن الجميل فما زغت عن الحق ولا عنه أميل، على أني إن أطنبت في بعض المحال بوصف حالهم وشقشقت بمحالهم واستحسنت بعض أفعالهم ، فمقصودي أن أزين منها ما وافق الشرع ، وسلمه العقل والطبع : ولعلهم قلدوا في بعض ذلك سلفنا الصالح الدين كانوا على السبيل الواضح ...) ( -إدريس العمراوي – تحفة الملك العزيز بمملكة باريز – تقديم وتعليق : زكي مبارك – ص.125-126-) إن خطاب العمراوي النافي ، كليا لفرادة الآخر ،والمهووس بتثبيت الفكرية المرجعية لذاتيته الثقافية ،يبحث عن مسلكية تراثية لتسويغ أي تفاعل ممكن مع التمدن الغربي ، في وسط إسلامي ، متخم بتضخم نرجسي هو التعبير المداور عن جروحه النرجسية المتراكمة والمتناسلة غب كل اهتزاز عسكري أو سياسي . إن الهناءة الأنطولوجية Quiétude ontologique لخطاب العمراوي تنطوي في العمق على قلق ميتافزيقي Inquiétude métaphysique لن يفلح الخطاب في إخفائه ، مهما كانت براعته في الإخفاء .
لم يكن "الاستغراب " الإسلامي، إذا ، قادرا على تقديم صورة محايدة أو موضوعية عن الآخر .فقد تعامل مع السوى الثقافي ، من باب الضرورة السياسية لا من باب المثاقفة الإنسية . فهو يتعامل مع الآخر ، تعاملا وظيفيا ، محكوما بحسابات براغماتية ، ويتجنب الخوض في تبادل ثقافي أو تحاور فكري ، قادرين ، إن مورسا برعاية إنسانية وتطلع فلسفي ، على اغناء الطرفين . والطريف في خطاب العمراوي ، هو ميله إلى الطرافة أحيانا ،وهي طرافة ذات دلالات ثقافية خصوصا إذا قورنت بالتشنجات الفكرانية للخطاب السلفي هنا والآن : (...لما وصلنا لهذه المدينة ( يقصد اوكسير ) ، رأينا شخصا جميل الصورة ، كامل الأوصاف الظاهرة ، خفيف الشمائل ، كحيل الشعر والطرف ، عليه سيما اللطافة والظرف كأنه من أبناء العرب وكنا لم نر وجها جميلا منذ دخلنا بر النصارى ، فأخذ بأبصار جميع رفقائنا و أشاروا بأن أنظم لهم فيه غزلا يتخذونه دعابة وهزلا . فأنشدت بديهة و إن كنت لست من فرسان تلك الجهة : رأيت غزالا بباب أسير يصيد القلوب بلحظ كسير رماني بسهم من أجفانه فغادر قلبي لديه أسير فيأيها الركب قولوا له إذا ضاع قلبي بماذا أسير ) ( -ادريس العمراوي – تحفة الملك العزيز– ص.53 -) لقد كان حريا به أن يقول : إذا ضاع عقلي بماذا أسير ؟ سؤال لم يفلح" استغراب " العمراوي ولا "استشراق" ادوارد سعيد في الإجابة عنه ، طالما أنهما لا يبحثان في شرعية أوراق ثبوتية ، لم تعد مسلمة ، إلا في فكر أصحاب الطبائع الميتافزيقية والميولات الاسكاتولوجية الفياضة . فإلا متى يتمسك البعض ، بتمركزه الاثني والعقدي ، ويرفض التثاقف الايجابي ، مع أية فكرية خصبة ومنتجة ؟
عن موقع الأوان
ابراهيم ازروال اكادير –المغرب
#ابراهيم_ازروال (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
التمركز العقدي في الرحلات السفارية / المثاقفة المستحيلة /الج
...
-
التمركز العقدي في الرحلات السفارية / المثاقفة المستحيلة
-
في نقد الفكر الإصلاحي:نموذج عبد المجيد الشرفي(5)
-
في نقد الفكر الإصلاحي:نموذج عبد المجيد الشرفي (4)
-
في نقد الفكر الإصلاحي:نموذج عبد المجيد الشرفي (3 )
-
في نقد الفكر الإصلاحي:نموذج عبد المجيد الشرفي (2 )
-
في نقد الفكر الإصلاحي:نموذج عبد المجيد الشرفي (1 )
-
جودة التعليم-نحو قطيعة لغوية مع الإكليروس اللغوي
-
المحرقة المغربية - تأملات في تراجيديا العصر الطحلبي
-
أندريه كونت- سبونفيل-فضيلة التسامح
-
في نقد الخطاب الاصلاحي -( نموذج الصادق النيهوم )
-
في نقد الفكر الاصلاحي - (نموذج الصادق النيهوم )
-
في نقد الخطاب الاصلاحي -( نموذج حسن حنفي )
-
في نقد الخطاب الإصلاحي-( الجابري والعشماوي )
-
الفكر المغربي وثقافة حقوق الإنسان
-
قراءة في - هكذا أقرأ ما بعد التفكيك - لعلي حرب- حين يصير الت
...
-
شيزوفرينيا ثقافية
-
الإشكالية الدينية في خطاب الحداثيين المغاربة-( نموذج الجابري
...
-
واقع الثقافة بسوس-قراءة في وقائع نصف قرن
-
من سوس العالمة إلى سوس العلمية
المزيد.....
-
الجمهوريون يحذرون.. جلسات استماع مات غيتز قد تكون أسوأ من -ج
...
-
روسيا تطلق أول صاروخ باليستي عابر للقارات على أوكرانيا منذ ب
...
-
للمرة السابعة في عام.. ثوران بركان في شبه جزيرة ريكيانيس بآي
...
-
ميقاتي: مصرّون رغم الظروف على إحياء ذكرى الاستقلال
-
الدفاع الروسية تعلن القضاء على 150 عسكريا أوكرانيا في كورسك
...
-
السيسي يوجه رسالة من مقر القيادة الاستراتجية للجيش
-
موسكو تعلن انتهاء موسم الملاحة النهرية لهذا العام
-
هنغاريا تنشر نظام دفاع جوي على الحدود مع أوكرانيا بعد قرار ب
...
-
سوريا .. علماء الآثار يكتشفون أقدم أبجدية في مقبرة قديمة (صو
...
-
إسرائيل.. إصدار لائحة اتهام ضد المتحدث باسم مكتب نتنياهو بتس
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|