|
موت نذير العدل
شاكر خصباك
الحوار المتمدن-العدد: 2555 - 2009 / 2 / 12 - 09:21
المحور:
الادب والفن
الأعمال الكاملة – 23 الطبعة الاولى – 1999م
في الساعة الخامسة والنصف صباحاً أغمض نذير العدل عينيه وأسلم الروح. كان موته مفاجئاً للجميع . وذهب طبيبه وكل فرد من أفراد عائلته مذهبه الخاص في تفسير هذا الموت المفاجئ.
الدكتور صبحي
ما كان أشد أسفي واستغرابي حينما حضر إلى مكتبي الممرض خالد مهرولاً وأبلغني أنه وجد نذير العدل ميتاً في فراشه. - نذير العدل مات؟ متى؟ا - لا أدري يا دكتور. - ألم يستلفت انتباهك حدوث شيء غير اعتيادي في غرفته؟ - لم يحدث أي شيء غير اعتيادي في غرفته يا دكتور. هرعت إلى غرفة نذير العدل وأنا آمل أن يكون خالد مخطئاً. كان مسجىً في فراشه مغمض العينين ووجهه ينضح بالاشمئزاز. انكببت عليه محاولاً تصيد أي نأمة من نأمات الحياة فيه. لقد سكن قلبه تماماً وتوقف نبضه وانقطع تنفسه. إذن فقد مات نذير العدل وحمل معه سره إلى قبره. وبدا لي موته أمراً محيّراً كما بدا لي من قبل تواجده في المصحة أمراً محيراً. ولقد دهشت يوم حضر هو وعائلته إلى المصحة وأبدوا رغبتهم في إقامته فيها.. هل هذا معقول؟! نذير العدل يقيم في مصحة للأمراض العقلية؟! هذا الشخص الذي كانت أخباره إلى عهد قريب تملأ الصحف كواحد من ألمع شخصيات البلاد؟! نقلّت عيني بين وجوه عائلته المختلجة بالقلق ثم استقرت على وجهه الجامد المشمئز. - ممَّ تشكو يا أستاذ نذير؟ سألته. بقي صامتاً وعيناه الجامدتان لا تطرفان. قال الابن: - هل يمكن أن نحدثك على انفراد يا دكتور؟ اقتيد نذير العدل إلى الغرفة الداخلية. - أخبروني ممَّ يشكو الأستاذ نذير العدل بالضبط؟ - الوالد تعرّض لصدمة منذ أُحيل على التقاعد يا دكتور. وتدهورت حاله يوماً بعد يوم. قال الابن. وأضافت الزوجة: - نريد أن يقيم في المصحة ليعالج تحت اشرافك. وأملنا أن يشفى على يديك يا دكتور. - وما هي أعراض الاضطراب في سلوكه؟ - سلوكه كله تغيّر يا دكتور. قال الابن. وأضافت الزوجة: - نعم يا دكتور. سلوكه كله تغيرّ. لم يعد نذير الذي نعرفه. وما هي صور هذا التغير؟ صار عدائياً تجاه الجميع يا دكتور. قال الابن. وقالت الابنة بلهجة آلية: - صحيح يا دكتور. صار أبي عدائياً تجاه الجميع . - وصارت تصرفاته في الأيام الأخيرة صعبة. أصبح مولعاً بتكسير الصحون. قال الابن. وقالت الابنة بلهجتها الآلية: - صحيح يا دكتور. أصبح أبي مولعاً بتكسير الصحون - ومولعاً بتمزيق الملابس. قال الابن. وعقبت الابنة بلهجتها الآلية: - صحيح يا دكتور. ومولعاً بتمزيق الملابس. هذا أمر مقدور عليه يا دكتور ويمكن التعويض عن هذه الأشياء. ولكن المشكلة الصعبة هي ولعه بالصراخ ليلاً ونهاراً. قال الابن وهو يهز رأسه. قلت مطمئناً: - أرجو أن تكون هذه الحالة مؤقتة وسأبذل جهدي لعلاجها. بدت لي حالة نذير العدل محّيرة حقاً. وداخلني أسف عميق له. كيف يمكن أن تنحدر الأمور بشخص مثله إلى هذا الدرك؟ صحيح أن شخصاً مثله كان يلعب دوراً حاسماً في شؤون الدولة يجد نفسه فجأة بلا عمل ويفقد أهميته العظيمة قد يعاني من صدمة قوية. لكن تلك الصدمة لا يمكن أن تبلغ به إلى هذه الدرجة التي تنم عن اضطراب عقلي قوي. وخطر لي خاطر آخر. تساءلت: " لماذا لا يكون العامل الوراثي مسؤولاً عن حالته؟". ونويت الاتصال بعائلته لاختبار هذا الاحتمال. وتوفرت لي الفرصة لذلك حينما زارتني عصر اليوم التالي ابنته شمس. قالت: - أنا شمس ابنة نذير العدل يا دكتور. كيف حال أبي؟ - أنا لم أبدأ بعلاجه بعد. وكنت سأستدعي أحد أفراد أسرتك لأستوضح منه عن أمر مهم ولعلك تنفعيني في ذلك. - ما هو يا دكتور؟ - أود أن أسألك إن كان أحد أفراد عائلة أبيك قد تعرض لحالة من حالات الاضطراب العقلي. رفعت إليَ عينين مختنقتين وهتفت: - عائلة أبي هم من أعقل الناس يا دكتور. وأبي من أعقل الناس. نذير العدل من أعظم شخصيات البلاد. أرجوك.. لا تعرض أبي لأي أذى يا دكتور. - الجميع يعرفون قيمة أبيك يا آنسة، وكل ما في الأمر أنه يعاني من ظروف خاصة ونحن هنا لمساعدته لا لإيذائه. ألم يحضره أهلك إلى هنا من أجل العلاج؟ - أقسم لك يا دكتور أن أيّ فرد من أفراد عائلة أبي لم يُصب يوماً بعقله وكذلك أبي. - معلوماتك مهمة يا آنسة. وهي ستنفعني في التعامل مع حالة أبيك. - أبي أمانة بين يديك يا دكتور. - اطمئني يا آنسة. سيلقى أبوك كامل الرعاية هنا. استشففت الصدق في لهجة الابنة شمس. فاستبعدت عامل الوراثة وركْزت على عامل الصدمة. وحينما استدعيت نذير العدل إلى غرفة الفحص كانت تتلبسه نفس حالة الجمود والاشمئزاز. - أهلاً بك يا أستاذ نذير ضيفاً علينا. - (صمت) - من المؤسف أنك اضطررت إلى ترك العمل مبكراً يا أستاذ نذير. كانت خسارة للبلاد. - (صمت) يا أستاذ نذير ألم تشعر بالإحباط حين تركت الوظيفة؟ - (صمت). -لعلك عانيت من الفراغ بعد أن كنت تعيش حياة مليئة يا أستاذ نذير. - (صمت) - ألم يضايقك ذلك الفراغ يا أستاذ نذير؟ - (صمت). - أجبني يا أستاذ نذير.. ممَّ تشكو إذن؟ - (صمت). وجدت أن الاستمرار في مخاطبته غير مجد فصرفته. ومنحته مهلة كافية قبل تحديد العلاج المناسب. وكلفت الممرض خالد برصد تحركاته اليومية خلال تلك المهلة. وكنت أتوقع أن تبدر منه أعمال عنف فحالته كما وصفها أفراد عائلته تتميز بالميل إلى الشغب. واستدعيت خالد يوماً ليقدم لي تقريراً عنه. - كيف حال نذير العدل يا خالد؟ - كما هو يا دكتور. صامت لا يتكلم. - أتعني أنه لم يصرخ في أي وقت من أوقات الليل أو النهار؟ - يصرخ؟ إنني بالكاد اسمع صوته حينما أكلمه يا دكتور. - ألم يحاول طوال هذه المدة أن يظهر شيئاً من التمرد أو المماحكة معك أو مع العاملين الآخرين؟ - أبداً . أبداً يا دكتور. إنه لا يعترض على شيء. - أتعني أنه لم يحاول مثلا أن يحطم الصحون؟ - إنه لا يعترض حتى حينما يتأخر طعامه يا دكتور ولا يقول شيئاً. فكيف تريد منه أن يحطم الصحون؟ - وكيف يقضي وقته إذن؟ - في الأيام الأولى كان يقضي نهاره كله وعيناه معلقتان في السقف. ثم أخذ يتبادل مع ابنته شمس عبارات قليلة ويقضي وقته كله في القراءة. - يقرأ؟! - نعم يا دكتور. يقرا كثيراً. فابنته تحضر له كتباً دائماً. وأدهشني تقرير الممرض خالد وأكد غموض حالة نذير العدل في ذهني. وأثار عجبي التناقض بين ما رواه عن سلوكه وبين ما تحدث عنه أفراد عائلته. وكنت على وشك دعوة أحد أفراد عائلته حين حضرت زوجته إلى مكتبي. -كيف حال زوجي يا دكتور؟ ألم يتحسن حاله؟ - إذا كنت تسألين عن جموده فكما هو، فلا يزال متمسكاً بصمته. لكن الأعراض الأخرى التي ذكرتموها لم تظهر بعد. فلا صراخ ولا تكسير صحون ولا تمزيق ملابس. - إذن حاله تحسن هنا يا دكتور. - الواقع أن حاله يكاد يكون عادياً سوى صمته. والممرض المشرف أخبرني أنه يقضي كل وقته في القراءة وبالتالي فهو لا يبدو مريضاً أصلاً. - رغبته في القراءة عادة تعوّدها من سنين طويلة يا دكتور ولا علاقة لها بحالته. - على كل حال هو الآن تحت المراقبة. وسأحدد له العلاج المناسب في ضوء نتائج هذه المراقبة. انقضت أسابيع على نذير العدل وتقارير خالد عنه لم تتغير. ثم حضر يوماً بتقرير مغاير. - اليوم حدث شيء غريب في غرفة نذير العدل يا دكتور. - ما هو يا خالد؟ - ارتفع صوته.. أو على الأصح أخذ يصرخ صراخاً حاداً. - هكذا؟ إذن بدأت الأعراض التي تحدثت عنها عائلته تظهر. ولكن كيف حدث ذلك؟ - حدث حينما جاءت لزيارته زوجته وابنة أخرى من بناته غير شمس. وبعد دقائق من دخولهما سمعت صراخه يلعلع. ثم رأيته يفتح الباب بقوة ويدفعهما إلى الخارج. أثار اهتمامي تقرير خالد الجديد. وخطر على ذهني أنه ربما كانت وراء حالة نذير العدل خلافات عائلية. ونويت أن أعقد معه جلسة لاستطلاع "حالته". وقبل أن أفعل زارتني زوجته للمرة الثانية. - كيف يتجاوب زوجي مع العلاج يا دكتور؟ - الواقع أنني لم أبدأ العلاج معه بعد يا مدام. قالت في امتعاض: - ولهذا لم تتحسن حالته. انه واجهنا قبل أيام بحالة هستيرية حينما زرناه أنا وابنته افتخار. - ولماذا فعل ذلك؟ - هكذا هو.. يثور في أي وقت. - لكنه لم يثر في وجه أحد طوال هذه المدة يا مدام. فكرت الزوجة قليلاً ثم قالت: - ربما لأنه يخشى من العقاب هنا. - يخشى من العقاب؟! أي عقاب؟! - أفلستم تعاقبون المرضى الشرسين هنا بالضرب؟ - ومن قال لك ذلك؟ - هكذا يقول الناس. فالمرضى في عقولهم لا يخشون من شيء إلا الضرب. - لا يا مدام. نحن لا نفعل ذلك هنا. وإذا كان لدى بعض الناس مثل هذه التصورات فهي تصورات خاطئة. نحن هنا لمعالجة المرضى لا لمعاقبتهم. - أرجوك يا دكتور أن تباشر بعلاجه. - اطمئني يا مدام. سأعقد معه جلسة في أقرب وقت لتحديد العلاج المناسب. وعقدت مع نذير العدل جلسة جديدة حضر إلى غرفة الفحص ووجهه يحمل نفس النظرة الجامدة المشمئزة. - كيف حالك يا أستاذ نذير؟ - (صمت) . - هل أنت مرتاح في غرفتك؟ - (صمت) - أرجو أن تخبرني إن كان هناك شيء يضايقك . - (صمت). - أخبرني الممرض خالد أنك كنت تصرخ بانزعاج شديد حينما زارتك زوجتك وابنتك قبل أيام. فهل تعرضت لمضايقة منهما؟ - (صمت). - نحن لا نسمح بأن تتعرض لأي إزعاج مهما يكن مصدره يا أستاذ نذير. وإذا كان وجودهما يضايقك فسنمنعهما من زيارتك. - (صمت). ويئست من استدراجه إلى الكلام. ظل جذعه منتصباً وعيناه شاخصتان ورأسه يهتز ببطء. لم تتغير حالته عما كانت عليه منذ حضر إلى المصحة. وبدأت أول خطوات العلاج معه باستخدام دواء متوسط المفعول. وانقضى أسبوعان على تناوله الدواء دون أن تتغير حالته. بقي غارقاً في صمته وقراءته . ثم أبلغني خالد يوماً أن زوجته زارته ثانية فأصابته نفس حالة الهياج. فأثار هذا الأمر عجبي وتساءلت: " لماذا يستقبل ابنته شمس بارتياح يومياً بينما تثير في نفسه هذا الهياج زيارة زوجته؟!" ودعوت ابنته شمس إلى مكتبي للاستفسار منها عن هذه الظاهرة. - هل طلبت رؤيتي يا دكتور؟ - نعم يا آنسة شمس. أردت أن أستطلع رأيك عن حالة أبيك. أعلمني الممرض المشرف أنك تزورينه كل يوم تقريباً. - لولا أنني موظفة لأقمت معه في الغرفة كمرافقة يا دكتور. - هذا شعور نبيل منك يا آنسة شمس. أنت الوحيدة إذن التي بإمكانها تقييم حالته أكثر من أي فرد في العائلة. وأرجوك أن تحدثيني عنها. - أحدثك عن ماذا يا دكتور؟ - عن حاله عموماً وهل تحسن في نظرك بعد أن واظب على استخدام الدواء. - حال أبي على خير ما يرام بدواء أو بغير دواء يا دكتور. - يجب أن تعترفي يا آنسة شمس أن حال أبيك ليس طبيعياً. لذلك أحضره أهلك إلى هنا لكي يعالج. أليس كذلك؟ نكست بصرها وقد اكفهر وجهها. - أبي في خير حال يا دكتور. - كيف في خير حال وهو لم يردّ على أي سؤال ألقيته عليه بل ولم ينطق كلمة واحدة؟ هل هذا وضع إنسان طبيعي في رأيك يا آنسة شمس؟ حنت شمس رأسها وقد غام وجهها. فعدت أقول: - على كل حال نحن لا نبقي أباك هنا رغم إرادته يا آنسة شمس. ولا مانع عندي أن يغادر المصحة في أي وقت يشاء إذا كان يشعر أنه في غير حاجة إلى علاج. - لا يا دكتور. خير له أن يبقى في المصحة. قاطعتني في لهجة مضطربة. - على كل حال أنا لم أستدعك للبحث في هذا الموضوع يا آنسة شمس . لكنني أردت أن استفسر منك عن سبب هياج أبيك كلما زارته أمك . فهل تعرفين سبباً معيناً لذلك؟ - هي المسؤولة عن ذلك . قالت في اشمئزاز وهي تتجنبني بأنظارها. -ماذا تعنين يا آنسة شمس؟ - أعني انه لا بد أن يكون لديه سبب. وسكتت وهي تغضّ بصرها. ثم قالت وهي تعبر وجهي بنظرات سريعة. - إذا كان لا يرغب في رؤيتها.. فلماذا تفرض نفسها عليه؟ - كيف تلومينها على ذلك؟ أليس من حقها أن تطمئن عليه؟ - فلتتركه بحاله. اما يكفيها ما فعلته به؟ تأملت وجهها وقد اشتد اكفهراره. - وماذا فعلت به يا آنسة شمس؟ - أعني أنه إذا كان يتضايق منها فلا داعي لأن تفرض نفسها عليه. قالت وهي تهز رأسها بقوة. - أتعنين ان على أمك أن تحذو حذو أخيك فتمتنع عن زيارته كلياً؟ - أخي آخر شخص يرغب في رؤية أبي. - ولماذا؟ - اسأله هو. قالت وهي خافضة العينين ووجهها يتلون بالغضب. ثم رفعت أنظارها أخيراً وتساءلت: - أهناك أسئلة أخرى يا دكتور؟ - أبداً.. وشكراً لك يا آنسة شمس. حيرّني الحوار الذي دار بيني وبين شمس وقوّى شكوكي في أن يكون وراء حالة نذير العدل خلافات عائلية. وعزمت على استجلاء هذا الأمر في أقرب وقت. لكن مشاغلي الكثيرة صرفتني عن القيام بذلك. وزاد في تقاعسي عن الاهتمام بالأمر ان نذير العدل نفسه لم يكن راغباً في مغادرة المصحة. في هذه الأثناء كان خالد يمدني بتقارير منتظمة عنه. وكانت تؤكد أنه في وضع اعتيادي وأنه يمضي كل وقته في القراءة والكتابة. وأخيراً قمت باستدعاء زوجته وابنه للتداول معهما في حالته ولاستجلاء حقيقة وضعه العائلي. - من واجبي أن أخبركما أنه بعد الملاحظة المستمرة لسلوك الأستاذ نذير تبيّن لي أنه لا يحتاج إلى البقاء في المصحة وأن حالته لا تتطلب أكثر من دواء يمكن أن يتناوله وهو في المنزل. هتف الابن في انزعاج: -كيف لا يحتاج إلى البقاء هنا يا دكتور؟ هل من المعقول أن نأخذه إلى المنزل وهو في هذه الحال؟ ما يدرينا كيف ستتطور حالته في المستقبل؟ - أنا واثق أن حالته لن تتطور إلى الأسوأ في المستقبل. ومن الممكن أن ينتفع من الدواء فيستعيد وضعه الاعتيادي ويخرج من جموده. والواقع أن وضعه اعتيادي تقريباً ما عدا صمته. وهو يقضي وقته كله في القراءة والكتابة. - أهو يكتب أيضاً؟ هتف الابن وهو ينتفض منزعجا. فقلت: - - نعم إنه يقسّم وقته بين القراءة والكتابة. ولو لم يكن في وضع اعتيادي ما أمكنه أن يفعل ذلك. وأنا واثق أنه سيخرج من حالة الجمود تدريجياً ويستعيد كامل صحته بمرور الزمن. - لا يا دكتور.. لا. انه مريض بعقله وفي حاجة إلى العلاج هنا. قالت الزوجة في يقين. فقلت: - - أبداً يا مدام . زوجك ليس مريضاً بعقله. كل ما هنالك أنه تعرض لصدمة بسبب إحالته على التقاعد وفقدانه لمركزه الهام. وربما تعرض أيضاً لبعض المشاكل العائلية. هذا كل ما في الأمر. قالت الزوجة بلهجة مترددة: - وإذا قلت لك يا دكتور أن هذه الحالة تلبسته قبل التقاعد؟ - نعم يا دكتور، حالة أبي تلبسته قبل التقاعد. قال الابن وهو يهز رأسه مؤكداً. وعادت الزوجة تقول وأنظارها معلقة على وجهي - أنا أسألك يا دكتور. هل هناك إنسان يطلب إحالته على التقاعد ويترك وظيفة من أرقى الوظائف في البلاد وينزوي في البيت وهو سليم العقل؟ - إذن فهو الذي طلب الإحالة على التقاعد؟ سألت بدهشة. قال الابن في حماس: - طبعاً يا دكتور. هو الذي طلب الإحالة على التقاعد . هو الذي حرم نفسه من أرفع وظيفة في البلاد. قلت وأنا أهز رأسي: - هذا شأن آخر. ولكن ألم يخبركم بالسبب؟ - -أبداً يا دكتور. كل ما قاله أنه لم يعد قادراً على تحمل المسؤولية. قالت الزوجة. وقال الابن في انتصار: - وأنت تقول يا دكتور أنه ليس مريضاً وأنه في غير حاجة إلى علاج. قالت الزوجة في رجاء: - أرجوك يا دكتور.. لا تتخلى عنّا. -ولكن ماذا بوسعي أن أفعل؟ المفروض أن يخرجه الدواء من جموده. ولعل ذلك يحدث في المستقبل فعلاً. تساءل الابن: -ما دام العلاج الحالي لم ينفعه .. أفلا يكون في حاجة لأن تجرب معه العلاج الآخر يا دكتور؟ - ماذا تعني بالعلاج الآخر ؟ - أعني الصدمات الكهربائية. فكل الناس يقولون إنها هي التي تشفي المرضى في عقولهم. - صحيح يا دكتور.. لماذا لا تجرب معه هذا العلاج؟ قالت الزوجة. فقلت: - يجب أن تعلما أننا لا نلجأ إلى هذا العلاج إلا في الحالات الشديدة. - لكن حالة الوالد شديدة يا دكتور ونحن نرجوك أن تجربها معه. قال الابن. وقالت الزوجة: - نعم يا دكتور. نحن نرجوك أن تجرب هذا العلاج معه. لبثت صامتاً وأنا في حيرة من أمري . وتعلقت عيون الزوجة والابن بوجهي بلهفة. قلت أخيراً: - أمهلاني أدرس الأمر لفترة أخرى وسأبلغكما بقراري. أثار لقائي بالزوجة والابن أفكاراً جديدة في ذهني. فلقد ظللت أعتقد أن نذير العدل أصيب بصدمة إثر إحالته على التقاعد وخسرانه لوظيفته المرموقة، وأن هذه الصدمة هي المسؤولة عن حالته . لكن المعلومة الجديدة فرضت على ذهني تصوراً جديداً. تساءلت: "ما الذي يجعل شخصاً سليم العقل يتخلى عن وظيفته المرموقة وهو في كامل صحته؟" ولكنني في الوقت نفسه شعرت بشيء من الرفض لكل من الزوجة والابن. فلم أحسّ من الزوجة لهفة على زوجها أو حزناً حقيقياً على حاله. أما الابن فلم أرتح له منذ اليوم الأول شكلاً ومضموناً. وبدا لي أن الوحيد من أفراد العائلة الذي يكّن حباً حقيقياً له هو ابنته شمس. وإذ كنت أفكر في العلاج المناسب أبلغني خالد، ولم يكن قد فات يومان على لقائي بالزوجة والابن، أن نذير العدل أصيب بحالة هستيرية شديدة عندما زاره ابنه عصر أمس. وقال إنه رآه يتشبث بابنه في صراع عنيف محاولاً انتزاع أوراق من بين يديه. فعدت أفكر مرة أخرى في احتمال الخلافات العائلية . وثارت في ذهني تساؤلات عن سبب تشبث زوجته وابنه ببقائه في المصحة. ودعوتهما ثانية لمناقشة أمره. - هل توصلت إلى قرار في معالجة الوالد بالكهرباء يا دكتور؟ تساءل الابن في لهفة. قلت وأنا أثبت أنظاري على وجهه: – لا . لم أتوصل إلى هذا القرار. لكنني دعوتكما لأستفسر منكما عن سبب ما خلفته زيارتك له من هياج وتوتر. فلعل ذلك ينفعني في تفهم حالته. و أبلغني كذلك الممرض المشرف أنك مزقت أوراقاً له مما زاد في هياجه. فهل كان من الضروري تمزيق تلك الأوراق؟ - كان من الضروري تمزيق تلك الأوراق يا دكتور. خشيت أن تقع بيد أحد. كانت مليئة بالسباب المقذع على العائلة. سباب مخجل لا يمكن أن يوجه حتى للغرباء. - ولماذا يوجه مثل هذا السباب لأفراد عائلته؟ - لأنه كان يستنكر إلحاحنا عليه بضرورة المعالجة يا دكتور ويصر على أنه بكامل قواه العقلية. قال الابن. وقالت الزوجة: - تصور يا دكتور أنه مازال مصراً على أنه سليم العقل. نقلّت عيني طويلاً بين وجهي الزوجة والابن وأنا أراجع في ذهني سلوك نذير العدل طوال إقامته في المصحة . ثم وجدتني أقول فجأة: - اسمحا لي أن أقول لكما أنه محق في ادعائه وأنه لا يشكو مرضاً في عقله فعلاً. - ماذا تقول يا دكتور؟ كيف يمكن أن يكون الوالد سليم العقل وهو يتصرف كل تلك التصرفات؟ قال الابن في استنكار. وقالت الزوجة في احتجاج: - يتصرف كل تلك التصرفات ويكون سليم العقل يا دكتور؟ مستحيل .. مستحيل. - أنا لا أناقشكما في تصرفاته في البيت. فلست أعرف عنها شيئاً لكنني أتحدث عن تصرفاته في المصحة. وأنا كطبيب مسؤول أقول لكما إن الأستاذ نذير سليم العقل ولا يشكو مرضاً. لذلك فهو في غير حاجة إلى علاج ولا داع لبقائه في المصحة. - كيف يا دكتور؟ نحن أفراد عائلته نقول لك إنه مريض وفي حاجة إلى علاج. قال الابن في احتجاج. وقالت الزوجة في امتعاض: - أين نذهب به إذن يا دكتور؟ أين نعالجه؟ - قلت لكم انه في غير حاجة إلى علاج يا مدام وأنتم أحرار فيما تعتقدون . أما انا كطبيب فانتهى واجبي تجاهه وعليكما أن تخرجاه من المصحة خلال أيام . ثم أضفت في لهجة حازمة: - وعليكم أيضاً أن تحلّوا مشاكلكم العائلية في غير هذا المكان. فهذا المستشفى للعلاج لا للمناورات الشخصية. تبادل الابن والزوجة للحظات نظرات انزعاج. - أهذه كلمتك الأخيرة يا دكتور؟ تساءل الابن وهو غاضب الوجه. فقلت: - نعم هذه هي كلمتي الأخيرة. - هيا بنا يا أمي. قال الابن ذلك وخرجا من دون أن يلقيا التحية. في اليوم التالي فوجئت بمكالمة تلفونية من " القصر" أذهلتني. فقد أكّدت المكالمة بلهجة حاسمة على ضرورة بقاء نذير العدل في المصحة حتى يشفى تماماً، وعلى وجوب علاجه بالصدمات الكهربائية. ورفضت كل حججي خلاف ذلك. وبناء على رغبة " القصر" بدأنا بعلاج نذير العدل بالصدمات الكهربائية. وحين تلقى الصدمات انطلق يصرخ محتدماً: "الله يلعنكم جميعا . . الله يلعنكم جميعا""". في مساء اليوم نفسه حضرت إلى مكتبي شمس وهي مربّدة الوجه. - لماذا حنثت بوعدك لي يا دكتور؟ ألم تعدني ألاّ تعرّض أبي لأذى؟ قالت بصوت مرتجف وهي ترميني بنظرات نارية. فقلت برفق: - نحن لا نؤذي أباك يا آنسة شمس. كل ما هنالك أننا نحاول أن نعيد إليه صحته. والعلاج السابق أثبت أنه غير مجد فكان لا بد لنا أن نجرب علاجاً أكثر فعالية. - لكنك تدري أن أبي سليم العقل يا دكتور. - عليك أن تعلمي يا آنسة شمس أننا لم نبدأ بهذا العلاج إلا بموافقة أمك وأخيك. - الكل يتآمر على أبي وقد صرت أنت أيضا يا دكتور شريكهم في المؤامرة . وأنا أحملك مسؤولية أي أذى يلحق بأبي . قالت ذلك بصوت هائج ثم مرقت من الباب بخطوات راكضة. وكلّفت خالد أن يرصد سلوك نذير العدل وأن يقدم لي تقريراً يومياً عنه. وأكّدت تقارير خالد أنه أصيب بحالة غريبة من الهمود. والتزم الصمت التام. وكف عن تناول الطعام0 ولم يعد يفتح عينيه. وفي صباح ذلك اليوم كنت على وشك زيارته لفحص حالته وإذا بخالد يقبل على مكتبي مهرولاً وينهي إليّ ذلك الخبر المزعج. والآن بعد أن مات نذير العدل أجدني محاصراً بأسئلة تؤرقني. فهل كنت مقصراً بحقه فلم أمنحه القدر الكافي من اهتمامي ولم أدرس ظروفه العائلية دراسة كافية؟ وهل تراني مقصراً بالمثل مع مرضاي الآخرين فلا أخصص لهم من الوقت ما يكفي لتعقب حالاتهم بصورة متأنية لإنشغالى بعدد من المرضى أكثر مما يجب؟ و أما كان واجبي يقتضيني أن أكون أكثر شجاعة وان أتمسك بقناعتي تجاه نذير العدل وأرفض أوامر "القصر"؟ أتراه مات هذا الموت المفاجئ احتجاجاً على خذلاني له؟ ربـاب
مضى نذير وخلفني أرملة مهملة. لماذا فعل بي ذلك؟ لماذا حطم حياتي؟ أهذا هو العهد الذي قطعه على نفسه حينما تقدم لخطبتي؟ ألم يقسم يومذاك أنه سيكرّس حياته لإسعادي؟ ألم يؤكد لي بأنني لن أندم يوماً على قبولى الزواج منه؟ وهو يعلم أن الكثيرين تقدموا لخطبتي بإمكانات أعلى منه بكثير. وهو نفسه اعترف بذاك. وقد قطع على نفسه وعداً بأن يبذل كل جهده ليوفر لي حياة فخمة أفضل مما كان بمقدور أولئك الخطّاب أن يوفروها. فاقتنعت بوعوده وارتضيت الزواج منه. وطبعاً كان يدرك أنه لم يكن هناك ما يغريني بالزواج منه سوى تلك الوعود. فلم يكن هناك حب بيننا.. أقصد من جهتي. فأنا لم أكن أعرفه ولا أتذكر أنني رأيته. غير أنه أكد لي أنه كثيراً ما كان يراقبني عند ذهابي إلى "ثانوية الحريرى" وعودتي منها. فنحن نقيم في "العيواضية" وأهله يقيمون فى "الكسرة". وكان معجباً بجمالي. أكد لى أنه كان يفكر بي وهو في بلاد الغربة. وأن صورتي بقيت عالقة بذهنه طوال سني دراسته في أوربا. وحين التقانى بعد حصوله على الدكتوراه وعودته الى البلاد وجدني أجمل مما كان يتخيلني. وتيقن أنه يحبني حباً حقيقياً لا مجرد إعجاب فاختارني زوجة له. وصحيح أن أهلي لم يكونوا من الطبقة العليا لكنهم كانوا ميسوري الحال. وأبى موظف محترم في وزارة العدلية0 وكنت مقتدرة على نيل ما أشتهيه. ومع ذلك لم أكن راضية عن مستوانا المادي. كنت أطمح إلى مستوى أعلى. وصارحته بذلك. لم أخف عنه طموحاتي. فلم أكن مقتنعة بالزواج منه أصلاً. فهو من عائلة فقيرة وأبوه يملك دكان موبيليات متواضع فى منطقة الميدان . وكان أهلي يرونه زوجاً مناسب وخصوصا أختي نوال. كانوا يخشون أن ينصرف عني الخُطّاب فأظل عانسة. وكانت أمى تقول لى:"الى متى تظلين ترفضين الخطاب يا رباب ؟ ولماذا تحكمين على نفسك بالعنوسة والعزلة خصوصا وأنك لم تكملي دراستك في الجامعة؟ لماذا لا تكوني واقعية كأختك نوال ؟ " ولم يكن يعيب نذير في نظرهم امكاناته المادية الشحيحة. فهو يحمل شهادة عالية. أما أنا فكنت أدرك الواقع كما هو. فشهادته وإن كانت عالية لن تؤهله إلا لشغل مركز متقدم في الحكومة أو العمل في الجامعة. وموظف الحكومة أو أستاذ الجامعة مهما صعد أو نزل ذو دخل محدود. أعني أن أمره يختلف عن أمر المهندس المقاول مثلاً أو الطبيب المشهور أو حتى التاجر الناجح. فهذه الأصناف من المهن يمكن المقامرة عليها. وقد صارحته برأيي هذا. لم أخف عنه أفكاري. لم أحاول الظهور على غير حقيقتي. فأنا أحب الحياة الفخمة وأحلم بها. ومادام الله قد وهبني نعمة الجمال التي تهمّ الرجال أكثر من أي شيء آخر في المرأة.. فلماذا لا أنتفع منها؟! وبالمناسبة كانت زميلاتي التلميذات يحسدنني على جمالي . وكانت صديقاتى منهن يقلن لى:"ستتزوجين يوما شخصا غنيا يا رباب". وقد اقتنعت بالزواج من نذير بدافع من الوعود التي أغدقها عليّ. لكن قناعتي لم تصمد أمام واقع حياتي الجديدة. كان هذا الواقع نقيض أحلامي كلياً. كان بيت الزوجية متواضعاً. كانت حياتنا متقشفة. فتلبسني الإحباط. وانعكس هذا الإحباط على طباعي. صرت سريعة الغضب . لكن نذير كان صبوراً معي. لم تفارقه بشاشته مهما اشتددت معه في الكلام. وكان يقول لي معتذراً: "المرحلة الصعبة التي نمر بها ليست سوى مرحلة عابرة من حياتنا يا رباب فاصبري عليّ. فأنا أبذل جهوداً مضنية لرفع مستوى حياتنا. ولا بد أن تأتي هذه الجهود بثمارها". وقد أتت بثمارها فعلاً بأسرع مما توقعت. فجهوده الدؤوبة لفتت إليه الأنظار ووسّعت فرص الكسب أمامه. وراودتني أحلامي القديمة. وسرعان ما تحولت تلك الأحلام إلى واقع سعيد . تسارعت قفزات نذير في السلّم الوظيفي حتى بات من الاقتصاديين الذين يشار إليهم بالبنان. ثم بلغ قمة المجد حينما اختاره "القصر" المستشار الاقتصادي الأول. فأغدقت علينا النعم بما فاق أحلامي. توفرت لي الحياة الفخمة والمكانة المرموقة. واشترينا منزلاً مدهشاً فى "المنصور" وفرشته بأنفس الرياش. وكنت أسأل نذير أحيانا: "ألا ترى يا نذير أن بيتنا أفخم بيوت أصحابنا جميعاً؟" فينظر حواليه ويهز رأسه ويقول مبتسماً: "أصدقك القول يا رباب.. لم تخطر لي هذه المقارنة على بال". وكان عدم اكتراثه يضايقني. لكنني كنت أعذره لانهماكه بعمله. وتعزيت باعتراف صديقاتي بذلك. فكثيراً ما كن يقلن لي، ولو بشيء من الغيرة المبطنة: "بيتك أفخم البيوت يا رباب". وكم كانت تسعدني هذه الشهادة . فصديقاتي يمثلن أرقى طبقات المجتمع. وهكذا تحققت أحلامي في العيش في بيت فخم. وكثيراً ما كنت أدير عيني فى انبهار فيما يحيطني من رياش في غرفة نومي0 ولقد حلمت في صباي بغرفة نوم تشبه غرف الملكات. وكنت أسائل نفسى: "هل ما أراه حولي حقيقة أم مجرد حلم من أحلام صباي؟!". ولم يغرقني نذير بالثروة والجاه فحسب بل جعلني ملكة البيت غير المتوجة. كانت كلمتي هي النافذة في كل شيء. لم يعترض على تصرف من تصرفاتي يوماً. ولم يغير الجاه ولا الثروة ولا المنصب الرفيع طباعه. وفجأة، بعد كل تلك السنين، إذا به يتغير. أنقلب وجهه البشوش إلى وجه متجهم. تحولت لهجته الرقيقة إلى لهجة جافة. تجنبت عيناه الالتقاء بعيني. وصاحب هذا التغير اضطراب في نومه. أخذ يتقلب على فراشه طويلاً قبل أن يستسلم للنوم. وطالت ساعات احتجابه في غرفة المكتبة . وكلما سألته: "ما بك يا نذير؟!" أجابني "لا شيء". وتناهبتني عشرات الأسئلة التي بقيت بلا جواب. ثم هبط عليّ الجواب يوماً على شكل مفاجأة قصمت ظهري. ففي ذلك اليوم عاد نذير من العمل مبكراً. وتبعه سائقه الخاص إلى غرفة المكتبة وهو يحمل عدداً من صناديق الكرتون. لحقته إلى الغرفة فوجدته عاكفاً على الصناديق يفرغ ما فيها. سألته بعجب: خير يا نذير؟. رفع رأسه وقال بسعادة: هنئيني يا رباب. وافقوا على طلب إحالتي على التقاعد أخيراً. سألته دون أن أفهم ما يقصد: ماذا قلت؟ اتركت وظيفتك؟ أجاب مبتهجا: نعم. دارت بي الدنيا وكدت اسقط على الأرض. تمتمت في ذهول: لماذا؟! هل طلب منك "القصر" ذلك؟ أجاب: لا.. لم يطلب مني أحد ذلك. سألته وأنا لا أكاد أعي شيئاً مما يقول: لماذا إذن تخليت عن وظيفة يحلم بها أكبر رأس في البلد؟ أجاب: لم يعد ضميري قادراً على تحمل ذنوب هذه الوظيفة يا رباب . وما عاد بقدرتى البقاء فيها . شعرت كأن بركاناً يتفجر في صدري فصرخت : هل جننت؟ من الذي يفكر بالتنازل عن كل هذا العزّ والجاه ً؟ أجاب في تهكم: ليس هناك عزّ ولا جاه يا رباب فما أنا سوى آلة طيّعة لمن بيده الأمر والنهي. ما أنا سوى خادم "للقصر". أنا وامثالى من الكبراء الذين يتصورهم الناس أصحاب عزة وجاه . صرخت في هستيرية: وماذا عني؟ ألم تفكر فيما سيحل بي؟ ماذا عن العهد الذي قطعته لي؟ أجاب وهو مدلهم الوجه: يكفيني ما أنفقته من سني عمري وأنا مستعبد لهذا العهد. صحت وجسدي يرتعش غضباً: فاعلم إذن أن كل ما بيننا انتهى. وطوال أيام عديدة لم يهدأ البركان المتفجر في داخلي. لم أفهم من تقاعد نذير سوى أنه خيانة للعهد الذي قطعه لي.. بل إنه إذلالُُ لي وطعنة في الصميم. فسيهبط مستوى حياتى هبوطا شنيعا وسيشمت بى الكثيرات من صديقاتي . فأنا متفوقة عليهن جميعا. وتشبث سؤال عنيد بذهني: "لماذا فعل بي نذير ذلك؟" وكنت أتقلب كل ليلة فى فراشي مسهدة وذلك السؤال يطحنني طحناً. وفي ليلة من تلك الليالي هبط عليّ الجواب كبرق خاطف. فتلوت الآية الكريمة: "قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق ومن شر غاسقٍ إذا وقب. ومن شر النفاثات في العُقد. ومن شر حاسدٍ إذا حسد". وعجبت كيف لم يخطر هذا الجواب على بالي. فأنا أعلم أننى محسودة من صديقاتي على منصب نذير. وكثيرا ما نشدن وساطة نذير لدى القصر. وكنت أستجيب لوساطتهن لكن نظرة الحسد في عيونهن ما كانت لتخفى عليّ. وحاولت أن أحزر من هي المسؤولة بينهن عن إفساد حياتي فلم أقطع بيقين . في أعقاب تلك الليلة طرقت أبواب السحر والسحرة وقدمت لي" وصفات " كثيرة لرفع السحر عن نذير. لكن أياً منها لم يثمر. وكانت خطة المقاطعة التي التزمت بها حياله قد فشلت أيضاً. ظل يحتك بي ويحاججني باستمرار دون أن يأبه لصمتي محاولاً اقناعى بسلامة موقفه . كان يقول لي بأنه داس على ضميره طوال السنين الماضية ليضمن لي الحياة الفخمة التي أحلم بها وأنه عانى من ذلك معاناة عظيمة. لكنه ما عاد قادراً على الاحتمال. وكان يدعوني إلى نبذ حياتي المزيفة كما يسميها والعودة إلى الحياة الطبيعية اليسيطة. وطبعاً كان كلامه يبدو لي نوعاً من الهذيان . وكان يزيدني تمسكاً بموقفي. فكان يهز رأسه ويقول: "أنا واثق أنك ستفهمين موقفي يوماً". ولاحظت انه أخذ يكثر من الخروج عصراً. و كان يغيب لساعات طويلة. وعجبت أين يمضي تلك الساعات. فهو قد خاصم أصدقاءه القدامى جميعاً واصفاً إياهم "بالعبيد". ثم بدا لي أخيراً أنني اهتديت إلى سرّ تغيره. تذكرت المثل المعروف "فتش عن المرأة". وكلفت أحد أقربائى برصد تحركاته فتبين ليّ إنه يزور أشخاصاً بسطاء ربما كانوا من معارفه القدماء. وتدهورت حالتي النفسية يوماً بعد آخر. لازمني اكتئاب حاد. وتحوّل بيتي الذي كان يزهو بالحفلات والأبهة إلى بيت مقفر كئيب. تقوقعت على نفسي وانعزلت عن صديقاتي. وكنت قد قاطعتهن جميعاً إثر حفلة حضرتها بعد تقاعد نذير. في تلك الحفلة لاحظت أن الكثيرات منهن يتغامزن عليّ. ولمست الاستخفاف في لهجة عفراء وعبير ومنى وهن يحادثنني. وقالت لي عفراء فى شماتة مبطنة:"أظن أن أبو زاهر سيفقد كل المزايا المادية والمعنوية التى كان يتمتع بها وسيصبح شأنه شأن أى متقاعد عادى " . وأقسمت ألا تفترسنى التجربة المهينة ثانية. فليست مثلي التي تتعرض للاستخفاف والشماتة. وطبعاً خاصمت كل صديقاتي. ودعاني بعضهن لحضور حفلاتهن فاعتذرت بجفاء .فهجرنني جميعاً. ومرت أسابيع عليّ وأنا أعيش منطوية على نفسي. ثم خطر لي أنني قد أكون مخطئة في ظنوني. فاتصلت بصديقاتي ودعوتهن إلى حفلة غداء. وأعددت لهن مآكل فاخرة وانتظرت بلهفة حضورهن. وفي الوقت المحدد حضرت نوال وبدور وإنصاف من بين كل المدعوات. وما أن تناولن الطعام حتى خرجن مسرعات. وخيّل إلى أنهن كن طوال الوقت يتغامزن عليّ. شعرت كأن شيئاً تحطم في داخلي وان كرامتي طعنت في الصميم. وما ان خرجن حتى استسلمت لنوبة من البكاء الهستيري. فاتخذ نذير من هذا الموقف وسيلة للسخرية بي وبصديقاتي " المزيفات" كما دعاهن. وكانت كلماته كالزيت الذي يصب على النار. تمثل لي وحشاً مارداً قد أذلني وأفسد حياتي إلى الأبد. فثرت ثورة عاصفة. شتمته بأقسى عبارات الإهانة والتجريح . وقلت له إنه كان يجب عليّ أن أدرك أن من تربى في بيت الفقر وبين مزابل محلة الكسرة يظل يحن إلى الفقر كالكلب الذي يموت وعينه على الزبالة. وقلت له أيضا إنني نادمة أشد الندم على زواجي منه وأنني قد خدعت به. ولم يرد عليّ بكلّمة واحدة. راقبني بذهول وقد عقدت الدهشة لسانه. ومنذ ذلك اليوم تجنب الكلام معي واعتصم بغرفة المكتبة. فلم يستثرني حاله بل ازددت نفوراً منه. ويوماً أخبرتني شمس أن زميلاً من زملائها في العمل اسمه كرومي الطاهر ينوي التقدم لخطبتها. فسرني النبأ كثيراً ورفع من معنوياتي. فلم أكن أتوقع أن يقدم أحد على خطبة ابنتنا بعد أن أصابنا ما أصابنا0 وكنت يئست من زواج شمس.. تلك المتوحشة التي لا تعرف سوى كتب الشعر. وكلفت زاهر بالاستقصاء عن كرومي الطاهر هذا فاكتشف أنه ابن "فراشة" في إحدى مدارس البنات وهم يسكنون في مدينة الثورة. واستبد بي الذعر وأنا أتخيل ما سيثيره هذا النبأ من شماتة وهزء لدى صديقاتي. وطبعاً رفضت كرومي هذا رفضاً قاطعاً. لكن نذير وقف إلى جانب شمس . أعلن أنه المسؤول الأول والأخير عن زواجها. فاشتبكت معه في صـراع مرير. ولحسن الحظ استطاع فائز أن يفشل تخطيطه. وكان موقفه هذا من زواج شمس القشة التي قصمت ظهر البعير. ونزع من قلبي آخر ما تبقى فيه من عاطفة نحوه. واقتنعت بأنه يبتغي إذلالي بكل طريقة ممكنة. فلم أعد أطيق حتى النظر في وجهه. وفي يوم فاجأني زاهر بالقول: يجب ألا نترك أبي على هذا الحال يا أمي. سألته: لماذا؟ ما شأننا به؟ قال : لأنه صار خطراً يتهددنا جميعاً . سألته: لماذا؟ ماذا فعل؟ فحكى لي كل شيء. وكان زاهد الراضي الذي حل محل نذير في وظيفته قد استدعاه إلى مكتبه وحدثه عن أبيه0 أخبره أنه زارهم في "المنتدى" وتهجم عليهم وهددهم بأنه سيفضحهم ويفضح "القصر" حينما ينتهي من كتابة مذكراته. وقال له إنهم جميعاً تيقنوا أنه مريض بعقله وأنه بحاجة إلى علاج. ثم حذره بأن مستقبله بات عرضة للخطر إذا ما بلغت "القصر" أقوال أبيه. قلت في انزعاج: أما يكفيه أنه دمر مستقبله حتى يريد تدمير مستقبلك؟ فقال: ولذلك لا بد أن نعالجه يا أمي قبل أن يصيبنا مرضه بشر عظيم فهو مريض بعقله فعلا. قلت له: ومن الذي يستطيع إقناعه بضرورة العلاج يا زاهر؟ فقال: اتركي لي هذا الأمر يا أمي فأنا كفيل بذلك وكل ما أطلبه منك ألا تعترضي على إجراءاتي. فقلت له: إفعل ما فيه المصلحة يا زاهر. وانفرد زاهر بأبيه في غرفة المكتبة. ثم خرج بعد حين وهو مكفهر الوجه. وأقفل عليه الباب . ومنذ ذلك اليوم أصبح سجّان أبيه. واستسلم نذير لسجنه في لا مبالاة عجيبة وكأن الأمر لا يعنيه. وكانت ضرورة خضوعه للعلاج قد تمكّنت في ذهني أنا أيضاً. بدا لي أن اختلال عقله قد يكون مسؤولاً عن تصرفاته الغريبة. وتساءلت: "إذا لم يكن في الأمر سحر كما ثبت، ولا امرأة أخرى كما دلل الواقع، فما الذي يدعو إنساناً عاقلاً لأن يحطم المرأة التي يحبها ويحرمها من نعيم حياتها؟" وكنت أتلصص عليه أحياناً من ثقب الباب فأراه مكباً على القراءة حيناً ومنهكماً في الكتابة حيناً آخر. ويوماً قلت لزاهر : يبدو أن أباك استحلى الحبس يازاهر فهو يمارس هوايته المفضلة وهي القراءة والكتابة. فانتفض منزعجاً وهتف: أهو يكتب أيضاً؟ لا أدري كيف لم يخطـر ذلك على بالي. سألته: وما الذي يزعجك في ذلك يا زاهر؟ فهتف: ألا تفهمين ماذا يعني ذلك يا أمي؟ قلت في عجب: ماذا يعني؟ فقال: إنه يعني أنه يكتب مذكراته التي وعد زملاءه القدامى أن يفضحهم فيها ويفضح " القصر". ثم هب واقفاً وهجم على غرفة المكتبة. وبعد دقائق تعالى الهرج والمرج فيها. ثم خرج زاهر وهو يلهث. ولوّح بدفتر في يده وهتف: كما توقعت يا أمي. إنه يكتب مذكراته. الحمد لله أنني لحقت الكارثة قبل وقوعها. وانكب زاهر على الأوراق يمزقها إربا إربا0 وأضرب نذير عن الطعام. ومرت أيام ثلاثة وبدأ الأمر يقلقنا. في نهاية اليوم الثالث قال زاهر: سأتخذ إجراء لإجباره على الأكل يا أمي. سألته: وما هو هذا الإجراء يا زاهر؟ فقال: سأنقله إلى غرفة الحديقة فيحرم بذلك من كتبه وسيضطره ذلك إلى الاستسلام. فوافقته على رأيه. لكن هذا الأجراء فشل أيضاً. فقلت لزاهر: أخشى أن يموت أبوك جوعاً يا زاهر إن ظل مضرباً عن الطعام فلنتركه وشأنه. فقال: دعيني أبحث عن حل لهذه المشكلة يا أمي. في اليوم التالي أقبل عليّ قائلاً: وجدت الحل يا أمي. سألته: وما هو؟ فقال: أن نخوّفه بالعصا. قلت في احتجاج: كيف يمكنك أن تفعل ذلك يا زاهر؟ فقال: هذا شأني وليس شأنك يا أمي. فالمرضى في عقولهم يخشون عادة العقاب البدني. ونجح إجراؤه فعلاً. وفكّ نذير اضرابه عن الطعام . لكنه ظل يرفض فكرة العلاج. واقترحت على فائز مرة أخرى أن يدعه وشأنه. لكنه رفض بشدة. وكان وجهه قد اكتسب قسوة غريبة على مرّ الأيام. وكنت أخالسه النظر أحياناً وأتأمل جسده الضخم وعضلاته المفتولة فيخيفني منظره. وكان يخامرني الشك بأنه يستمتع بدوره كسجان. ويوما اقبل عليّ ووجهه يطفح بنشوة الانتصار وقال: وافق أبي على العلاج يا أمي. هتفت وكأن حملاً قد أنزاح عن كاهلي: صحيح؟ فقال: نعم يا أمي .. صحيح. وسأنقله إلى "مصحة السلامة" . ولم يبد الدكتور صبحي مدير المصحة حماساً لعلاجه. وفي آخر زيارة لنا أبلغنا بوجوب اعادته إلى البيت لعدم حاجته للعلاج. فاتصل زاهر بالأستاذ زهدي الذي استصدر أمراً من "القصر" بعلاجه بالكهرباء وإبقائه في المصحة حتى شفائهً. ولم تمض سوى أيام على بدء العلاج الجديد عندما اتصلت بنا المصحة وأنبأتنا بأنه قد مات. كيف مات وكان إلى آخر لحظة من حياته في صحة جسمية تامة؟! أتراه مات نكاية بي ليجعل مني أرملة مهملة؟!
زاهـر
دهشت لموت أبي ولم أكن أتوقع ذلك . وكنت إلى آخر لحظة آمل أن يشفى ويعود إلى وظيفته. وما أزال حتى الآن أعجب كيف أصيب بمرضه. أيمكن لشخص مثله أن يصاب بعقله؟ ولا أدري متى أصيب أبي بمرضه. ربما حدث ذلك قبل شهور من تقاعده. فقد أكدت لي أمي مراراً خلال تلك الشهور بأنه قد تغير ولم يعد نفس الشخص الذي تعرفه. ولم أقطع برأي حينذاك فى ما إذا كانت أمي محقة في ادعائها أو أن الأمر مجرد وساوس. فلم أكن ألتقي به كثيراً حتى يمكنني الحكم على هذا التغير. ولم أكن أتواجد في البيت إلا نادراً. فما أكاد أعود من عملي وأتناول غدائي حتى أختفي في غرفتي لأتمتع بقيلولتي. ثم أغادر عصراً إلى نادي المنصور حيث تنتظرني مهام كثيرة. فأنا رئيس لمعظم لجان النادي الرياضية . وكان وقتي حاقلا ً على الدوام. ولم أكن ارجع إلى البيت إلا حوالي منتصف الليل. والحقيقة أنني لم أجد تفسيراً منطقياً لأقوال أمي واعتقدت أن تغير أبي ناجما عن إرهاقه في العمل. فهو المسؤول الأول عن سير الحياة الاقتصادية في البلاد. لذلك لم أعر أقوال اهتماماً. ولم يخطر لي على بال أن تغير أبي حقيقي وأن هذا التغير سيقلب حياتنا يوما رأساً على عقب. ففي يوم عدت إلى المنزل حوالي منتصف الليل. وحين دخلت رأيت أمي متمددة على كنبة فى الصالة . دهشت لذلك وسألتها : ما بك يا أمي؟ لماذا أنت هنا؟ قالت وهي تجلس في الفراش: لا يمكنني النوم في غرفتي يا زاهر. سألتها: ولكن لماذا يا أمي؟ ما الذي حدث؟ قالت وهي تهز رأسها في غضب: أبوك خرب بيتنا. سألتها : خرب بيتنا؟! ما الذي فعله؟ قالت: ترك وظيفته .. صدر اليوم الأمر بإحالته على التقاعد. وخيّل إليّ أن مطرقة هوت على رأسي. ولم تعد ساقاي قادرتين على حملي فتهالكت على مقعد بجواري. تمتمت مذهولاً: ولكن لماذا!؟ هل استغنى عنه "القصر"؟ قالت: أبداً. هو الذي طلب إحالته على التقاعد. هتفت في استنكار: مستحيل.. مستحيل. من الذي يتنازل عن وظيفة مثل وظيفته من تلقاء نفسه؟ فقالت : هذا ما حدث. قلت وقد هزنى الغضب: لكن هذا يعني تدميرنا. قالت في تهكم: طبعاً. وهل هناك شك في ذلك؟ ظللت دقائق مصعوقا وقد التاث تفكيري. ثم قلت أخيراً في حيرة: ولكن لماذا يفعل ذلك؟ لماذا يحطم حياتنا؟ قالت وهي تهز رأسها: لا أدري . أنا لم أعد أفهم شيئاً مما يحدث. عقلي شلّ . ولم تغمض عيناى حتى الصباح . صرعني كدر عظيم وأنا أفكر بأنني لم أعد زاهر بن نذير العدل المستشار الاقتصادي الأول " للقصر". و لن أستطيع بعد اليوم انفاق النقود كما يحلو لي فسيهبط دخلنا هبوطاً عظيماً. ولن يعود بامكان أمي امدادى كعادتها بأي مبلغ أطلبه. ولن أكون بعد اليوم الموظف المدلل الذي يعامله زملاؤه ببالغ التقدير والاحترام مع أنه لا يملك سوى الشهادة الثانوية.. وأخيراً وليس آخراً، لا شك أن مكانتي في النادي ستتراجع، وربما فقدت رئاسة اللجان التي أتولاها حالياً. فأنا أعلم أن بعض أعضاء مجلس الإدارة الحقراء يكرهونني ويقولون عني أنني إنسان عديم الشخصية ولا أهمية لى ً لولا مكانة أبي. وعجّ ذهني بهذه الأفكار طوال الليل حتى أوشك رأسى أن ينفجر. في اليوم التالي اجتمعنا أنا وأمي وافتخار وعمران لتدارس موقفنا تجاه هذه الكارثة. سألت عمران: ما الذي يمكن أن نفعله يا عمران؟ فقال: أظن أن أفضل ما يمكن عمله هو الضغط على عميّ كي يتراجع عن قراره. وأنا واثق أن " القصر" سيرحب بتراجعه فلا غنى له عنه. وأنا أعتقد أن قراره ناجم عن رغبته في إحراج "القصر" واثبات شخصيته لا أكثر ولا اقل. سألته: ولكن كيف يمكننا الضغط عليه؟ فقال: تجمع العائلة على مقاطعته. فلا بد له أن يتأثر بهذه المقاطعة، وخاصة من جانب عمتي فيغير موقفه .. أليس كذلك يا عمتي؟ قالت أمي وهي تهز رأسها : لا أدري .. ولعلك محق يا عمران. وقالت افتخار: بالتأكيد سيتأثر بابا بمقاطعة ماما. قلت وقد راقت لي الخطة: أرى أنه اقتراح معقول. ما رأيك يا أمي؟ قالت وهي تهز رأسها شاردة الأنظار : لا أدري ماذا اقول لكم فأنا لم أعد أفهمه. فقلت: فلنجرب هذه الخطة. ماذا سنخسر؟ وبدأنا بتنفيذ خطة المقاطعة على أبي. امتنعنا جميعاً عن الكلام معه، عدا شمس المخبولة التي لم تكن منّا يوماً. ولم يكن تنفيذ الخطة صعباً علي فأنا لم أكن ألتقيه إلا نادراً. لذلك لم تتأثر حياتي البيتية بالمقاطعة. ولكن سرعان ما تحققت مخاوفي فيما يخص حياتي العامة. فمنذ الأسبوع الأول بدأ التغير واضحاً على زملاء العمل. فالوجوه الباسمة التي كنت أُستقبل بها والاحترام المبالغ فيه غابا تماماً. أما المدير العام فتوارت ابتسامته العريضة. وفي النادي تجهمت لي وجوه أولئك الذين ينافسونني على رآسة اللجان، وفتر استقبال الإداريين لي. وحتى مجموعة الصحاب تقلّص عددها. ولم تعد فتيات النادي يتجهمن حولي0 ولعل أقسى ضربة تلقيتها هي موقف أزهار وأهلها. وكان أهل أزهار من أقرب الأصدقاء إلينا. وكانت هي الوحيدة من بين فتيات النادي التي قامت بيني وبينها علاقة حميمة. وربما كانت هي المسؤولة عن تلك العلاقة . فمعظم الفتيات اللواتي كن يتقربن إليّ لم يكن صادقات في عواطفهن0وكن يقلن عني وراء ظهري أنني شخص مغرور0 هكذا أخبرتني افتخار0 أما أزهار فكانت تختلف عنهن0 كنت أحس أن عواطفها نحوي صادقة0وكنا نلعب التنس دائما. ولم تكن علاقتنا مجرد الصداقة السطحية أو الرفقة العادية. وكان هناك ما يشبه الاتفاق، بين عائلتها وعائلتي، على أنها الزوجة المرشحة لي. لكن موقف عائلتها من عائلتي تغيرّ تغيرّاً جذرياً بعد تقاعد أبي حتى بلغ حد المقاطعة. ولم أكن أتوقع أن تتخذ هي نفس هذا الموقف الحقير مني فإذا بها تساند أهلها الحقراء. وأخذت تتهرب من مشاركتي في لعبة التنس بل وحتى من الاقتراب من مجلسي في النادي. لكنني تكيّفت لحياتي الجديدة شيئا فشيئا. ضغطت مصاريفي حتى باتت معقولة. جاملت منافسي في النادي فأرضاهم ذلك. وفي العمل وجدت تعاطفاً من بعض زملائي الذين تقربت إليهم. وزودت بتوصية من مساعد أبي القديم الأستاذ زاهد الراضي لمديرنا العام فعاد يعاملني باحترام. وكان قد حدث صدام حاد بين أمي وأبي فانزوى ابي في غرفته وقاطع الجميع. فتباعدت بذلك فرص الاحتكاك بيننا وبينه. ولكن استجدت بعد أسابيع من ذلك الخصام قضية ساقتنا مرة أخرى للمواجهة معه وهي قضية زواج شمس. فقد أخبرتني أمي يوماً أن زميلاً من زملائها في العمل اسمه كرومي الطاهر يرغب في التقدم لخطبتها وطلبت مني الاستقصاء عنه. وما كان أشد انزعاجي حين رأيته بملابسه المتواضعة و هندامه الحقير. ثم عرفت بأنه ليس سوى صعلوك حقير من سكنة مدينة الثورة تعمل أمّه " فراشة" في إحدى المدارس. وهالني ذلك وغضبت غضباً شديداً. فهل تدنت بنا الحال إلى الدرجة التي نناسب فيها ابن " فراشة"؟! وشاركتني أمي غضبي بل كانت أشد غضباً مني. فتعاهدنا على إفشال مشروع هذا الزواج مهما كلفنا الأمر. وكان يمكن أن يكون الأمر ميسوراً لو لم نفاجأ بأن شمس قد ضمنت موافقة أبي باعتباره وليّ أمرها. وقالت لنا إنها عازمة على المضي في مشروعها بصرف النظر عن موقفنا. فشب صدام عنيف بيننا وبين أبي. وتحول البيت إلى جحيم . وكانت أمي تخشى أن تعقد شمس الزواج من وراء ظهرنا. واحترنا في البداية ماذا نفعل. ثم اهتديت إلى طريقة حسمت فيها القضية. وكنت قد بثثت العيون حول كرومي هذا فاكتشفت بأنه يمارس نشاطاُ سياسياً مشبوهاً ضد" القصر". فهددت شمس بأنني سأفشي سره وأعمل على زجه في السجن إن لم تتراجع عن قرارها . فانهارت أمام تهديداتي واستجابت لكل اوامري. وهكذا انتهت القضية بسلام. لكن موقف أبي من القضية زادني وأمى بعداً عنه. وأشتد هو أيضاً انطواء على نفسه وصار يعيش في عزلة تامة. وكان يمكن أن تدوم العلاقة بيننا على هذا النحو لو لم يلفت نظري يوماً الأستاذ زاهد الراضي إلى ما يتهدد حياتنا من أخطار بسبب سلوك ايى. . فقد استدعاني إلى مكتبه وقال لي : أنت تعلم معزة أبيك في قلوبنا يا زاهر. لذلك اسمح لنفسي أن أكون معك صريحاً جداً. قبل أيام حضر أبوك سهرتنا في "المنتدى" ورحبنا به كثيراً لكنه تهجم علينا واتهمنا بأننا عبيد " للقصر" وهددنا بأنه سيفضح الجميع حينما ينتهي من كتابة مذكراته وينشرها فى الخارج. فقلت محرجاً: أنا آسف لذلك يا عمي. فقال : أسمح لي يا إبني زاهر أن أقول لك إن أباك لم يعد في كامل قواه العقلية. وهذا هو الانطباع الذي خرجنا به جميعاً. وكنا نشك في ذلك قبلاً حينما تخلى عن وظيفته الممتازة بلا سبب. ونحن نرى أن تعالجوه قبل أن تسوء حالته بحيث يتعذر شفاؤه. قلت وقد فاجأني كلامه: أحقاً ما تقوله يا عمي؟ فقال وهو يتأملنى فى اشفاق : أنا آسف إذ أفاجئك بهذه الحقيقة يا زاهر. لكنني أسألك وأنت ابنه.. كيف تفسر تخليه عن وظيفته الممتازة بلا مبرر؟ فقلت: أنا أعترف فعلاً يا عمي بأننا لم نفهم تصرفه هذاً. وأعترف أن تصرفاته في البيت غريبة أيضا نوعاً ما. فقال في لطف: خير للإنسان أن يعترف بالأمر الواقع يا ابني زاهر بدلاً من أن يدفن رأسه في الرمل. وفي حالة أبيك لا بد من الاعتراف بأنه مريض وفي حاجة إلى علاج. فقلت في حيرة: ولكن كيف يمكننا علاجه يا عمي وهو لا يعترف بأنه مريض؟ فقال : تجبرونه على ذلك. فهو الآن كالطفل الذي لا يعرف مصلحته. ويجب أن تعالجوه في أحد المصحات المتخصصة. وأنا أرشح لكم "مصحة السلامة فمديرها الدكتور صبحي الراعي أفضل المتخصصين في الأمراض العقلية. وسيتولى "القصر" دفع كافة نفقات العلاج. وسكت وهو يتفرس في وجهي ثم عاد يقول بلهجة رقيقة: أنا أعلم أن هذا الأمر صعب عليكم لكنني انطلق في نصيحتي هذه من حرصي على مصلحته ومصلحتكم. فالأقوال التي صدرت عنه أمامنا خطيرة. وإذا ما بلغت " القصر" ستخلف ردود فعل عنيفة ضدكم. وسيكون مردود ذلك عليكم سيئاً للغاية وأصارحك يا ابني زاهر أن أمر أبيك لا يهمني كثيراً فقد انتهى مستقبله. لكن مستقبلك يهمني. وإذا ظل أبوك ينشر هذه الأقوال يميناً وشمالاً فسيؤثر ذلك على مستقبلك ويضيع عليك فرص التقدم. ونحن أصدقاء أبيك لا يمكن ان ننسى أفضاله علينا وبالتالي لا بد أن نراعى مستقبلك. فقلت بامتنان: أنا لا أعرف كيف أشكرك يا عمي على اهتمامك هذا وسأبذل كل جهدي للأخذ بنصيحتك. ولقد فتح حديث الأستاذ زاهر أمام عيني مغاليق ذلك اللغز الذي أحاط بموقف أبي. ولم أكن قد وجدت له تفسيراً سوى تفسير عمران بأنه ناجم عن نزوة في نفسه لإثبات شخصيته أمام "القصر". فبدا لي الآن تفسير الأستاذ زاهر أكثر معقولية خصوصاً وأن كل أصدقائه مجمعين عليه. وأخبرت أمي بما دار بيني وبين الأستاذ زاهد من حديث فلم تستنكر تفسيره. وأيّد هذا التفسير عمران أيضاً. وتشاورت معه فيما يجب عمله إذا رفض أبي فكرة العلاج فاقترح عليّ حجزه في غرفة المكتبة حتى ينصاع للأمر الواقع. عندما اقتحمت على أبي غرفة المكتبة كان منكباً على كتاب بين يديه. رفع رأسه وقال في استغراب: مرحباً زاهر. قلت له : لا يمكنك الاستمرار على هذه الحال يا أبي. فأنت مريض ويجب أن تتعالج. بدت الدهشة على وجهه وتساءل: ماذا تقول؟ مريض؟ فقلت: نعم مريض. ولست أنا الذي أقول ذلك وحدي بل الجميع يقولونه وعلى رأسهم زملاؤك وأصدقاؤك فهم متأكدون أنك مريض في عقلك . قال في تهكم: أهكذا يقول عني زملائي وأصدقائي؟ فقلت: إنهم مجمعون على هذا الاعتقاد. ولا بد لك أن تعترف بالواقع وتتعالج. فهم يريدون مصلحتك ومصلحتنا. فضحك متهكماً وقال: فاعلم أنهم هم المرضى في عقولهم لا أنا. فقلت : أبي. يجب أن تعترف بأن مرضك دمرّ حياتنا.. دمرّ حياة أمي ودمرّ حياتي وكدت تدمر حياة شمس أيضاً. تساءل بلهجته المتهكمة: وكيف تدمرت حياة أمّك؟! ألأنها لم تعد تضيع وقتها مع صديقاتها المزيفات وتمارس حياة الفخامة السخيفة؟ فقلت: هكذا كانت تعيش طوال عمرها ولم تعترض أنت عليها يوماً. فما الذي استجد في الأمر؟ قال وهو يهز رأسه: الذي استجد أنني صحوت على نفسي وإن متأخراً. فقلت: اعلم يا أبي أنك أصبحت بوضعك هذا تمثل تهديداً حتى بالنسبة لمستقبلي. نظر إليّ طويلاً ثم قال: إسمع يا زاهر. لا تفسد حياتك كما أفسدت حياتي. ولا تتشبث بالقشور وتترك الجوهر. لا تخسر ضميرك وتتملق "للقصر" فتندم فيما بعد كما ندمت. فقلت له في شيء من السخرية: ولماذا تذكرت ذلك الآن يا أبي؟ ألم تكن طول عمرك تخدم "القصر"؟ ثم ألم تعوّدنا أنت نفسك على هذا النوع من الحياة؟ا فقال : الحق معك. وكم يعذبني ذلك. لكنني لا أرتضى لك أن تمر بتجربتي. وخير لك أن تبني مستقبلك على أسس صحيحة وأنت في أول الطريق. فوجدتني أصرخ فجأة في وجهه: لم يعد لك حق في التحدث عن مستقبلي فأنت لم تعد حريصاً عليه. أنت تنوى تحطيمه كما حطمت مستقبلك. فتملكه الغضب وهتف في حدّة: كان ينبغى لى أن أدرك ان كلامي هذا لا ينفع مع أمثالك . ثم تحول حوارنا إلى مجرد صراخ. وأخيراً خرجت وأقفلت عليه الباب واحتفظت بالمفتاح. ومنذ ذلك اليوم صار أبي سجيناً في غرفته وصرت أنا سجانه. لكن هذا الإجراء زاده عناداً. وتعامل مع حبسه بنفس اللامبالاة التي تعامل بها مع خطة المقاطعة. مرّت الأيام وهو صابر على حبسه. ولم أدر ماذا يمكن أن أفعل لإجباره على الموافقة على العلاج. ثم اقترحت أمّي عليّ تركه وشأنه. وكنت على وشك الأخذ باقتراحها حينما حدثتني عرضاً بأنه يشغل وقته في القراءة والكتابة. فتذكرت ما غاب عني طوال هذه الفترة. فلعله يشغل وقته في كتابة المذكرات التي هدد بها أصحايه . وفي الحال اقتحمت عليه الغرفة وقلت له: عليك أن تسلمني المذكرات التي تكتبها يا أبي. تساءل بهدوء: أية مذكرات؟ فقلت: المذكرات التي هددت بأنك ستفضح بها الجميع. فقال: وما شأنك أنت بهذه المذكرات؟ فقلت: لأنها ستشكل خطراً عظيماً على حياتك وحياتنا جميعا إذا ما نشرتً. فقال بلهجته الهادئة: إذا كانت ستشكل خطراً على حياتي فأنا مستعد أن أضحي بحياتي من أجلها. فقلت: إذا كنت أنت مستعد للتضحية بحياتك من أجلها فأنا لست مستعداً لأن أتلف حياتي وأدمر مستقبلي بسببها. تساءل في عجب: وما شأنك أنت بالمذكرات؟ فقلت: أنت تعلم أنها ستثير غضب " القصر" ليس عليك فقط بل عليّ أيضاً. قال في غير اكتراث: سيكون ذلك من حسن حظك لئلا تنساق في خدمته. فصرخت وقد احتدم الغضب في صدري: افهم يا أبي أنني لست مستعداً لأن أعاقب بسبب مرضك. وعليك أن تسلمني المذكرات طوعاً بدلاً من أن تسلمها لي كرهاً. قال في تصميم: لن أسلمك المذكرات إلا على جثتي. فهجمت عليه واشتبكت معه في صراع ضار حتى استطعت انتزاع المذكرات منه وتمزيقها. وكان ردّ فعله على عملي الإضراب عن الطعام. وكلما أدخلت عليه صينية الطعام أعادها كما هي. واحترت ماذا أفعل. استشرت عمران ثانية فأشار عليّ بنقله إلى غرفة الحديقة. وقال ان ذلك سيحرمه من كتبه وسيضطره إلى التخلي عن عناده. فنقلته الى غرفة الحديقة لكنه بقى مضرباً عن الطعام. وداخلني القلق أنا وأمي وخشينا أن يموت جوعاً. وألحت عليّ أمي بالتخلى عن الأمر كله. وكدت أستجيب لها لولا أنني استشرت عمران ثانية فأشار عليّ بعدم التراجع لأن ذلك معناه تدمير مستقبلي. واقترح علي أيضاً اللجوء إلى العنف معه لأن المرضى بعقولهم يخشون الضرب. فأخذت باقتراحه. ونجحت في كسر شوكته أخيرا وعاد إلى تناول الطعام. لكنه ظل يرفض الموافقة على العلاج. وكان تمسكه برفضه يزيدني إصراراً على موقفي. فقد اعتقدت اعتقاداً جازماً بأنه سيظل يمثل تهديداً خطيراً لمستقبلي إن لم يعالج وما كان أعظم ارتياحي حينما دخلت عليه يوماً فإذا به يقول لي "سأذهب إلى المصحة". ولم يكن قد تبادل معي كلمة واحدة منذ انتزعت منه المذكرات، بل لم تقع عيناه على وجهي منذ ذلك اليوم. وقبل أن نصحبه إلى المصحة اجتمعنا أنا وأمي وافتخار وعمران واتفقنا على ما سنقوله لمديرها كي يوافق على قبول أبي. واقتنع الدكتور صبحي بأقوالنا لكنه بقى متردداً في استخدام العلاج الفعال الذي يسرع في شفائه. بل انه رفض فيما بعد الاستمرار في علاجه بحجة أنه لا يحتاج إلى علاج. واستشرت عمران فيما ينبغي أن أفعل فأشار علي بالاتصال بالأستاذ زاهد وعرض المسألة عليه. وقابلت الأستاذ زاهد وشرحت له حالة أبي وما تم من خطوات لعلاجه. وأخبرته أن الدكتور صبحي لا يرى ضرورة لتواجده في المصحة ويرفض معالجته بالصدمات الكهربائية. فوعدني أن يضمن تدخل "القصر"في ذلك. واتصل "القصر" بالدكتور صبحي فعلاً وأصدر له أمراً بإبقاء أبي في المصحة وبعلاجه بالكهرباء. وكان ذلك مصدر سرور لنا جميعا. وما كان أعظم دهشتنا حينما أبلغتنا المصحة بعد ثلاثة أيام فقط من المباشرة في علاجه بالكهرباء أنه قد مات. وأنا شخصياً لم أصدق النبأ. فحينما زرته قبل أسبوع كان يبدو في صحة تامة. فلماذا مات؟! أتراه مات ندماً على ما فعله فينا؟ افتخار
مات أبي فجأة وتركني كالريشة في مهب الريح. وكان موته مفاجأة لي. فلم يذكر لي عمران مرة واحدة أن صحته متدهورة. مات وخلفني صريعة الخوف الدائم من أن يتنكر لي عمران ويلفظني لفظ النواة. وقد يفعل بي ذلك في أية لحظة. فما عدت آمنة وتلك الحرباء متربعة على مكتبه. وقد تتربع على قلبه.. من يدري؟ فكيف لي احتمال الحياة لو حدث ذلك؟ وإن عمران ليعلم أنني عاجزة عن أن أفعل شيئاً حيال ذلك، وعاجزة عن نزع حبه من قلبي مهما فعل. وانه ليعلم أنني عشقته منذ اللحظة الأولى وأنه غزا قلبي منذ التقت عيناي بعينيه في مكتب أبي. وفي الحال قررت أن يكون ملكي وعرف هو منذ ذلك اللقاء كيف يستغل الفرص ليمثل أمامي. وبجرأة نادرة أمطرني بمكالمات تلفونية طويلة انتهت بلقاءات في النادي. وكان قد عرف كيف يتملق زاهر ويعقد صلة قوية معه بل ويكتسب ثقته. ولحسن حظي أن زاهر شخص ساذج ومن السهل احتواءه. وجرى كل شيء بسرعة عظيمة. كنت أسيرة دوامة لا يمكنني الفكاك منها. كنت مكبلة بأسره، وإن راح يوهمني بأنه هو المكبل بأسري. لكنني كنت سعيدة. فماذا يهم إن كنت أنا المكبلة بأسره أم هو المكبل بأسري؟ وأيقنت أنه الرجل المناسب لي، وإن لم يكن أمامي في الحقيقة خيارات كثيرة. فحتى أصدقاء زاهر كانوا يجاملونني فحسب ولم تتعد علاقتي بهم هذا الإطار. ومع أنني كنت أعرف نصف شبان النادي لكنهم جميعا كانوا يتجنبون التورط في علاقة جدية معي0 وصارحت أمي بما بيني وبين عمران فسألتني: ومن عمران هذا؟ قلت لها: عمران الحنتوش موظف بسيط يعمل في مكتب بابا. فقالت: أنا أعرف ان دماغك ناشف وأن ما تريدينه تحصلين عليه ولكن ألم تفكري فى أن عمران هذا ليس كفؤاً لك وأن عائلته ليست من مستوى عائلتك؟ وألم تفكري في أن مستواك المادي سينخفض كثيراً؟ فقلت بتصميم: لا يهم. أفنسيت يا ماما أنك أنت نفسك تزوجت من بابا ولم يكن كفؤاً لك؟! وأطمئنك أنه لن يكون لي صلة بعائلته. فقالت: لكنني اقتنعت بأن أبيك قادر على أن يرتفع بمستواه وهذا ما حدث. فقلت : وأنا أيضاً مقتنعة بأن عمران قادر على أن يرتفع بمستواه. فكرت أمي قليلاً ثم قالت: أحضريه لمقابلتي. وكنت واثقة أن عمران سيغنم قبولها. فلديه من اللياقة ما تمكنه من أن ينتزع قبوله من أي شخص. وأجرت له أمي الاختبار وفق أفكارها عن الزواج المناسب. ونجح في الاختبار. قالت لي بعد انصرافه: "أرى أنه زوج مناسب فعلاً يا افتخار". ولم يعارض أبى فى زواجى من عمران وإن أبدى ملاحظات غير مشجعة عنه . وتم زواجنا على عجل. واضطررت إلى الهبوط بمستواي المـادي فعلا. أقمنا في بيت متواضع فى "الكرادة الشرقية" " لكن ذلك لم يشعرني بالندم. كنت سعيدة مع عمران. كانت حياتنا شهر عسل متواصل. كان يتصيد من نظراتي الرغبات التي تدور في خلدي فيستجيب لها بأسرع من لمح البصر . ولم يكن يخطو أي خطوة تتعلق بحياتنا ما لم يستشرني أولاً. ولم تغرقني دماثته وحدي بل أغرقت أمي أيضاً. لم يكن يفوت فرصة ما لم يغمرها باسمي آيات التقدير والإجلال ويقدم لها الزهور والهدايا فى كل المناسبات. وحسدت نفسي على هذا الزوج المحب المخلص.. الزوج الذي يتميز إضافة إلى علو خلقه بوسامة عظيمة.وكنت موضع حسد صديقاتي جميعاً. قال لي يوماً بعد شهور من زواجنا: أريد أن أستشيرك يا حبّابة في فكرة تراودني من مدة. وإذا ما تحققت رفعت مستوانا المادي رفعاً حقيقياً. فقلت له: أنت تعلم يا عمران أنني راضية بمستوانا. نحن نعيش سعداء. قال محتجاً: إذا كنت أنت راضية يا حبّابة فأنا لست راض. فلا يمكن أن أغفر لنفسي أنني هبطت بمستواك. سألته: وما هي هذه الفكرة يا عمران؟ فقال: أن أستقيل من وظيفتي وأؤسس شركة مقاولات. فقلت: ولم لا؟ إنها فكرة عظيمة. صمت قليلاً وقد بدا التردد على وجهه ثم قال: أنت تدركين طبعاً يا حبّابة العقبات التي تحول دون تحقيق هذه الفكرة. فقلت: بالتأكيد أدركها وهي الحاجة إلى رأس مال. ولكن لا تشغل بالك بذلك فمن الممكن تدبير المال. قصدت أمي في اليوم نفسه. وقلت لها من دون مداورة: عمران يفكر بالاستقالة من وظيفته يا ماما وتأسيس شركة مقاولات. رفعت حاجبيها استغراباً وقالت: لكن مثل هذه الشركات تحتاج إلى رأس مال يا افتخار. وأنتم تعيشون على قدر حالكم. ضحكت وقلت لها: هنا يأتي دورك يا ماما. ألم تتوقعي أن يسير عمران في طريق بابا فيعمل على رفع مستوى حياتي؟ فكيف يمكنه أن يفعل ذلك بدون دعم؟ فصمتت مفكرة ثم قالت: عمران يستحق الدعم فعلاً. حينما أبلغت عمران بموافقة أمي على دعمنا لم تبد عليه الدهشة. وقال وهو يهز رأسه: عمتي راجحة العقل. واستقال عمران من وظيفته. واستأجر شقة في عمارة جديدة في قرب "الشورجة" وفرشها فرشاً متميزاً.. أفضل من فرش بيتنا. ولما أبديت دهشتي لذلك قال في ثقة: "هذا من لوازم الشغل يا افتخار". وظللت أتساءل بيني وبين نفسي كيف سيتهيأ لعمران منافسة الشركات الراسخة في ميدان المقاولات، وكيف سيتهيأ لنا أن ندبر أمرنا حتى تدور عجلة الشركة خصوصا وأنني لم أتوظف بشهادة الثانوية. وتكفلت أمي بالجواب على السؤال الثاني فتطوعت بمساعدتنا دون أن أسألها ذلك. ولم أكن أتوقع أن يحصل عمران على مقاولات في وقت قريب. لكنه أقبل عليّ يوماً منطلق الوجه ولم يمض أسابيع على افتتاح شركته وقال: ابشري يا حبّابة فسيجيئنا الخير قريباً. سألته: وكيف ذلك؟ قال في تيه: أبلغني أحد رفاقي القدماء في العمل أن هناك في الطريق مناقصة حكومية محترمة. وأضاف وهو يفرقع بأصابعه: هي ليست محترمة جداً ولكنها مناسبة لشركتي المتواضعة حالياً. ومن الممكن أن تكون من نصيبنا. قلت في عجب: ولكن هل في قدرتك يا عمران أن تنافس الشركات الأخرى المعروفة؟ فقال وهو يغمز بعينه: هنا مربط الفرس يا حبّابة. فالبركة فيك وفي عمتي وفي الوسائل التي تعلمتها من الوظيفة. واسأليني انا كيف يتم حسم المناقصات الحكومية. قصدت أمي وحكيت لها ما قاله عمران. فبدا على وجهها شيء من الضيق وقالت: التدخل في مثل هذه الأمور يسبب حرجاً لأبيك يا افتخار. فقلت: لكنك تعلمين يا ماما أن كل الشركات تحصل على المناقصات الحكومية بتدخل ذوي النفوذ فما العيب في ذلك؟ وكيف يمكن أن تقف شركة عمران على قدميها إن لم يدعمها أحد؟ ثم من أجدر بدعمها من بابا؟ وأنت تتوسطين لصديقاتك لدى بابا يا ماما، فكيف لا تتوسطين لعمران؟ قالت في استسلام: سأكلم أباك. ومرة أخرى لم يثر دهشة عمران موقف أمي بل هز رأسه وقال: عمتي امرأة عظيمة.اً كانت تلك الصفقة فاتحة خير لشركة عمران. وسرعان ما ازدهرت أعمالها. وتغيرت حياتنا المادية أيضاً تغيراً سريعاً. استأجرنا منزلاً راقياً فى "كرادة مريم" وفرشناه بأثاث غال. وكان ازدهار شركة عمران مصدر اعجاب أمي. لكن أبي لم يشاركها هذا الإعجاب. وكنت أحدس من نظراته وتعايير وجهه أنه لم يكن يرتاح لعمران. وطوال ازدهار شركة عمران عشنا شهر عسل دائم. كنا نسهر كل ليلة في نادى المنصور . وكان عمران يبذّر المال بشكل ملفت للنظر. كان ينافس نجوم النادي المعروفين في بذخه. وكان يدعو فائز وأصحابه دائماً إلى عشاء متميز. وكان يبالغ في تودده إليّ أمامهم. لكنه كان أعظم تودداً إليّ في حضور أهلي. فحينما كانوا يدعوننا على العشاء كان يصرّ على أن يلقمني اللقمات السائغة. وكانت أمي تهز رأسها في ارتياح. وظل عمران نفس الشخص العاشق الشديد الوله بي حتى دهمتنا كارثة تقاعد أبي .وقد عصفت بحياتنا جميعاً وخاصة بحياة أمي المسكينة. فقد أنزلتها الكارثة من عليائها كزوجة لرجل يشغل أرفع منصب في البلاد إلى زوجة شخص متقاعد لا أهمية له. فانطفأت الأنوار المتوهجة في بيتها. ولم أكن أتصور في البداية أن تقاعد أبي سيعصف بحياتنا أنا وعمران أيضاً. فشركته كانت في ازدهار مستمر. لذلك عجبت حين أصيب عمران بذعر وانزعاج عظيمين تدى سماعه بتقاعد أبي . فقد بدا كمن غرقت مراكبه في البحر. وراقبته بدهشة وهو ينتقل من غرفة إلى غرفة ويصفق يداً بيد ويهتف في ضياع: "انتهيت.. دمرت شركتي". ولكنني أدركت بعد حين أنني كنت على خطأ. فسرعان ما أخذت أعمال الشركة بالتدهور السريع. واشتد سخط عمران على أبي كلما اشتد تدهور شركته. وكثيراً ما كان يختم شكواه بالقول: "كل ذلك بسبب أبيك المجنون". وكنت أمتعض لقوله هذا. فكيف يمكن أن يوصف أب عظيم مثل أبي بـ "المجنون"؟ بل إنني كنت أعجب كيف يصفه هو بالذات بذلك الوصف وهو الذي لم يكن يتحدث عنه من قيل إلا ويقرن أسمه بأعظم عبارات التقديس والإجلال. وكان حين يجلس إليه لا يكاد يرفع طرفه إلى وجهه . وخيل إلي من لهجته القاسية وتعابير وجهه الشوهاء أنه بات يحقد على أبي حقداً شديداً. ومرة قلت له برفق: "أرجوك يا عمران .. ألاّ تتحدث عن أبي هكذا". فانفجر في وجهي صارخاً: وكيف تريدينني أن أتحدث عنه إذن؟ كيف أتحدث عن إنسان يدمر عائلته لمجرد أن يثبت شخصيته أمام "القصر"؟ أهناك إنسان عاقل يضحي بكل مكاسبه العظيمة من أجل تلك النزوة؟ إنه مجنون وستين مجنونا. ولو كان الأمر بيدي لأرسلته في الحال إلى مستشفى المجانين ليقيم فيه بقية عمره. فهذا هو مكانه الطبيعي. ومنذ ذلك اليوم لم أجرأ على الاعتراض عليه. بل إنني بتُّ أخشاه. فلم يعد ذلك الشخص المحبّ الدافئ الكلمات. ولقد تبخرت دماثته المعهودة و خشنت لهجته و غابت كلمة "حبّابة" نهائياً من قاموسه. وحزنت لهذا الانقلاب في طباعه، لكنني حمّلت أبي مسؤولية ذلك. فلولا تقاعده ما انقلب عمران علي. وبدا لي وأنا أراجع حياتي أن أبي لم يهتم بنا يوماً. كان كل همه تحقيق مجده الشخصي ولذلك ترك مسؤولية تربيتنا لأمي. فلم يلاعبني يوماً وأنا صغيرة. وكانت تنوشني الحسرة حينما كانت أمي تصطحبنا إلى نادى المنصور فألاحظ الآباء يلاعبون أطفالهم. ولما كبرنا ازداد انهماكا بعمله وبكتبه. ولم يعد وقته يتسع لنا حتى في أيام الجمع والأعياد. وها هو الآن يقدم على التقاعد لنزوة في نفسه دون الاكتراث بمصيرنا. واقتنعت بأنه كان يتصرف بأنانية طوال حياته. واشتد استنكارى ً لتصرفاته حينما علمت من أمي أنه أخذ ينتقد حياتنا جميعاً. واخذ ويهاجم عمران على نحو الخصوص ويصفه بعدم النزاهة والأمانة. وملأني الخوف من أن تبلغ انتقاداته هذه عمران. وقد بلغته فعلاً. وأعتقد أنها بلغته عن طريق فائز. ففي يوم صرخ عمران في وجهي والشرر يتطاير من عينيه: "ما بال أبوك المجنون يدس أنفه في شؤني ؟ وما شأنه بي حتى يتدخل في حياتي؟ ألا يكفيه أنه خرب بيته ودمر عائلته؟" فعجزت عن الرّد عليه. بل وجدتني أتفق معه في الرأي بيني وبين نفسي. وصرت على مر الأيام أكثر مساندة له في موقفه المعادي تجاه أبي . لكن مساندتي له لم تكن لتخفف من غضبه عليّ. فكأنني أنا المسؤولة عن تقاعد أبي. وما عدت أجسر على سؤاله عن أي شيء يتعلق بحياتنا. وجفاني على مر الأيام ولم يعد يبادلني سوى عبارات قصيرة وبلهجة مبترة. وكف عن سهرات النادي نهائياً وأخذ يسهر مع زملاء العمل القدماء في المقهى. وكان الإحراج قد شاب سهراتنا في النادي . فما عاد بإمكان عمران أن ينفق ببذخ. وافتقدنا حرارة الاستقبال التي كنا نلقاها من قبل العاملين في النادي. حتى صديقاتي القديمات تولّين عني. فكرهت النادي ولم تعد نفسي تهفو لزيارته. وارتضيت سلوك عمران الفظّ كجزء من الأضرار التي لحقتني جرّاء تقاعد أبي. لكن هذا الرضا تعرض يوماً لهزة عنيفة كادت تنقلب إلى ثورة عاصفة. ففي يوم تلقيت مكالمة تلفونية من سمير الراضي سكرتير عمران أبلغني فيها أن عمران استغنى عن خدماته وعين بدله شابة جميلة اسمها نجاة مسعود. فاندلعت بين جوانحي نار مسعرة. واسودت الدنيا في عيني. هل يجرأ عمران الحنتوش على توجيه هذه الإهانة إليّ حقا؟عمران الحنتوش الذي كان موظفاً مهملاً في مكتب أبي فصنعت منه مقاولاً كبيراً؟. وطرت إلى مكتب عمران و الغضب يغلي في صدري. وصعدت سلالم العمارة قفزاً وما أن بلغت المكتب حتى ملكني خوف شديد. وظللت دقائق جامدة أمام الباب وجسدي يرتعش. ثم وجدتني أستدير على أعقابي وأعود من حيث أتيت. ومكثت طوال اليوم ملتهبة المشاعر كمن يجلس فوق فرن. وحينما عاد عمران مساء قلت له بلهجة عادية وأنا أبذل أقصى جهدي لضبط أعصابي: انصل بي سمير اليوم وأبلغني أنك استغنيت عن خدماته. فأجابني بلهجة مبتسرة: ذهب إلى جهنم وبئس المصير. كان يجب أن أستغني عنه من زمن . سألته: لماذا؟! ماذا فعل؟ أجاب بلهجته المبتسرة: اكتشفت أنه حرامي. فقلت: لكنك كنت مرتاحاً منه يا عمران وكنت تطري عليه دائما. فالتفت إليّ غاضب الوجه وقال بفظاظة: أظنني أعرف منك بشغلي. وألجمني وجهه الغاضب ولهجته الفظة فلم أجسر على سؤاله عن البديل. واعتبرت هذا العمل نقطة تحوّل حقيقية في عواطفه تجاهي. وأرقني ذلك لليالٍ عديدة. وحدثت أمي بأمر السكرتيرة الجديدة وبمخاوفي تجاهها فأنبتني على أفكاري. وقالت الى اين هذه الأفكار منبثقة من طبيعتي الأنانية في حب التملك. وذكرتني بأن عمران يقف مع عائلتنا في محنتها موقفاً نبيلاً. ثم حذرتني من القيام بأي تصرف يغضبه خصوصاً وأنه يعاني مثلنا من موقف أبي. فبدا لي كلام أمي معقولاً وهدأ نوعاً من مخاوفي. لكنني كنت أدرك أنني في كل الأحوال عاجزة عن أن أفعل أي شيء. وبدلاً من أن أغاضبه رحت أتملقه وأداريه أكثر من السابق. فأتت سياستي ثمارها و لانت لهجته معي وإن لم تعد كالسابق. ولم أفتح معه موضوع السكرتيرة الجديدة وتظاهرت كأن شيئاً لم يحدث. ولم يشر هو بدوره إلى هذا الموضوع. وكانت الأحداث تتسارع في بيت أهلي. ففجأة أعلنت شمس أنها قبلت بالزواج من شاب يعمل معها اسمه كرومي الطاهر. فسررت بالنبأ غاية السرور. وأملت أن تنطلق أخيراً من قوقعتها وتتصرف كانسانة طبيعية لا كإنسانة حالمة.. وكانت قد عودت نفسها منذ صباها على مقاطعة الأولاد وحتى البنات. . ولم ترث أي منا جمال أمنّا . لكنني على الأقل كنت منذ صباي أنتفع من العلم في تحسين مظهري لذلك اشتهرت بالإسراف في زينتي. وكنت ألتزم بأحدث أنواع المودة في ملبسي. أما هي فلم تحاول مساعدة الطبيعة يوماً في مظهرها. وكانت محتشمة وبسيطة جدا في ملابسها . ولم تحاول الإقتراب من الشبان في النادي أبداً. وكان صديقاتي يقلن عنها إن وجهها لا يقطعه "الطبر". وفوق ذلك كله اختارت معاشرة دواوين الشعر بدلاً من البشر. وعاشت في عزلة عن الناس. لذلك يئست كما يئست أمي من إمكانية زواجها. فمن من الشبان يرغب في الزواج من فتاة من هذا ا الصنف؟! وكانت أمي قد عهدت إلى زاهر بالاستقصاء عن كرومي الطاهر فـإذا به يكتشف أنه موظف بسيط يحمل شهادة الثانوية فقط ومن أسرة معدمة. فثارت أمي على شمس ثورة شعواء. وشاركها زاهر ثورتها. وكان أبي قد وقف إلى جانب شمس وتعهد بتنفيذ رغبتها. فنشبت مشادات حادة بين أمي وزاهر من جهة وأبي وشمس من جهة أخرى. والحقيقة أنني لم أستنكر موقف شمس ولا موقف أبي بيني وبين نفسي. فمن حق شمس أن تختار الرجل المناسب لها. وقد فعلت أنا ذلك. لكنني خشيت التعبير عن رأيي بعد انحياز عمران إلى جانب أمي وزاهر. ولحسن الحظ استجابت شمس لضغوط أمي وزاهر في النهاية. وانزوى أبي في غرفته من جديد. مرت أسابيع على هذه الحادثة وعاد الهدوء إلى بيتنا. ولم أر أبي خلال تلك الأسابيع إلا مرة أو مرتين. ولم أجسر على النظر في وجهه ولم يكلمني هو. ثم أخذ زاهر يكثر من التردد على بيتنا. وكلما حضر اختلى بعمران وأغلقا عليهما الباب. وعجبت لذلك، غير أنني اعتدت في حياتي الجديدة ألا أسأل عمران عن شيء. ثم قال لي عمران يوماً وهو مدلهم الوجه: حالة أبيك العقلية ساءت في الفترة الأخيرة يا افتخار وتشاور زاهر وأمك فيما يجب عمله واستقر رأيهما على علاجه في أحد المصحات المختصة لكنه رفض ذلك. فارتأيا حجزه في غرفة المكتبة ليخضع للأمر الواقع. صعقت لقوله وتمتمت مذهولة: أتقول أنهما حبساه في غرفة المكتبة؟ وكيف فعلا ذلك؟! أبي يحبس في بيته؟ فأجابني بغلظة: أنت لست أحنّ على أبيك من أمك وأخيك يا افتخار. وهذا الأجراء لمصلحته ولمصلحتنا جميعاً. من يدري؟ قد يشفى ويعود إلى عمله ويرجع كل شيء كما كان. في ذلك اليوم أسرتني حالة من الحزن عجزت عن الفكاك منها. وأمضيت ليلتي أتقلب على فراشي من دون أن تغمض عيناي . وقلبنت الأمر على وجوهه وراجعت سلوك أبي الغريب وما جرّه علينا من معاناة. وساءلت نفسي: "بماذا يمكن أن يفسر ذلك السلوك إن لم يكن سببه اختلال العقل؟" ووجدتني في النهاية أقر إجراء فائز وأُمي. فقد يشفيه العلاج ويمكنه من العودة إلى وظيفته فيعود كل شيء كما كان .. حتى شركة عمران ستعود إلى ازدهارها. وسيستعيد عمران طباعه الدمثة بالتأكيد وسيكون بإمكاني طرد السكرتيرة نجاة. وانقطعت عن زيارة أهلي نهائياً. وكنت أتلقي أخبار أبي من أمي عن طريق التلفون. فكانت ترد على أسئلتي عنه بأجوبة مبهمة . وقال لي عمران يوما: تهانينا يا افتخار. وافق أبوك اخيرا على العلاج. وسينفلونه عصر اليوم إلى "مصحة الشفاء للأمراض العقلية". شعرت بوخز أليم في قلبي فقلت بأسى: مسكين أنت يا بابا. من كان يتصور أن شخصاً مثلك يعالج في مستشفى للمجانين؟ فقال عمران في حزم:إ فهمي يا افتخار أن ذلك لمصلحته وعلينا أن نسر لموافقته. فذلك هو الطريق الوحيد لشفائه. وبالمناسبة أمك وزاهر ينتظرانك لمرافقتهما إلى المصحة. فهتفت في انزعاج: لا..لا. فليعفياني من هذه المهمة. فقال عمران بلهجة حازمة وهو مقطب الوجه: هذا أمر أمر لا يقبل النقاش يا افتخار. ورافقت أمي وزاهر إلى المصحة. وتمت إجراءات قبول أبي فيها بيسر. لكن الدقائق التي أمضيتها في غرفة المدير بدت لي كأنها ساعات. ولم أصدق أنني أفلت من المصحة أخيراً. ولم أجرؤ على زيارة أبي طوال قترة مكوثه في المصحة .. وفي أحد الأيام تجرأت وسألت أمي أن نزوره معاً. فاستجابت لرغبتي. وكانت تجربة لم أفكر في تكرارها. فقد التزم الصمت ولم يرد علينا بكلمة واحدة. ثم طردنا شر طردة. ولم تبلغني عنه بعد تلك الزيارة سوى أخبار غامضة. ومرة أخبرني عمران أن العلاج الذي يجربه الطبيب معه لم ينفعه، وأنه سيجرب معه علاجاً آخر. ثم إذا بي أفاجأ بعد أيام من ذلك القول بأنه مات. كيف حدث ذلك؟ أتراه مات بسبب خيبته فينا ؟
شمس
كيف سمح أبي لنفسه أن يموت هكذا؟ أفلم يكن يقتضيه الموقف أن يظل يتحداهم إلى آخر لحظة؟ لماذا أعلن عن هزيمته واعترف لهم بالنصر؟ ألم يوصني هو نفسه بألاّ أنهزم وألا أدعهم ينتصرون عليّ؟ ثم كيف تركني بعد أن بدأت أحبه من أعماق قلبي وأعرفه على حقيقته؟ أنا آسفة إذ أقول هذا القول. فلم أعرف أبي على حقيقته فعلاً إلا في شهوره الأخيرة. وحينما تكشفت لي حقيقته ملأ حبه قلبي. وبطبيعة الحال كنت أحبه من قبل. ولم أشعر تجاهه طوال عمري بغير الحب.. الحب الغريزي الذي يكنه الابناء لأبائهم.. خصوصاً وأن أبي كان حنوناً دافيء الصوت. لم اسمع صوته يوماً يرتفع لأي سبب من الأسباب. كانت أمي هي الآمرة الناهية ذات الصوت الحاد. وكان أبي يتدخل حينما تغلبها العصبية فيقول لها وهو يبتسم ابتسامته اللطيفة: "على مهلك معهم يا رباب.. فهم أطفال". وكنت في أعماقي اشعر بحب نحوه أكثر من حبي لأمي ربما لتعامله الليّن معنا.. وربما لأنني كنت أرفض حياة أمي الصاخبة وانشغالها الشديد بحفلاتها وبصديقاتها. ونما ميلي إليه حينما كبرت. وصارت سيرتي أشبه بسيرته. فأحببت الكتب كما يحبها. وكرهت صحبة بنات صديقات أمي حينما يحضرن برفقة أمهاتهن إلى منزلنا لأنهن كن يكرهن الكتب . وكنت أعتكف في غرفتي ولا أختلط بهن . فكان ذلك يغيظ أمي. وكثيراً ما لا متني على ذلك. وكانت تسميني "الوحشية". وضقت يوماً بلومها فقلت لها: "إنني لا أرغب في صحبة بنات صديقاتك لأنهن تافهات ولا أحب أحاديثهن". فردت عليّ في غيظ: "وهل المفروض أن يكون البنات في سنك عالمات؟ أفليس المفروض أن تستمتعي بحياتك وتتونسي معهن كما تفعل افتخار؟ سأشكوك إلى أبيك ليصلح لك عقلك". وكانت تلك المرة الأولى التي تقحم أبي في شأن يخصني. وتحدث أبي معي فعلاً في ذلك. قال لي بلهجته اللطيفة: ماما شكت لي من موقفك تجاه بنات ضيوفها يا شمس وهو موقف يحرجها. وقالت إنك ترفضين القيام بواجب الضيافة تجاههن. فأجبته أنا آسفة يا بابا. لكنني لا أطيق صحبتهن ولا أنسجم معهن. فتساءل مبتسماً: ولماذا لا تنسجمين معهن يا شمس؟ المفروض أن تنسجمي معهن فهن في مثل سنك. فقلت: لأنهن تافهات يا بابا. ولا أستسيغ صحبتهن. فتساءل مبتسماً: ولماذا لا تستسيغين صحبتهن؟ فقلت: لأنهن لا يتحدثن إلا عن المغنين والمغنيات والممثلين والممثلات وأنا لا أحب هذه الأحاديث. فتساءل وابتسامته تتسع على ثغره: وماذا تحبين إذن يا شمس؟ فقلت: أحب قراءة كتب الشعر والأدب يا بابا. فتأملني طويلاً وقد اانبسط وجهه ببسمة مشرقة ثم هز رأسه وقال: أنت على حق يا شمس. أنت على حق. وأظنه سأل أمي أن تكف عن مضايقتي وتدعني وشأني، فقد فعلت ذلك. وكانت تلك المناسبة مصدر تحول في عواطفي تجاه أبي. فيات أقرب إلى نفسي مما كان قبلاً. وبادلني الإهتمام بالرغم من مشاغله الكثيرة. ومرة سألني ونحن على مائدة الطعام : ماذا تقرئين هذه الأيام يا شمس؟ فقالت أمي: لا تفسد حياة البنت يا نذير ودعها تتمتع بحياتها. مالها والكتب؟ فلتدع الكتب لك. وضحكت افتخار وقالت: لا تحرمي شمس من أن تصبح شاعرة البلاد الأولى يا ماما كما أصبح بابا اقتصادي البلاد الأول. وعلّق زاهر ساخراً: أو ربما تصبح فيلسوفة البلاد اللأولى. فهل رأيتم وجهها مبتسماً يوماً؟ وهو بلا شك أشبه بوجوه الفلاسفة . فقال أبي باسماً: مهما قلتم عنها ستصبح شمس فخر العائلة يوما. وتنامى إحساسي بأن أبي أقرب أفراد عائلتي إليّ. وكم كان يحزنني ألاّ يتسع وقته لمشاركتنا جلساتنا . وعندما علمت بنبأ تقاعده أملت في أن يتيح لنا ذلك وقتاً أكبر لصحبته . لكنني خمنت أيضاً استهجان جميع أفراد العائلة لهذا الحدث . فوظيفة أبي كانت تمثل مكسباً للجميع. وبالفعل كانت أمي أشدنا استهجانا للحدث . ولعلها أدركت ما سيترتب عليه من تغير أساسي في حياتها. فلاشك أن مركزها الاجتماعي سينهار بعد تقاعد أبي وستصبح زوجة رجل عادي. ويمكن أن تقبل أمي أي شيء إلا فقدان مكانتها المتميزة. ومنذ كنت صغيرة كان يتراءى لي أن أمي تعد نفسها امرأة متفوقة. وكانت تتوقع من الجميع أن يعاملها كذلك، حتى أقرب الناس إليها كخالتي نوال مثلاً. لذلك لم تكن علاقتنا بخالتي طبيعية. فلم تكن تزورنا إلا نادراً. ولم نكن نزورها بالطبع إلاّ نادرا أيضا0وكان نمط حياتها وحياة أسرتها يختلف تماما عن نمط حياتنا ولكنها كانت شخصية لطيفة0 وكان من الطبيعي إذن أن تقيم أمي الدنيا ولا تقعدها بسبب تقاعد أبي. وكان أول رد فعل لها على ذلك الاتفاق مع زاهر وافتخار على خطة لمقاطعة أبي. وقد رفضت المشاركة في خطة المقاطعة. لكنني لم أشأ في الوقت نفسه الظهور بمظهر المتحدية لأمي. وظللت أتعامل مع أبي كما كنت أفعل قبل تقاعده. فلم أبادله الحديث إلا لماما ً. وكنت أمضي كل وقتي معتكفة في غرفتي بعد عودتي من العمل. ومع أن أمي با لغت في مقاطعته واضطرته إلى اختيار غرفة أخرى لنومه، لكنه لم يكترث للمقاطعة وواصل التحدث معها بصورة اعتيادية. واستمرت حياته في البيت عموماً شبه طبيعية، ولكن حدث فيما بعد احتكاك بينه وبين أمي تعرض فيه للإهانة والتجريح فغيّر أسلوب حياته وقاطع الجميع. واعتصم معظم ساعات النهار بغرفة المكتبة. وهالني أن يعيش أبي كالغريب في بيته وصممت على كسر عزلته. وانتهزت فرصة غياب أمي يوماً فزرته في غرفته. وكان غارقاً في القراءة. قلت له وأنا أبتسم في تردد: أنا آسفة يا بابا أن أقطع عليك قراءتك. فنحى كتابه جانباً وقال لي وهو يهش في وجهي: بالعكس يا شمس.. أنا مسرور لحضورك. وجلست على المقعد المجاور لمكتبه وانا أشعر بالحرج. ولم أدر كيف أبدأ حديثي معه. فقال لي مبتسماً: ماذا تقرئين هذه الأيام يا شمس؟ فقلت: أقرأ آخر ما يصدر من دواوين الشعر يا بابا. قال وهو يبتسم: أما آن الأوان لك لأن تسهمي أنت أيضاً في كتابة الشعر؟ نحن بحاجة إلى أديبة في عائلتنا يا شمس حتى لا يتصور الناس أننا لا نتعامل بغير الأرقام. فقلت: أنا قارئة يا بابا ولست كاتبة. فالكتابة تقتضي موهبة خاصة كما تعلم. قال وهو يبتسم ابتسامته اللطيفة: أنا واثق أنك تملكين الموهبة ولكنك تغضين من قدرك. فأنت يا شمس موهوبة في طريقة تعاملك مع الحياة. فكيف لا تكونين موهوبة في الأدب والشعر؟ قلت في حياء: شكراً يا بابا. أنت تطريني بأكثر مما أستحق. فقال : بالعكس. ربما كنت أطريك بأقل مما تستحقين. أفلا يقنعك كلامي وأنت ترين كيف يتصرف بقية أفراد عائلتي تجاهي؟ لكأنك الوحيدة من صلبي. قلت وأنا أتجنبه بأنظاري : أنا حزينة يا بابا على ما تلقاه من سوء المعاملة. فقال وهو يهز رأسه: لا داعي لأن يحزنك ذلك يا شمس فهكذا هم البشر في كل زمان ومكان.. لا يتصرفون إلا بوحي من مصالحهم الذاتية.. حتى أقرب الناس إلى بعضهم بعضا. فقلت في تأثر: ومع ذلك فأنا حزينة جداً يا بابا. وكم كنت أود ألا تتعرض لمثل هذا الموقف. فتساءل مبتسما: أتعنين أنه كان يجب عليّ ألا أفعل ما فعلته يا شمس؟ فقلت: أبداً يا بابا.. أبداً. هذا شأن يخصك ولا يخص أحداً غيرك.. أعني أنك أنت وحدك الذي يعرف إن كان ما أقدمت عليه صحاً أم خطأ. فقال بلهجة حزينة. ولكن يبدو أن جميع أفراد عائلتي الآخرين يخالفونك الرأي وعلى رأسهم أمك. فقلت: أنا لا أتفق معهم في ذلك يا بابا وأعتقد أنهم غير محقين في موقفهم. فقال وقد شع وجهه بالحنان: هذا متوقع من ابنة مثلك لا تبالي بزخرف الحياة منذ صغرها. ثم هز راسه وأضاف بأسى: خيبت أمك وأخوك وأختك يا شمس أملي فيهم . فقلت برفق: أعذرهم يا بابا وخصوصاً أمي فالصدمة كانت شديدة عليها. فقال بمرارة: لو كانت أمك تفكر تفكيراً عقلانياً لا عاطفياً، ولو لم تكن متمسكة بزبد الحياة وقشورها لا بلبها وجوهرها لقدرت سلامة موقفي ولما واجهته بمثل هذا الرفض. وسكت قليلاً ثم سألني وهو يحدق في وجهي : أخبريني بصراحة يا شمس.. هل أنت مقتنعة حقاً بسلامة موقفي؟ قلت بحرارة: أنا أعتقد أنك لا تتخذ مواقف مخطوءة يا بابا. فلك من رجاحة العقل ما يجنبك اتخاذ أي موقف خطأ. قال وهو يهز رأسه وقد فاض به الحزن : بل على العكس يا شمس. إنني اتخذت طوال حياتي مواقف مخطوءة. فأيدت الباطل بينما المفروض أن اداافع عن الحق والعدالة وكم يعذبني ذلك. وقد اتخذت تلك المواقف بغياب من عقلي وغلبة عاطفتي عليّ. فأمك قد غيبت ضميري. وأنا الآن أتخذ موقفاً سليماً للمرة الأولى من سنين طويلة يا شمس بعد أن استعدت عقلي وضميري. فقلت بحرارة: لا يا بابا. حاشاك أن تتخذ مواقف مخطوءة. قال وعيناه معلقتان على وجهي: أنا جاد في قولي يا شمس. هذا هو الموقف السليم الوحيد الذي اتخذته في حياتي. قلت في حرج : لماذا تقول ذلك عن نفسك يا بابا؟ هذا القول إجحاف بحقك. فقال بلهجة مخذولة: إنني خضعت لعاطفتي طوال حياتي يا شمس وصرت عبداً " للقصر" لكي أحقق مصلحتي الذاتية. وما كنت في يوم من الأيام سيد نفسي أقرر ما يمليه علي ضميري. وشر الأمور أن يستعبد الإنسان لمصلحته الذاتية يا شمس. وللأسف لم أتحرر من عبوديتي إلا بعد فوات الأوان. وستدركين معنى قولي هذا حينما أنتهي من كتابة مذكراتي ويتاح لك قراءتها. وستكشف لك هذه المذكرات حقيقة كثير من الأشخاص الذين يضمر لهم الناس الإحترام والتوقير وهم ليسوا سوى كذبة ودجالين ينتهكون العدالة ويعبثون بعقول المواطنين ويخدعونهم. وقد كنت أنا واحداً منهم يا شمس. وكم يمضني الألم والندم على ذلك . وإنني لأعده واجباً مقدساً عليّ أن أفضح هؤلاء الكذبة والدجالين لأكفّر عن خدمتي للباطل مهما تطلب مني ذلك من تضحية. نعم يا ابنتي شمس.. سأكفر عن ذنوبي بفضح "القصر" ونظامه الفاسد وخداعه للشعب وأفضح رجاله الخسيسين بما فيهم أبيك. . قلت في حماسة: مهما تحاول أن تغض من قدرك يا بابا فلن تكون سوى الأب العظيم. قال وهو يرمقني في حنان: أنت تقولين ذلك يا شمس لأنك تمثلين الابنة البارة. وأنا آسف لأن مشاغلي جعلتني أقصر في رعايتك . وغمرتني سعادة عظيمة وأنا أتبادل ذلك الحوار الحميم مع أبي . ومنذ ذلك اليوم صارت زيارتي له جزءا مهما من مجريات حياتي. وكنت أزوره كلما غابت أمي عن البيت. وهيأت لي تلك الزيارات الاطلاع على تفاصيل حياته الجديدة. وكنت أحسب أنه يعيش في عزلة قاسية. ففضلاً عن مقاطعة أفراد عائلته له انقطع عن زيارته كل زملائه واصدقائه القدامى. وكان ذلك يحزنني جداً ويوماً عبرت له عن مشاعري الأسيفة وانتقدت اصدقاءه الجاحدين. فضحك وهو منطلق الوجه وقال: لا تأسفي لذلك يا شمس. فأولئك الأصدقاء لم يعودوا يمتون لعالمي الجديد بصلة ولم يعد بإمكاني تقبل حياتهم االمزيفة. وأريدك أن تطمئني بأنني الآن لا أعيش بمعزل عن الأصدقاء. فقد استبدلت بأولئك الأصدقاء المزيفين أصدقاء حقيقيين.. أصدقاء بسطاء ذوي حياة نظيفة وقلوب طيبة وعواطف مخلصة وهم زملاء الطفولة. وكم يسعدني الاجتماع بهم في المقهى ومشاركتهم في لعب الطاولي والدومينو 0 وكم يمضّني الأسى حين أتذكر أن أمك حرمتني من صحبتهم طوال السنين الماضية كما حرمتني من أبويّ المرحومين اللذين ما كنت أزورهما إلا لماما . وكم أشعر الآن بالأسى والأسف لذلك وخصوصا وأن أمي كانت تشعر بغصة لذلك0 وكثيرا ما عاتبتني على ذلك وعيناها مغرورقتان بالدمع0 لكن أبي كان يطيّب خاطرها0 فقلت بحزن: أنا آسفة لذلك يا بابا0 وكلما توالت زياراتي لأبي أحسست أنه بات أكثر قرباً مني. وشجعتني هذه الصلة الحميمة على إشراكه في حياتي الخاصة. فحدثته عن كل ما كان يدور بيني وبين كرومي. وكانت علاقتي بكرومي قد بدأت تأخذ طابعاً جدياً وتجاوزت مرحلة الزمالة والإعجاب المتبادل. ولم أكن أتخيل قيام علاقة جدية بيني وبين كرومي. فقد كنت منطوية على نفسي طوال حياتي . هكذا عشت في البيت وفي المدرسة. وحينما كنت تلميذة في الإعدادية وفي الثانوية لم أعقد صلة حميمة مع أي زميلة من زميلاتي. وكان حالي كذلك في سنوات الجامعة. وقد حاول بعض زملائي التقرب إليّ ّفلم يلقوا مني تشجيعا0 وقد عزا زملائي سلوكي إلى كبرياء مبعثها منصب أبي الرفيع. وعشت سنوات الجامعة عيشة انعزالية. وكنت أصرف وقت فراغي كله في مكتبة الجامعة . فأطلق عليّ زملائي لقب "الراهبة". ولما عينت موظفة في وزارة الثقافة حملت معي سلوكي الانطوائي إلى مقر عملي. وكان زملائي يتعاملون معي بحذر كبير وإن خالط حذرهم شعور بالاحترام. ثم عّينت رئيسة لقسم الصحافة وصرت مسؤولة عن مراقبة الصحف والمجلات. فكان موظفي قسمي مسؤولين عن تقديم التقارير لي عن الصحف والمجلات. وكان كرومي واحداً من أولئك الموظفين. ولم يلفت كرومي انتباهي لشهور عديدة. كان شاباً وسيما بلا شك لكن وسامته لم تترك انطباعاً في نفسي . فالوسامة اقترنت في ذهني ً بالجمجمة الفارغة. ولعل مرجع ذلك إلى معرفتي بأخي فائز. وكان كرومي يتعامل معي بالأسلوب الحذر الذي يتعامل به زملاؤه الآخرون. لكنني كنت احدس أنه لم يكن يرتاح لي. وكان يظهر أمامي أحياناً نوعاً من الاعتداد بنفسه لا مبرر له. لكن ذلك لم يكن يثيرني منه. وظللت أعامل الجميع بنفس التهذيب والاحترام. فأدركوا أن الاحتشام طبع في وليس تصنعا. وزاد ذلك من احترامهم لي. وكان من جملة من اقتنع بذلك كرومي. وكنت أحمل معي إلى غرفة عملي بعض الدواوين الشعرية أطالع فيها في أوقات فراغي. ولاحظت أكثر من مرة أن كرومي يطيل النظر إلى دواوين الشعر الملقاة على مكتبي. وكثيراً ما فاجأته وهو يهم بالتحدث إليّ ثم يحجم عن ذلك، وفي يوم كنت منصرفة إلى مطالعة ديوان شعر حينما دخل عليّ مكتبي. فنظر إلى الديوان طويلاً ثم سألني بلهجة مترددة: هل تسمحين لي بسؤال فضولي يا آنسة شمس؟ فقلت: تفضل. فسألني: هل تحبين قراءة الشعر يا آنسة شمس؟ فقلت: فعلاً.. أنا أحب قراءة الشعر. فقال بلهجته المترددة: أنا خمنت ذلك. فكثيراً ما أرى دواوين الشعر فوق مكتبك. فقلت: ليس هناك عمل كثير كما ترى وأنا أستمتع بقراءة الشعر. فصمت لحظة متردداً ثم سألني وهو يختطف من وجهي نظرات سريعة: إذن هل لديك مانع في أن أعرف رأيك في بعض القصائد الشعرية؟ فقلت: لكنني لست ناقدة يا أستاذ كرومي وما أنا سوى قارئة. فقال في حماسة: لا تقلّلي من شأنك يا آنسة شمس. لا بد أن تكوني متذوقة ممتازة ما دمت تهوين قراءة الشعر. فالذين يهوون الشعر هم بلا شك الطبقة المتميزة من القراء. فضحكت وقلت: لا تبالغ يا أستاذ كرومي. ولكن يسرني أنك متحزّب للشعر فأنا أهوى الشعر حقاً. فقال وهو ينظر إليّ في اعتزاز: إذن فاسمحي لي أن أقول لك يا آنسة شمس أنني لست متذوقاً للشعر فقط لكنني أكتبه أيضاً. قلت في شيء من الدهشة: أتعني أنك شاعر يا أستاذ كرومي؟ فقال: أزعم ذلك. وبودي لو تفضلت بإصدار حكم عادل عليّ وصارحتني إن كنت شاعراً حقاً أم شويعر. وضحك ضحكة خفيفة. ثم عاد يقول مستثنياً: لكنني لا أحب أن أفرض عليك قراءة شعري يا آنسة شمس فربما لا يعجبك. فأنا بعد كل شيء شاعر مبتدئ. فقلت: أبداً يا أستاذ كرومي. يسرني جداً أن يكون أحد زملائي شاعر. كان ذلك بداية لصلة حميمة انعقدت بيننا. وظل كلانا متحفظاً تجاه الأخر لشهور. انحصرت علاقتنا في جو الشعر والشعراء. وحمل إليّ العديد من قصائده. وكان يعتذر دائماً لكونها قصائد اجتماعية أو سياسية وليست عاطفية. وكان يعتقد أن هذا النوع من الشعر بعيد عن ذوقي لأنني لست معنية بهموم الفقراء. ومرة قال لي وهو يضحك: يؤسفني يا آنسة شمس أنني لم أكتب شعراً عاطفياً. فلم أمر بتجربة عاطفية تحملني على كتابة هذا النوع من الشعر. ولو كنت كتبته لافتقدت صفة الصدق وهي أهم صفات الشعر الجيد . أما شعري الاجتماعي فينبعث من صميم حياتي ومن محيطي الذي أعرفه حق المعرفة. فأنا أنتمي إلى صميم الطبقة المسحوقة. لذلك مهما يوجه إلى شعري من نقد فلا يمكن أن يتهم بأنه يفتقد الصدق. ويؤسفني أنني لا أمتلك شعراً عاطفياً أرضي به ذوقك. فقلت له : إعلم يا أستاذ كرومي أنني أتذوق الشعر الاجتماعي بقدر ما أتذوق الشعر العاطفي. وإن الشعر الذي ينتصف للفقراء يلقى هوى في نفسي ، لأنني وإن لم أعرف الفقر لكنني أستنكر الظلم الذي يقع على الفقراء وأتألم لحياتهم الصعبة، وانا أرفض المظاهر الزائفة التي تغلف حياة الأغنياء. فلتكن مطمئناً بأن الشعر الاجتماعي يستهويني أيضاً. تلقى كرومي قولي هذا ببهجة عظيمة فسطع وجهه بسرور غامر وبدا كأنه يلقي حملاً ثقيلاً عن كاهله. ويخيل إلي أنه لم يكن يتوقع صدور مثل هذا القول عني . ولعل ذلك الحوار كان نقطة تحول في علاقتنا. فمنذ ذلك اليوم بدأ يتخلى عن تحفظه تجاهي وعن تهيبه حينما يتحدث إليّ. وهيأ ذلك لشخصيته أن تبرز أبعادها على حقيقتها. ويوماً بعد آخر قويت قناعته بأنني لست ممن يحتقرون الفقراء وإن لم أكن أنتمي إليهم وأنني صادقة في عواطفي تجاههم. فراح يفتح صفحات حياته أمامي. حدثني أنه تربى يتيماً وأن أباه توفي عنه وهو في الرابعة من عمره. وأن أمه هي التي تولت تربيته. وأنه وحيدها. وأنها تعمل"فرّاشة" في إحدى مدارس البنات. وأنه لم يستطع إكمال تعليمه العالي وتوظف بالشهادة الثانوية وأن أمه رفضت التخلي عن وظيفتها لتمكنه من ادخار مرتبه لنفقات زواجه. وكان يختم الكلام عنأمه قائلاً وهو يضحك: "إن أعظم حب عرفته حتى الآن يا آنسة شمس هو الحب المتبادل بيني وبين أمي.وليتك ترينها كيف تتغزل بي كلما ارتديت ملابسي متوجها إلى الوظيفة0 لكن هذا الحب لا يتيح لي مع الأسف التحليق في سماوات الشعر العاطفي لأنه حب غريزي". وهكذا تسارعت نبضات العلاقة بيننا فلم نصحو على نفسينا إلا ونحن غارقان في حب جارف. وراح يمطرني بقصائده الغرامية الملتهبة . وحجب الجو الشعري الذي أحاط بعلاقتنا وآقعنا المرير فلم نفكر،لا أنا ولا هو، إلى أين يقودنا هذا الحب. وبالرغم من أن كرومي كان يعتز بشخصيته، بل حتى بفقره لكنه لم يكن يعتقد بأن حبنا يمكن أن يقود إلى الزواج. وصحيح أنه لم يكن يشعر بالدونية تجاهي لكنه كان يرى أيضاً بأن ردم الهوة الاجتماعية بيننا أمر غير واقعي. واكتفى بهدهدة حبّه بالقصائد العاطفية التي كانت كل منها تتفوق على الأخرى. وكانت قصائده تثير في قلبي نشوة تنسيني التفكير في وآقعنا. وأحسب أننا مررنا بفترة من الحب الذي يطلق عليه اسم "الحب الأفلاطوني". فلم يكن يعنينا التفكير في النهاية الطبيعية لحبنا. ولم يشغل بالنا التفكير في الزواج. لكننا وجدنا أنفسنا أخيراً نتحاور في هذه القضية. وتبدت لنا منذ اللحظة الأولى قضية عويصة. ورفض كرومي في البداية مناقشتها رفضاً حاسماً. كان يقول: "مسألة زواجنا يا شمس هي من رابع المستحيلات". وكان يردد: "أنا إنسان واقعي يا شمس ولست معتاداً على خداع النفس". وحينما كنت ألح في مجادلته كان يرد عليّ في مرارة: "سأكون مجنوناً وأكبر أناني لو وافقت على انزالك من أعلى السماوات إلى حضيض القاع". وكان يرى أيضاً أن أعظم الموانع في زواجنا هي وضع أمّه. فلم يكن يفكر تحت أي ظرف من الظروف بالتخلي عنها. كان يقول: "كنت مسؤوليتها طوال حياتها وستكون مسؤوليتي طوال حياتي. ولن تعيش في غير بيتي00بالرغم من أننا كثيرا ما تجادلنا في ذلك وكانت تصر إصرارا شديدا على العيش لوحدها عند زواجي "0 وحينما كنت أرد عليه بأنها ستكون أماً ثانية لي كان يبتسم بمرارة ويقول: "العاطفة شيء والواقع شيء أخر يا شمس. أنت من طينة وأمي من طينة أخرى". وعندما كنت أشتد في مجادلته كان يقول لي وهو يهز رأسه بحزن: "أنا لا أنوي يا شمس أن أخضع أمي أو أخضع نفسي لهذه التجربة الفاشلة التي قد أندم عليها طوال حياتي" وحينما أوشكت أن أقهر كل موانعه ألقى في وجهي بما كان يتصوره المانع الفصل. فصارحني بأنه يمارس نشاطاً سرياً ضد " القصر". وأن ذلك قد يلقي به في السجن يوماً وأنه لا يمكنه أن يسمح لنفسه بأن يحوّلني إلى زوجة سجين. فلم يزدني ذلك إلا إصراراً على موقفي. وكلما طال الجدل بيننا حول موانعه تكشفت لي جوانب جديدة من خلقه شدتني إليه بقوة أعظم. وأفلحت أخيراً في إسقاط موانعه كلها فرفع راية التسليم. وكان عليّ حينئذ أن أجابه موانعي العائلية. وكنت مدركة أنها ستتمحور حول موقف أمي. ومع ذلك قررت اختبار موقف أبي أولاً. قلت له: أحب أن أعرف يا بابا إن كنت مقتنعاً بزواجي من كرومي من كل قلبك أم أنك تجاملني. فأجابني بحرارة : بل مقتنعا من كل قلبي يا شمس. فقلت: بالرغم من كل ظروفه السلبية التي حكيت لك عنها؟ أجاب: المهم يا شمس الحب الذي يربط بينكما . ومادام هذا الحب متوفراً لديكما فستكونان قادرين على تجاوز كل السلبيات. فقلت: حتى وهو معرض للسجن في أية لحظة بسبب نشاطه السياسي يا بابا؟ فقال بحماس: بالعكس يا شمس. هذا الأمر يجعله جديراً بكل الإجلال والاعزاز. فإنسان مثله يناضل في سبيل العدالة الاجتماعية ويدافع عن المستضعفين إنسان راق يا شمس. وان التضحية التي يبذلها أمثال هؤلاء الأشخاص من أجل الخير العام وعلى حساب مصالحهم الذاتية لهي من أعظم التضحيات. وإنهم لمن أشجع الناس وأنبلهم. فلا تفرطي فيه. فقلت: ولكن كيف سأتغلب على معارضة أمي يا بابا وأنت تعرف أفكارها عن الزوج الأمثل؟ فقال في حزم: اسمعي يا شمس. هذه قضيتك وليست قضية أمك. وينبغي لك أن تدافعي عنها إلى آخر رمق وألا تنهزمي مهما تكن الظروف. واعلمي أنني معك حتى النهاية. وبدأت الحرب الطويلة مع أمي وفائز طبعاً. وكنت أتوقع أن تكون حرباً قاسية لكنني لم أتصورها بتلك القسوة. ولقد استقبلت أمي نبأ رغبتي في الزواج بارتياح أولاً ووعدتني بالسؤال عن كرومي. وعهدت إلى فائز بالاستفسار عنه. فلما تكشفت لها الحقيقة جنّ جنونها وبدا كأن السماء توشك ان تنطبق على الأرض. ورفضت هي وفائز بشدة فكرة الزواج. ولما واجهتهما بموافقة أبي أثار ذلك حفيظتهما عليه. وقامت بينهما وبينه مشادات عنيفة وجّه فيها فائز لأول لأبي عبارات مهينه . ولما فشلا في إخضاعه وخيل إليّ ان مسألة زواجي باتت مسألة وقت إذا بفائز يجابهني بتهديد خسيس. ومع أنني كنت اعرف انه إنسان تافه لم يقرأ يوما كتابا غير كتبه المدرسية، ولم يعن يوما بغير تربية عضلاته، بل وغبي ولا شخصية له ، لكنني لم أتصور انه وضيع للغاية. فقد راح يتجسس على كرومي ويرصد تحركاته فاكتشف أنه يمارس نشاطاً سرياً ضد "القصر". فاتخذ من اكتشافه هذا سلاحاً بتاراً، ووضعني أمام خيار صعب؛ إما أن أصرف النظر نهائيا عن هذا الزواج، أو ان يزج بكرومي في السجن. وتخيلت ما سيحدث لام كرومي لو ألقي بابنها في السجن. ستموت غما بلا شك وإذا تكشف لكرومي دوري في موتها فلن يغفر لي ذلك أبدا. وبعد صراع مرير مع نفسي انتهيت الى قرار بتأجيل الزواج. أبلغت كرومي بقراري وشرحت له دوافعه فأيده في الحال. وحمل قراري نهاية للمعارك في بيتنا. وعاد أبي الى عزلته القديمة. مرت أسابيع على هذا الحدث. وفي عصر يوم تناهى إلى مسامعي هرج ومرج صادر من الطابق الأسفل فهبطت مسرعة . ورأيت زاهر واقفا في البهو وهو محتقن الوجه هائج الملامح. ولما اندفعت نحو غرفة أبي اعترض طريقي وأمسكني من كتفي وهزني بقوة وهتف بلهجة ضارية: "ابتعدي عن الغرفة ولا تتدخلي فيما لا يعنيك". أرتعش جسدي رعبا وأنا أحدق في وجهه الشرس. وخيل إليّ أنني لم يسبق لي ان عرفت هذا الشخص المتوحش أبدا. وانسحبت الى غرفتي وقد افترستني حالة من الذهول. وأخذت الأحداث تتسارع في بيتنا وأنا أرقبها كالمشلولة. ونجح فائز في تحييدي مستغلا حبي لكرومي وخشيتي على مستقبله. فقد قال لي بلهجة حاسمة: "إفهمي جيدا ما أقوله لك يا شمس. إذا تدخلت فيما يجري في البيت كان في ذلك نهاية كرومي". وطوال فترة حبس أبي في غرفة المكتبة ثم في الغرفة الخارجية كنت أتصرف كالمنومة مغناطيسيا. ولم أدر ماذا أفعل. وحينما نقلوه إلى "مصحة الشفاء" أصبت بجزع هائل وصممت على انقاذه ولتكن العواقب ما تكون. وأبلغته إنني سأستعين بأصدقائه القدامى لتحريه من المصحة لكنه رفض ذلك. وكنت قد بدأت أرتاح لوجوده في المصحة. فقد أتاح لي ذلك تمضية ساعات طويلة معه وان لم نكن نتحدث الا قليلا. وكانت قد لازمته حالة من الجمود والصمت. فكان يصرف كل وقته في القراءة. وفي زيارتي الأخيرة له رأيته هامداً في فراشه وقد تلبّس وجهه انكسار فاجع. ولما كلمته فاضت عيناه بالدمع. فروعني منظره وأخذت أصرخ باكية: "أجبني يا بابا .. ماذا بك؟ ماذا حصل لك؟ كلمني .. أنا أفديك بروحي". و سمع الممرض المشرف صراخي فحضر إلى الغرفة مهرولا. وأخبرني انهم عالجوه صباحا بالصدمات الكهربائية. فهرعت إلى الدكتور صبحي وأنا أرتعش غضبا0 فهدأني وأكد لي أن الصدمات الكهربائية لن تصيبه بأي أذى . وتناهبتني تلك الليلة كوابيس مفزعة كان يتبدّى لي فيها أبي مسجى على فراش الموت. وا أسفاه! لقد صدقت مخاوفي وفارقني أبي الى الأبد. فلماذا مت يا أبي؟ أ تراك مت يأسا من هذه الدنيا الخسيسة؟ تمت
حكايات من بلدنا رواية الدكتاتور مسرحية كتابات مبكرة نقدية عهد جديد مجموعة قصص صراع مجموعة قصص السؤال رواية حياة قاسية مجموعة قصص ذكريات أدبية سيرة حياة التركة والجدار مسرحيتان هيلة رواية الغرباء واللص مسرحيتان القهقهة مجموعة مسرحيان العنكبوت والغائب مسرحيتان الهوية رواية بيت الزوجية مسرحية الشيء مسرحية تساؤلات خواطر فلسفية القضية مسرحية امرأة ضائعة رواية البهلوان مجموعة مسرحيات قصة حب والطائر روايتان الخاطئة رواية موت نذير العدل رواية
#شاكر_خصباك (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أين الحقيقة؟
-
نهاية إنسان يفكر
-
الواعظ
-
التركة
-
خواطر فتاة عاقلة
-
العنكبوت
-
الخاطئة
-
رسائل حميمة
-
انطوان تشيخوف -دراسة نقدية-
-
الرجل الذى فقد النطق
-
امرأة ضائعة
-
صراع -مجموعة قصصية-
-
بيت الزوجية -مسرحية-
-
ذكريات ادبية
-
القهقهة ومسرحيات اخرى
-
الطائر
-
كتابات مبكرة
-
مسرحية -الغرباء-
-
عالم مليكة
-
البهلوان ومسرحيات اخرى
المزيد.....
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|