ضيا اسكندر
الحوار المتمدن-العدد: 2561 - 2009 / 2 / 18 - 09:28
المحور:
كتابات ساخرة
بعد معاناة شديدة استطعت شق الزحام والدخول إلى الاستاد الدولي لحضور حفل افتتاح مهرجان المهرجانات. وبدأت أبحث عن مقعد شاغر وسط دفعات الأمواج البشرية على جسمي ومن كافة الاتجاهات. فالجميع يرغب بالحصول على مقعد ليتمتع بمشاهدة العروض التي ستبدأ بعد قليل.
استقرت عيناي على مقعد مكسور في طرف المدرج قرب أحد المداخل المؤدية إلى أرض الملعب. قفزت إليه راضياً بنصيبي, فالجلوس على مقعد مكسور خير من البقاء واقفاً يلطمني هذا وذاك من كل حدبٍ وصوب. ثم أن المقعد مكسور الظهر فقط, ويمكنني الجلوس عليه وأنا منتصب الجزع.. أصلاً هذه الوضعية تعدّ صحية أكثر من كل وضعيات الجلوس الأخرى.
عند وصولي إلى المقعد, مسحته بكفي لإزالة ما علق عليه من غبار وأوساخ, فاتسخ كفي من كثرة ما تراكم عليه من غبار. قلت في نفسي: (ليكن ما يكون, ترى من سينتبه إذا ما اتسخ بنطالي أو بقي نظيفاً وسط هذه الحشود البشرية..؟)
جلست وألقيت نظرة باتجاه أرض الملعب وانفرجت أسارير وجهي, إذ أن المشاهدة للعروض ستكون معقولة ولن يشوبها شائبة, باستثناء بعض الواقفين قرب أحد المداخل, والذين لم يتمكنوا من الظفر بمقعد بعد..
لا شك أنهم سيحجبون بوقفتهم الكريهة هذه جزءاً من أرض الملعب. ولكن يمكنني التغلّب على هذه المصيبة إذا ما اشرأبّيت ورفعت رأسي قليلاً. ثم من يدري, فقد يتعبون من وقفتهم ويملّون فيجلسون أرضاً أو ينسحبون خائبين.
على يساري جلست سيدة أربعينية, وقد حجزت ثلاثة مقاعد لأولادها الأربعة, الذين تلاصقت أجسامهم النحيلة فشغلت المقاعد الثلاثة بشيء من الارتياح. فتحت هذه السيدة جزدانها وبدأت بتوزيع السندويش على أولادها.
عندما فاحت رائحة الزعتر من أفواههم, أحسست بأن دهراً من الجوع قد مضى عليّ!
ليتني لم أتغنّج وأمتنع عن تناول الطعام مع زوجتي!
ولكن يا أخي الكوسا؟
عشرات المرات وأنا أنبهها بأن الكوسا لا أطيقه! صحيح أن وضعنا المالي يبكي الحجر كما يقولون, ولكن يمكننا تناول البطاطا عوضاً عن الكوسا! سيما وأن البطاطا رخيصة هذه الأيام..
لا حول ولا قوة إلا بالله! يا أخي فعلاً الجوع كافر!
لا أدري إن كان موقفي صحيحاً بأن عاقبت زوجتي ومنعتها من مرافقتي إلى هذا المهرجان؟
المسكينة كانت تودّ سلق عدة حبات من البطاطا إلى جانب الكوسا اللعين. لكنني لم أسمح لها! لقد كان عليها أن تخبرني أولاً بأنها سلقت لي البطاطا, وأنها سوف تحمس بضع حبات من الكوسا لها.. لو حصل ذلك لما عصّبت إطلاقاً.
هي للأمانة تحترمني وتقوم بكل ما يساهم بتلطيف أجوائي النفسية. ولكن معليش يجب أن تتربى وتتعلّم من الآن فصاعداً كيف تطبخ لي الكوسا أولاً! سوف أجعلها تنسى من قائمة المأكولات شيئاً اسمه كوسا.. لذلك وإمعاناً بإغاظتها, سوف أسعى جاهداً لأبدو منشرحاً مسروراً, لاسيما وأنها قد تشاهدني من على شاشة التلفزيون, فالعروض ستبث على الهواء مباشرة..
عندما بدأت فقرات عروض المهرجان, لاحظْتُ مجموعة كبيرة من الأطفال المشاركين, يحمل كل منهم بيديه حمامة! وبتوقيت واحد أطلق هؤلاء الأطفال ما بأيديهم من حمامات! ولما كانت هذه الحمامات قد مضى على وجودها بأيدي الأطفال مدة طويلة قبل بدء المهرجان.. فقد أثر ذلك على حيوية هذه الطيور؛ فبعضها طار لعلوّ منخفض وحطّ على الأرض فوراً. وبعضها لم يستطع الطيران على الإطلاق, فسقط على الأرض دون حراك. وبعضها الآخر طار باتجاه الجمهور بحركة لولبية طائشة وسقط من شدة إعيائه, فتلقفته الأيادي بابتهاج من أمطرت عليه السماء ذهباً!
عندئذ أصبح شغلي الشاغل إلقاء القبض على إحدى الحمامات. وبدأت بتخيلها منتوفة ومقطعة وقد غمرها زيت الزيتون في المقلاة! يا سلااااام! يا أخي فعلاً لحم الحمام لا يعلو عليه لحمٌ آخر!
الموسيقى والرقصات والألعاب النارية وعروض الخيول والقفز المظلي.. كلها باتت بحكم العدم بالنسبة لي! واستبدّت بمخيلتي الحمامة دون غيرها من خلق الله!
ما زالت بعض الحمامات تطير طيراناً متقطعاً, وتحط منهكة على بعض لوحات التغذية الكهربائية ومكبرات الصوت الموزعة على جنبات الملعب. وبعض الصبية يطاردونها من مكان إلى آخر.. والقليل منهم يتمكن من القبض على بعضها..
أحسست برغبة جامحة بمغادرة المكان والنزول إلى أرض الملعب والالتحاق بهؤلاء الصبية..
ولكن يا أخي عمري تجاوز الأربعين وخطّ الشيب فوديّ! ماذا سيقول عني ممن يعرفني إذا ما رآني وأنا أطارد حمامة؟!
(شوفوا يا جماعة! رجل قدّ الشنتير يقلّل عقله ويركض خلف حمامة! الله يثبّت علينا العقل والدين)
فلْيقولوا عني ما يشاؤون.. ولكن كيف يمكنني الوصول إلى أرض الملعب وأمامي كل هذه الجماهير؟
ها هي حمامة بيضاء تطير باتجاهي !
مستحيل! إنها تقترب مني وكأنها تقصدني دون غيري!
ها هي على بعد مترٍ واحدٍ مني!!
يا إلهي! أيعقل؟! هل أنا في حلم أم إنها الحقيقة بعينها!!!
حالة من الانتشاء الطفولي تيقظت في كياني واغتالت كل ما في داخلي من تماسك!
هرعْتُ واقفاً وبيديّ الاثنتين قبضت عليها, وكغريق تغمره الأمواج المتلاطمة وفجأة يتدلّى إليه حبل من طائرة إنقاذ, أمسكتها وتشبثت بها بكل ما أوتيت من قوة! كان جسمها دافئاً مذعوراً. تطاير من بين أصابعي بعضٌ من ريشها وتناثر في المكان كندف الثلج.. كان خفقان قلبها محسوساً واضحاً كاهتزاز الموبايل في وضعية اللا نغمة أثناء التنبيه بمكالمة.
الأطفال الذين يتناولون بقربي ما تبقى من سندويشاتهم, بدأوا وبصوت واحد يرجونني إعطائهم الحمامة: (عمّو الله يخلّيك اعطينا ياها ..)
يا إلهي! ماذا أقول لهم؟ هل يمكنني ردّ طلبهم وأنا الذي يعشق الأطفال ويحلم أن يرزقه الله طفلاً بعد كل هذه السنين من العلاج؟
كدت أقول لهم: أعطوني ما لديكم من سندويش, أعطيكم الحمامة..!
بس يا أخي والله عيب على رجل مثلي يقايض أطفالاً بهذه الطريقة المخذية..
تطلّعت إلى أمهم ألفيتها ترمقني بنظرات من التوسّل..
(عمّو إذا بتريد.. الله يخلّيك.. اعطينا ياها..) كررها الأطفال باستجداء لم أستطع مقاومته..
تخيّلت طفلي مستقبلاً يطلب برجاء من أحد ما, إعطاءه ما يتمناه..
نظرت إلى الحمامة, كانت ترتعش كأوراق الخريف.. ضممتها إلى صدري وقبّلتها..
وبحرص أمّ رؤوم تلمس وليدها الأول وتضعه على سريره, أعطيت أصغر الأطفال الأربعة الحمامة بأناة, ورجوتهم أن يعتنوا بها..
نظرت إلى السماء, كانت بقايا الأدخنة من الألعاب النارية تشكل سحابة بيضاء. تتجمّع لتشكل خيالات من الوجوه والطيور والصخور..
حدّقت مجدداً بتلك الوجوه المتشكلة, وجدت وجه زوجتي الحزين ينظر صوبي بعتابٍ آسر..
دفعةً واحدة شُرّعت كل نوافذ العاطفة لديّ, وأضرمتْ فيّ نوعاً غريباً من الشوق لعناقها وفرش مشاعري أمامها.
نهضت مسرعاً متجاوزاً كل ما يعترض طريقي, كرجل أمن يطارد أحد السياسيين الفارين من وجه عدالة نظامٍ عربي.
وعند وصولي إلى باب الاستاد, وقفت باحثاً متفحصاً المارة إلى أن وقع نظري على أحدهم, فرجوته بتوسّل أن يسمح لي بمكالمة من جهازه الخلوي, وخاطبت زوجتي بخمس كلمات قائلاً:
(أنا جايي, انطريني على العشا..)
#ضيا_اسكندر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟