حيب بولس
الحوار المتمدن-العدد: 2565 - 2009 / 2 / 22 - 08:47
المحور:
الادب والفن
ل
لماذا لا نملك لغاية الآن "جانرا" روائيا محليا ناضجا؟! سؤال جال في ذهني حين كنت أقرأ كتابا رائعا بعنوان "تاريخ الرواية الحديثة" لمؤلفه د. م. البيريس.
بداية أقول, وبمنتهى المسؤولية والموضوعية: إن فن كتابة الرواية عندنا ما زال في طور الطفولة, بمعنى أنه ما زال في عهد التجريب, والوصول إلى مثل هذه الحقيقة لا يكلف الواحد منا الكثير من الاجتهاد, أو الذكاء, أو كدّ الذهن. إذ مراجعة بسيطة وسريعة لمعظم ما نشر عندنا من روايات تكفي.
حقيقة كهذه تقود بطبيعة الحال إلى سؤال آخر أكثر إلحاحا يستمدّ شرعيته من خاصرة الأول, لماذا؟ أي ما هي الأسباب التي أدت إلى تخلّف هذا الجانر بالذات وراء الإبداعات المحلية الأخرى, أي وراء الأجناس الأدبية المحلية الأخرى؟
هل نحن عاجزون عن الكتابة الروائية؟ بمعنى هل نحن لا نملك القدرة الإبداعية على ذلك؟! أم أن الأمر يتعلق بعدم إتقاننا لأسس وقواعد هذه الكتابة؟! هل واقعنا الاجتماعي/ السياسي/ الاقتصادي/ الثقافي, يفتقر لمقوّمات معينة هي أساسيات الكتابة الروائية؟! أم أن هناك أسبابا أخرى تجعل هذا النوع من الكتابة صعبا يحتاج إلى تروّ والى وقت كاف لينضج؟!
أسئلة كثيرة كالمذكورة آنفا وغيرها من الممكن أن تطرح في إطار الحديث عن هذه المسألة الشائكة.
في خضّم الإجابة عن مجمل هذه الأسئلة أقول: نحن لسنا عاجزين عن الكتابة الروائية, والبرهان على ذلك هو تلك الروايات المحلية التي تظهر بين حين وآخر في أدبنا المحلي رغم تباعد الفترة الزمنية بينها. كما أنه من يملك حركة شعرية ناضجة وقصّة قصيرة أصابت الكثير من النجاح لا يمكن له أن يكون عاجزا عن مثل هذه الكتابة. هذا من جهة, وأمّا من أخرى, فان الواقع السياسي/ الاقتصادي/ الاجتماعي/ الثقافي, الذي نعيشه لا يفتقر للأساسيات الروائية, بل على العكس هو غني جدا بها, بحيث يستطيع أن يشكّل نبعا ثرّا تمتح منه الرواية الكثير من المتنوّع والمختلف من المواضيع الجذّابة والهامّة.
أمّا قضية عدم إتقاننا لأسس وقواعد الكتابة الروائية ففيها الكثير من التجني على مبدعينا. صحيح أن الكتابة الروائية تتطلب درجة عالية من الإلمام بأسباب الثقافة على تنوعها وتلوّنها, وصحيح أيضا أن مثل هذا الكتابة تتطلب معرفة دقيقة لشؤون المجتمع وخفاياه, ولكن مبدعينا لا ينقصهم مثل هذا الإلمام ولا مثل هذه الثقافة.
إذا كل هذا الأسباب التي زعمناها لاغيه أساسا, وطالما أنها كذلك علينا أن نفتش عن أسباب أخرى تشكّل فعلا العائق أمام مبدعينا, ذلك العائق الذي يقف سدا يمنعهم من ولوج هذا الحقل الإبداعي الذي يسيطر اليوم, واليوم بالذات على حقول الإبداع الأخرى في العالم قاطبة.
وهذا الأمر يقودنا مرّة أخرى إلى المساءلة الأساسية ذاتها: لماذا؟ ما هي الأسباب؟
في رأيي أن الأسباب الرئيسية التي تقف عائقا أمام تطور هذا الجانر تنقسم إلى فئتين: أسباب عامّة, وأعني بها الأسباب الخارجة عن إرادة المبدع, وأخرى خاصّة نابعة عن المبدع نفسه. من الأسباب العامّة سببان هامّان هما طبيعة الظروف التي نعيشها أولا, وقلّة المرجعية لهذا الجانر محليّا وفلسطينيا ثانيّا. أمّا السبب الرئيس الخاص فيعود إلى عدم قدرة المبدعين لدينا لغاية الآن الموازنة بين الخطابين: التاريخي/ الأيديولوجي/ الواقعي والخطاب الإبداعي/ الروائي/ التخييلي, ورغم خصوصية هذا الأخير إلا أن له علاقة ما بالظروف. ولنبدأ بالأسباب العامّة: إنصافا لمبدعينا أقول: إن فنّ كتابة الرواية ليس بالأمر السهل, فعلى الكاتب الذي يريد ولوج هذا الحقل أن يرصد الأحداث ويعاينها بصبر وأناة ليختزنها في داخله لتتم عمليّة هضمها ولتخرج بالتالي في قالب روائي فنّي يعيد فيه الكاتب خلق ما كان على الشكل الذي يريد له أن يكون. وكي يتم له ذلك عليه أن يعرف أيضا كيف يخترق الواقع المعيش, وكيف يعبّر عنه بصدق وأمانة تعبيرا فنيا, كما عليه أن يعرف كيف يرتفع بعمله من العادي المألوف إلى الإدهاش, والى استنطاق الظاهرة وكشف ما وراءها. وهذا كلّه صعب لا بل صعب جدا, خاصّة ونحن نعيش في مجتمع متقلب سريع الأحداث, بحيث لا يترك للمبدع فرصة التأمل والمعاينة وتحليل الظواهر. إن نظرة متأنية إلى واقعنا الذي نعيشه تشي بسرعة الخطى وكبر حجم النقلات فيه. فالتحول كان سريعا وكبيرا كما ونوعا, فنحن في أقل من نصف قرن تحوّلنا أو كدنا من مجتمع قروي/ فلّاحي بمفاهيمه وعقليته وعاداته وتقاليده إلى مجتمع تكنولوجي ولو ظاهريا. هذا الانتقال السريع غير المدروس أثار في مبدعينا الدهشة وأخرس تحليلاتهم, وشلّ هضمهم له, مدّة زمنية طويلة. كما أن هذا الانتقال أدى إلى نقلة أخرى مرتبطة به, هي تلك النقلة الثقافية الكبيرة التي دفعت بمجتمعنا إلى أمام, بحيث لم يعد أي شيء يرضي القارئ, بل صار القارئ اليوم يطالب المبدع بالمستوى الفني المقبول. وإذا أضفنا إلى ذلك الأحداث السياسية والاقتصادية المتسارعة والسّاخنة على الساحتين المحليّة والفلسطينية نفهم الأمر بشكل أعمق. فهذا التسارع وهذه السخونة تجعل الكتابة الروائية صعبة. ولا يخفى على أحد أننا نعيش فعلا في مجتمع متقلّب سريع في تحولاته على جميع الأصعدة, وهذا الوضع يؤدي بطبيعة الحال إلى تجاوب أنواع أدبية معيّنة غير الرواية كالشعر والقصّة القصيرة مثلا, وذلك أنهما أسرع إلى التقاط مثل هذا التحولات وهضمها. لذلك نحن لا ندهش اليوم حين نجد أن شعرنا في تقدّم واطّراد وكذلك هو حال قصّتنا القصيرة, بينما ظلّت الرواية متخلّفة عنهما بحيث أن مقاربتها تحدث بصعوبة وتلتمع بين حين وآخر, ثمّ تنطفىء لمدة طويلة نكاد ننسى معها أننا نملك مثل هذا الجانر.
أمّا السبب العامّ الثاني والذي يشكّل هو الآخر عائقا هو قضيّة قلّة المرجعيّة الفنيّة لهذا الجانر محليا وفلسطينيا. فالموروث الروائي في أدبنا المحكيّ خاصّة قليل جدّا بحيث لا يشكّل هذا الموروث مرجعيّة يمتح منها المبدع وعليها يشيد. صحيح أن أدبنا الفلسطيني لم يعدم هذا الفن في السابق, بل كان له فيه بعض الإسهامات قبل عام 1948, ولكنها إسهامات قليلة لا تشكّل إبداعا فنيا حقيقيا, أو إضافة إبداعية على ما كان يكتب في العالم العربي في حينه. وصحيح أيضا أننا لم نعدم فنّ الرواية بعد عام 1948 محليا إذ أننا نجد بعض الالتماعات هنا وهناك منذ الخمسينات وحتى اليوم, ولكن حتى هذا لا يمكن اعتباره مرجعا فنيا أولا لقلته وثانيا لعدم تواصله وثالثا لأن مستواه متفاوت ويجنح إلى الهبوط عدا بعض الاشراقات, ولن أدخل في التفاصيل هنا دفعا للحساسية.
أمّا على المستوى الفلسطيني العام فبالرغم من أننا نجد روايات ناضجة كتبت بعد عام 1948, ولكن لا يمكن لهذه الروايات على قلتها هي الأخرى أن تشكّل مرجعيّة وذلك لاختلاف مصادرها وواقعها وظروفها واهتماماتها, بالإضافة إلى اختلاف مجالاتها الانطولوجية.
بناء على ما تقدّم نستطيع أن نخلص إلى نتيجة تقول: إن تسارع الأحداث السياسية وسرعة التحولات والتقلّبات الاجتماعية والثقافيّة والاقتصاديّة على اختلافها بالإضافة إلى قلّة المرجع والموروث الروائي, كلاهما أدى إلى وضع كالذي شرحناه آنفا. وكلا الأمرين مرتبط بما هو عام, أي بما هو خارج عن إرادة المبدع.
أمّا الأمر الثالث والخاصّ وهو الأهم عندي والذي يرتبط بالمبدع نفسه, والذي له الأثر الكبير في ولوج هذا الحقل الإبداعي فهو قضية فنيّة بحتة, وهي بالتالي قضية لا تقتصر على مبدعينا لوحدهم بل إنها تمتدّ لتطال معظم هذا الجانر فلسطينيا وهي قضية عدم نجاح المبدع في الموازنة بين الخطاب الإبداعي/ الروائي/ التخييلي والخطاب التاريخي/ الواقعي/ الأيديولوجي.وهذه القضية على غاية من الاهمية في الكتابة الروائية بحيث يكون عدم اتقانها فشلا للمبدعولإبداعه الروائي في آن معا. والسؤال ماذا نعني بهذه الموازنة؟! وما هي أهميتها في الكتابة الروائية؟!
نظرا لأهمية هذه المسألة سنفرد لها مقالة خاصة كي نفيها حقها من المعالجة.
حبيب بولس – ناقد أدبي ، محاضر في مادة الأدب العربي في الكلية العربية للتربية في حيفا وكلية اورانيم الأكاديمية
[email protected]
#حيب_بولس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟