|
حرب غزة.. الدين والسياسة والإنسان 1-2
محمد المحمود
الحوار المتمدن-العدد: 2550 - 2009 / 2 / 7 - 03:36
المحور:
الارهاب, الحرب والسلام
لا بد - إذا ما أردنا الوصول إلى مستوى مقبول من الحلول - من نزع فتيل عملية تديين الصراع، تلك العملية التي تحاول حماس وأشياعها فرضها على واقعنا المدني . عملية التديين - في مؤداها المنطقي - هي سير في اتجاه (اللا حل)، أي نحو استشكال المشكل، وليست - كما يتوهم المؤدلجون - سيرا في اتجاه الحل النهائي . فلا نهائيات في عالم السياسة. بينما في الدين؛ تصبح النهائيات ضرورة دينية، تتعالى على كل وعي سياسي واقعي، بل تتعالى على كل المفردات الأساسية للنظرية السياسية، وأهمها الحدود الفاصلة بين الأوطان، وهي الحدود التي تتحدد من خلالها منظومة الحقوق . وكما تفتح عملية تديين الصراع، جبهة الاستشكال على أفق المعنى المتعالي - من خلال فتحه على أفق التاريخ اللامحدود - تمارس - أيضا - فتح هذا الاستشكال على الأفق اللامحدود للجغرافيا السياسية والبشرية. وهذا ما حدث ويحدث بالفعل. ويمكن ملاحظته بسهولة من خلال (أدعية القنوت) التي أصبحت خطاب عداء ضد اليهود والنصارى، عداء شامل، لكل اليهود وكل النصارى. تعميم الدعاء شرط لاحق لعملية التديين. وهنا، بدل أن يكون الاستشكال محدودا بحدوده الطبيعية، يجري تعميمه؛ ليكون صراعا بين أكثر من ثلاثة آلاف مليون من البشر، يواجه بعضهم بعضا، في حالة: (عداء مفتوح) على اللانهائي في التاريخ والجغرافيا.
إن لك أن تتصور مسلما في أستراليا، ومن على بعد آلاف الأميال، يعادي مواطنه الأسترالي اليهودي، على خلفية إشكال سياسي في الشرق الأوسط؛ باعتباره عداء يهوديا على الإسلام. بل - وبحكم فرضيات الخطاب التقليدي، التي تجمع اليهودي والمسيحي في سلة سياسية واحدة - سيعادي كل مواطنيه المسيحيين، وسيتعامل معهم - ولو على المستوى النفسي - بذهنية عدائية تفترض الصراع الأزلي. إذن، بدل محاصرة الصراع - كحالة مرضية - يجري تعميمه. وبما أن حل أية مشكلة يبدأ بمحاصرتها، وردها إلى أضيق الحدود، تمارس عملية التديين سلوكا مضادا؛ فتقوم بفتح الجبهات على الصراع الدائم تاريخيا، والشامل جغرافيا. فنجد أنفسنا في كل مرحلة أبعد عن نقطة الحل المعقول.
تديين الصراع يعني أن السلام مستحيل، لا لمجرد تعميم الصراع فحسب، وإنما لكون العملية السلمية ذاتها، غير متسقة مع حقيقة الخطاب الديني التقليدي السائد في العالم الإسلامي اليوم. ففي هذا الخطاب لا يجوز السلام الدائم؛ لأنه يعني (إسقاط) حكم الجهاد، الذي يفرض علينا - حسب تصورهم - أن نكون في حالة قتال دائم مع البشر، كل البشر !، وأن تكون فترات الهدنة فترات استثنائية، تفرضها موازنات القوة، وحسابات الصراع السياسي. وهذا سبب أن حماس في تفاوضها مع إسرائيل، تشترط هدنة مؤقتة، ولا تقبل بسلام دائم.
العالم كله، عجز - ويعجز وسيعجز - عن فهم مطالب هؤلاء الذين يطالبون بسلام مؤقت، بينما هم مدعوون إلى سلام دائم. العالم - وكما يعبر صراحة على لسان بعض صرحائه - يعجب من هؤلاء يلهثون وراء التهدئة المؤقتة، ويرفضون السلام إذا ما كان شرطه أن يكون دائما، ويعدون هذا من قبيل طلب: استراحة محارب !. بينما لو اطلع على شيء من الأطروحات النظرية التقليدية؛ لعلم أن السلام الدائم - وفق مفهومها - لا يجوز، وأنها - في العمق - في حالة حرب، تضاد كل مفاهيم السلام.
2-12- عملية التديين تؤدي إلى خلق بيئة منحازة تمام الانحياز للأنا، كل الأنا، ورافضة للآخر، كل آخر. لا أقصد هنا، مجرد الانتماء الكامل إلى دوائر الأنا، فهذا شيء إيجابي، بل وواجب إنساني، وإنما أقصد التسامح اللامعقول مع كل أخطاء من يتماس مع مفردات الأنا؛ لمجرد إرضاء جذوة العداء للآخر. مما يعني أن كل من أطلق ولو رصاصة فارغة على هذا الآخر، فهو قديّس؛ مما كانت جرائمه، فكل جريمة - ولو كانت بحجم إبادة مليون مواطن - مغفورة بفرقعة رصاصة فارغة، بل - وأحيانا - بكلمة فارغة؛ لمجرد أنها تشكل نوعا من الانحياز الوجداني لدوائر الأنا.
هذا الوضع لا ينطبق على التدين الديني فحسب، وإنما يشمل - أيضا - التدين القومي (الذي لا يختلف في أنساقه عن التدين الديني)، الذي مارس - ويمارس - الغفران ذاته مع كل ما له علاقة بالأنا. فعبدالناصر، رغم كل الهزائم، ورغم كل المعتقلات، ورغم كل سنوات الرعب التي خنقت أنفاس مواطنيه، لا زال في الشعور القومي (ولا أقول: العقل القومي !) بطلا ومناضلا، لا لشيء، إلا لأنه أطلق الكلمات الفارغة في الهواء العاري !. وصدام، الذي دخل التاريخ كماركة مسجلة في الإجرام، لاتزال الجماهير البائسة تهتف باسمه، وتذرف الدموع كلما تذكرته وهو يهوي من على منصة الإعدام. وزعيم الحزب الإيراني في لبنان، الذي تسبب في دمار هائل في الجنوب اللبناني، وأسقط - بحماقته - آلاف الضحايا، واستباح بيروت بعد ذلك، لا تزال الجماهير تمنحه الغفران التام، بل وترفعه إلى مقامات الأبطال. وخالد مشعل وإسماعيل هنية والزهار...إلخ، بدل أن يحاكموا - ولو فكريا ووجدانيا - أصبحوا قادة الانتصار!.
هذا الغفران الذي تتغمد به الجماهير كل من يتسلق على شعاراتها، ويُوهمها بالتماهي مع دوائر انتماءات الأنا، هو الذي يؤدي إلى استمراء الكوارث، واستنساخها، ولكن على صورة أشد كارثية. ويفتنون في كل شهر وفي كل عام وفي كل عقد، فلا يتوبون؛ لأنهم لا يدركون أنهم يفتنون. وبينما إسرائيل تحقق الانتصار تلو الانتصار، وتحاسب قادتها - رغم كل هذه الانتصارات - على الإخفاقات الثانوية حسابا عسيرا، يحظى قادة الهزائم لدينا بالتمجيد الذي يصل درجة التوثين. بل، وعندما تحدث المعجزة، ويعترف القادة المنهزمون بالهزيمة، ويعرضوا ملامح الإخفاق الهائل، تجأر الجماهير - من أعماق حناجرها - بصوت واحد: نفديك بالروح وبالدم يا (مهزوم).
حالة التديين هذه، التي تمارس - أحيانا - بمشاعر قومية، تؤدي إلى حالة عماء سياسي وحقوقي تام. فرغم عداء صدام حسين لكل ما هو إسلامي، ورغم قمعه الوحشي لكل الحركات الإسلامية، فما إن رفع راية العداء للآخر؛ حتى نسي الإسلامويون - قبل غيرهم - من هو، ومنحوه التأييد، وأخذوا يمارسون التنظير السياسي للانتصار القادم على يد القائد المهيب. وعندما تهاوى، لم يصدقوا، وعندما شنق، قاموا بمنحه الغفران التام، وهتفت التقليدية - التي كانت من قبل ترميه بالكفر البواح - تدبج فيه قصائد الرثاء، وتتقبل فيه واجب العزاء.
يوم شنق صدام، يوم تحققت العدالة المسبية المتواضعة على أرض الواقع، خرجت غزة - بكل أطيافها، ومن الإسلامي ! - حاملة صورة (الشهيد العظيم)، وذارفة الدموع على أكبر مجرم عربي عرفه تاريخ العرب. وهذه الإسلاميات ذاتها، هي التي تتحالف اليوم مع نظام قمعي، قام قبل ربع قرن تقريبا، بأبشع عملية إبادة لشعبه، وذلك عندما نسف إحدى مُدنه المتمردة عليه؛ فسقط في ساعة واحدة - جراء ذلك - أكثر من ثلاثين ألف قتيل، في واقعة شهيرة، يعرفها الجميع. واليوم، ها هو النظام ذاته، يتباكى على ألف قتيل في غزة، ويذرف الدموع غزيرة، وتصدقه الجماهير، ويدعو له المتأسلمون بدوام العز، وبمزيد من التمكين.
حالة التديين هذه، تسمح بحراك وجداني، سرعان ما يتناسى كل شيء في دوامة الجنون الشعاراتي. هذه الحالة، لا تقود إلى تعقّل، بقدر ما تقود إلى انحياز للمعنى المتعالي على حساب الإنسان. ولهذا، يتم تجاهل الإنسان، وما أصاب الإنسان؛ عندما يحضر الأقوى: الشعار أو المعنى المتعالي المرتبط - وجدانيا - بعالم الأنا. وهنا، يصبح كبار المجرمين، الذين انتهكوا الإنسان العربي والمسلم جسدا ومعنى، أبطالا تاريخيين، ومحررين منتصرين؛ حتى وإن قتلوا عشرات الألوف من مواطنيهم. ويصبح الآخر (أمريكا وأوروبا مثلا) موضوعا لترسانة من اللعنات؛ لمجرد أنه تردد في تأييد قضيتنا على النحو الذي نراه ونريده، أي لمجرد أنه تردد في قبول وجهة نظرنا الخاصة لقضايانا الخاصة، والخاصة جدا.
معنى هذا أن المسألة - لدينا ليست في قيمتنا الإنسانية، التي نغضب لانتهاكها، وإنما المسألة - كما يصورها لنا وعينا المأزوم - في تحديد مصدر الانتهاك. فنحن - للأسف - مستعدون للتسامح مع كل من يدخل في دوائر الأنا، ولو كان مجرما بحجم صدام حسين، وغير قادرين على بذل شيء من التسامح مع من يدخل في دوائر الآخر، ويتجاوز دوائر الأنا، ولو كان عدوانه علينا يتمثل في كلمة عابرة لا توافق أهواءنا. وواضح هنا، أننا لن نتجاوز أزمتنا ما لم تكن حساسيتنا لإنسانيتنا في أعلى درجاتها؛ بصرف النظر عن الطرف الذي يحاول انتهاكها، سواء كان من الأنا، أو من الآخر؛ لا فرق.
2-13- تديين الصراع يقود إلى حالة من فوضى انتشار الخرافة والدجل باسم الدين، وبمفردات الدين. فمن روائح المسك المنبعثة من أجساد الموتى، إلى تصور أن الملائكة ترافق وتحارب، مرورا بالأصابع الميتة المرفوعة بالتشهد، والأنوار المنبعثة من الأضرحة، كلها تشهد بانبعاث عالم خرافي، يضع الخرافة في سياق الدين، ويؤكدها - أيضا - من خلال الدين.
من يتأمل الخطاب التقليدي، واستعراضاته الإعلامية التي رافقت حرب غزة، سيجد أن الخرافة بدأت تجد طريقها، حتى إلى أولئك الذين يحاولون التوشح بمستوى من العقلانية السياسية، ولكن تغلبهم سياقات الخطاب. لقد أصبحنا نسمع كثيرا من الأكاذيب التي تذكرنا بأكاذيب الكذاب الشهير: عبدالله عزام، إبان الحشد لحروب الأفغان، عندما كان يحكي تلك الأكاذيب، بعد تطعيمها بمفاهيم الدين. وكان السذج يصدقون، ولا زالوا - حتى الآن - يصدقون.
#محمد_المحمود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
من العقل المتذكر إلى العقل المتفكر
المزيد.....
-
سوريا.. قتيلان بهجوم لداعش جنوبي الرقة
-
جبل الشيخ.. -كنز إسرائيل- الثمين جنوبي سوريا منذ عقود
-
بعد هدنة برعاية أميركية.. هدوء حذر في مناطق سيطرة -قسد-
-
منذ بدء حرب أوكرانيا.. ما تداعيات أكبر عملية اغتيال بروسيا؟
...
-
من دمشق إلى حلب.. فيديو لإقلاع أول طائرة منذ سقوط الأسد
-
قتلى فلسطينيون بغارات جوية.. و-كارثة- بمستشفى كمال عدوان
-
مسؤول سوري يثير -موجة- جدل.. ماذا قال عن المرأة؟
-
شقيق الجولاني -الوزير- في دائرة الضوء.. المشهد يتكرر
-
نتنياهو يحدد مدة البقاء -العسكري- في جبل الشيخ
-
إدارة ترامب تحث الديمقراطيين على -قرار- بحق الجولاني
المزيد.....
-
لمحات من تاريخ اتفاقات السلام
/ المنصور جعفر
-
كراسات شيوعية( الحركة العمالية في مواجهة الحربين العالميتين)
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
علاقات قوى السلطة في روسيا اليوم / النص الكامل
/ رشيد غويلب
-
الانتحاريون ..او كلاب النار ...المتوهمون بجنة لم يحصلوا عليه
...
/ عباس عبود سالم
-
البيئة الفكرية الحاضنة للتطرّف والإرهاب ودور الجامعات في الت
...
/ عبد الحسين شعبان
-
المعلومات التفصيلية ل850 ارهابي من ارهابيي الدول العربية
/ خالد الخالدي
-
إشكالية العلاقة بين الدين والعنف
/ محمد عمارة تقي الدين
-
سيناء حيث أنا . سنوات التيه
/ أشرف العناني
-
الجدلية الاجتماعية لممارسة العنف المسلح والإرهاب بالتطبيق عل
...
/ محمد عبد الشفيع عيسى
-
الأمر بالمعروف و النهي عن المنكرأوالمقولة التي تأدلجت لتصير
...
/ محمد الحنفي
المزيد.....
|