|
في شأن أخلاقيات مقاومة الطائفية
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 2556 - 2009 / 2 / 13 - 08:03
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
الطائفية محرقة، سياسيا وفكريا وأخلاقيا. نجازف ونحن نقاربها بالتحليل والدراسة بأن نخدمها بدل أن نفهمها. هذا يفعله كثيرون منا، إما لغلبة الهوى أو الجهل أو الطيش. وهو ما يصنع مستقبلا قاتما لبلداننا. تفادي ذلك يقتضي اتخاذ احتياطات جدية على المستويات الثلاثة، الفكري والسياسي والأخلاقي. ونحن عادة نبدي حذرا سياسيا ونحن نقاربها، إما لأننا نخشى من ردود فعل السلطات التي تقوم إيديولوجياتها على إنكار جملة العلاقات والعمليات التي نطلق عليها الطائفية، والتي قد تكون متهمة بتوسل العمليات هذه لتمكين سلطتها السياسية؛ أو لأننا نخشى ردودا طائفية مقابلة. بيد أن الحذر في المجالين الفكري والأخلاقي أوجب. هذا المقال سيهتم بالاحتياطات الأخلاقية الضرورية من أجل مقاربة مثمرة للطائفية. إن لم يكن لأي سبب آخر، فإن مقاومة الطائفية واجبة لكون الطوائف أطرا ضيقة مضادة للارتقاء الأخلاقي. وإذا كان يمكن استخلاص عبرة ما مما شهدنا في السنوات الأخيرة في العراق وفي لبنان، وما سبق أن شهدنا في الحرب اللبنانية السابقة، فهي الارتباط الثابت بين الطائفية وكل من القسوة الوحشية والفساد الفاحش والخراب الأخلاقي والثقافي. ومن هذا الباب قد يكون أول لوازم مقاومة الطائفية، بعد الإقرار بها، هو تحلي مقاوميها بوعي وأخلاقية مقاومين للطائفية. أقول أول بمعنى الأبسط والأكثر بدائية. وألح عليه لأن القفز المعتاد على الأوليات هو مصدر عقم عملنا السياسي والثقافي. ترى، أي معنى لرفض الطائفية أو إدانتها من فاعلين، أفرادا أو منظمات أو أحزابا..، لا يجدون بأسا في طعن أديان ومذاهب أخرى أو تحقيرها أو النيل منها بأساليب ملتوية أو صريحة؟ نفكر في مبدأين مؤسسين لضمير مقاوم للطائفية. المبدأ الأول هو التدرب على التفكير الانعكاسي، أعني تأمل الذات ومحاسبة الضمير والتدقيق في دوافع ودواعي سلوكنا وتفكيرنا فيما يخص قضايا الأديان والطوائف والعلاقات بينها. أكثرنا صادقون في اعتبار أنفسهم غير طائفيين، لكن كثيرون منا ينزلقون بسهولة إلى إصدار أحكام جمعية سلبية بحق هذه الجماعة المذهبية أو تلك. لا تظهر الطائفية هنا كانحياز إيجابي لمصلحة "جماعتنا" بل كتساهل مع الذات في المساس بجماعات أخرى. يمكن بسهولة ضرب أمثلة من نصوص كتاب "علمانيين"، عراقيين ولبنانيين وسوريين، تكشف عن تهاون شديد في إرسال كلام غير ودي بحق رموز وشعارات شيعية أو سنية أو علوية.. أو إسلامية أو مسيحية. قد لا يكونون منحازين إيجابا إلى جماعاتهم الدينية والمذهبية، لكنهم منحازون سلبا ضد جماعات أخرى. هذا شائع جدا، وهو ليس أقل طائفية من النطق باسم جماعتنا واعتبارها معيارا أخلاقيا وثقافيا وسياسيا. لقد بلغ من تلوث مناخنا العام وفقدان الاحترام الشامل أن صار كثيرون بيننا يشعرون أن مطالبتهم بالاحترام عبء ثقيل عليهم. لكن في النهاية المرء لا يحترم إلا نفسه. وليس سرا يكشف لأول مرة اختلاط علمانيتنا بانتماءاتنا الدينية والمذهبية، أو الجمع بين العلمانية والطائفية. يذكر إيليا حريق أن القومية العربية كانت الإيديولوجية العلمانية للمسلمين السنة اللبنانيين، والعدالية إيديولوجية الشيعة، والقومية اللبنانية إيديولوجية الموارنة.. مثل هذا التوزيع الطائفي للانحيازات الإيديولوجية يمكن بسهولة للسوري والعراقي أن يجريانه على الجماعات المذهبية والدينية في بلديهما. هذه أقنعة يتعين هتكها وعدم السكوت عليها. وأول هتكها تقصي تاريخها وكشف تاريخيتها. ما يؤمل من فحص الضمير الذاتي هو المزيد من الوعي بالحساسيات الطائفية والانضباط النفسي واللغوي في الكلام عليها. وهو ما لا يستغنى عنه من أجل تقمص الآخرين أو وضع المرء نفسه مكانهم، وهذا ثاني المبدأين الأخلاقيين في التعامل مع الظاهرة الطائفية. السؤال الذي يتعين أن يطرحه المرء على نفسه دوما: كيف كنت سأتصرف أو أفكر أو أتكلم لو كنت في مكان مواطني الآخر المتحدر من دين أو مذهب مختلف (أو إثنية مختلفة)؟ كثيرون منا يبيحون لأنفسهم من الأفعال أو الأقوال ما لا يرتضونه لو قيل لهم أو فعل بهم. ومن المفهوم أنه يتعذر أن يحافظ المرء على اتزانه وهو مندرج ضمن سلسلة ردود الفعل العصبية التي تجنح إلى التتابع بلا نهاية، وقد تتفجر عنفا ماديا. من شأن تقمص الآخرين بالمقابل، أن يكون أساسا لأخلاقية غير طائفية، يمكن أن تتأسس عليها حركة اجتماعية مقاومة للطائفية. هذا كله في مجال الأخلاقيات الذاتية، أخلاقيات الأفراد الذي يرومون التحول من موقف رفض الطائفية العقيم إلى موقف مقاومتها الذي قد يكون مثمرا. قد يقال إن الطائفية، وهي أوضاع وعلاقات وعمليات اجتماعية، لا تقاوم بالأخلاقيات. صحيح. لكن أن نستنتج من ذلك أن مقاومة الطائفية لا تحتاج إلى أخلاقيات ذاتية لهو أفحش خطأ ممكن. من يقاوم الطائفية هم أناس ملموسون، ومقاومتهم ناجعة للطائفية في المجتمع والدولة والسياسة والثقافة بقدر ما هم يقاومونها في وعيهم وسلوكهم، باستقامة ودون غش. ورغم أن الطائفية ليست حصيلة بسيطة لوجود فاعلين طائفيين، إلا أن التحرر من الطائفية غير ممكن دون وجود متحررين متسقين من الطائفية، قولا وعملا. على أن تماسك الأخلاقيات الذاتية يقتضي هو ذاته معرفة بأصول الظاهرة الطائفية وتاريخيتها، أي بكونها نتاجا لعمليات سياسية واجتماعية وثقافية يتعين توضيحها بالتفصيل، وليست معطيات طبيعية ثابتة. فإذا كنا نعتبر الطوائف معطاة دوما فإن احتمال أن نتماسك أخلاقيا في وجه نزاعاتها أمر صعب. وللأسف، لا يمكننا القول إن المعرفة هذه متاحة، وإن كان ثمة مساهمات فكرية قيمة قد يمكن الاستناد إليها من أجل معرفة علمية بالطائفية. إن مقاومة للطائفية ترتفع فوق النعرات الدينية والمذهبية الضيقة، وتجتهد في معرفة علمية لهذه الظاهرة الخطيرة، هي ما قد يعول عليها من أجل مستقبل غير طائفي لبلادنا. ففي النهاية، مقاومة الطائفية، ذاتيا على الأقل، هي مساهمة أضعف الإيمان لكل منا في بناء وطنه.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في تغيرات الإيديولوجية السورية وأصولها
-
في نقد العنف اللفظي ضد العرب والإسلام
-
عن -المجتمع المكشوف- وتحرره
-
البوشية وتحطيم الديمقراطية
-
الصراع الوجودي والصراع العدمي
-
ما وراء -كي الوعي- وما تحت الوعي المكوي
-
في نقد لبنان.. خواطر في شأن بيروت والثقافة والحرية
-
أنهاية الردعية الإسرائيلية؟!
-
كسر حالة اللابديل... فلسطينياً وعربياً
-
.. لكن أين يوجد -العرب-؟!
-
بلى، هناك بديل فلسطيني!
-
قضية عدالة جوهرية، لا تتقادم ولا تستلب
-
مشروع لقتل الناس جميعا!
-
حماس وعبّاس والشيطان
-
في الطائفية والهيمنة والمعرفة السياسية
-
الثقافة والطائفية: شروط إمكان دراسة نقدية
-
الزيدي وبوش والحذاء...سخرية في بطن سخرية!
-
إصلاح النظام أم استعادة الجولان؟
-
في نقد تصور الوطنية القومي العربي
-
بصدد -الأخلاقوية- و-الحضاروية- و.. السياسة
المزيد.....
-
السيسي لرئيس الكونغرس اليهودي العالمي: مصر تعد -خطة متكاملة-
...
-
الإفتاء الأردني: لا يجوز هجرة الفلسطينيين وإخلاء الأرض المقد
...
-
تونس.. معرض -القرآن في عيون الآخرين- يستكشف التبادل الثقافي
...
-
باولا وايت -الأم الروحية- لترامب
-
-أشهر من الإذلال والتعذيب-.. فلسطيني مفرج عنه يروي لـCNN ما
...
-
كيف الخلاص من ثنائية العلمانية والإسلام السياسي؟
-
مصر.. العثور على جمجمة بشرية في أحد المساجد
-
“خلي ولادك يبسطوا” شغّل المحتوي الخاص بالأطفال علي تردد قناة
...
-
ماما جابت بيبي..فرحي أطفالك تردد قناة طيور الجنة بيبي على نا
...
-
عائلات مشتتة ومبيت في المساجد.. من قصص النزوح بشمال الضفة
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|