|
لا حرية مع الإستلاب الديني (دولة الإسلام إنما هي دولة غزاة)
فؤاد النمري
الحوار المتمدن-العدد: 2557 - 2009 / 2 / 14 - 09:35
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
لا حرية مع الإستلاب الديني (3) ( دولة الإسلام إنما هي دولة غزاة )
لا يتم البحث في حركة الإسلام التاريخية بصورة شافية ووافية دون الإجابة على سؤال فيصلي وهو .. لماذا تحملت مكة محمداً يعيش بين أهليها سالماً غانماً لنصف قرن طويل 570 ـ 620 ثم لم تعد تحتمله لسنتين أخريين فيضطر إلى الهجرة إلى المدينة (يثرب) في العام 622 لينجو بروحه فلا يغتاله بنو عمومته ؟ لعل أحدهم يجيب بأن الدعوة الإسلامية كانت قد بدأت تنتشر بشكل واسع وتشكل خطراً على عبادة الأوثان، آلهة سادة قريش . تعاب مثل هذه الإجابة بعيبين، أولهما هو أن عدد الذين انتصروا لدعوة محمد في مكة وهاجروا معه لا يتجاوز السبعين رجلاَ من أفقر فقراء مكة ومن الذين معظمهم ليسوا ذوي شأن في المجتمع المكّي . أما العيب الثاني وهو الأكبر فإن مثل هذه الإجابة تفترض الطهر والتقوى في رجال وثنيين وأشرار كأبي سفيان وأبي لهب وأبي جهل وأن همهم الوحيد فقط كان حماية تلك الطواطم الحقيرة في البيت العتيق ؛ يترصدون لقتل ابن عمهم محمد لحماية أوثان مجبولة من التمر ومن الطين ! ليس إلا ساذجاً من يعتقد بذلك . أبو سفيان وأبو لهب وأبو جهل هم من كبار تجار قريش في مكة، فلماذا لا ينبري رهط من الفقراء لقتل محمد ؟! ولندقق أكثر في السؤال الفيصل .. كان النصراني النسطوري ورقة بن نوفل قد أعلن محمداً نبيّاً حوالي العام 605 م، فلماذا تحمل أهل مكة وتجارها بشكل خاص محمداً النبي (النسطوري) لخمسة عشر عاماً ولم يعودوا يتحملونه لسنتين أخريين 620 ـ 622 م ؟ هل لذلك علاقة بموت زوجته وشريكته الروحية خديجة في العام 619 م ؟ الإجابة على مثل هذه الأسئلة الفاصلة تقتضي التمييز بين إسلام مكة من جهة، وإسلام المدينة من جهة أخرى .
إسلام مكّة : نصرانية يسوع تركزت في تحرير فلسطين من الإحتلال الروماني وعدم دفع اليهود ضريبة النفوس لحساب روما، لكن بولص "الرسول" جاء يقلبها ويبشر بمسيحية تهادن الإحتلال الروماني وتقبل به، مسيحية مفرغة من كل شأن دنيوي . أفلح بولص مع الأمم الأخرى من غير اليهود، لكنه لم يفلح أبداً مع اليهود ومع كل المعارضين للإحتلال الروماني لأسباب مختلفة، دينية ودنيوية . بعد أن انتشرت مسيحية بولص انتشاراً واسعاً، وهي المسيحية القابلة بسيطرة روما في مستعمراتها، تحول إمبراطور روما كونستانتين إلى المسيحية وجعلها دين الدولة في العام 313 م وأخذ يضطهد النصارى من غير أتباع بولص، من مثل النصارى (اليهود المسيحيين) والأبيونيين والنساطرة والغنوطيين واليعقوبيين وغيرهم . بعد انشقاق الدولة الرومانية في العام 395 م مارس بطريرك القسطنطينية نفوذاً متزايداً في الإمبراطورية البيزنطية وفي العام 428 نُصّب البطريرك نسطوريوس الذي زاد من نفوذ الكنيسة مما جعل من الإمبراطور البيزنطي ثيوذوريوس الثاني خصماً قوياً له، فكان أن دعا هذا الأخير إلى انعقاد المجمع المسكوني الثالث في أفيسس (Aphesus) في العام 431 م وهو المجمع الذي كفّر نسطوريوس بخصوص الإختلاف حول طبيعة المسيح الإلهية، وأزاحه عن كرسي البطريركية، وقرر تحريم كل الدعاوى المسيحية المتعارضة مع مسيحية بولص، الدعاوى التي استمرت تبطن العداء للاحتلال الروماني وأولها النصرانية النسطورية . لقد اُستخدمت كل وسائل القمع ضد النساطرة بما فيها التصفية الجسدية، كونها جوهرياً معارضة للإحتلال الروماني، فكان أن استمرت دعوة النساطرة بصورة سرية ولقيت تشجيعاً في الأطراف القريبة من امبراطورية الساسانيين الفرس وخاصة بين الأشوريين في العراق، فالنساطرة هم في النهاية أعداء للرومان .
الجزيرة العربية لم تكن ضمن دائرة نفوذ أي من الإمبراطوريتين الرومانية أو الفارسية ؛ ولذلك نشطت الدعوة النسطورية فيها دون حسيب أو رقيب وبتشجيع من الساسانيين الفرس . كانت الديانة الأولى في الجزيرة العربية هي النصرانية النسطورية ولها مركزها في البحرين ولها بطريرك باسم مبارك كما يذكر حجة الإسلام الشيخ خليل عبد الكريم . وكان أحد زعماء قريش ورقة بن نوفل مطراناً نسطورياً في مكة، وكان الرجل على علم ويتقن ثلاث لغات هي العربية والآرامية والسريانية، وناشطاً في نشر النصرانية النسطورية في مكة وفي قريش، وعلى علاقة بالراهب بحيرة في بصرى الشام الذي كان يمسك بمركز نشاط النساطرة في الشرق الأوسط ويوجهه .
قصة محمد معروفة تماماً لدى كافة رجال الدين المسلمين . كان عبد المطلب، جد محمد، فقيراً إلى درجة الإملاق ؛ ومات العديد من أولاده وأحفاده من شدة الجوع ؛ وبقي محمد الطفل يتيماً بعد وفاة أمه وهو في السادسة من العمر، فتعهده عمه أبو طالب الذي لم يكن يجد الخبز الكفاف . بعد أن أصبح محمد شاباً يافعاً قاده عمه إلى بيت خديجة بنت خويلد وطلب إليها تشغيله لديها وكانت بالغة الثراء بعد أن ورثت أباها خويلد ابن أسد الذي كان تاجراً ثرياً، بالإضافة إلى أنها ورثت زوجين ثريين كما يذكر بعض المحققين . خلال سنوات قليلة أعجبت خديجة بمحمد الشاب النابه الأمين بهي الطلعة حسن الأخلاق فعهدت إليه مرافقة قافلتها التجارية إلى دمشق الشام . وعندما عبرت عن إعجابها بمحمد إلى ابن عمها المطران ورقة بن نوفل رغب نوفل في أن يضم محمداً إلى دائرته النصرانية النسطورية فأخذ يعلمه مما جاء في التوراة وفي الإنجيل العبريين وفقاً لقراءة النساطرة، وبدأ محمد يتعبد ويمارس طقوس الحنيفية في غار حرّاء كما كان يفعل النساطرة تقليداً لإبراهيم أول الموحدين ـ ومن هنا دمغ محمد الإسلام بحنيفية إبراهيم . وأخذ بن نوفل يأتمن محمداً على رسائله السرية المتعلقة بنشاط النساطرة إلى الراهب بحيرة في طريق قافلة قريش إلى الشام مروراً ببصرى الشام حيث كان بحيرة يستقبل محمداً استقبالاً خاصاً ويستقصي منه كل أخبار مكة ونشاط النساطرة فيها . ووفق ما يقول به حجة الإسلام الشيخ خليل عبد الكريم فإن الراهب بحيرة هو من طلب من خديجة أن تتزوج محمداً حسب اعترافها له فيما بعد .
لدى حادثة حرّاء وعودة محمد خائفاً ومرتجفاً إلى البيت خشية غضب الآلهة عليه، وإسراع خديجة إلى ابن عمها ورقة وإعلامه ما حلّ بمحمد وهي تعلم علاقاتهما الروحية به، ما كان من هذا المطران النصراني النسطوري إلا أن أعلن محمداً نبياً وهرع إليه يكرسه نبيّاً ويزيد في أن قريشاً ستحاربه طالما أن كل الأنبياء حاربهم أهلوهم لدى ظهورهم، وأنه يأمل أن يمتد به العمر ليدافع عنه ويحميه . وهنا لا بد من الإعتراف بأن محمداً بدأ نبيّاً نصرانياً نسطورياً وكما يلمح المرء ذلك في صورة المسيح في القرآن .. " عيسى ابن مريم .. لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤ أحد .. وما صلبوه ولكن شبّه لهم " وهو ما يعكس معتقدات النساطرة بمقدار أو بآخر . وبعض المحققين يقول أن المطران ورقة بن نوفل هو من كتب لمحمد بعض السور المكية المتميزة بلغتها البليغة والجزلة المعاني والألفاظ، مثل سور البقرة والنساء ومريم، ويستدلون على ذلك بانقطاع الوحي بعد موت ورقة مباشرة كما تؤكد كتب السيرة والحديث، وفي أثر موته على محمد لدرجة أنه فكر بالانتحار لشدة الحزن والإحباط . وبالإجمال يمكن القول أن نبوّة محمد المكيّة بداية إنما كانت في أساسها امتداداً خاصاً لمعارضة شعوب المنطقة لدعوة منتحل المسيحية بولص "الرسول" إلى التصالح مع روما وبعيداً عن كل الاختلافات في الأمور الدينية والمعتقدات التي ما كانت لتكون أصلاً إلا لتبرير اختلاف الموقف من الاحتلال الروماني .
خديجة، وهي التي تعلمت مع محمد على أيدي المطران ابن عمها ورقة بن نوفل الإنجيل والتوراة العبريين، والمرأة المحبة لمحمد وذات الثراء والنفوذ في مكة، لم تألُ جهداً في توفير الحماية والاستمرار لمحمد بعد موت ابن عمها المطران ورقه حوالي العام 610 م، ولا بدّ أن ذلك كان بتوجيهات من الراهب بحيرة الذي كان قد زار مكة وتعرّف على خديجة التي كانت همزة الوصل بينه وبين ابن عمها المطران نوفل . وهكذا استمر محمد، كنبي تعترف به زوجته وشريكته الروحية خديجة على الأقل، استمر يذرع أسواق مكة جيئة وذهابا ينشد الآيات القرآنية التي تدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له وتكفّر قريش لعبادتها الأوثان . لم يكن ذلك يثير شيئاً من الاضطراب في أجواء مكة السلمية . في العام 619 م توفيت خديجة وحزن عليها محمد حزناً عميقاً وشعر بوحدة قاتلة ؛ لقد شكّل موت خديجة صدمة خلخلت كيانه وانعطفت به نحو رسالة مختلفة ومصير آخر مختلف . ورث خديجة وأصبح من كبار الأغنياء لكن ذلك لم يغوِهِ لأن ينضم إلى طبقة التجار الأغنياء وقد غدت ثروته تؤهله لذلك إذ كانت خديجة أغنى أغنياء قريش، ولم يثنه عن الاستمرار في الدعوة لعبادة الله الواحد الأحد . بموت خديجة فقد محمد الحماية اللازمة التي كانت توفرها له، وشعر بوحدة لم تقلل من وطأتها الثروة التي ورثها عن زوجته . مات معلمه ورقة بن نوفل وماتت رفيقة دربه وحبيبته خديجة وغدا وحيداً في مكة التي يحكمها تجار قريش الأغنياء وهو ليس منهم ولا يرغب في أن يكون منهم، يدينهم ليس بعبادة الأوثان فقط بل وبالسفه الذي يعيشونه دون أن يشعروا بجوع الفقراء المساكين واليتامى الذين فقدوا والديهم بغائلة الجوع وما أكثرهم في مكة ومحيطها، وهذا ليس غريباً على الهاشميين الذين من تقاليدهم الإنشغال بالقضايا العامة . في السنوات الثلاث التي أعقبت وفاة خديجة وفي تلك الظروف التي أحاطت به وخاصة الوحدة، سواء من حيث التواصل العاطفي أو الفكري، كان من الطبيعي أن يجري محمد مراجعة عامة ويعود إلى جذوره، إلى والديه وقد فقدهما بسبب الجوع ومثلهما بعض أعمامه وأبناء عمومته . لم تطل مراجعته حتى وجد في نفسه محمداً الإنسان نصير الفقراء وأخذ على نفسه أن يقود ثورة إجتماعية تحت شعار " للفقراء، المساكين واليتامى، حق في أموال الأغنياء "، مع أنه كان قد أصبح منهم . وهكذا بدأ يقود ثورة إجتماعية ضد تجار قريش الأغنياء من أمثال أبي سفيان وأبي لهب وأبي جهل وغيرهم . إذّاك تجاوزت دعوته الآلهة والمعتقدات، وبدأ محمد يلعب في المناطق الخطرة، بدأ يسائل طبقة التجار الأغنياء عن حقوقهم في أموالهم الأمر الذي لا يحتمله هؤلاء الأغنياء . لم يمض ِعامان على هذه الدعوة الإجتماعية الطارئة على دين محمد حتى بدأ التجار الأغنياء يقاومونه ويترصدون لقتله، وقد تخلّى عنه أقرب الأقرباء مثل عمه أبي العباس . في العام 622 م تحقق محمد من أن سلامته الشخصية لم تعد متاحة في مكة فقرر الهجرة إلى المدينة (يثرب).
إسلام المدينة : في العام 622 م هاجر محمد إلى المدينة وهاجر معه حوالي سبعين رجلاً من أفقر فقراء مكة، وهم الذين استجابوا بالطبع لدعوة محمد لإقامة مجتمع العدالة الإجتماعية . يدّعي بعض المحققين أن محمداً هاجر إلى المدينة (يثرب) لأن فيها أخواله الذين يؤمنون حمايته، لكن لماذا يحميه أخواله من بني مرة في المدينة ولا يحميه أعمامه من قريش في مكّة ؟ هاجر محمد وصحابته إلى يثرب دون غيرها من المدن لأنها كانت خزّاناً للفقر وأمّل محمد في أن يشكل في المدينة جيشاً للفقراء، وهو ما كان . إلتف شباب يثرب حول محمد رسول الفقراء وشكلوا فصيلاً مقاتلاً انكب على التدرب على فنون القتال فأصبح قوي الشكيمة لا يهاب المنايا، وما كان هذا بالطبع إلا لإحداث تغيير في المجتمع فالعبادات لا تحتاج إلى العمل المسلح . من الوقائع التي تكشف عن حقيقة الرسالة المحمدية هي أن محمداً كان يقود هذا الفصيل من المحاربين الشجعان ويقطع الطريق على قوافل قريش العائدة من دمشق الشام ويستولي على القوافل بكل ما تحمله من بضائع وأموال ويعود بها إلى المدينة ويوزع كامل الغنائم على جميع الفقراء فيها، مسلمين وغير مسلمين، دون أن ينال هو أو حتى صحابته الفقراء شيئاً يذكر منها .
لدى جميع الشعوب أساطير تتحدث عن فارس فائق الشجاعة لا يُغلب، يكرّس فروسيته لتحقيق العدالة والاهتمام بالمحرومين والفقراء في شعبه من مثل أسطورة "روبن هود " لدى الإنجليز أو قصص الشعراء الصعاليك لدى العرب، لكن محمداً لم يكن أسطورة بل حقيقة انعكست بانقلاب سياسي واجتماعي تمثل بقيام دولة قوية في المدينة وعلى رأسها نبي ليس مثل نبي مكة النسطوري المعني بطبيعة المسيح وبالعداء للرومان، بل معني قبل كل شيء آخر بتحسين أحوال المساكين واليتامى ومعاشهم، بجانب العداء للرومان بالطبع . ترك الدعوة الإلهية الميتافيزيقية النسطورية في مكة وتبنى في المدينة ديناً يعمل كرافعة لدعواه الإجتماعية وهو الإسلام . ومن هنا يجد المرء الفرق الصارخ بين سور القرآن المكية والأخرى المدينية . آيات التهديد والوعيد في السور المدينية إنما جاءت لتحذر الناس من أن محمداً سيجند كل القوى المتاحة، القوى الأرضية كما القوى السماوية لأجل فرض برنامجه في العدل الإجتماعي . وكان محمد صارماً وحدياً في تطبيق رسالته فحرّم الأموال في بيت مال المسلمين على الصحابة أنفسهم بعد أن علم أن أيدي بعض الصحابة تمتد إلى مال بيت المال، بل وحرّمه فعلاً على نفسه وعلى أزواجه وآل بيته خلافاً لما تقول به النصوص القرآنية . ويقول بعض المحققين أن محمداً مات ودرعه مرهونة عند أحد تجار اليهود لقاء نصف كيس من الشعير وزعه على نسائه التسعة لسد جوعهن . وعلينا ألا نستبعد ذلك بعد أن كان قد أنفق ثروته الطائلة التي ورثها عن خديجة في تجنيد مختلف القبائل حوله لتحقيق دعوته الإجتماعية . لم يركن إلى القوى الميتافيزيقية في تحقيق الدعوة بل وظف أمواله الطائلة وأنفقها كلها في ذات الغرض . ومن هنا أصر محمد على شهادة المسلم بشهادتين، " لا إله إلا الله " و " محمد سول الله " ، أي أن عبادة الله تتم فقط على نهج محمد، نهج العدالة الإجتماعية .
في العام 634 توفي النبي محمد الذي وظف الآلهة وأمواله الطائلة في خدمة الفقراء، في خدمة مشروعه الإجتماعي المثالي . مات النبي وتركه صحابته ممدداً على فراش الموت وانصرفوا إلى سقيفة بني ساعده يتشاجرون حول إقتسام السلطة . في السقيفة وقبل أن يوارى تحت التراب هُزم محمدٌ شرّ هزيمة ؛ فقد قرر أتباعه أن " الخلافة في قريش " وحرّموا بذلك السلطة على أهل المدينة وهم الأنصار الذين أقاموا الدولة الإسلامية بسيوفهم ؛ حرموهم من كل السلطة . هزيمة محمد في السقيفة على يد أبي بكر وعمر وبقية صحابته لم تتأتَ فقط من جوع الصحابة للثروة قبل السلطة كما تم أخيراً، بل تأتت أساساً من قانون التطور الإجتماعي وهو القانون الموضوعي الذي لا تعطله رغائب البشر أو رغائب الآلهة . المُثل السامية التي جاء بها محمد في القرن السابع الميلادي هي أقرب ما تكون لمُثل الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر الميلادي . وهي المثل التي انهزمت في القرن التاسع عشر فكيف بها تقوم وتنجح في القرن السابع حيث لا تقوم الدولة إلا كمنظمة للغزو !! لئن أنفق محمد كل ماله من أجل تحقيق رسالته المثالية السامية، فقد سخّر خلفاؤه مشروع محمد كما الآلهة في خدمة جوعهم للثروة قبل السلطة . ما يسمّى بالاقتصاد الإسلامي الذي يدعو إليه بعض ذوي الغواية في الأسلمة هو نظام متخلف حتى بالنسبة للنظام السابق عليه . كان شيوخ القبائل قبل الإسلام يعقدون تحالفات تنظم الحركة الاقتصادية في بلادهم دون أن يقتضي ذلك فرض أية رسوم أو ضرائب على الأفراد مهما كانت أحوالهم . جاء إسلام محمد ليفرض الخراج والزكاة، أو الجزية على غير المسلمين، وذلك من أجل إطعام اليتامى والمساكين، لكن خلفاء محمد جعلوها لإثراء الصحابة وما أكثرهم كما الحكام من مختلف الدرجات . فلدى فتح أرض السواد، العراق، بعث القائد سعد بن أبي وقاص رسالة إلى الخليفة عمر يقول فيها أنه تم تقسيم كل أرض السواد بما عليها من علوج على أمراء الجيش وجنوده ـ خجل الرومان البيزنطيون أن يقولوا بهذا حيث كانوا يتقاضون الأعشار من خلال الجباة أو مبالغ ثابتة من الملوك، لكنهم لم يتملكوا الأرض وما عليها من فلاحين كما فعل المسلمون بعد محمد ـ ولدى قراءة الرسالة صاح عمر مستنكراً : " كيف بمن يأتي من المسلمين فيجدون الأرض بعلوجها قد قسّمت وورّثت وحيّزت ! ما هذا برأي ! " فرد عليه نقيب الصحابة عبد الرحمن بن عوف وكان في مجلسه : " ما الأرض والعلوج إلا مما أفاء الله عليهم " (!!) ؛ فتساءل عمر مرة أخرى : " فإذا قسّمت أرض العراق بعلوجها وأرض الشام بعلوجها، فما يُسدّ به الثغور، وما يكون للذرية ؟ " ـ وسد الثغور يعني تنظيم فتوحات أخرى . وعبد الرحمن هذا كان قد هاجر مع النبي فقيراً معدماً وتوفي عام 654 بعد أن تزوج سبع عشرة امرأة وله منهن ثلاثون ولداً وبنتاً ؛ وأوصى قبل أن يتوفى بخمسين ألف ديناراً لصالح المسلمين، واقتسمت نساؤه الأربع ثمن ما بقي من التركة فكان نصيب كل واحدة منهن ثمانين ألف ديناراً وهو ما يعني أن تركته من النقد فقط كانت بحدود مليونين ونصف المليون من الدنانير ؛ وترك من الذهب ما أجهد سواعد العمال في تقطيعه بالفؤوس، وقيل أن كومته ارتفعت في مجلس عثمان فحجبت الرؤية بين جانبي المجلس . وكان في اسطبلاته مائة حصان وألف جمل وعشرة آلاف رأس من الأغنام . وامتلك الصحابي الزبير بن العوّام قصراً في البصرة وآخر في الكوفة وثالثاً في الفسطاط (القاهرة) ورابعاً في الإسكندرية وله في خدمته ألف عبد وأمة واسطبلات فيها ألف حصان وعقارات أخرى في جميع المدن المذكورة وترك لدى وفاته خمسين ألف دينار . أما الصحابي طلحة بن عبيدالله فقد حيّز منطقة الشراه بعلوجها وكانت تدر عليه مائة ألف دينار سنوياً وله في أرض السواد حيازة أكبر منها وتدر عليه أكثر من مائة ألف دينار . وهناك صحابي خامس، لم يذكر اسمه أبو يوسف القاضي في كتابه " الخراج "، امتلك أكثر من مليون ونصف المليون من الدنانير . وتوفي الخليفة عثمان عن مائة ألف ديناراً ذهباً ومليون درهماً من الفضة وعقارات بقيمة مائة ألف ديناراً . وعندما اقترح الخليفة عثمان على عمرو بن العاص أن يحصر ولايته بالشؤون الأمنية ويعين والياً آخر يهتم بالشؤون المدنية والمالية بعد أن رأى أن خراج مصر جاء دون المستوى بكثير، سخر عمرو من اقتراح الخليفة بالقول: يريدني عثمان أن أمسك بقرني البقرة كي يحلبها غيري . بل وصل الأمر بخلفاء محمد راعي المساكين واليتامى أن يشترط والي مصر على أهل النوبة أن يقدموا له سنوياً مائة شاب منهم حسني الخلقة ليكونوا عبيداً وإماءً ملكاً له !! ـ لا بد أنه كن يرسل عدداً منهم إلى الخليفة عثمان . أين إسلام محمد الذي جاء بروح تحرير العبيد من إسلام هؤلاء ؟!! بعد سنوات قليلة من انتصار الإسلام في الجزيرة أصبح سادة قريش أكثر غنىً مما كانوا قبل الإسلام ومثلهم أصبح الصحابة . ما يسمى زوراً بالإقتصاد الإسلامي هو حقيقة أسوأ الإقتصادات الريعية . إنه نهب غير منظم للشعوب المغلوبة، وحرمانها ليس فقط من إنتاجها بل ومن إنسانيتها أيضاً باعتبارها علوجاً لا قيمة فيها سوى الكدح .
تنبّه الأمويون إلى أن إسلام الخلفاء والصحابة ليس هو إسلام محمد، وإلى أن العلاقات الإجتماعية قبل الإسلام كانت أفضل للناس، من غير قبيلة قريش، منها بعد الإسلام، بعد موت محمد . لم يعرف العرب قبل الإسلام شيئاً اسمه الدولة ؛ كانت الأحلاف بين القبائل تقوم مقام الدولة وهي أكثر ديموقراطية من دولة الخلافة . لم تكن الأحلاف تفرض الخراج أو الزكاة أو الجزية وأن مثل هذه الضرائب التي فرضها محمد لصالح اليتامى والمساكين أصبحت تؤول إلى الأغنياء ويدفعها الفقراء بالعكس تماماً مما أراد محمد . إذّاك نهض الأمويون بقيادة والي الشام معاوية بي أبي سفيان يستردون سلطانهم الذي كانوا قد فقدوه على يد محمد، وساعدتهم في ذلك عائشة " أم المؤمنين " وكان عمرها لا يتجاوز الثامنة عشرة ـ لا تتمتع بحق التصويت حتى اليوم في بلدان كثيرة ـ فقتلوا علياً الخليفة الرابع وابنه الحسين وكل آل البيت ومن والاهم ليستتب لهم بعدها الحكم ويحولوه إلى مملكة وراثية. والأسوأ في هذا الأمر هو أن الأمويين وقد استعادوا السلطة لم يستعيدوا النظام الإجتماعي قبل الإسلام، بل أبقوا على نظام الخلفاء والصحابة واستغلوا شعوب العالم القديم أبشع استغلال فيما كانوا يضمرون العداء المطلق للإسلام، فينشد الخليفة يزيد بن معاوية .. " لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء ولا وحي نزل "، ويمزق الوليد بن يزيد بن عبد الملك القرآن ويرميه بالسهام وينشد : " إذا ما جئت ربك يوم حشر فقل يا رب مزقني الوليد " . الأمويون اقتفوا أثر الخلفاء والصحابة حيث كرّسوا العبادات وحرصوا على ممارسة طقوسها طالما أن هذا يبرر استغلال الشعوب الخاضعة لسلطانهم، فيما تنكروا للعدالة الإجتماعية التي هي خلاصة الدعوة المحمدية .
منشأ المشروع الإسلامي هو معاداة روما في المضمون ومعارضة ديانة بولص في الظاهر . تغيّر محمد النسطوري في مكة إلى محمد المسلم في المدينة حيث أقام الدولة المسلمة القوية العادلة بالإمكانيات البسيطة المتاحة خلال السنوات العشرة الأخيرة من حياته . الدولة القوية استطاعت أن تحل محل الرومان البيزنطيين في بلدان شرق المتوسط لكن شعوب هذه البلدان فقدت ثروتها وهويتها ولغتها في الإمبراطورية الإسلامية . وأخيراً فقد العرب المسلمون أنفسهم ثروتهم وكادوا يفقدون هويتهم ولغتهم في ظل الحكم العثماني الإسلامي لولا الاستعمار الأنجلو فرنسي الذي حررهم من النير العثماني وما كانوا بغيره ليتحرروا، وحفظ لهم عروبتهم ولغتهم . يا لسخرية الأقدار !!
#فؤاد_النمري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لا حرية مع الإستلاب الديني (2)
-
لا حرية مع الإستلاب الديني (1) (أسطورة إبراهيم أبي الأنبياء)
-
محاكمة عادلة لحدة خطابي
-
عدمية حماس أعدمت القضية الفلسطينية
-
-مقاومة الإحتلال - راية بالية ومستهلكة
-
إلى أين ينعطف العالم اليوم ؟
-
أيتام خروشتشوف ما زالوا يحاربون البروليتاريا
-
يهاجمون التزييف لأجل أن يزيّفوا ماركس
-
لا اشتراكية بغير دولة دكتاتورية البروليتاريا
-
الحرية في - الحوار المتمدن -
-
الماركسية ليست من الإيديولوجيا
-
الفوضويون (الأناركيون) ما زالوا يضلّون
-
شيوعيون شلحوا الشيوعية
-
نعذر الرثاثة ولا نعذر التطفل!
-
منتقدو الماركسية وكارهو الشيوعية
-
حتى الشيوعيين من العربان لا يقرؤون
-
الأزمة المالية الماثلة ليست أزمة الرأسمالية
-
الدكتور سمير أمين يسارع فينزلق نحو المثالية والليبرالية
-
أعداء الشيوعية يكرهون ستالين
-
الانحطاط الفكري لدى شيوعيي انحطاط الإشتراكية
المزيد.....
-
حزب النهج الديمقراطي العمالي يثمن قرار الجنائية الدولية ويدع
...
-
صدامات بين الشرطة والمتظاهرين في عاصمة جورجيا
-
بلاغ قطاع التعليم العالي لحزب التقدم والاشتراكية
-
فيولا ديفيس.. -ممثلة الفقراء- التي يكرّمها مهرجان البحر الأح
...
-
الرئيس الفنزويلي يعلن تأسيس حركة شبابية مناهضة للفاشية
-
على طريق الشعب: دفاعاً عن الحقوق والحريات الدستورية
-
الشرطة الألمانية تعتقل متظاهرين خلال مسيرة داعمة لغزة ولبنان
...
-
مئات المتظاهرين بهولندا يطالبون باعتقال نتنياهو وغالانت
-
مادورو يعلن تأسيس حركة شبابية مناهضة للفاشية
-
الجزء الثاني: « تلفزيون للبيع»
المزيد.....
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات
...
/ شادي الشماوي
-
المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب -
...
/ شادي الشماوي
-
ماركس الثورة واليسار
/ محمد الهلالي
المزيد.....
|