|
التأويل الإبداعي ، و دراسة التاريخ .. قراءة في دروس التاريخ لول ديورانت
محمد سمير عبد السلام
الحوار المتمدن-العدد: 2555 - 2009 / 2 / 12 - 09:25
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
تزدوج صيرورة الأحداث التاريخية دائما ، بالإبداع ، أو بالتأويل الإبداعي لحياة الجنس البشري في علاقتها المعقدة ، بالطبيعة ، و التراث الثقافي ، و التكنولوجيا ، و الفكر . لم يكن التاريخ – إذا – منعزلا في عملية التطور السياسي ، و الحضاري وحدها ، و لكنه مجموعة من التفاعلات الجزئية ، التي يتم تحويلها باستمرار إلى مجموعة من التأويلات المختلفة طبقا لعلاقاتها المتداخلة ، و إن الفن يظل كامنا في كل هذه التفاعلات ؛ لأنه يجسد الصياغة المادية الأخيرة لكل من تحقق الحدث ، و فكر المؤرخ ، أو الباحث في الحضارات . و من أهم الأعمال التأويلية للتاريخ البشري كتاب ( دروس التاريخ ) The lessons of history لول ديورانت مع زوجته آريل ديورانت ، و قد صدر بالعربية بالعنوان نفسه ترجمة علي شلش . يرى ول ديورانت أن التاريخ ، إبداع و تسجيل للتراث ؛ أما التقدم فهو وفرته ، و حفظه ، و نشره ، و استعماله ، كما يلاحظ أن فكرة التقدم ليست شمولية ، أو عالمية ، فجميع فترات التاريخ شهدت سقوط أمم ، و صعود أخرى ، كما تتقدم الأمة في حقل ، و تتردى في آخر ، أو يعزز زمن معين من فن دون آخر ، و تعني دراسة التاريخ عند ديورانت إضفاء المعني على حياة الإنسان ؛ ليسمو على الموت . ثمة طفرات معرفية يقدمها لنا التاريخ – إذا – من خلال كشف ديورانت عن اللامركزية الأساسية المميزة لتطور البشر ؛ فهي تقطع الروابط الحتمية في تأويل الحدث ، و تستبدلها بإبداع الحدث من خلال مجالات ، و عناصر أخرى تكمن في بنيته المتنازعة ؛ فثمة أحداث من أزمنة ، و حضارات مختلفة ستكون للتو – و باستمرار – دوالا تفسيرية جديدة ، و من ثم ستشارك في صنع تكوينات ، و أحداث لم تكن في الماضي ، و غير متوقعة . إننا نواجه طفرة من الانفتاح ، و ذوبان الحدود بين الثقافات ، و الأزمنة ؛ هذا الذوبان يمتزج على نحو وثيق – بلذة اللامحدد ، و اللامتناهي الإبداعي طبقا لنيتشه ؛ فالحاسة التاريخية عنده تفارق النبل ؛ إذ إننا نتقبل التلون ، و الرقة ، و الغلظة معا في قراءة التاريخ ، و التراث ، فنتذوق هوميروس الذي كان مغلقا على أصحاب الحضارة النبيلة ، و لا ننزعج من روائح رعاع الإنجليز عند شكسبير ( راجع – فريدريك نيتشه – ما وراء الخير و الشر – ترجمة موسى وهبة – دار الفارابي ص 187 ، و ما بعدها ) . و يتفق كل من ديورانت ، و نيتشه في هدم الكليات المفاهيمية الكبرى في التأريخ ، و الحاسة التاريخية ، و من ثم فهما يستشرفان من زوايا نظر مختلفة التفاعل الإبداعي المتناقض بين الأحداث ، و الأعمال الفنية عند المؤرخ ، أو المبدع ، و لكن نيتشه يرتكز على عملية التجاوز المستمرة للثابت الفكري الحقيقي في الوعي البشري ، بينما يلاحظ ديورانت الأشكال الجديدة من التفاعل انطلاقا من تراكم التراث غير الشمولي ، و القابل للتطوير مرة أخرى . * الدين : يقرأ ول ديورانت علاقة الدين بالتاريخ من خلال استمرارية الدين ، و تجدده في الظاهرة الروحية المتعددة ، و كذلك من الشكل الثقافي / المادي الذي تجسد في الجماعات البشرية ، و الأزمنة المختلفة ، و هذا الشكل الثقافي الذي يرصده ديورانت يتميز بالسمة التوليدية في بعض الثقافات فضلا عن سمة الاستمرارية التي يؤكدها بحثه ؛ و يستشهد في هذا الإطار بإعادة الكنيسة الكاثوليكية في فرنسا بموجب اتفاقية نابليون مع البابا بيوس السابع سنة 1801 ، و اختفاء زندقة القرن الثامن عشر في إنجلترا عقب التسوية الفيكتورية مع المسيحية ، أما مسألة التوالد الثقافي فقد بدت في تمثيله باللاهوت المركب من القديسين ، و الجحيم الذي ألفه البوذيون عقب وفاة بوذا . إن المزج بين هذه الملامح الدينية في وعي ديورانت يؤكد أمرين : الأول : قدرة العنصر الثقافي الروحي على الحياة في اللاوعي الجمعي للإنسان ، و ازدواجه بالأفكار الأخرى في التراث ، أو العصر ، و أرى أن هذا العنصر الثقافي يكمن أيضا في الفكر بصور مختلفة ؛ فديكارت يعيد بحث الروح انطلاقا من الأنا المفكر ، و نيتشه يطور رؤيته النقدية انطلاقا من تفاعل خفي بين عنصري أبولو ، و ديونسيوس في ثقافة اليونان ، و مايكل أنجلو ، و دالي يجسدان فنا متنوعا يكمن فيه العنصر المسيحي برؤى مختلفة . الثاني : سيادة الفهم ، و التأويل على التقسيم التاريخي الصارم لديانات الأمم المختلفة ؛ فديورانت يختار فترات مختلفة ذات نزعة أفقية لا رأسية في النظر إلى علاقة الدين بالتاريخ . • البيولوجيا : يميز ديورانت حركة الطبيعة البيولوجية للأحياء بغلبة الصراع ، و المنافسة التي قد يكون التعاون أحد شكولها الجماعية ، و يختلط مبدأ المنافسة عنده - في قراءته لدروس البيولوجي – بالقوة ، و انعدام المساواة معا في الطبيعة ؛ فالحيوانات يأكل بعضها بعضا دون وخز للضمير ، و المتحضرون يستهلك كل منهم الآخر عن طريق التقاضي أمام القانون ، و يميزها أيضا بالتوالد ؛ فهي تعشق الكم ، و تستطيب الصراع ؛ كتسابق الحيوانات المنوية لتلقيح بويضة ، و تعزز من النوع لا الفرد ، و لا تفرق كثيرا بين الهمجية ، و الحضارة . و أرى أن ثمة ازدواجية خفية بين حركية الصراع ، و القوة في المجال الطبيعى ، و النزعة الإبداعية ؛ فقد تجلى مبدأ القوة مجردا في كثير من النصوص العبثية ، و هي قوة خيالية غير مبررة تشبه المبدأ نفسه في الطبيعة ، و تعيد تأويله من خلال الوعي ، و اللاوعي البشري مثل نصوص كامو ، و سارتر ، و كافكا ، و يونسكو و غيرهم ، فلحظة الصراع جزء من صيرورة أكبر لا ترتكز أبدا على المنتصر ، أو الأقوى ، و إنما على حدث فريد يمكن تأويله انطلاقا من العبث الفني ، و أخيلة القوة التي صار لها حضور في الفكر الحديث منذ نيتشه حتى بودريار الذي أعاد إنتاجها انطلاقا من التكنولوجيا ، و تحولات النسخ ، و التشبيهات . إن هذه الأخيلة الجديدة في عالم الصورة تستعيد الحدث البيولوجي الذي يتميز بالانتشار مع التميز الفريد ، و هو ما يضع بنية الصراع في سياقات عديدة تناهض استقلالها ، و حضورها الأحادي في التاريخ ، و البيولوجيا . * العرق : يعزز ديورانت من الاختلاط العرقي بين الأنا ، و الآخر في دراسة الشعوب ، من حيث إمكانية توليد سلالات جديدة لا ترتكز بالدرجة الأولى على نقاء العرق ، و تميزه ، و يرى أن دور الجنس تمهيدي أكثر من كونه إبداعيا ؛ فعملية الاختلاط على مستوى الدم ، و الثقافة ، و أساليب الحياة تشبه اتصال الجينات في الممارسة الجنسية ، و يمثل على ذلك بأن روما جاءت من اليونان ، و أتروريا الآسيوية ، و من روما جاءت أوربا الغربية ، و من الأخيرة أمريكا . إن التوليد الثقافي / الإبداعي للشعوب يقوم – عند ديورانت – على الاختلاط ، و من ثم على نوع من السلام ، و قبول الآخر من داخل عمليات الصراع التاريخية ، هكذا يلعب التداخل دورا إبداعيا لا يتوقف في صنع مزيج من السلالات ، و الثقافات بينما يعرقل التعصب هذه الحركة ، و مازالت الأبحاث الحضارية المعاصرة حول ما بعد الحداثة ، و ما بعدها تناقش قضايا الأنا ، و الآخر ، و العرق ، و الثقافة ؛ لتؤكد الطابع العالمي المفتوح كبديل عن الإغلاق العرقي ، و الثقافي ؛ مثل دراسات أرنولد توينبي ، و إيهاب حسن ، و غيرهما ؛ و قد رصد سارتر في مسرحه عبثية النظرة العرقية ، و الأيديولوجية في المومس الفاضلة و تناقضاتها الداخلية في اتهام الزنجي دون مبرر ، و غير ذلك من الأعمال الفنية التي تعزز من التفاعل لا الصراع . • الاقتصاد : يمزج ديورانت بين الطبيعي ، و الإبداعي في ملاحظاته حول الاقتصاد ، و دوره في الحضارة ، فتركيز الثروة عنده يتبع عملية معقدة تقوم على تفاوت القدرة ، و نسبيتها ، و يمثل على ذلك بأن المساواة النسبية لدى الأمريكيين قبل عام 1776 ، طغى عليها ألف شكل من التفاضل الجسماني ، و العقلي ، و من ثم الاقتصادي ، فتفككت ، و تحللت ، و كانت أكبر مما حدث من قبل في الإمبراطورية الرومانية ، ثم يؤكد ديورانت التداخل الإبداعي مرة أخرى في درس الاقتصاد بتأويل الحد الثالث من المركب ، و النقيض في فكر هيجل ، و هو مرحلة مختلطة من الرأسمالية ، و الاشتراكية يتجه إليها الغرب بوضوح . و نلاحظ في أفكار ديورانت عن الاقتصاد أمرين : الأول : تجاور المراحل الحضارية من حيث الارتباط بحتميات القوة الطبيعية ، و من ثم إعادة توظيف الموارد ، و تذكرنا هذه القوة مرة أخرى بحيادية الظواهر الاقتصادية ، و قدرتها على التجاوز الطبيعي لعمليات الصراع من داخلها ؛ فلا يوجد صراع دون أطياف حضارية ، و أخيلة إبداعية تصاحبه ، و يعزز من هذا التوجه استحضار ديورانت لأطياف القوة في روما ليقرأ من خلالها المجتمع الأمريكي . الثاني : استمرارية التعدد ، و اللامركزية ، و الجزئية في العناصر الحضارية ، و الإنسانية ؛ فالاقتصاد يقوم على قاعدة بيولوجية تداخلية فلسفية غير ثابتة نتيجة عدم ثبات أصولها الجزئية ، و انطلاقا من هذا التغير تلعب الاحتمالية دورا كبيرا في تشكيل الحدث ، و قراءاته . محمد سمير عبد السلام – مصر
#محمد_سمير_عبد_السلام (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الانتشار الإبداعي ، و التناقض في قضايا النوع
-
تجدد الحياة في صمت النهايات .. قراءة في مواسم للحنين ل محمد
...
-
صراع ضد الحتميات السائدة .. قراءة في نقطة النور ل بهاء طاهر
-
دراسة الهوية الثقافية تتميز بالتعقيد ، و التداخل
-
وهج البدايات النصية .. قراءة في حجر يطفو على الماء ل رفعت سل
...
-
انطباعات حسية تقاوم العدم .. قراءة في نصوص منى وفيق
-
الصوت في نشوء متكرر .. قراءة في إلى النهار الماضي ل .. رفعت
...
-
مرح الغياب .. قراءة في كزهر اللوز أو أبعد ل .. محمود درويش
-
السينما .. فن الأشباح
-
الأخيلة المجردة للجسد .. قراءة في الطريق إلى روما ل شريفة ال
...
-
عن الفوتوغرافيا
-
الرغبة في تخييل العالم .. قراءة في قارورة صمغ ل فاطمة ناعوت
-
القوة الخلاقة للرعب و التمرد في كتابة هنري ميلر
-
سحر توفيق تستعيد الرجل بلغة أنثوية
-
هارولد بلوم .. و إعادة إنتاج الأثر الشعري
-
تجدد الثقافة الشعبية
-
تعدد الدلالات و الأصوات .. قراءة في اخلص لبحرك لمسعود شومان
-
السياق الجمالي للعقاب .. قراءة في أقلب الإسكندرية على أجنابه
...
-
الآلية .. و العمل الإبداعي
-
إعادة اكتشاف روح الأشياء .. قراءة في بريق لا يحتمل لسمر نور
المزيد.....
-
تعهدات مكتوبة بخط اليد.. شاهد ما وجده جنود أوكرانيون مع كوري
...
-
إيمي سمير غانم وحسن الرداد بمسلسل -عقبال عندكوا- في رمضان
-
سوريا.. أمير قطر يصل دمشق وباستقباله أحمد الشرع
-
روسيا ترفض تغيير اسم خليج المكسيك
-
عائلات الرهائن الإسرائيليين يدعون حكومتهم إلى تمديد وقف إطلا
...
-
أثر إعلان قطع المساعدات الخارجية الأمريكية، يصل مخيم الهول ف
...
-
ما الذي نعرفه حتى الآن عن تحطم طائرة في العاصمة واشنطن؟
-
العشرات من السياح يشهدون إطلاق 400 سلحفاة بحرية صغيرة في ساو
...
-
مقتل اللاجئ العراقي سلوان موميكا حارق القرآن في السويد
-
من بين الركام بمخيم جباليا.. -القسام- تفرج عن الأسيرة الإسرا
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|