|
بعد الحلقة الأخيرة من سلسلتها : وفاء سلطان امرأة عابرة في كلام عابر... ليس هكذا تورد الإبل.. سيدتي
إدريس جنداري
كاتب و باحث أكاديمي
(Driss Jandari)
الحوار المتمدن-العدد: 2555 - 2009 / 2 / 12 - 09:25
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
لعل أهم ما أوصلنا إليه المنطق العلمي الحديث؛ هو التعامل مع مجموع القضايا سواء أكانت سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو دينية... تعاملا منهجيا ؛ يستحضر المنطق العلمي ؛ الذي يساعد الباحث على الخروج من ذاتيته ؛ و التعامل مع موضوع البحث تعاملا يستند إلى الموضوعية . و إذا كانت علوم الطب و الفيزياء و الرياضيات ... قد قطعت أشواطا طويلة في ترسيخ البحث المختبري؛ القائم على النظرية العلمية و الأسس التجريبية؛ و بذلك استطاعت أن ترسخ الموضوعية في بحوثها. فإن العلوم الإنسانية تترك هامشا كبيرا من الحرية ؛ لأن الإنسان كموضوع لها ؛ ليس موضوعا جامدا ؛ و لكنه ذاتا متحركة ومتغيرة . لكن هل يمكن أن نعتبر اعتمادا على هذا المنطق أن العلوم الإنسانية تخصصا مشاعا بين الجميع ؛ سواء أكانوا من ذوي الاختصاص ؛ أو من غيرهم الذين جاؤوا من قارات علمية مغايرة ؟ هل العلوم الإنسانية نوع من الخطابة ؛ التي تتكلم كثيرا و لا تقول أي شيء ؛ أم إنها على العكس من ذلك تخصص علمي ؛ يقوم على مبادئ نظرية ؛ خضعت للسيرورة و التطور كما هو شأن العلوم الطبيعية ؟ هل يمكن أن نعتبر كل من يكتب شيئا حول موضوع سياسي أو فكري أو اجتماعي أو ديني ؛ رغم عدم خضوعه لمبادئ البحث العلمي الرصين ؛ و التي ترتبط بتخصصات علمية مختلفة ؛ كاتبا يمتلك القدرة على الفهم و التحليل و البناء ؛ و بالتالي يمكن أن ندخل أفكاره ضمن العلوم الإنسانية ؟ لماذا يتهم من أراد امتهان مهنة الطب –مثلا- من دون خضوع لتكوين علمي نظري و تطبيقي بالاحتيال؛ و يعاقب طبقا لمقتضيات قانونية واضحة؛ بدعوى أنه يشكل خطرا على صحة الناس ؟ ألا يمكن أن ينطبق هذا على غير المتخصصين في العلوم الإنسانية ؛ و الذين يكتبون في موضوعاتها بعيدا عن منطقها ؛ لماذا لا يعاقبون طبقا لمقتضيات قانونية واضحة ؛ بدعوى أنهم يشكلون خطرا على عقول الناس و نفسياتهم ؟ إلى متى ستستمر هذه الفوضى التي تعم العلوم الإنسانية ؛ و تسمح لمن هب و دب أن يكتب في جميع مواضيعها الديني و السياسي و الأدبي و الفكري في غياب أية رقابة ؛ بادعاء حرية التفكير و الإبداع ؛ التي لا تسمح بها التخصصات العلمية الأخرى ؛ و تعتبر حصنا منيعا ؛ لا يدخله إلا المتخصصون الذين يحملون شواهد هذا التخصص ؛ و إمكانياته العلمية ؟ كلها أسئلة إشكالية ترتبط في العمق بالوضعية المتردية؛ التي أصبحت تعيشها العلوم الإنسانية في ثقافتنا العربية؛ حتى تحولت إلى نوع من الخطابة؛ التي تحدث ضجيجا صادعا من دون أن تقول أي شيء. و لذلك لا نستغرب إذا تحولت مواضيعها إلى مواقف شخصية ؛ يحاول البعض من الذين فشلوا في تخصصاتهم استثمارها لتحقيق الشهرة و الربح المادي ؛ عبر الترويج للأوهام و الأكاذيب ؛ و عبر السباب و الشتائم ؛ و عبر الاتهامات الببغائية لكل شعوب الأمة العربية ؛ التي تتميز بالتخلف و الجهل ؛ و كلها شعوب إرهابية بعامتها و نخبها ؛ تسعى إلى إراقة دماء كل اليهود و النصارى ... و إلى غير ذلك من الخزعبلات و التفا هات ؛ التي نستحي الاطلاع عليها ؛ كمتخصصين في مجال العلوم الإنسانية ؛ و الذين يفرض علينا تخصصنا أن نحلل جميع القضايا باعتماد المنهجية العلمية الصارمة ؛ مخافة الوقوع في المحظور علميا ؛ و هو السقوط في الذاتية ؛ و تحويل بوصلة البحث من النظرية العلمية إلى الاستيهامات الشخصية ؛ التي لا تقول شيئا سوى أنها عوارض مرضية ؛ تظهر على الكثير من الناس بتعبير علم النفس . ليس من طبعي أن أتحدث عن الأشخاص ؛ لأن تخصصي العلمي علمني أن أتعامل مع الأفكار و القضايا ؛ و التزاما بهذا المنطق ؛ سأتعامل مع الضجيج الذي أحدثته وفاء سلطان في مختلف المنابر الإعلامية ؛ حتى تحولت إلى ظاهرة ؛ هذا الضجيج الذي لا يقوم على أبسط قواعد البحث العلمي ؛ هو الذي تقدمه لنا هذه المرأة باعتباره قراءة في تراثنا العربي الإسلامي . و قد يغيب عن اطلاعها مجموع الدراسات العلمية التي قدمها مفكرون عرب معاصرون حول هذا التراث ؛ و هي دراسات علمية رصينة ؛ تتعامل مع المتن التراثي باعتماد مرجعيات فلسفية و فكرية واضحة ؛ و ننصحها في البداية أن تتوجه إلى هذه الدراسات و تأخذ وقتا من تخصصها الطبي و من مرضاها كذلك ؛ و تحاول الاطلاع عليها ؛ و هذا ما سيقودها فيما بعد إلى الاطلاع على المصادر التراثية . و بعد ذلك من حقها أن تتساءل حول مجموعة من القضايا الفكرية و السياسية و الدينية؛ و ستفيد بذلك كل من يطالع كتاباتها؛ و أكثر من هذا ستضيف شيئا جديدا إلى البحث العلمي. و من بين هذه الدراسات ؛ المشروع الفكري العميق الذي قدمه المفكر محمد عابد الجابري حول نقد العقل العربي ؛ من منظور ابستمولوجي ؛ يسعي إلى الكشف عن آليات التفكير ؛ التي تنتج نوعا من الخطاب . و بذلك كان توجهه نحو نقد الخطاب من منظور نقد آليات صناعة هذا الخطاب. كما قدم المفكر عبد الله العروي مشروعا فكريا متكاملا يسعى إلى ربط الفكر العربي بالمنظومة الفكرية الحديثة ؛ و قد تجلى ذلك في سلسلة المفاهيم التي قدمها ؛ من مفهوم العقل ؛ إلى مفهوم الدولة ؛ إلى مفهوم التاريخ ... و ذلك سعيا لربط الفكر العربي بهذه المفاهيم في شحنتها الفكرية الحديثة . و قد كان الهدف من وراء هذا المجهود الفكري الكبير هو تحيق تاريخا نية الفكر العربي ؛ أي محاولة ربط هذا الفكر بالتاريخ كمنطق عقلاني يسعى إلى تفسير الأفكار و القضايا في علاقتها بالتاريخ ك سيرورة (prossus) و صيرورة (devenir) . و في هذا الإطار كذلك قدم المفكر محمد أركون مشروعا متكاملا حول نقد العقل الإسلامي ؛ و قد أثار قضية العقل الأرثودكسي /الديني في الثقافة العربية ؛ الذي حارب حرية العقل ؛ و استبدلها بالنص الديني الجامع للمعرفة ؛ و لذلك توقف أركون عند القواعد الأصولية التي تحدد علاقة المجتهد بالنص الديني ؛ و التي تسمى بأصول التشريع و هي : الكتاب ؛ السنة ؛ الإجماع ؛ القياس . و هي القواعد التي تمنح السلطة للنص ( الكتاب؛ السنة؛ الإجماع ) على حساب العقل ( القياس كآلية شبه عقلية ) . و قد كانت دعوة أركون واضحة لإطلاق العقل الإسلامي من عقاله؛ و ذلك عبر فتح أبواب الاجتهاد في قراءة النص الديني؛ من منظور العلوم الحديثة. و لعل قائمة المفكرين العرب ؛ الذين اتخذوا التراث العربي الإسلامي موضوعا للدراسة ؛ من منظور منهجي حديث ؛ لتطول من المشرق العربي إلى المغرب ؛ سواء مع حسن حنفي ؛ أ مع الطيب تيزيني ؛ أو مع حسين مروة ؛ أو مع هشام جعيط ... و غيرهم كثير . لكن الجامع بين هؤلاء ؛ هو تمكنهم من العلوم الإنسانية و من أدواتها في البحث العلمي ؛ و كذلك تعاملهم مع التراث العربي الإسلامي من منظور علمي موضوعي ؛ يسعى إلى ربط الفكر العربي الإسلامي بمنجزات الحداثة ؛ لكن من دون السقوط في التبعية الاستشراقية التي تقرأ هذا التراث من منظور التمركز الأوربي ؛ الذي يعتبر كل الثقافات غير الأوربية ناقصة . إلى هنا يمكن أن نعود و نتساءل من جديد حول السلسلة التي قدمتها وفاء سلطان بعنوان: (نبيك هو أنت لا تعش داخل جبته ) : ما هو الجديد الذي قدمته وفاء سلطان لقرائها في هذه السلسلة خارج الشتائم و السباب ؛ و الاتهامات ؟ هل يلمس القراء في ما تكتبه وفاء سلطان التزاما بمنطق العلوم الإنسانية ؛ حول المنهجية و المرجعية و الموضوعية ؟ ما هو حظ هذه المرأة من التكوين العلمي في مجال العلوم الإنسانية؛ التي تبحث داخلها؛ و باعتماد أدواتها ؟ ماذا حققت هذه المرأة من خلال سلسلتها ؛ هل حقا كشفت عن نظريات جديدة ؟ و هل قدمت مقاربات جديدة للتراث العربي الإسلامي ؟ هل يمكن أن ترتقي وفاء سلطان بهذه السلسلة الإلكترونية إلى مصاف الصحفيين و الكتاب الإلكترونيين؛ بله الكتاب و المفكرين ؟ تصل وفاء سلطان إلى درجة عالية من التضخم و النرجسية ( كظاهرة مرضية) حينما تعتبر نفسها مؤسسة لنموذج جديد في التفكير ؛ و تصل قمة هذه النرجسية حينما تقارن نفسها ب ( فولتير ) ؛ فتقول : أين الخلل في أقارن بفولتير؟ جمهوري أكثر عددا من جمهور فولتير؛ والحاجة إليّ في هذا الزمن ليست أقل من حاجة زمن فولتير إليه . لا ينتابني أدنى شك بأنني سأغيّر كما غيّر وسأساهم في خلق إنسان عربي جديد كما ساهم في خلق إنسان جديد. لكل زمن يا سيدتي مفكريه، فلماذا تحرمونني من حقي بأن أكون أحد المفكرين في هذا الزمان ؟ (المقابلة التي أجراها معها موقع تقرير واشنطن – الموقع الفرعي ) طبعا سيدتي ؛ ليس من حق أحد أن يمنعك من أن تكوني مفكرة زمانها ؛ التي لا يشق لها غبار ؛ و من حقك أن تفوقي فولتير حتى ؛ لكن صدقيني أنك لم تبرهني في كتاباتك سوى عن امرأة عابرة في كلام عابر . نرجو أن نلتقيك في سلسلة جديدة ؛ لكن ما نرجوه أكثر هو أن تخرجي علينا بنظريات جديدة في الطب ؛ تضيفين من خلالها شيئا جديدا إلى تاريخ العلم ؛ أما مهمة التفكير في التراث العربي الإسلامي فلها أصحابها المتخصصون فيها .
توقيع: إدريس جندا ري – المغرب
#إدريس_جنداري (هاشتاغ)
Driss_Jandari#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الظاهرة الحمساوية و الظاهرة الليبرمانية : لا بد من تدارك الخ
...
-
العراق الجديد : الفينيق ينبعث من رماده
-
طابور الهزائم : تاريخ من الشعوذة و السحر
-
ما بين خالد مشعل و محمود عباس : صراع التصريحات في وضع فلسطين
...
-
بعدما فشلت في الخارج صواريخ القسام تسعى إلى قلب المعادلة في
...
-
الدرس الذي يجب أن يستوعبه العرب :العثمانيون الجدد أصحاب مصال
...
-
بداية انكشاف أسطورة النصر الإلهي الحمساوي
-
الأصولية الدينية: الإعجاز في خدمة الأجندة السياسية
-
القضايا العربية و الرهان الخاطئ على إدارة أوباما
-
حزب الله لم يكن يتوقع قوة الهجوم و حماس لم تكن تتوقع استمرار
...
-
نخبة محور الممانعة : العمى الإيديولوجي في خدمة تاريخ من الهز
...
-
أحداث غزة و معجزة النصر الإلهي : الأصولية الدينية و التسويق
...
-
ما بعد أحداث غزة: في الحاجة إلى استلهام روح فكر التحرر الوطن
...
-
من نتائج أحداث غزة : حماس قوية داخليا ضعيفة خارجيا
-
الانفتاح الروائي كخطة لمساءلة الراهن السياسي المغربي : رواية
...
-
الأدب وسؤال المؤسسة في الممارسة الأدبية العربية المعاصرة
-
شركة ماكنزي للتنافسية ترسم مستقبلا سوداويا للمصارف (الإسلامي
...
-
إيديولوجيا الاقتصاد الإسلامي : محاربة الفكر الاقتصادي الحديث
...
-
إيديولوجيا الإعجاز العلمي في القرآن و السنة : نشر الخرافات ل
...
-
من دروس أحداث غزة : العلاقات الدولية تقوم على المصالح لا على
...
المزيد.....
-
وجهتكم الأولى للترفيه والتعليم للأطفال.. استقبلوا قناة طيور
...
-
بابا الفاتيكان: تعرضت لمحاولة اغتيال في العراق
-
” فرح واغاني طول اليوم ” تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 اس
...
-
قائد الثورة الإسلامية: توهم العدو بانتهاء المقاومة خطأ كامل
...
-
نائب امين عام حركة الجهاد الاسلامي محمد الهندي: هناك تفاؤل ب
...
-
اتصالات أوروبية مع -حكام سوريا الإسلاميين- وقسد تحذر من -هجو
...
-
الرئيس التركي ينعى صاحب -روح الروح- (فيديوهات)
-
صدمة بمواقع التواصل بعد استشهاد صاحب مقولة -روح الروح-
-
بابا الفاتيكان يكشف: تعرضت لمحاولة اغتيال في العراق عام 2021
...
-
كاتدرائية نوتردام في باريس: هل تستعيد زخم السياح بعد انتهاء
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|