|
نهاية إنسان يفكر
شاكر خصباك
الحوار المتمدن-العدد: 2548 - 2009 / 2 / 5 - 07:25
المحور:
الادب والفن
رواية الطبعة الأولى 2001
ما أنا فاعل بحياتي؟ أشعر أنني أسبح في الفراغ. وقد غاب عني أنني سألقى يوماً في مثل هذا الفراغ. ولم يخطر ببالي أنني سأُحال على التقاعد يوماً وأفارق منصة القضاء . ويجب أن أعترف أنني فشلت في وضع نهج جديد لحياتي أقهر به الوقت . لقد كان أسبوعي بطول يوم فصار يومي بطول أسبوع! ولا أدري لماذا تملكني هذا الصدود تجاه كتب القانون التي لم يكن يستهويني غيرها .وحتى أصحابي القضاة لا يجتذبني مجلسهم في نادي القضاة . فأحاديثهم لا تدور إلاّ حول التافه من شؤون الحياة . واقتنعت يوما بعد يوم بأنني وأصحابي القضاة قد فقدنا مكانتنا وهيبتنا القديمة بعد التقاعد0 وقد أصبحنا أناسا اعتياديين كسائر الناس ، وهذا ما خلف جرحا عميقا في قلبي0 كيف السبيل إلى مغالبة هذا الفراغ الذي يجثم كالصخرة فوق صدري ؟ وكيف السبيل إلى استعادة هيبة القضاء التي كنت أتمتع بها؟ ألا يجدر بي أن أستعيد مرة أخرى هواية حياتي في التحاور مع القانون وأعود قاضيا من جديد؟ سأراجع "ملفات" القضايا التي توليتها وأمتحن في الوقت نفسه دقة أحكامي فيها0 وأنا أبدأ مشروعي اجتذب اهتمامي ملف سعود بن مطشر حينما تذكرت موقفه وقت المحاكمة. وكان قد قتل سعود بن الشيخ عامر مالك الأرض التي يعمل فيها في قرية الطهمازية . وقد اعترف بذلك وبقي يردد طوال المحاكمة: " أنا قتلته .. يستأهل الموت". وكان يقف شامخ الرأس بقامته المديدة ووجهه الصلب وكأنه فخور بجريمته. ولم يدافع عن نفسه بأي شيء. وقد أصدرت عليه حكم الموت بقناعة تامة. فالاعتراف سيد الأدلة. ولكن مما أثار عجبي يوم ذاك أن عائلته استقبلت الحكم بالزغاريد بدلاً من النواح وكأنها تبتهج ببراءته. أما هو فمط شفتيه وهو يخزر هيئة المحكمة بازدراء. ولقد تلقيت إثر صدور الحكم رسالة من أحد أبناء قريته يقول فيها بأن حكم المحكمة على مطشر كان ظالماً وأن هناك أدلة تثبت ذلك. غير أنني لم أُعر الرسالة اهتماماً. أفلا يجدر بي أن أمتحن مدى صحة تلك الرسالة ؟ وقررت زيارة قرية الطهمازية . كانت لدّي فكرة غامضة عنها. كنت أحسب أنها على مرمى ساعة من العاصمة فإذا بالطريق يستغرق ساعتين . وكان الطريق الفرعي مليئاً بالحفر والمطبات. وكدت أُغيّر رأيي أكثر من مرة وأعود من حيث أتيت. أخيراً لاحت لي طلائع القرية. أوقفت سيارتي بجوار سوق القرية وقصدت مقهى مجاور. كانت مقاعد المقهى متهافتة وموائدها قذرة، فانتبذت مائدة منعزلة. وتعلقت عيون الجالسين بوجهي في تهيب واستطلاع. أقبل عليّ صاحب المقهى وهو يحمل قدح شاي فسألته: ألا يوجد أي مشروب آخر ؟! قال معتذراً: مع الأسف يا أستاذ، ليس عندنا غير الشاي. وتفحص قامتي الفارهة ووجهي المطهّم ورأسي المكلل بالشيب للحظات ثم قال: لا يمّر بقريتنا غير القليل من الغرباء وبعض موظفي الحكومة، والجميع يطلبون الشاي. سألته: ألا يوجد في قريتكم مركز حكومي؟ فقال في احتفال وعيناه المريضتان ترمشان بقوة: وما حاجتنا للمركز الحكومي يا أستاذ؟ الله يطوّل في عمر الشيخ عامر.. هو الحكومة. سألته في عجب: ولماذا هو الحكومة؟ فقال: قريتنا وكل القرى التي حولها في أراضي الشيخ عامر حفظه الله. وهو حكومتنا الرحيمة وسترنا وغطاءنا يا أستاذ. وهممت أن أسأله عن سعود بن مطشر لكنني أحجمت عن ذلك. ووجدتني أنهض مغادراً المقهى. تجولت في سوق القرية. كانت فضلات الخضار والأزبال تنهض على جانبيه في أكوام عظيمة. وكان الفلاحون يبدون كالشحاذين بألبستهم الزرية. وانتهى السوق ببيوت القرية المتزاحمة الحقيرة. تنقلت بين أزقة القرية الضيقة الملتوية المطرزة ببرك المياه الآسنة. وكان أطفال ذوو أجسام هزيلة ووجوه شاحبة وملابس مهلهلة قد اصطفوا على حواف البرك يتأملونني في فضول.وأطلت نسوة ضامرات من أبواب البيوت المتهالكة يرمقنني في عجب. وأخرجت بعض الحيوانات رؤوسها من أبواب البيوت. عدت مسرعاً إلى سيارتي ونفسي تفيض بالإشمئزاز.
مناجاة ..كيف تجاهلت أمر الريف فلم أزره مرة واحدة في حياتي وكأنه ليس جزأ من بلدي، وكأن أناسه غرباء عني مع أن الكثير من القضايا التي توليتها كانت تخصهم؟ كل ما كنت أعرفه عن الريف أنه محروم من الخدمات الضرورية. لكنني لم أكن أدرك حالة أبنائه السيئة. لم أكن أستوعب معنى حرمانهم من مستوى المدينة وممارستهم لهذا المستوى المتدني من الحياة . فهل كنت مصيباً في التعامل مع قضاياهم بنفس معايير أهل المدينة؟ وهل كان جهلي بأحوال أهل الريف مبرراً؟! وهل أدركت العدالة الحقة في أحكامي الخاصة بقضاياهم ؟
*
قصدت ً نادي القضاة وأنا أنشد اجوبة للأسئلة التي أثارتها زيارتي لقرية "الحولة". ابتدرني بهجت قائلاً: عدت إلى الاحتجاب عنا يا حكمت بعد أن ظننا أنك ستكون من رفاقنا الدائميين. كان لك عذرك قبل التقاعد. فما عذرك الآن؟ فقلت : نفس العذر القديم. قال ماهر وهو يقهقه: من شبّ على شيء شاب عليه. تساءل رؤوف بلهجته الوقور: أتعني أنك ما تزال مكباً على كتب القانون يا حكمت؟ فقلت: لا.. لكنكم تعلمون أنني لم أعتد على ارتياد النادي مثلكم. قال حاتم وهو يهزّ رأسه الضخم: كيف نتوقع من فطحل القانون حكمت الطاهر أن يهجر صومعته بهذه البساطة؟ أنسيتم أنه موسوعة القانون الرسمية؟ أنسيتم أن كتبه القانونية هي الدليل للقضاة والمحامين؟ قال هيثم الداوود وهو يبتسم: لذلك لم نكن نحن المحامين نستبشر خيراً في تبرئة المتهم الذي يحاكم أمامه بل نتوقع أن ينال أقصى عقوبة. ثم أضاف وهو يضحك: وأحسب أن المحامين قد تنفسوا الصعداء بعد أن أُحيل الأستاذ حمكت الطاهر على التقاعد. قال بهجت بصوته الدافئ: أشهد أننا جميعاً نحن القضاة متفقون على أن حكمت "فطحل القانون" وهو لقب جدير بمن وهب حياته لخدمة القانون واعتزل الناس من أجل ذلك. قال هيثم الداوود مبتسماً: ولكن لعل عزلة الأستاذ حكمت عن الناس هي التي جعلته يجهل ظروف حياتهم وبالتالي لا يعترف بمبررات الضعف البشري، فكانت أحكامه صارمة دائماً. قال بهجت: على كل حال إذا كنتم أنتم المحامين تنتقدون صرامة أحكامه فنحن القضاة متفقون على أنها كانت محكمة دائماً. قلت ممتناً: أشكرك يا بهجت على هذا الإطراء. قال رؤوف: إنه ليس إطراء بل هي الحقيقة يا حكمت. فقلت: أصارحكم بأنني صرت أعتقد أن بعض أحكامي كانت صارمة أكثر من اللازم فعلاً. تساءل رؤوف في عجب: ولماذا نقول ذلك يا حكمت؟ فقلت: أنا الآن أعتقد أن تعاملي مع أهل الريف مثلا بنفس المعايير التي كنت أتعامل بها مع أهل المدن كان ينطوي على شيء من التعسف بحقهم. فلم أكن أدرك ظروف الحياة في الريف. قال حاتم: لكن ذلك ينطبق علينا جميعاً يا حكمت. فأغلبنا لم يزر الريف ولا أظن أن ذلك له علاقة بأحكامنا. فقلت: بدأت أشك في ذلك يا حاتم. لقد زرت مؤخراً إحدى قرى الريف فأدركت البون الشاسع بين مستوى حياة أهله ومستوى حياة أهل المدن، وبدا لي أنني كنت متشدداً مع أهل الريف بأحكامي وأنني لم آخذ بنظر الاعتبار ظروف حياتهم السيئة. قال هيثم الداوود وهو يضحك: يا ليتك أدركت ذلك قبل التقاعد يا أستاذ حكمت. قال حاتم: القانون هو القانون ولا يميّز بين أهل الريف وأهل المدن ولا علاقة له بظروف الناس السيّئة. قال بهجت ووجهه ينبسط ببسمة ناعمة: أما آن لك أن تستريح من تعب القانون يا حكمت؟ نحن الآن متقاعدون وما عاد عملنا القديم يشكل شيئاً بالنسبة لحياتنا. فأطرح الماضي وراءك وتمتع بحياة التقاعد يا حكمت.
مناجاة ...هل ينبغي لي أن أطرح الماضي ورائي فعلاً؟ ألا يجدر بي أن أراجع حياتي القضائية وأتلمس ما اعتورها من أخطاء؟! لقد قال هيثم الداوود بأن المحامين يعتقدون أن أحكامي كانت صارمة. وعزا ذلك إلى عزلتي عن الناس التي حرمتني من إدراك مبررات الضعف البشري. فهل كان أمامي طريق آخر وقد عقدت العزم على اجتثاث جذور الجريمة من المجتمع؟ إن القانون هو سيد الجميع. وهو يمثل أعلى ما وصل إليه الإنسان من إنجاز خلال تطوره الحضاري. وبالتالي ينبغي ألا يكون هناك أي مجال للتأثير عليه. وبما أنني كنت الممثل الشرعي للقانون فقد كان لا بد لي أن أبتعد عن تأثير الآخرين عليّ وأن ألتزم بنصوصه التزاما مطلقاً.. بل وأن أستثمرها إلى أقصى إمكاناتها لكي أزرع هيبة القانون في نفوس الضعفاء. فهل تراني كنت مخطئاً في هذا النهج؟!
*
انطلقت عند الضحى إلى قرية الطهمازية "، وبلغتها قبل الظهر. وقصدت المقهى مباشرة. كان بضعة أنفار يتوزعون موائده. أقبل عليّ صاحب المقهى متهلل الوجه وهتف: مرحباً .. مرحباً بالأستاذ. ولكن أعذرنا يا أستاذ فليس عندنا غير الشاي. قلت مبتسماً: لا يهم .. اعتبرني شربت الشاي. ثم أضفت وأنا أتلفت حولي: إجلس قليلاً فليس لديك زبائن كثيرين اليوم. قال وهو ينحط بجسمه الضئيل على مقعد قريب: محسوبك عبود يا أستاذ. فقلت: تشرفنا ياعبود. فقال: نحن الذين تشرفنا يا أستاذ. وصمت لحظة ثم أضاف وهو يبتسم: يظهر أن قريتنا أعجبتك يا أستاذ فأنت تزورها للمرة الثانية. ولا يزور قريتنا غرباء إلا نادراً. فقلت: أنا موظف متقاعد وأحب أن أشغل نفسي في التجوال في الريف والإطلاع على أحواله وأحوال أهله يا عبود. فقال وهو يرمش بعينيه المريضتين: أهل الريف كما ترى يا أستاذ يعيشون هنا كالبهائم. والبهائم تشاركهم فعلاً بيوتهم. وهم محرومون من كل الخدمات .. لا ماء نقي ولا كهرباء ولا مستوصف ولا مدرسة ولا خدمات من أي نوع وكأن الحكومة لا علاقة لها بالريف. قلت وأنا أبتسم: ولكن ما حاجتكم إلى الحكومة هنا وعندكم الشيخ عامر الذي هو حكومتكم كما قلت لي؟ قال وهو يرمش بعينيه بقوة: الشيخ عامر حكومتنا ؟ إنه عزرائيلنا وليس حكومتنا. وكنت امتدحته المرة الماضية خشية من أن تكون أحد جواسيسه أو موظفاً من موظفي الحكومة الذين ينصرونه في الحق والباطل. وإذا بلغه أي كلام مسيء بحقه فمصير قائله إلى سجنه ولا يشفع له أحد. سألته مدهوشاً: وهل له سجن خاص به؟ أجاب: وأي سجن ! فالمسجون فيه يفطر ويتغدى ويتعشى على ضربات الخيزران. ولا يجرأ أحد على مخالفة أوامره ونواهيه. وسكت عبود لحظة ً ثم قال وكأنه يحدث نفسه: ومع ذلك فهو أرحم من ابنه المحروق الصفحة. سألته: وهل كان له ابن؟ فقال: نعم. كان له ابن اسمه شبيب أحرقه الله بنار جهنم. سألته : وهل مات؟ قال بلهجة متشفية وعيناه ترمشان بقوة: قتله أحد أبناء القرية الشجعان المرحوم سعود. ورفع كفيه وتمتم يقرأ سورة الفاتحة. سألته: وماذا حدث لقاتله؟ أجاب في مرارة : حكمت عليه الحكومة بالإعدام ظلماً وعدواناً فالحكومة من شيمتها أن تنصر الظلمة. فقلت: لكنك قلت أنه قتل شبيب بن الشيخ عامر فمن الطبيعي أن تحكم عليه الحكومة بالإعدام. قال بلهجته المرة : كان يجب أن تعطيه جائزة على قتله شبيب لو كانت عادلة. كان أبسط جزاء لشبيب على أفعاله هو القتل. كان شيطاناً رجيماً. إنه ملأ قرى أبيه ظلماً. فقلت: يظهر أن سعود كان الشجاع الوحيد إذن بين أهل القرية. فقال: لا . ليس الأمر كذلك. لكنه كان أكثر الأشخاص جرحاً منه. فشبيب اغتصب ابنة عمه وخطيبته حبيبة فذبحها أهلها ليتخلصوا من العار فأقسم أن ينتقم لها. وسكت عبود وقد اكفهرّ وجهه. وظلت عيناه ترمشان بقوة لدقائق. ثم قال وقد غلبه التأثر: كان من واجب سعود أن يفتدي ابنة عمه حبيبة بحياته يا أستاذ. لم تكن حبيبة حبيبته لوحده بل كانت حبيبة أهل القرية جميعاً. كانت ريحانة القرية. كانت حينما تمر في سوق القرية بوجهها تنجذب إليها قلوب كل الرجال. وكان من المتوقع أن يتحيّن شبيب الفرصة لاغتصابها. وصمت عبود مرة أخرى وكأنه يستعيد ذكريات مريرة ثم قال بحماس وعيناه ترمشان بقوة: لا تتصور يا أستاذ أن المرحوم سعود غدر بشبيب. أبداً. إنه تحدّاه للنزال في سوق القرية علناً. فظلا يتباطحان أمام جميع أهل السوق حتى تمكن أن يحطم جمجمته بمكواره. وهكذا باع سعود روحه فداء لأهل قريته ولكل أهالي قرى الشيخ عامر. وصار بطلهم الذي يترحمون عليه في كل صلاة. قلت في تأثر: ولكن لماذا لم يشرح للمحكمة الظروف التي دفعته لقتل شبيب؟ هتف عبود في احتجاج: وكيف يشرح لهم تلك الظروف؟ كيف تريده أن يفضح عائلته ويلطخها بالعار أمام جميع الناس؟ فسألته: فلماذا لم يشهد له أي واحد من أبناء قريته أو القرى الأخرى ويفضحوا مظالم شبيب؟ فكركر عبود بضحكة استهزاء وقال: ومن يجرأ على الشهادة ضد ابن الشيخ عامر ويعرّض نفسه لغضبه؟ وسكت عبود وهو يتفرس في وجهي ثم تساءل في تهكم: وحتى لو شهد أحد ضد شبيب .. هل تتصور أن ذلك كان سيفيد شيئاً؟ فقلت: طبعاً .. كان سيفيد بالتأكيد. فقال في استخفاف: أنت غلطان يا أستاذ. فالحكومة دائماً مع الظلمة. وأنا نفسي تجرأت وأرسلت إلى القاضي رسالة قلت فيها إن حكم المحكمة كان ظالماً فلم يهتم لها . فسرت ارتجافه خفيفة في جسدي وأطرقت صامتاً. قال عبود وهو يبتسم في اعتذار: أنا دوّختك يا أستاذ بهذا الكلام. وما كان عليّ أن احكي لك حكاية سعود بن مطشر، ولكن لعلك تنتفع بها كمثال على ما يلاقيه أهل الريف من مظالم.وأنا بالمناسبة ياأستاذ لديّ شهادة الإبتدائية وأفهم في مثل هذه الأمور . قلت بصوت محتبس: بالتأكيد، ستكون حكايتك نافعة جداً لي. ثم نهضت فجأة وقلت: أستأذنك فقد تأخر عليّ الوقت. واتجهت نحو سيارتي متخاذلاً فسمعته يهتف ورائي: شرفنا دائماً يا أستاذ. مناجاة . . إذن كنت ظالماً لسعود بن مطشر ولم أكن مستوعباً لقضيته. أفما كان يجدر بي أن أدرس قضيته من جديد بعد أن تلقيت الرسالة؟ لكنني بدلاً من ذلك لم أعرها اهتماماً ولم أحاول مناقشة وجهة نظرها. لقد كانت أركان الجريمة واضحة في نظري وعلى رأسها اعتراف الجاني. والاعتراف سيد الأدلة في نظر القانون. ثم كيف جاز لي أن أجهل ما يتعرض له الفلاحون من ظلم وتعسف على أيدي رؤسائهم الإقطاعيين ؟ ما أصدق المثل الشعبي القائل : كم في الحبس من المظلومين . .و ما أبعد حكمي في قضية سعود بن مطشر عن العدالة الحقة!
*
حينما ألقيت تحيتي على الصحاب عصر اليوم هتف بهجت: حضرت في وقتك يا حكمت لتدلي بدلوك في القضية التي نتناقش فيها. فسألته: وما هذه القضية؟ فقال : قضية الباميا والثوم، وهل من المستحسن بالنسبة للقضاة أن تطبخ الباميا مع الثوم أم بدونه ةقال ماهر وهو يطلق قهقهة راعدة: لاتنس يا حكمت أن القاضي الذي يتناول الباميا مع الثوم لابد أن يجهداً للسيطرة على الغازات التي تمور في بطنه لئلا تنطلق وهو على منصة القضاء فتكون فضيحة ما بعدها من فضيحة. فقلت: ليس لدّي رأي في هذه القضية. فسواء عندي أطبخت الباميا مع الثوم أم بدونه. ولكن لديّ قضية أهم أود أن أعرضها عليكم. قال حاتم: نرجو ألا تكون من نوع القضايا التي كانت تصدّع رؤوسنا يا حكمت فقد ولى ذلك الزمن النحس. فقلت: ولكن تذكروا أننا مازلنا قضاة وإن أصبحنا متقاعدين. قال بهجت: تفضل يا حكمت.. تفضل. ولو أننا قطعنا صلتنا بالفعل بماضينا. سألتهم: ماذا يجب أن يكون موقفنا إذا اكتشفنا أننا أصدرنا في إحدى القضايا حكماً جائراً كلّف المتهم حياته؟ قال ماهر: ولماذا نفكر أصلاً في قضايا لم يعد لنا فيها صلة ولا يهمنا أمرها؟ سؤالك مرفوض من أساسه يا حكمت. وقال رؤوف: أعتقد أن موقفنا هو موقف أي موظف يرتكب خطأ غير مقصود أثناء أدائه لعمله لا أكثر ولا أقل يا حكمت. قلت محتجاً: كيف يمكنك يا رؤوف أن تساوي وضعنا بوضع موظف اعتيادي ؟!! المفروض أننا حماة العدالة والمسؤولون عنها. قال بهجت: وهذا ما كنّا نفعله أثناء قيامنا بعملنا يا حكمتولكنقدر استطاعتنا كبشر. وما دمنا بشراً فقد نصيب أو نخطئ. قال حاتم: مادام الخطأ غير مقصود فليس هناك أصلاً ضرورة للتفكير فيه. ثم ليس المفروض فينا أن نفكر في مثل هذه الأمور ونحن متقاعدون. فقلت: معنى قولكم أن ضمائرنا تظل مرتاحة حينما نكتشف أننا ارتكبنا أخطاء جسيمة بحقّ العدالة. قال بهجت وهو يبتسم: ولكن ما الذي ذكرّك بهذا الأمر يا حكمت خصوصاً وأن أحكامك اشتهرت بدقتها ؟ ؟ فقلت: ذكرّني به مراجعة بعض القضايا التي توليتها والتي بدا لي أن أحكامي فيها لم تكن متطابقة مع العدالة الحقّة. وهذا الأمر أخذ يقلقني. هتف ماهر بصوته الأجش: ولماذا تفكر في هذه القضايا أصلاً يا حكمت؟ وتساءل رؤوف بصوته الهادئ: وكيف يقلقك يا حكمت؟ هل تستطيع أن تفعل شيئاً بخصوص هذه القضايا؟ فقلت: لا .. طبعاً. لكن ضميري غير مستريح. قال بهجت: لا أدري لماذا تلح على نفسك يا حكمت بمثل هذه الأفكار. أنت كنت أقلنا ارتكابا للأخطاء بحق العدالة، وضمائرنا نحن مستريحة والحمد لله، فليكن ضميرك مستريحاً مثلنا.
مناجاة . . ما أشد خيبتي فيكم أيها الصحاب! لقد نسيتم أنكم كنتم قضاة مسؤولين عن إقامة العدل على الأرض. كيف تساوون أنفسكم بأي موظف من موظفي الحكومة؟ وكيف تفضلون مناقشة قضية الباميا والثوم على مناقشة المعضلة التي طرحتها عليكم؟ عليّ إذن أن أفكر في أخطائي لوحدي من دون أن أتوقع عوناً من أحد.8
بينما كنت أفتش في أوراقي عن القضايا التي أصدرت فيها أحكاماً لم اكن مرتاحاً لها عثرت على "ملف" نوري الراعي الموظف في البنك الحكومي الذي اختلس من عهدته مبلغاً زهيداً ". وقد حكمت عليه بأقصى عقوبة مع أن زملاءه أجمعوا على نزاهته. وقد رفضت شهاداتهم باعتبارها متحيزةٌ. ولم يدافع هو عن نفسه والتزم الصمت التام. وكانت عيناه طوال أيام المحاكمة مغرورقتين بالدمع. وأنا أراجع قضيته وجدتني أتساءل: تُرى ما هي الظروف التي دفعته إلى الاختلاس وكل زملائه شهدوا له بالأمانة؟ بعد أن علمت أنه أودع سجن الكوت سافرت لمقابلته .وحينما أطل عليّ من وراء القضبان بقامته الهزيلة ووجهه الملتحي بدا لي كأنه كبر عشر سنوات عن آخر مرة رأيته فيها. قال بخشونة: ماذا تريد مني بعد؟ هل عثرت على أدلة جديدة تضاعف بها عقوبتي؟ فقلت: أنا لم أعد في العمل يا نوري. أنا متقاعد الآن0 فقال بغضب: فلماذا جئت إذن؟ ألكي تتسلى بمنظري وراءالقضبان؟ فقلت : أنت معذور في غضبك معذور يا نوري. و لكن تذكر أنني كنت أؤدي واجبي كقاض . فقال في سخرية مرّة: أنت أديت واجبك نحوي على أكمل وجه يا أستاذ ولكن كقاض حنبلي0 وتنكرت لأية رحمة يمكن أن تتعامل بها مع قضيتي فدمرت بذلك حياتي. فماذا تريد مني بعد؟ فقلت: أنت لم تتح الفرصة لأية رحمة وظللت متمسكاً بالصمت. فلم يكن هناك من مجال سوى تطبيق نصوص القانون عليك. والقانون لا يرحم السارق. فلا تلم إلا نفسك. فقال بلهجته الغاضبة: فلماذا تلاحقني إذن؟ فقلت بلطف: أرجوك أن تهدأ. أنا لا أنشد سوى الخير. فقال محتدماً: أي خير يرجى منك بعد أن دمّرت حياتي؟ فقلت: أنا أسف مرة أخرى. ولكن أرجوك أن تفهم أنني ما فعلت شيئاً سوى ما يمليه عليّ واجبي كقاض. فقال وقد هدأ غضبه قليلاً: لا. لم يكن واجبك يتطلب منك أن تحكم عليّ بأقصى عقوبة. لم تحسب حساباً للرحمة. فقلت: أنت المسؤول عن ذلك، أنت لم تقل شيئاً يهوّن من جريمتك. أنت سرقت أموال الدولة التي في عهدتك. فقال متهكماً: وهل أنا الوحيد الذي سرق من أموال الدولة؟ أنت تعلم أن سرّاق الدولة بالمئات أو بالآلاف ومع ذلك لم يحدث لهم ما حدث لي. بل إن البعض منهم يشغل أعلى المناصب في الدولة مع أنهم يسرقون الآلاف المؤلفة وأنا لم أخذ سوى مبلغ تافه. وسكت وقد غلبه الحزن. ثم قال وكأنه يحدث نفسه: ومع ذلك فأنا لم أكن أنوي سرقة ذلك المبلغ. وكل ما هنالك أنني اقترضته. وكنت أنوي ردّه بأسرع وقت. ولسوء حظي اتخذت إجراءات استثنائية لجرد الصندوق فانكشف نقصان المبلغ. فقلت: لكنك كنت تعلم يا نوري أن مثل هذا الإجراء قد يحدث في أية لحظة. فكيف عرّضت نفسك لمثل هذا الموقف؟ أجاب بلهجة عنيفة: وهل تتصور أنني فعلت ذلك لإشباع نزوة في نفسي؟ هل تتصور أنني أخذت المبلغ لإنفاقه على الملذات؟ فقلت: فلماذا اختلسته إذن؟ قال بغضب: لا تقل إنني اختلسته. قلت لك إنني اقترضته. فقلت: حسناً، لماذا اقترضته إذن وأنت تعلم أن الصندوق معرّض للجرد في أي وقت فينكشف هذا النقص في المال؟ قال في مرارة: وما حيلة المضطر إلا ركوبها.. كانت زوجتي في حاجة إلى عملية جراحية وقد عجزت عن تدبير المبلغ الذي طلبه المستشفى. وسكت وهو غائم الوجه. ثم عاد يتحدث بصوت مجروح: كانت ألوف الدنانير للمودعين تتدفق بين يدي كل يوم.. ألوف يحضرها أحياناً أناس كنت أعجب كيف توفرت لهم.. في حين أنني فشلت في تدبير بضعة مئات من الدنانير لإنقاذ حياة زوجتي. وليتك كنت حاضراً بيننا لترى كيف كانت زوجتي تطلق الصرخات الموجعة وتتلوّى على فراش المرض. ليتك كنت حاضراً بيننا لترى كيف كان أطفالنا يحيطون بها وبكاؤهم يفتّت الأكباد فربما كنت ستقدر ظروفي. وسكت ووجهة يقطر ألماً. ثم خزرني بحقد وقال بلهجة وحشية: ومع ذلك لم أنجح في إنقاذها. فقد ماتت بعد أن أصدرت الحكم عليّ. وتشرد أطفالي وضاع مستقبلي. وكل ذلك بفضل عدالتك. وانتظمت جسدي رعدة قوية وتصبب جسدي عرقاً باردا. وبذلت جهداً عظيماً للتحكم بأعصابي وأنا أتحاشى النظر إليه. وسمعته يقول بلهجته الوحشية: ماذا تريد أن تفعل بي أكثر مما فعلت؟ قل لي ماذا تريد مني؟ وحينما رفعت إليه أنظاري كان قد اختفى. … مناجاة . . يوماً بعد يوم يتعاظم يقيني ً بأنني كنت أعيش في وهم. لقد كنت أؤمن بأن القاضي ينبغي أن ينأى بنفسه عن العواطف الذاتية. واعتقدت أن أصل الشرور هو الاستسلام للعاطفة. أو على الأصح الخضوع للضعف البشري. فوقعت بين المطرقة والسندان.. بين صرامة القانون واللمسة الإنسانية. وكم كان هيثم الداوود مصيباً في ملاحظته عنّي 0 *
عثرت بين أوراقي على "ملف" قضية من القضايا التي ظلت الوساوس تراودني بشأنها حتى بعد إصدار الحكم فيها هي قضية ريمة. فقد كان ثمة ظواهر غريبة فيها. فقد اعترفت ريمة بأنها قتلت زوجها لأنه كان يسيء معاملتها. كما اعترف والد زوجها بأنه تواطأ معها. ولم تكتف ريمة بقتل زوجها بل شوهت وجهه أيضاً. وقد صعّد ذلك من غضبي عليها وعلى الأب. فكيف يمكن لأب أن يرتضي مثل هذا العمل الوحشي تجاه ابنه؟ فحكمت عليها بالإعدام وعلى والد زوجها بالسجن لعدة سنوات. لكن الأسئلة الحائزة بقيت تقلقني عن موقف الأب الغريب وعن رغبة ريمة الشديدة في الموت. فقد ظلت تردد طوال الوقت وهي واقفة وراء القضبان بقامتها الشامخة وحسنها المفرط: "أنا قتلت رجلي.. موّتوني". أفلا تستحق هذه القضية إعادة النظر فيها ؟. بعد جهد عثرت على السجن الذي يمضي فيه والد زوجها ناجي عقوبته وهو سجن الحلة . وسافرت إلى الحلة لزيارة السجن . فرحّب بي مديره ترحيباً حارّاً واستجاب لرغبتي في مقابلة السجين ناجي. ولم يتعرف عليّ ناجي في البدء وظنني أحد المسؤولين حضر للتفتيش على السجن. وبادرني بالقول: نحن يا مولاي نعيش في السجن أحسن عيشة والسجّانون يعاملوننا أحسن معاملة الله يطوّل في عمرهم. قلت له وأنا أُشير إلى مقعد أمامي: تفضل..إجلس يا ناجي. فقال وهو يبتعد عن الكرسي في رهبة: أستغفر الله يا مولاي .. أستغفر الله. رددّت بلطف: اجلس.. اجلس يا ناجي. فجلس على طرف الكرسي متهيباً. سألته: هل تتذكرني يا ناجي؟ قال وهو يتفرس في وجهي بنظره الكليل: لا والله مولاي.. العتب على النظر. فقلت: أنا القاضي الذي حاكمك وحاكم ريمة. فهب مفزوعاً ولحيته المهوّشة تهتز بقوة. وقال بصوت مرتعب: وماذا تريدون مني يا مولاي؟ هل تريدون محاكمتي من جديد والحكم عليّ بسنوات أخرى؟ إرحموني يا مولاي واتركوني أتمتع بالعيش مع ولدي فيما بقي لي من العمر. قلت له مهدّئاً: لا تخف يا ناجي. أنا لم آزرك من أجل هذا الغرض. و المحكمة أصدرت حكمها عليك وستخرج حال انتهاء مدة محكوميتك. فعاد إليه هدوؤه وتساءل في حيرة: فماذا تريدون مني يا مولاي؟ فقلت: أريد أن أستعلم منك عن بعض ظروف القضية. قال بلهجة حزينة: عمَّ تريد أن تستعلم يا مولاي؟ كل شيء مقدّر ومكتوب، والمرحومة ريمة كان مقدّراً لها أن تُشنق بذنب غيرها وتترك ولدي حسين يتجرع العذاب والحسرات. قلت في دهشة وقد فاجأني الخلط في كلامه: قل لي يا ناجي.. كم ولد عندك؟ فقال : واحد يا مولاي. لم يرد الله إلا أن يبقي لي ولداً واحداً هو حسين. الله يفك عنه غمّته. فقلت في عجب: ولكن هل نسيت يا ناجي أن ريمة. قتلته؟ وبدا عليه أنه بوغت بسؤالي فراح يتأتيء ويفأفئ وقد عراه ارتباك شديد. وفجأة أنفجر يبكي بحرقة، وتملكته حالة من الهياج فراح يلطم وجهه ورأسه ويندب حظ ريمة وحظ حسين. فدعوت الحارس ليعيده إلى سجنه.
مناجاة … ماذا أصاب ناجي؟ ولماذا تملكه هذا الرعب الشديد حينما سألته عن ولده؟ ثم كيف يتحدث عن ولده القتيل وكأنه شخص حيّ وقد مضى على موته أكثر من عام؟ هل أصيب بلوثة عقلية بسبب سجنه أو بسبب مصيبته؟ أم أن هناك أسباباً أخرى؟ أعترف أن هذه المقابلة أضافت لوساوسي وساوس جديدة0
قررت أن أعاود زيارة ناجي ولكن هذه المرة ضمن الزوّار الاعتياديين علّ ذلك يخفف من رهبته. وقصدت سجن الحلة فرأيت تجمعا كبيرا حول القضبان. وسررت حينما لمحته من بعيد وهو يتحدث مع شخص يبدو أنه من زوّاره. وما أن وقعت عيناه عليّ حتى ولى هارباً. سألت صاحبه : لماذا هرب ناجي؟ قال متلعثماً: ها؟ .. لا. لا. هو لم يهرب.أنا انتهيت من زيارته. فقلت له: لكنه رآني وكنت أريد أن أحادثه. فقال بلهجته المتلعثمة: هو تعبان ولا يتحمل الزيارة. تفرست في وجه الشخص فراعني اغي شبه كبير بينه وبين ناجي. وكان شاباً وسيماً قوي البنية في منتصف الثلاثينات يرتدي الزي الشعبي. سألته وأنا أتفرس في وجهه: هل أنت قريب ناجي؟ أجاب بلهجته المتلعثمة: لا .. لا. أنا قريبه من بعيد. فقلت: لكنك تشبهه شبهاً كبيراً. فسألني بعينين قلقتين: قل لي يا أفندي .. ماذا تريد منه؟ هل تريدون محاكمته من جديد؟ فقلت: ولماذا يحاكم من جديد؟ لقد أصدرت عليه المحكمة حكمها وانتهى الأمر. فصمت لحظات وقد عاوده الاطمئنان ثم سألني: فلماذا تريد مقابلته؟ فقلت: أعتقد أنك أحد أقربائه الأقربين فهناك شبه كبير بينك وبينه لذلك سأخبرك بغرضي. أنا القاضي الذي حاكمه في قضية ريمة وكان قد اعترف بأنه متواطئ معها في جريمة قتل اينه. لكنني أتصور الآن أن هناك ظروفاً غامضة في القضية وأنه ربما كان مظلوماً في الحكم الذي صدر عليه. فتأملني لحظات مرتاباً ثم سألني: وهل حقيقة أنك متعاطف الآن مع أبي يا أستاذ؟ سألته مبهوتاً: أبوك؟ أتعني أنك حسين؟ فقال: نعم. أنا حسين يا أستاذ. وما دام غرضك نزيهاً فسأصارحك بكل شيء. وأنتحى بي جانباً وحكى لي قصة ريمة المأساوية. قال إنه هاجر إلى الكويت ليفك الضنك عن عائلته وترك زوجته ريمة في رعاية أبيه العاجز. وكان له إبن عم شاب اسمه نعمة عهد إليه إنجاز بعض مطالب العائلة. فأخذ نعمة يتردد على منزل العائلة. وفي ذات يوم نجح في اغتصاب ريمة تحت تهديد السلاح. وصارحت ريمة أباه بالحقيقة، فأقسم أن ينتقم لشرف إبنه. وبما أنه كان عاجزاً فقد أقنعته ريمة بأن تتولى بنفسها ذلك. وأتفقت معه على أن تقتل نعمة وتشوّه وجهه وتدّعي أنه زوجها. وكان لنعمة شبهً بحسين في وجهه وقامته. وختم حسين حكايته والدموع تترقرق في عينيه قائلاً: وهكذا ضحت ريمة بحياتها من أجل أبي ومن أجل أن تجنّب عائلتنا الفضيحة. ولم تكن هي المجرمة بل المجرم الحقيقي هو إبن عمي الملعون نعمة الذي أمّنته على أبي وعرضي فخان الأمانة. وسيد خله الله جهنم وبئس المصير.
مناجاة … ماذا أقول في قضية ريمة؟ هل أقول إن دمها في رقبتي؟ أما كان المفروض بي أن ألمس التناقض الغريب في القضية بالرغم من إصرار ريمة على إعترافها؟ ألا يجدر بي أن ألوم نفسي على إصدار ذلك الحكم الجائر بحقها وكان يمكن أن تحكم ببضع سنوات فقط لو تقصيت الحقيقة
سألتني فضيلة ونحن نتناول فطورنا : كنت تتقلب طول الليل فماذا بك يا حكمت؟ فقلت: لا شيء. فتساءلت: فلماذا نومك مضطرب إذن؟ فقلت: أشعر بالإنزعاج. قالت وقد تعكّر صفاء وجهها الأنيق: وإلى متى تظل منزعجاً من التقاعد؟ أنت لم تعد تنام كما كان عهدك أيام الوظيفة. أنت تقضي ليلك تتقلب لساعات قبل أن يأتيك النوم، وهذه لم تكن عادتك. المفروض أن تكون مرتاحاً الآن بعد أن تخلصت من عملك المتعب. فما الذي يشغل بالك الآن؟ فقلت ً: إنها الهموم يا فضيلة. إنها هي التي تفسد عليّ نومي. رفعت حاجبيها الرقيقين وتساءلت باستنكار: الهموم؟ ولماذا الهموم؟ وأي موجب لها؟ أنت تقبض الآن اكبر راتب تقاعدي، فما الداعي لهمومك؟ فقلت: انه ليس الراتب يا فضيلة. إنها هموم العدالة. فقد اكتشفت وأنا أراجع بعض القضايا التي أصدرت فيها أحكامي أنني لم أكن عادلا دائما. قالت في انزعاج: وكيف لم تكن عادلا دائما! كل أصحابك القضاة يقولون انك كنت قاضيا عظيما وأن أحكامك لا يخر منها الماء. وكان وقتك كله ملكا للقانون والعدالة. ألم تكن تحبس نفسك في غرفتك بعد عودتك من العمل وشغلك الشاغل دراسة القضايا وقراءة وتأليف كتب القانون.. فمن الذي كان يفعل مثلك من القضاة؟ فكيف لا تكون أحكامك عادلة؟ فقلت: لا يبدو لي الآن أن أحكامي كانت عادلة دائما يا فضيلة. قالت وهي تمط شفتيها: ولنفرض أن هذا صحيح. فماذا يمكنك الآن أن تفعله وأنت شخص متقاعد؟ فقلت: صحيح أنني عاجز الآن أن افعل شيئاً، لكنني لا أستطيع أيضا الامتناع عن التفكير في أخطائي يا فضيلة. قالت بسأم: وما فائدة ذلك؟ هذا معناه أنك تريد أن تنغص على نفسك لا أكثر ولا أقل. ثم جمعت الأكواب والصحاف من على المائدة وانصرفت إلى المطبخ.
مناجاة . . كيف لا أنغص على نفسي يافضيلة؟! فكلما راجعت قضية جديدة اكتشفت أن حكمي فيها كان بعيدا عن العدالة الحقة. أنا الذي كنت أعد نفسي راعي القانون والعدالة.. حتى أنني صرت مقتنعا الآن بأنني في غير حاجة إلى شواهد جديدة على كثرة أخطائي. و ما أكثر الأخطاء التي ارتكبتها يا حكمت! الان فقط بدأت رحلة البحث عن الحقيقة .
وأنا أفكر في أخطائي خطر لي أن من بين تلك الأخطاء جهلي بحالة السجون مع أن عملي هو إرسال الناس إلى السجن. وقررت زيارة سجن أبو غريب للاطلاع على أحواله. واستقبلني مديره بالترحاب . وما أن أفضيت إليه برغبتي حتى استدعى رئيس العرفاء خضير، وهو شخص ضخم الجسد مفتول الشارب. قال له: اصحب الأستاذ حكمت في جولة على مرافق السجن يا خضير. وقبل أن نغادر مكتبه دخل علينا مأمور السجن فقال له : يرغب الأستاذ حكمت في الإطلاع على أحوال السجن عندنا يا مأمور فلاح. فقال المأمور فلاح في أدب مصطنع: أهلا وسهلا.. نحن في الخدمة. ثم أضاف وهو يرمق خضير بنظرات خاصة: إذن سأصحب خضير إلى مكتبي لخمس دقائق يا سيدي لأضع له خطة لجولة الأستاذ. ثم سحب خضير إلى خارج الغرفة. قال لي المدير وهو يبتسم: الحقيقة أن المأمور فلاح أدرى بأحوال السجن مني وهو مطلع على الصغيرة والكبيرة فيه. ورئيس العرفاء خضير ساعده الأيمن. وغاب خضير لأكثر من ربع ساعة ثم ظهر ثانية. قال لي وهو يؤدي التحية العسكرية: تفضل سيدي. وبدأت جولتنا على مرافق السجن. ولفت نظري أن باحة السجن غاصة بالسجناء وأنها خالية من الحراس الذين تواروا في زوايا قصية. وبدا السجناء في حالة مرضية. فقد كان البعض منهم يتمازحون ويقهقهون وهم يتنزهون في الباحة. وكان ثمة مباراة لكرة الطائرة، وكان حماس المشجعين عظيما. والتفت إلي خضير وقال وهو يتبسم في تكشيرة مصطنعة: السجناء يحبون الرياضة جدا يا سيدي، وهم يقضون كل وقتهم في الرياضة. فقلت: يظهر أن السجناء مرتاحون هنا. فقال في اعتزاز: طبعا سيدي كلهم مرتاحون فنحن كلنا في خدمتهم. وكان بعض السجناء يقتربون منّا أثناء تجوالنا ويحيوّن خضير في احترام عظيم. فقلت له: يظهر أنك شخصية محبوبة في السجن يا خضير. فقال في اعتزاز: طبعا يا سيدي فأنا في خدمتهم وأقضي لهم كل حوائجهم، انهم أمانة في أيدينا. وقادني خضير إلى القواويش وهي ردهات متوسطة الحجم وكانت خالية من السجناء. وكانت أعمال التنظيف قائمة فيها على قدم وساق، وكانت الأفرشة مكومّة في الزوايا. وكانت تبدو في حال سيئة. ثم قادني إلى المكتبة فإذا هي غاصة بالقراء. وكان الجميع منكبين على الكتب والصحف والمجلات. وتجولت بين طاولاتها فلاحظت أحد القراء يضع الكتاب أمامه مقلوبا فعجبت لذلك. حينما فرغنا من جولتنا، وأثناء عودتنا عبر الباحة فوجئت بأحد السجناء يعترض طريقي مسلما. وسألني: هل تتذكرني يا أستاذ؟ قلت وأنا أتفرس في وجهه: أعتقد أنك أحد الذين حكمت عليهم. قال مبتسما: أنا حميد عليّ وقد حكمت علي بالسجن ثلاث سنوات قضيت منها حتى الآن سنة واحدة. فقلت: وكيف أحوالك هنا؟ يبدو أن أحوالكم جيدة. فهتف بحماس وهو يقتنص من خضير نظرات سيعة : جيدة جدا يا أستاذ. ووقف خضير على مقربة منا وهو يخزره بنظرات حادة. ومال عليّ حميد وقال بصوت خفيضٍ: هل بالإمكان أن أنفرد بك لدقائق يا أستاذ؟ فلدي معلومات عن السجن قد تنفعك. ووافق المدير على طلبي. سألني حميد بصوت هامس وعلى شفتيه بسمة خفيفة: كيف وجدت السجن يا أستاذ؟ فقلت: الحقيقة أن انطباعي عنه جيد عموما. فالملاعب الرياضية غاصة باللاعبين. والمكتبة مزدحمة بالقراء. والقواويش نظيفة عموما، وإن كنت لا أفهم لماذا لم يبدؤوا بتنظيفها مبكرا. فقد كانوا مشغولين بتنظيفها أثناء تجوالنا. قال بصوته الهامس وهو يضحك ضحكة خافتة: أنا سأخبرك بسبب ذلك يا أستاذ. فقد صدرت الأوامر على عجل قبل قيامك بالجولة بتنظيف القواويش وأخرجونا منها وإلا فهي عادة بحالة مزرية. وعاد يضحك ضحكته الخافتة ثم قال: وامرنا أن نقوم بالتنزه في الساحة وان نبدو في احسن حال، وجمع عدد منا وحشروا في المكتبة واغلبهم لا يحسن القراءة. ورتبت مباراة في كرة الطائرة، وأُمر بعض السجناء ان يبدوا حماسا عظميا في التشجيع. قلت في دهشة: أتعنى أن هذا الوضع ليس هو الوضع اليومي الاعتيادي للسجن؟ فقال وهو يضحك ضحكته الخافتة: أبدا. فالألعاب الرياضية لا يمارسها إلا السجناء المحظوظون. ولا يسمح للسجناء بالتجوال في ساحة السجن إلا في ساعات محدودة جدا وهم يمضون اغلب أوقاتهم في القواويش أو في المشغل. أما المكتبة فهي مغلقة في اغلب الأوقات. قلت مستغربا: لكنني كنت طول الوقت مع مدير السجن. فمتى أصدر أوامره بهذه الإجراءات السريعة؟ قال حميد بصوته الهامس: انه ليس مدير السجن الذي اصدر الأوامر يا أستاذ. فهو آخر من يعرف عن السجن شيئا. ولم أره يوما يتجول بين مرافقه. انه ينتقل من سيارته إلى مكتبه، ومن مكتبه إلى سيارته. وإن الذي اصدر الأوامر هو المأمور فلاح فهو المدير الحقيقي للسجن، والمنفذ مساعده رئيس العرفاء خضير، وهو يده الضاربة في السجن. قلت باستغراب: ولكن خضير بدا لي محبوبا من قبل السجناء! فأطلق حميد ضحكته الخافتة ثم قال: خضير محبوب من قبل السجناء؟! انه غول السجن. فسألته: ولماذا؟ فقال: لأنه المسؤول عن تنفيذ أوامر المأمور فلاح بإيذائنا. والمأمور فلاح يكره السجناء كراهية شديدة ويعتقد انهم مجرمون ينبغي إذلالهم وتعذيبهم وسحقهم حتى العظم. سألته مندهشا: وكيف يسكت مدير السجن عن مثل هذه التجاوزات؟ أجاب: أقول لك الحق يا أستاذ. أن مدير السجن لا يعلم بمثل هذه التجاوزات. فسألته: ولماذا لا يبلغه السجناء المعتدى عليهم؟ فقال: ليس هناك من يجرأ من السجناء على ابلاغه، وقد تجرأ بعضهم مرة فشكوا إليه حالهم فتلقوا مقابل ذلك درسا لا يمكن ان ينساه أي سجين. فقلت مأخوذا: أهذا ما يحدث في السجن فعلا؟ فقال: هذا ما يحدث فعلا يا أستاذ بلا مبالغة. ثم نظر إلّّيّ بعينين حزينتين وأضاف قائلا: نحن نعاني هنا من ظروف لا إنسانية شنيعة يا أستاذ، فطعامنا اسوأ طعام ومعاملتنا اسوأ معاملة بل نحن نعيش في سجن داخل سجن. فمأمور السجن يسمح للسجناء من المجرمين العتاة أن يتحكموا بالمساجين الضعفاء، وفي مقابل ذلك يرفه عنهم. وهؤلاء يبتزون السجناء ذوي الإمكانات المالية ويفرضون عليهم إتاوات كبيرة أعتقد أنها توزع على مسؤولي السجن. وهم يفتعلون المشاجرات مع هؤلاء السجناء ويبطشون بهم. كما أنهم يروّعون الفتيان الضعفاء ويستغلونهم جنسيا ويتاجرون بهم. ومن يتمرد عليهم منهم يضرب ضربا مبرحا وتتولى الإدارة معاقبته. وسكت لحظة ثم قال بصوت هامس حزين: السجن هنا هو الجحيم بعينه يا أستاذ. قلت وقد غلبني التأثر: ما أشد حزني لما أسمع يا حميد. مناجاة ... إذن كنت أرسل مخالفي القانون إلى الجحيم! وكنت فخورا باستخدام أقصى ما يخوله لي القانون من عقوبة وفي ظني أنني أقدم خدمة جلّى للعدالة. أكنت أصدق حقا في أعماقي بأنهم يأخذون في سجوننا بمقولة(السجن إصلاح وتهذيب)؟ ما أكثر من أر سلتهم إلى الجحيم يا حكمت!
قصدت إلى نادي القضاة وقلبي مثقل بالهم. ولم أكن أتوقع أن أتخفف من همومي بالتحاور مع الصحاب فقد اقتنعت بأنهم طلّقوا القانون ولم يعد يهمهم في شئ. وألفيتهم يتحاورون في موضوع تافه كالعادة وكأنه موضوع خطير. كان حاتم يهتف بصوته الحاد:لا.لا. هذا أمر غير مقبول. انه يظهر صورة بلدنا أمام السواح مضحكة، ولعلهم يتصورون أن لدينا كرنفالا دائما، فأزياء الناس متناقضة بشكل لا مثيل له. هذا يلبس السترة والبنطلون وذاك يلبس الصاية والسترة. والثالث يرتدي الدشداشه. والرابع يلبس الشروال..إلخ.... اما لباس الرأس فأشد غرابة . فهناك من يلبس الجراوية. وأخر يلبس اليشماغ والعقال. وآخرون يلبسون الكشيدة بألوانها المختلفة الخضراء والبيضاء والحمراء. وهناك من يلبس العمامة بألوانها المختلفة السوداء و البيضاء والخضراء والزرقاء. وهناك السدارة أو الطربوش. ألا يمثل مثل هذا المنظر كرنفالا غريبا؟ وطال النقاش المحتدم بينهم. البعض يشجب تنوع الملابس وآخرون يؤيدون تنوعها باعتبارها تمثل تنوعا ثقافيا . وظللت أستمع إليهم صامتا. ثم التفت إليّ بهجت فجأة وقال: لا بد أن تدلي برأيك في الموضوع يا حكمت. فلماذا أنت صامت؟! فقلت: أنا في الحقيقة لا أرى موجبا للاهتمام بمثل هذا الأمر أصلا. فالمهم أن تغطي الملابس أجسادنا العارية ولتكن ما تكون. ولكن هناك أمورا أهم من هذا بكثير ينبغي أن تشغل تفكيرنا كقضاة. قاطعني بهجت بصوته الوديع: لا يا حكمت. نحن لم نعد قضاة. نحن الآن مواطنون عاديون. ثم أضاف وهو يضحك ضحكته الرقيقة: لماذا لا تريد أن تعترف يا حكمت بأننا الآن متقاعدون؟ قال ماهر و هو يطلق قهقهته الراعدة: نحن متقاعدووون ياحكمت. فقلت محتجا: وإذا كنا متقاعدين.. هل يعني ذلك أننا صرنا على هامش الحياة؟ هل يعني ذلك أن مهمتنا الوحيدة صارت انتظار الموت؟ فقال ماهر: نحن نلعب في الوقت الضائع على حد تعبير أهل الكرة يا حكمت. فقلت: فهل ينبغي لنا إذن أن نتنكر لحياتنا الماضية كقضاة ولا نفكر مثلا فيما اعتراها من تقصير؟ تساءل حاتم باستنكار وشاربه الأبيض الكث يهتز بقوة: أي تقصير تعني يا حكمت؟ لا أظن أن أي واحد منا ارتكب تقصيرا في حياته المهنية يستدعيه التفكير فيه الآن. فقلت وأنا أدير عيني في وجوههم: فدعوني إذن أسألكم سؤالا يتعلق بصميم عملنا. من منا فكر يوما بزيارة سجوننا والاطلاع على أحوالها؟ فقال حاتم باستنكار: ولماذا نزور السجون؟ نحن قضاة ولسنا مفتشو سجون. فقلت: حتى لو قلت لكم إنني قمت مؤخرا بزيارة سجن ابي غريب فاكتشفت أنه يمثل الجحيم على حد تعبير أحد السجناء وليس كما كنا نعتقد بان السجن موئل لتأهيل المحكومين؟ قال رؤوف بصوته الوقور: هذا أمر لا يخصنا يا حكمت. وهناك موظفون مسؤولون عن السجون. فقلت: بل على العكس يا رؤوف. انه أمر يخصنا. فنحن الذين نرسل المدانين إلى السجن، وإن عدم إطلاعنا على أوضاع سجوننا تقصير كبير منا. قال بهجت: يا حكمت.. قد يكون هناك شئ من التقصير صدر عنا أثناء عملنا الطويل.. وهذا أمر طبيعي جدا، لكننا عموما التزمنا بواجبنا كقضاة مهمتهم تطهير المجتمع من الخارجين على القانون. وكنت أنت من أشدّ الحريصين على المحافظة على نظافة المجتمع من الجريمة. فلماذا تقلب دفاترك القديمة بدون جدوى سوى تحميل نفسك ذنوبا لم ترتكبها؟ وقال رؤوف وهو يبتسم: طلّق القانون مثلنا يا حكمت واستمتع بالراحة في السنوات القليلة المتبقية لك من عمرك. وهتف ماهر بصوته الأجش: ارحمنا من أفكارك الغريبة هذه يا حكمت. مناجاة ... ويلك يا حكمت! ماذا ستفعل بأفكارك و هواجسك؟ هل ينبغي لك أن تتحمل عبئها لوحدك؟ أما من أحد يمكن أن يشاركك فيها؟!
فجأة وجدتني راغبا في زيارة عديلي رحيم الساعدي. كنت شبه مقاطع له طوال حياتي لأمرين، الأول لأنني كنت أعتقد أن آراءه المتطرفة التي قادته إلى السجن مرارا تنم عن حمق وقلة عقل. والثاني لأنه مدرس ثانوي و لا يرقى إلى طبقة القضاة. قلت لفضيلة ونحن نتناول فطورنا : ما رأيك في أن نزور بيت أختك مساء اليوم يا فضيلة؟ رمقتني فضيلة بدهشة وتساءلت وهي ترفع حاجبيها الرقيقين: عجبا . . نزور بيت أختي؟! وما الذي ذكّرك بهم ؟ فقلت: وما العجب في ذلك ؟ قالت: لأنك طو ل عمرك تكره الجلوس مع زوجها رحيم . فقلت : على كل حال فلنزرهم مساء اليوم . وعند المساء كنا في منزل عديلي رحيم. ودهش رحيم دهشة عظيمة لهذه الزيارة. وهتف باحتفال: يا مرحبا بالأستاذ حكمت.. يا مرحبا!. وكانت سعدية أعظم سرورا منه. وراحت تكرر عبارات الترحيب ووجهها يترقرق فرحا. قالت فضيلة : يجب أن أقول لكما ان حكمت هو الذي اقترح هذه الزيارة. فقلت: الأستاذ رحيم يعلم أنني لم أكن أجد أيام الوظيفة وقتا للتزاور. وصار ذلك عادة متأصلة فيَّ. قال رحيم ووجهه الضامر ينبسط في بسمة عريضة:هذا أمر مفهوم. كنت مترهبا في محراب القانون. قالت فضيلة وهي تنظر إليّ من زاوية عينيها: وهل كان يجد وقتا للجلوس معنا؟ كان يحبس نفسه طول الوقت في غرفته. قال رحيم في احتفال: بالطبع.. بالطبع. من أين له الوقت وهو مكب على تأليف كتب القانون؟ وانغمرت فضيلة وأختها في حديث خاص وران عليّ وعلى رحيم الصمت لدقائق. قلت أخيرا: أصارحك يا رحيم أنني صرت ألان أعاني من الفراغ بعد التقاعد خصوصا وأنني لم أطور لنفسي هواية أخرى. لم أعرف غير كتب القانون والقضايا خلال حياتي المهنية. وحتى المجلات والجرائد اليومية لم أعتد عليها فلم أكن أجد الوقت لقراءتها. قال رحيم بلهجته الاحتفالية: بالطبع.. بالطبع. أنا نفسي شعرت بالفراغ حينما أحلت على التقاعد. فأنا كنت أحب عملي كثيرا وأحب تلامذتي. لكن الذي أعانني على احتمال التقاعد انصرافي إلى القراءة وانهماكي في مراقبة الحياة من حولي والتجاوب مع هموم الناس ابسطاء . فقلت: لكن مشكلتي يا رحيم أنني لم أعتد طوال حياتي على قراءة كتب غير كتب القانون. والآن لا يمكنني استساغتها بعد أن أُحلت على التقاعد. أما الناس البسطاء فلم أفكر يوما في معرفتهم عن كثب . فقال رحيم وهو يضحك ضحكة خفيفة : لم يكن بامكانك بالطبع أن تشغل نفسك بمجريات الحياة العادية يا استاذ حكمت . فلست معتادا على الاهتمام بأحوال الناس البسطاء. فتربيتك الأرستقراطية لم تكن تعينك على ذلك . واعذرني على هذه الصراحة . فقلت : أنت على حق وكم يمضّني الندم على ذلك يا رحيم. حملق رحيم في وجهي مدهوشا وقال في ارتياب: غير معقول. هل أنت جاد فيما تقول يا أستاذ حكمت؟ فقلت: بالتأكيد. وهذا الشعور يؤذيني لأنني لاحظت وأنا أراجع أحكامي في بعض القضايا أنها لم تكن متطابقة تماما مع العدالة الحقة بسبب جهلي بأحوال الناس البسطاء وعدم التعرف على همومهم عن قرب . قال رحيم وقد تألق وجهه الضامر: اسمح لي أن أقول لك يا أستاذ حكمت إن هذا تطور خطير في أفكارك، وهو تطور عظيم وإن جاء متأخراً مع الأسف. وليتك تتلافى ما فاتك من معرفة بأحوال الناس البسطاء خصوصا وقد توفر لك الوقت الآن فتحاول أن تخالطهم في الأسواق والمقاهي وأماكن تواجدهم . فقلت: فعلا. هذا ما ينبغي لي عمله الآن فلا عذر لي في تجنب ذلك . قال رحيم بحماس وقد غمرته موجة من الابتهاج: ويقتضيك ذلك أيضا معرفة أحياء العاصمة الشعبية حيث يعيش الناس البسطاء . فأنت على ما أعلم با أستاذ حكمت لا تألف من العاصمة سوى أحياء معينة هي التي يمكن أن نسميها أحياء راقية . وطول عمركم تعيشون في العيواضية . ثم اضاف وهو يضحك : وقد تعرف بعض محلات الرصافة ولكنك بالتأكيد لا تعرف أية محلة من محلات الكرخ . فقلت: أنت محق في ذلك أيضا يا رحيم. والحقيقة أنني منذ صغري لا أعرف سوى مناطق محدودة من العاصمة . فلم يكن لديّ وقت للتجوال. كنت مكبا على الدراسة منذ كنت تلميذا في الإعدادية. وأعدك أن أفعل ذلك . قال رحيم وهو يتأملني بعينين متألقتين: كم يسعدني هذا التغيّر في أفكارك يا أستاذ حكمت. وصمت لحظة ثم تساءل: أتسمح لي بطلب يا أستاذ حكمت؟ فقلت: تفضل. وبدون (أستاذ) من فضلك. وإلا هل نسيت أنك عديلي؟ قال في احتفال: بالطبع.. بالطبع. وما دام كلانا قد صار متقاعدا.. وما دام الوقت قد توفر لك الآن، فهل تسمح يا حكمت بأن نتبادل الزيارات والحوارات بشكل متواصل بدلا من التباعد الذي كان بيننا؟ قلت بحرارة: بكل سرور يا رحيم.. بكل سرور. مناجاة ..أخيرا عثرت على من يفهم موقفي ويتعاطف معي ويشاركني أفكاري وهمومي .. رحيم الساعدي. هذا الشخص الذي كنت أتعالى عليه وأضمر له الاحتقار. مرحبا بك صديقاً عزيزاً يا رحيم الساعدي.
امتطيت سيارتي وانطلقت إلى ذلك الحي الهامشي من العاصمة المدعو مدينة الثورة . ولم أكن أتصور أنه بهذا الاتساع. لقد بقيت أتجول بين أزقته الملتوية الضيقة الموحلة لوقت طويل . ودهشت لحقارة منازله التي كانت أقرب إلى القبور منها إلى بيوت سكنية. ولم يبدو لي هذا الحي أفضل من قرية الطهمازية. فمنازله وأزقته وأسواقه تتشابه تماما مع منازل وأزقة وسوق الطهمازية. بل إن بعض منازله كانت أكواخا حقيرة من علب الصفيح. وكان ازدحام الناس فيه عظيما وكانت سمتهم الفقر المدقع. وكنت أعلم أن هذا الحي هو مثوى المهاجرين من أرياف الجنوب على نحو الخصوص. لكنني لم أكن أدرك أنه بهذا المستوى المتدني. وتذكرت وأنا أتجول في ربوعه أن أصحاب الكثير من القضايا الجنائية التي توليتها كانوا من المقيمين في هذا الحي. وكنت ألجأ فيها إلى أقصى عقوبة يخولها لي القانون لاستئصال الشر والجريمة من نفوسهم فيا للأسف. مناجاة . .أفليس أمرا طبيعيا أن تعشعش الجريمة في مثل هذا الحي الذي يقيم فيه أناس بؤساء يفتقرون إلى ابسط مقومات الكرامة البشرية؟ وهل كانت حظوظهم في الحياة عادلة يا ترى إذا ما قورنت بحظوظ الناس المتنعمين؟ أفلم أكن متجنيا عليهم في أحكامي الصارمة ؟
قلت لرحيم وقد جمعتنا مقهى شعبي يطل على النهر: لقد استجبت لاقتراحك يا رحيم وقمت أمس بزيارة لمدينة الثورة . هتف رحيم في دهشة: غير معقول! هل فعلت ذلك حقا يا حكمت؟ هل استجبت لاقترا حي بهذه السرعة؟ غير معقول! أجبت : هذا ما حدث فعلا. قلت لنفسي إن الكثيرين من أصحاب القضايا التي توليتها من أبناء هذا الحي. وقد آن الأوان لأن أطلع على أحواله. تساءل رحيم في فضول: وكيف وجدته؟ فقلت: في أسوأ حال، لم أكن أتصور أنه بهذا البؤس والوضاعة. فقال رحيم: بالطبع، أنت تعلم يا حكمت أن سكانه جميعا من أبناء الريف الذين هجروا قراهم وقدموا إلى العاصمة طامعين في حياة افضل، لكن القليلين منهم توفرت لهم فرص الحياة الجيدة. قلت متأملا: إنني أستطيع أن أدرك الآن لماذا تكثر الجرائم بينهم، وما أشد ندمي لأنني كنت أقسو عليهم في أحكامي. قال رحيم وقد اشرق وجهه: كم يسرني قولك هذا يا حكمت. وياليت قضاتنا يفكرون هكذا. فقلت : أتدري يا رحيم؟ لقد كنت أشبه بحصان العربة المحجوب العينين الذي لا يمكنه النظر إلا في اتجاه واحد. قاطعني رحيم محتجا : لا.. لا يا حكمت. لا تقل ذلك عن نفسك. قلت في أسى: كان شأني كذلك فعلا يا رحيم. كان همّي الأخذ بنصوص القانون بصرف النظر عن ظروف المدان. لذلك أخطأت في خدمة العدالة الحقة في أحيان كثيرة. قال رحيم بلطف: لا تظلم نفسك الى هذا الحد يا حكمت. كنت قاضيا نزيها يبتغي خدمة العدالة. وكل ما هنالك أنك كنت تحمل وجهة نظر خاصة في القانون. ولم تكن ترى ضرورة للتعرف على ظروف الناس. فقلت: شكرا على كل حال لتفهمك موقفي هذا الذي صرت أنا شخصيا أدينه. فأنا مقتنع الآن بأنني أخطأت الحكم في كثير من القضايا التي توليتها. كان ينبغي لي ألا أعيش في برج عاجي وأعزل نفسي عن الناس بحيث لا أعرف شيئا عن ظروف حياتهم. قال رحيم بلطف: لا داعي لأن تلوم نفسك الى هذا الحد ياحكمت، فكل القضاة يسيرون هذه السيرة ولا تهمهم ظروف الذين يخرجون على القانون، وهم يتصرفون كموظفين حكوميين مهمتهم تطبيق نصوص القانون. والقليل منهم من يتعامل مع القانون باعتباره أداة لتوفير العدالة الحقة. و لحسن الحظ أن هنالك من المحامين من يقف لهم بالمرصاد. فقلت: أنا أخالفك في رأيك هذا بالمحامين يا رحيم. فالغالبية منهم لا تهمهم العدالة بقدر ما يهمهم جني المكاسب. قال رحيم: ولكن هناك فئة منهم وهبت نفسها للدفاع عن العدالة فعلا يا حكمت. وأنا سعيد أن يكون لي صلة قوية بواحد من أمثال هؤلاء المحامين. وهو محسن اللامي. فسألته: أفليس هو الذي صدر عليه حكم بالسجن باعتباره يمارس نشاطا يهدد أمن الدولة؟ فقال باعتزاز: نعم هو نفسه، وهو يقضي الآن عقوبة بالسجن لمدة عامين في سجن الكوت . وانا أزوره في كل مواعيد الزيارة فهو من أحب تلامذتي إلى نفسي . وسكت للحظة ثم أضاف : تصور أنه يقضي وقته في تعليم الأميين من المسجونين القراءة والكتابة وشيئأ من الثقافة العامة . فكرت قليلا ثم سألته: هل يمكن أن أرافقك في زيارتك المقبلة يا رحيم؟ فقال في احتفال: سيسعده ذلك جدا ياحكمت. فقلت: لا أظن أنه سيسعد بزيارتي يا رحيم، فهو يعلم أنني من القضاة الذين يشبهون حصان العربة. قال رحيم بلطف: لا تقل ذلك عن نفسك يا حكمت. … مناجاة . . لقد كنت حصان عربة فعلا يا حكمت. كنت تنظر إلى الأمام فحسب. لم تكن تتلفت حواليك. لم يكن يهمك ما يجري حواليك. لم تكن تسمح لعقلك أن ينطلق خارج الصندوق الذي أودعته فيه. ورحيم الساعدي. . هذا الذي كنت تحتقره لأنه ليس من طبقة القضاة. كم تشعر الآن براحة لقلبك المعذب وأنت تتحاور معه. كيف جاز لك أن تقاطعه كل تلك السنين؟ بل كيف جاز لك أن تفسر نضاله في سبيل العدالة الاجتماعية بأنه حمق وغباء؟! يالك من حصان عربة حقيقي يا حكمت!
مضينا أنا ورحيم إلى سجن الكوت لزيارة المحامي محسن اللامي. واستقبل محسن رحيم بحرارة لكنه حيّاني بفتور واستغراب. قال رحيم بلهجته الاحتفالية: حينما علم الأستاذ حكمت بأنني أزورك دائما يا محسن رغب في أن يرافقني في زيارتي. قال محسن في فتور وهو يبتسم ابتسامة مصطنعة: أهلا وسهلا.. خطوة عزيزة كما يقول المصريون. فقلت: يؤسفني أن أراك في مثل هذا المكان يا أستاذ محسن وفي مثل هذه الملابس. فقال محسن وعيناه القويتان تبرقان: لا داعي للأسف يا أستاذ حكمت. فهذا جزء من ثمن الواجب اذي في عنقي لشعبي المقهور. وهو أمر أدين به لأستاذي رحيم. قال رحيم في امتنان: انه قلبك الخيّر يا محسن. وأنت لا تدين بذلك لأحد. قال محسن محتجا: لا بل هي الحقيقة يا أستاذ رحيم، فأنت أول من فتح عيني على واجبي في الدفاع عن أبناء بلدي من المسحوقين. فقلت : على كل حال ليس مكان محام نابه مثلك وراء قضبان السجن. قال محسن وعيناه تبرقان: أؤكد لك يا أستاذ حكمت أنه يوجد في هذا السجن كثير من الأشخاص الذين يقتضي العدل أن يكونوا خارج القضبان. وإن الكثيرين ممن يتمتعون بالحرية والنفوذ ينبغي أن يكونوا وراء القضبان. قلت محرجا: لكنك تعلم يا أستاذ محسن وأنت رجل قانون أن للقانون أحكامه، وكل واحد من هؤلاء المسجونين قد خالف القانون بشكل من الأشكال. هز محسن رأسه الحليق وقال وقد تلاعبت على شفتيه بسمة ساخرة: وأنا بدوري أذكرك يا أستاذ حكمت و أنت سيد العارفين بكتاب مونتسكيو (روح القوانين). فالكثيرون ممن يقبعون وراء القضبان هم ضحية التمسك بنصوص القانون الجامدة لا بروحها. فقلت مبتسما: أنت ولاشك من المحامين اللامعين وما أزال أتذكر دفاعك يوما عن أحد المتهمين الذي حاولت فيه أن تستثمر روح القانون لا نصوصه. فقال في تهكم مبطن: لذلك خسرت تلك الدعوى أمامك يا أستاذ حكمت بل ونال موكلي أقصى عقوبة لأنك كنت ممن تستعبده نصوص القانون وممن يتجاهلون مبررات الضعف البشري. وأمثالك من القضاة يسخرون القانون لخدمة الأقوياء. وأنا آسف إذ أقول ذلك. قلت وأنا أهز رأسي: لا داعي للأسف فتلك هي الحقيقة. قال رحيم باعتزاز : لقد تغيرت نظرة الأستاذ حكمت يا محسن وهو الآن يشعر بالأسى لبعض أحكامه السابقة. هتف محسن بدهشة: أحقا ذلك يا أستاذ حكمت؟ هذا تطور خطير إذن خصوصا وأنه يصدر من قاض متفقه مثلك. وسيكون له انعكاس ممتاز على محاكمنا بما لك من سمعة عالية. فقلت: لكن هذا التغير جاء بعد فوات الأوان يا أستاذ محسن. قال محسن محتجا: ولماذا يا أستاذ حكمت؟ أنت قاض له تأثيره في أروقة المحاكم. فقلت: لأنني أحلت على التقاعد يا أستاذ محسن. قال محسن محتجا: لا يا أستاذ حكمت.. لا. ليس بعد فوات الأوان. لا يزال لديك دور لتلعبه لو شئت0 فيمكنك أن تعلن عن وجهة نظرك الجديدة هذه في القانون على الملأ وتنشر مقالات عنها في الصحف. وسيؤثر ذلك على القضاة، فيعدلّون من مواقفهم المتصلبة. لقد كنت قاضيا له وزنه بين القضاة وكتبك يعرفها جميع القضاة والمحامين يا أستاذ حكمت. وأعلن عن انتهاء الزيارة فقال محسن بحرارة: أسعدتني زيارتك جدا يا أستاذ حكمت فشكرا جزيلا لك. …
مناجاة . . لقد قالها محسن اللامي بصراحة. كنت ممن تستعبده نصوص القانون لا روحه. ولماذا استعبدتني نصوص القانون؟ لأنني لم أكن أنشد العدالة الحقة، بل كنت أنشد معاقبة الضعفاء على ضعفهم البشري.. تلك هي الحقيقة.. فلماذا لا أعترف بها؟ إلام أظل أخدع نفسي؟! أليس هو أبي الذي غرس في قلبي كراهية الضعف البشري؟ كان يردد دائما: (إن الضعفاء هم الذين يستسلمون للشر). وقد أوحى إليّ بالأخذ بأفكاره في سوح القضاء. وكان حلمه أن أصير قاضيا وأتبنى أفكاره. وحينما تخرجت من كلية الحقوق بذل أقصى مساعيه لأعين في سلك القضاء. وأتذكر جيدا ما قاله لي حينما صدر أمر تعيني قاض جزاء في محكمة العاصمة الغربية: (والآن حان دورك يا حكمت لتنظف المجتمع من الجريمة ولتسحق الضعفاء). و أتذكر لهجة الفخر التي خاطبني بها عند صدور أول حكم لي على أحد المدانين في جريمة بسيطة و قد استخدمت فيه أقصى ما يخوله لي القانون من عقوبة: (هكذا يجب أن تكون الأحكام يا حكمت. هذه هي الطريقة التي يسحق بها الإجرام والمجرمون يا حكمت). وكم كانت تسره أحكامي الصارمة على المدانين.. لقد آن الأوان لي يا أبي لأن أنبذ آراءك المنحازة وأُكفّر عن سوء فهمي للقانون
استقبلني الصحاب بفتور . وما أن اتخذت مجلسي بينهم حتى قال بهجت بلهجته الوديعة: كنا بذكرك الآن يا حكمت. قلت باسما: خير ان شاء الله. قال حاتم بتهكم مبطن: كنا نتحدث عن مقالك العجيب. قال بهجت برفق: الحقيقة أن المقال خطير يا حكمت. والأخطر من ذلك أن يصدر من شخص متفقه بالقانون مثلك ومن مؤلف الكتب القانونية المعروفة. قال ماهر بصوته الأجش: إنه خطير جداً.. خطير جداً يا حكمت. تساءلت وأنا أنقل أنظاري بين وجوههم: ولكن لماذا هو خطير؟ قال رؤوف بصوته الهادئ: نحن طبعاً قضاة متقاعدون الآن ولم يعد هذا الأمر يهمنا. لكننا لا نستطيع أن نفصل أنفسنا عن ماضينا كما قلت أنت يوما ياحكمت. وبالتالي فقد أثار المقال في نفسي أنا شخصياً ردّ فعل سيئ.. خصوصاً وأنه يصدر من مؤلف قانوني مشهور مثلك كما قال بهجت. فسألته: ولكن لماذا يا رؤوف؟ أجاب: لأنه ينطوي على دعوة إلى الضرب بنصوص القانون عرض الحائط والاحتكام إلى العاطفة بحجة الإنتصاف للناس المسحوقين . قال حاتم وهو يهز رأسه الكبير: بالضبط.. بالضبط. وهذا رأيي فيه أنا أيضاً. فقلت: لكنني لم أقل ذلك في مقالي. كل ما قلته هو أن من الضروري أن نقرن النصوص القانونية باللمسة الإنسانية عند توظيفها. ودعوتي هذه لا تتضمن أي مساس بالقانون. تساءل حاتم بلهجته المتهكمة: أتعني أنك لا تدرك خطورة هذه الدعوة على سمعتك يا حكمت؟ فسألته: وما وجه الخطورة في المقال على سمعتي؟ فأجاب: خطورته أن سمعتك كقاض وكاتب متفقه في القانون معرضة للانهيار. وقال رؤوف وهو يبتسم: مشكلتك يا حكمت أنك لا تريد أن تعترف بأنك الآن شخص متقاعد. وأنا شخصياً أعتقد بأن اعترافك بهذه الحقيقة سيجنّبك الكثير من الصداع. وقال بهجت ضاحكاً: تمتع بحياة التقاعد يا حكمت فلم يعد لنا من العمر بقية. … مناجاة . إلى متى أيها الصحاب ستظلون تضيفون إلى خيبة أملي فيكم خيبات جديدة؟ ألستم نفس الأشخاص الذين كان بمقدورهم أن يحكموا على الإنسان بالحياة أو بالموت؟ كم تغيّرتم منذ أن فارقتم منصة القضاء! يوماً بعد يوم تتكشفون لي عن أشخاص عاديين لا تختلفون عن غيركم في شيء!
*
بدا لي ونحن على مائدة الغداء أن وجه فضيلة يعكر صفاؤه. القلق فسألتها: ما بك يا فضيلة؟ قالت وهي ترميني بنظرات كدرة: ما هذا المقال الذي كتبته في الجريدة يا حكمت؟ فقلت : هل وصلتك أنت أيضاً أخبار المقال يا فضيلة؟ فقالت: طبعاً، كان حديثنا في "قبول" أم حسام حول هذا المقال. فقلت : فإذن حديثكن أنتن أيضاً يدور حول القضاء والقوانين ! قالت فضيلة في استنكار: وما العجب في ذلك؟ ألسنا زوجات قضاة؟ وطبعاً أخباركم دائماً عندنا: فسألتها: وماذا قلن في المقال؟ أجابت: قلن أشياء لم تسرّني ولم تعجبني يا حكمت، ويظهر أن المقال لم يعجب أزواجهن. وقالت أم حسام إن بهجت كان قلقاً عليك. فقلت: ولماذا يقلق عليً وأنا قاض متقاعد؟ قالت فضيلة: إنه قلق على سمعتك بين القضاة يا حكمت، فهو كما تعلم يعزّك كثيراً. قلت بعدم اكتراث: وما قيمة سمعتي الآن بين القضاة وأنا شخص متقاعد؟ هتفت فضيلة بارتياع: ما قيمة سمعتك؟ وماذا كسبنا في حياتنا سوى السمعة العظيمة؟ قلت مبتسماً: وماذا يهمك أنت من سمعتي العظيمة؟ قالت في استنكار: يجب أن تعلم يا حكمت أن سمعتك العظيمة تهمني أكثر مما تهمك، فمكانتي المتميزة بين صديقاتي قائمة على سمعتك العظيمة، فهل تريد أن تضيعها مني؟ قلت في عجب: أنا لا أفهم لماذا يؤثر تدهور سمعتي القضائيئة على مكانتك بين صديقاتك! قالت بلهجة حاسمة: لا يهم أن تفهم أولاً تفهم، المهم أن تعرف هذه الحقيقية وأن تحسب حساباً لها. فأرجوك ألا تحاول المساس بسمعتك العظيمة يا حكمت. فقلت: أطمئني فمقالي لا علاقة له بسمعتي. وكل ما في الأمر أن البعض فهمه خطأ. قالت وقد عاودها اطمئنانها: الحمد لله، طمأنتني. وسأخبر صديقاتي أن المقال ليس فيه إساءة إلى سمعتك العظيمة… مناجاة . . سمعتي العطيمة00أهذا كل ما يهمك يا فضيلة؟ ألا يعنيك أبدا أمر العدالة؟ ما كان هذا ظني فيك0
قال لي رحيم ونحن جالسان في مقهانا المطل على النهر ووجهه يضيء بابتسامة عريضة: لو تعلم يا حكمت كم سّرني مقالك! غير معقول! وأنا بالطبع لست اختصاصياً في القانون، لكن، اتجاهك الإنساني الجديد واضح فيه تماماً. وقد حملت الجريدة إلى الأستاذ محسن في زيارتي الأخيرة واطلع عليه فسر ّبه سروراً عظيماً. وقال لي بالحرف الواحد "إن هذا المقال يعدّ ثورة في عالم القضاء عندنا خصوصاً وأنه يصدر عن شخص فطحل في القانون مثل حكمت الطاهر . قلت مبتهجاً: أهكذا كان رأيه في المقال حقاً؟! تساءل مبتسماً: أتحب أن تسمع رأيه مباشرة منه يا حكمت؟ فقلت: يسرني ذلك جداً. واتفقنا على زيارة محسن اللامي في موعد الزيارة التالي.
مناجاة . . من المؤكد أنني أحُسّ بإرتياح عميق لرأي محسن اللامي في مقالي، وهو أول رأي إيجابي يصدر عن شخص مختص بالقانون. وما أبعد الشقة بينه وبين رأي الصحاب المبجلين!
انطلقنا أنا ورحيم إلى مدينة الكوت لزيارة السجن. وما أن لمحنا محسن من وراء القضبان حتى هتف متهللاً: أهلاً بفطحل القانون.. أهلاً بالأستاذ حكمت. ما أشد سروري برؤيتك! قلت وأنا أبتسم: لقد سرّني جداً رأيك في مقالي يا أستاذ محسن. قال متحمساً: أنا أعدّه ثورة في ميدان القضاء عندنا يا أستاذ حكمت خصوصاً وأنه صدر عنك. فقلت: لكنني لا أعتقد أنه سيأتي بثماره يا أستاذ محسن. فقال محسن باحتجاج: لا يا أستاذ حكمت. لا بد أن يترك هذا المقال أثره في رجال القانون. فلماذا تقول عنه ذلك؟ أجبته: أقول ذلك لأنني لمست أثره في زملائي من القضاة المتقاعدين والذين يفترض فيهم أن يكونوا أكثر تقبلاً لأفكاره بعد أن أصبحوا متحررين من قيود الوظيفة.. لقد أجمعوا على استنكاره واعتبروه مساساً بشخصية القانون. هتف محسن في استنكار: أهكذا كان رأيهم فيه؟ يا للعجب! هل بلغ الجمود بعقولهم إلى هذا الحدّ ؟! إن استنكارهم للمقال يعني أنهم بعيدون عن روح العدالة الحقة. فقلت في أسى : هذه هي الحقيقة التي تعذبني الآن يا أستاذ محسن باعتباري كنت واحداً من مثل هؤلاء القضاة. قال محسن بلهجة متعاطفة: على الأقل كانت نيتك صادقة يا أستاذ حكمت. والمهم ألاّ يفت في عضدك موقف أولئك القضاة المتحجري العقول وأن تواصل الطريق الذي بدأته فلا بد أن تأتي جهودك بثمارها في النهاية. فقلت: يخيّل إليّ أن الأوان قد فات على ذلك يا أستاذ محسن. قال محسن بقوة: أؤكد لك يا أستاذ حكمت أن الأوان لم يفت بعد. المهم هو الثبات على الموقف. وقبل أن ننهي زيارتنا قال لي محسن : إنني سررت بزيارتك جدا يا اأستاذ حكمتز . فقلت :إذن سأكررها دوما يا أستاذ محسن . مناجاة . . هل يمكن أن أطمئن لتفاؤل محسن اللامي وأقتنع بأن مقالاتي ستسهم في خدمة العدالة حقاً؟! ما أحوجني إلى ذلك . فأنا أزداد أقتناعاً يوماً بعد يوم بأنني أثناء عملي الطويل لم أقدم أية خدمة للعدالة الحقة. فلقد كنت مغمض العينين ولم يكن لديّ أي مأخذ على نمط الحياة من حولي والتي يحكمها في نظري نظام معين تحميه قوانين معينة. ولم أكن أسمح لنفسي بمناقشة ما في تلك الحياة من مظالم. وكنت أعتقد أن على كل أفراد المجتمع أن يخضعوا لتلك القوانين وإلا فإنهم خارجون عليها مهما كانت ظروفهم . والآ ن بعد ان بدأت أخالط الناس البسطاء وأتعرف على همومهم عن كثب . . ألا يجدر بي أن أسأل نفسي : أية خدمة تلك التي قدّمتها للعدالة الحقة يا حكمت ؟
قلت لرحيم ونحن نتأمل غروب الشمس فوق النهر: كلما فكرت بأمر محسن يا رحيم ازددت قناعة أن هناك ثغرات شنيعة في قوانيناً. فكيف يمكن أن يصدر قاض مسؤول عن العدالة الحكم بالسجن على زميل لم يرتكب جرما ؟! قال رحيم وهو يتأملني مشرق الوجه: غير معقول ! ما أعظم الفرق بين حكمت القاضي المتزمت وبين حكمت الإنسان الذي فتح عقله وقلبه لتأمل ما يقع من ظلم حواليه. وإني لأشعر بأسف عميق يا حكمت لأن هذا التغير لم يحدث لك وأنت تمارس مهنة القضاء. قلت وأنا أهز رأسي بحزن: أنا أيضاً آسف كل الأسف لذلك يا رحيم. وهكذا جنيت على كثير من الناس بأحكامي المتشددة، بل إنني لم أستطع أن أفعل شيئاً للعدالة يوم كان باستطاعتي ذلك. قال رحيم وهو يبتسم بلطف: أنت لم تجن على أحد يا حكمت، وكل ما هنالك أنك التزمت بنصوص القانون. خيّم علينا الصمت دقائق، ثم قلت : أصارحك القول يا رحيم أنني كنت يومذاك أسعد حالاً مما أنا عليه الآن. وكما قال أحد الكتاب: "حينما يأخذ المرء بالتفكير يبدأ بالأفول". تساءل رحيم في شيء من الدهشة: ولماذا يا حكمت؟ المفروض أن تكون سعيداً الآن لأنك أدركت الحقيقة. قلت في أسى: لكن هذه الحقيقة باتت تعذّبني يا رحيم. كنت منسجماً مع نفسي وسعيداً بإعتقادي بأنني راهب في محراب القانون وأنني جندي من جنود العدالة. وكنت مغمض العينين لا أهتم بما يجري حولي من بؤس الناس ومعاناتهم معتقداً أن ذلك الأمر لا يعنيني. والآن يتضح لي وأنا أراقب حياة الناس البسطاء غياب العدالة الاجتماعية غياباً تاماَ. وقد ازددت اقتناعاً يوماً بعد يوم وأنا أتقصى شؤون الناس أن عالمنا هو عالم الأقوياء ولا مكان فيه للضعفاء والمساكين. وهكذا أصبحت دائم الغضب على العالم وعلى نفسي. قال رحيم: أنا معك في كل ما قلت يا حكمت.ولكن لا تقسو على نفسك إلى هذه الدرجة. أنت على الأقل تعترف الآن بخطأ تفكيرك القديم وتحاول إصلاح عواقبه بشكل من الأشكال. فقلت في حزن : لا أعتقد أن بإمكاني إصلاح أخطائي القديمة مهما فعلت يا محسن. فلقد سخرت القانون أثناء عملي لخدمة الأقوياء فعلاً كما قال محسن. وحينما أفكر الآن في القضايا التي توليتها لا أتذكر أنني أصدرت حكماً على قويّ من الأقوياء أكانت قوته مستمدة من ثروته أم من نفوذه السياسي أم من مكانته في المجتمع. كل الذين أرسلتهم إلى السجن كانوا من ضعاف الناس. فهل يمكن أن تكون مخالفة القوانين مرتبطة بالضعفاء المساكين من الناس فقط؟ أليس من الغريب ألاّ يطال القانون من يسرقون الملايين من ذوي الثراء المفرط وذوي النفوذ والجاه بل يعاملون بالتبجيل والتكريم بينما يطال اللصوص الصغار من الفقراء المساكين؟! رمقني رحيم بإعجاب وقال: لشد ما تغيرت يا حكمت! من كان يصدق أن حكمت الطاهر يجلس في مقهى شعبي ويخالط الناس البسطاء ويستمع إلى همومهم الحياتية والمعيشية ويفكر على هذا النحو؟! ولكن أرفق بنفسك يا حكمت ولا تُحملها كل هذه الذنوب. مناجاة . . هل أستطيع حقاً أن أرفق بنفسي ولا أحملّها الذنوب؟ أظن أن من يخفق بين جوانحه ضمير حيّ لا يمكنه أن يفعل ذلك. لا بد لي أن أكفر عن ذنوبي. سأكتب مقالات أفتح بها عقول القضاة المتحجرة مهما يكلفني ذلك من متاعب! لا بد أن أجعل القانون في خدمة الضعفاء لا في خدمة الأقوياء.
كان نقاشاً محتدماً ذلك الذي دار بيني وبين الصحاب حول مقالي الثاني. كنت أعلم مقدماً أنه سيثيرهم بعد أن تلقوا مقالي الأول بمثل ذلك الإستنكار. لذلك لم أعجب لردّ فعلهم. قال بهجت بلهجته المهذبة: لم يدر بخلدي يوماً يا حكمت أن يكتب شخص ضليع في القانون مثلك هذا النوع من المقالات. أين ذهبت كتبك العظيمة؟! وقال ماهر وهو يقهقه: ويا عالم ماذا سيكتب في المستقبل مادام قد بدأ بكتابة هذا النوع من المقالات! قال حاتم بانفعال: لا..لا. المسألة خطيرة جداً..هذا إسفاف غير مقبول. إنه طعنة في قلب القانون ودعوة للقضاة ألا يلتزموا به. وممن تصدر هذه الدعوة؟! من حكمت الطاهر ! تساءلت وأنا أبتسم: هل قلت أنا هذا فعلاً في مقالي؟! ردّ حاتم بلهجته المنفعلة: إذن ماذا يعني قولك إن القانون في أحيان كثيرة مع القوي ضد الضعيف؟ فقلت: هذه هي الحقيقة التي توصلت إليها بعد أن راجعت القضايا التي توليتها. فلا أتذكر أن المدانين كانوا يوماً من الأقوياء ذوي الثروة والنفوذ والجاه . قال بهجت: لكن ذلك لا يعني يا حكمت أن القانون يحمي الأقوياء على حساب الضعفاء. كل ما هنالك أن من تسميهم بالأقوياء أكثر إدراكاً وطاعة للقوانين ممن تسميهم بالضعفاء، وهم في غنىٌ عن مخالفة القوانين بسبب ظروفهم الجيدة. فقلت: بل قل هم أكثر براعة في التحايل على القانون . وعلى كل حال فهذا ما قصدته يا بهجت من نظريتي. فالقانون لا يأخذ بنظر الاعتبار ظروف الضعفاء وهذا أمر طبيعي جداً. فالذين يتولون وضع القوانين هم الأقوياء وبالتالي لابد أن تصب في خدمتهم. قال ماهر بصوته الأجش: كلامك هذا يا حكمت ينطبق عليه المثل القائل: " كلمة حق أُريد بها باطل". فأنت تهدف بدعوتك هذه إلى إلغاء القوانين ما دام الضعفاء لم يسهموا في وضعها فتلغى بذلك فكرة الثواب والعقاب وتعود بنا إلى جاهلية الإنسان الأولى. قال بهجت بلهجته الدافئة: يا ليتك يا حكمت تكف عن كتابة هذه المقالات فإنها تسيء إلى سمعتك إساءة بالغة. ولا أخفي عليك أنني تألمت قبل أيام أشد الألم حينما سمعت أحد معارفنا من القضاة يقول إنك لا بد قد أصبت بلوثة عقلية.. أنت القاضي الذي كان محطّ التبجيل من جميع القضاة. قال رؤوف وقد بدت الحيرة على وجهه: أنا في الحقيقة يا حكمت مستغرب أشد الاستغراب من هذا التغيّر الذي أصابك وعاجز عن فهم أسبابه. فما الذي يدعوك إلى الإساءة إلى ماضيك وسمعتك العالية على هذا النحو؟ فقلت : أتريدون أن تعرفوا أسباب هذا التغيّر حقاً؟ تساءل رؤوف: نعم.. ما أسبابه؟! فقلت : أسبابه إنني بدأت أفكر. تبادل الصحاب النظرات في ذهول وكأن قولي قد وقع عليهم وقع الصاعقة. ثم أطلق ماهر قهقهته الراعدة وقال: هذا يعني أننا نحن الذين نخالفك آراءك هذه لا نفكر..أي أننا بهائم. قلت في إحتجاج: لا يا ماهر، أنا لا أسمح لك بأن تضع على لساني معنى لم أقصده. فتساءل بصوته الأجش: إذن ماذا تقصد بهذا الكلام؟ فقلت: أنا أقصد بكلامي أننا اعتياديا لا نسمح لعقولنا بأن تفكر خارج نطاق ما يهمنا نحن شخصياً لئلا يتعارض ذلك ومصالحنا أو لئلا نؤذي ضمائرنا وأننا نأخذ الحياة كما هي. فأنا كقاض مثلاً لم أكن أسمح لعقلي بأن يفكر خارج نطاق قناعاته والتي تحكمها أفكاري القانونية المسبقة، ولم يكن يعنيني إلا تطبيق نصوص القانون على المدانين. لم أكن أسمح لنفسي بدراسة الظروف التي تكمن وراء مخالفتهم للقانون. قال حاتم في تهكم: وأين الخطأ في ذلك؟ فقلت: دعوني إذن أسألكم هذا السؤال. كم واحد منا نحن القضاة حاول ان يفكر في الحياة حواليه وقي أحوال الناس المسحوقين الذين يفتقدون أبسط مقومات الحياة الإنسانية الكريمة وهم يشكلون غالبية المواطنين ؟ بالتأكيد لم يفعل ذلك أي واحد منّا. فلو فعلنا ذلك لوجدنا أن العدالة الإجتماعية غائبة كلياً بينهم. فكيف يمكن لنا أن ندينهم وهم يعانون من الظلم والإجحاف؟! كيف يمكن أن نكون حماة العدالة ونقبل بالظلم؟! هذا معناه نفاق وأننا لسنا سوى منافقين . قال حاتم وهو يضحك ضحكة متهكمة:إنني لأسمع العجب العجاب حقاً.. أن يدعو قاض مثل حكمت الطاهر إلى ضرب القانون عرض الحائط والاستجابة للعواطف الذاتية.. أنت ولا شك في وضع غير طبيعي يا حكمت0ثم ألا تلاحظ يا حكمت أن تفكيرك هذا جاء متأخرا جدا ؟ا فقلت : لا يهم إن جاء تفكيري هذا متأخرا جدا .المهم انني بدأت أدرك خطئي . وأنا لست في وضع غير طبيعي يا حاتم . ركل ما هناك أنني بدأت أفكر فيما حوالي وأنتم لا تريدون أن تطلقوا عقولكم من إسارها. قال ماهر وهو يطلق قهقهة راعدة : لاعجب في قولك هذا يا حكمت ما دمت أصبحت تفضل قضاء وقتك في الأسواق والمقاهي الشعبية بدلا من مشاركتنا جلساتنا في النادي. فقلت : لا أكتمكم انني أجد راحتي هناك أكثر مما أجدها هنا . قال بهجت وقد افترش الحزن وجهه: أرى أن نغلق هذا النقاش فلم تعد هناك لغة مشتركة بيننا وبين حكمت. فقال ماهر وهو يرميني بنظرات متهكمة : فعلا . أصبح حكمت ثائرا على نظامنا الزاهر مثل عديله . ولم يعد بيننا وبينه لغة مشتركة . بل إنه صار خطرا علينا ونحن نريد أن نقضي بقية عمرنا في سلام. نكّس الموجودون رؤوسهم وكأنهم يوافقونه على قوله. قلت وأنا أدير عيني في وجوههم: هكذا؟! فهي القطيعة بيني وبينكم إذن. وغادرت المكان مغضباً. مناجاة … لمن أتوجه بدعوتي لإصلاح قوانيننا؟! إذا كان أصدقائي من القضاة يستقبلون آرائي بهذا الاستنكار .. فماذا سيكون موقف رجال القضاء الآخرين؟! ألا يستطيعون أن يفتحوا عقولهم وقلوبهم على الشقاء البشري؟ لكنني سرت في هذا الطريق ولن أتراجع عنه. وسيكون مقالي التالي أشد صرامة. ولا بد أن تأتي جهودي بثمارها يوماً.
فوجئت بعصام جالساً في البهو حينما هبطت من غرفة النوم لتناول فطوري. وكانت فضيلة جالسة إلى جواره وهي عابسة الوجه. قلت في قلق: خير يا عصام. ليس من عادتك أن تزورنا صباحاً. هل الأولاد وأمهما بخير؟ فقال عصام : إنهم بخير يا أبي. فسألته: إذن ما الذي دعاك إلى هذه الزيارة الصباحية ؟ قال وهو يبتسم ابتسامة مغتصبة: أحببت أن أطمئن عليكم يا أبي. التفتت إليه فضيلة وقالت في شيء من الحدة: لماذا لا تقول له الحقيقة يا عصام؟ ثم توجهت إليّ وقالت وهي تخزرني غاضبة: أنا الذي دعوته للحضور يا حكمت. تساءلت في عجب: أنت التي دعوته للحضور؟ ولماذا؟ قالت بلهجتها الغاضبة: حتى يرسّينا على بر. فليس لديّ غيره من أشكو له همومي من أفعالك. قلت بهدوء وقد ادركت مغزى كلامها: وأية أفعال تلك التي تثير همومك؟ قالت وهي تخزرني بنظراتها الحادة: أنت تفهم جيداً ماذا أقصد.. هذه المقالات التي تكتبها على آخر الزمن وتطينّ بها سمعتك. قال عصام بلهجته الدمثة: لا داعي لهذا الكلام يا أمي ودعينا نناقش الأمر مع أبي بهدوء. هتفت محتدة: وكيف لي أن أناقش هذا الأمر بهدوء؟ إنه جعلني أضحوكة بين صديقاتي أمس في قبول أم سلام. تساءلت في هدوء: ولماذا ؟ هتفت غاضبة: ألا تعلم لماذا؟ بسبب مقالك الذي صار مثار الهزء في مجالس القضاة كما أخبرتني أم حسام والذي مسح بسمعتنا الأرض. فقلت: لماذا تصرّين على أن تربطي سمعتك بسمعتي؟ قال عصام بلهجة دمثة: بابا.. اسمح لي أن أقول إننا جميعاً لا يمكن أن نفصل سمعتنا عن سمعتك. فنحن قد كسبنا احترام الناس وتقديرهم بناء على سمعتك. ومكانتك في عالم القضاء. وأنا شخصياً أدين بنجاحي في مكتبي الهندسي إلى سمعتك العالية بين أصحاب النفوذ. قلت في شيء من السخرية: حتى لو كانت تلك السمعة قائمة على دعائم من الرمل؟ تساءل عصام بعجب: وكيف يمكن أن تكون قائمة على دعائم من الرمل يا أبي؟ الجميع يعترفون بأنك من ألمع القضاة وأنك فطحل في القانون. فقلت: فاعلم يا عصام إذن أنني أدركت بأن تلك السمعة قائمة على الوهم، وأنني لم أخدم العدالة أثناء حياتي المهنية. وأريد أن أعوّض عن ذلك. قال عصام باحتجاج : لكنك تظلم نفسك يا أبي. فما تقوله ليس صحيحاً. ولو كان صحيحاً ما اتفق أهل القضاء جميعاً على تقديرك. فقلت: لكن ما توصلت إليه هي الحقيقة يا عصام. قال عصام بلطف: بابا.. لنفترض جدلاً أنك لم تخدم العدالة في حياتك المهنية فعلاً. فماذ يمكنك أن تفعل الآن وأنت قاض متقاعد؟ وما فائدة أفكارك الجديدة هذه عملياً؟ فقلت: على الأقل إنني أُسهم بها في تبصير القضاة الذين يمارسون عملهم ليجتنبوا الوقوع في الخطأ الذي وقعت فيه. فقال عصام: ولكنك تعلم يا أبي أن آراءك هذه قد جاءت بنتائج عكسية ولم تلق أي قبول من أقرب أصدقائك إليك. فقلت : ليس ذنبي أن أمثال هؤلاء الأصدقاء لا يريدون أن يفكروا. فقال عصام: لكن هذا هو واقع الحال يا أبي. والنتيجة أن مقالاتك هذه لن تجلب سوى الضرر علينا. قالت فضيلة في هياج: أنا صرت أضحوكة بين صديقاتي. قلت بهدوء: لا علاقة بما أكتبه من مقالات بكم. إنه شيء يخصني. قال عصام برقة: بل له علاقة كبيرة بنا يا بابا.. فنجاح مكتبي يدين بالجزء الأكبر منه لسمعتك العالية. فالكثير من المقاولات الحكومية التي حصلت عليها يرجع إلى سمعتك العالية. فإذا استمررت في كتابة هذه المقالات ستتضرر مصالحي كثيراً. قلت في تهكم: أنا مازلت لا أفهم كيف يمكن أن تؤثر مقالاتي على مصالحك. فقال عصام: يا أبي.. إن طبيعة عملي يرتبط بما يسمى "العلاقات العامة" والتي عن طريقها نسيّر أمورنا ونصون مصالحنا. وعلى رأس هذه العلاقات علاقتنا بكبار الموظفين المعنيين. وهذه العلاقات تقوم على المجاملة وتبادل المنفعة وأنت سيد العارفين. ونجاح مكتبي الهندسي يرتبط بهذين الركنين. وسأتضرر ضرراً بالغاً إذا انهار الركن المتعلق بسمعتك العالية. وكل أصحابك القضاة يقولون إن سمعتك العالية ستنهار إذا استمررت على كتابة هذه المقالات. قالت فضيلة بلهجتها الحادة: فمن واجبك إذن أن تكف عن كتابة هذه المقالات. قلت بهدوء: ما تطلبانه مني مستحيل. صرخت فضيلة وهي تتجه إلى عصام: أترى يا عصام؟ إنه مصرّ على تدميرنا جميعاً. يظهر أن خللاً أصاب عقل أبيك بسبب التقاعد. وإلاّ كيف صار يفضل الإختلاط بالعوام في الأسواق والمقاهي على صحبة زملائه القضاة المحترمين في النادي . وكلهم يتحدثون عن ذلك. وصرت أنا اضحوكة بين صاحباتي . تأملت فضيلة مبهوتاً ثم قمت وغادرت المكان. مناجاة .. كيف يمكن أن تثير مقالاتي فيك كل هذا الغضب يا فضيلة؟ أنت التي كنت أحسبها خير من يناصرني في جهودي من أجل العدالة. لقد خيبّت ظني فيك حقاً. وأعترف بأنني أسأت فهم موقفك الإيجابي من تبتّلي في محراب القانون. فقد حسبته تضحية منك من أجل العدالة. وكم كنت أُكبرك على هذا الموقف. كنت أعدّك شريكة لي في خدمة العدالة. والآن يتبدى لي أنني كنت واهماً في تفسير موقفك. كان كل ما يهمك هو سمعتي العظيمة التي تزاودين عليها لتكسبي مكانة متميزّة.. فيا للزيف! وأنت يا عصام .. يا من كنت أفخر بنجاحه بيني وبين نفسي معتقداً انه ثمرة الذكاء والمثابرة. ها قد كشفت لي أنك تستثمر نفس الأساليب الماكرة التي يستثمرها الأقوياء في جني المكاسب.. أنت ابن القاضي الفطحل راهب القانون والعدالة.. فيا للزيف! وأنتم يا أصحابي القضاة المبجلين.. أنتم الذين كنت أحسبكم تمثلون خيرة طبقات المجتمع وأنكم خلفاء الله في الأرض.. لقد انكشفت لي حقيقتكم فإذا أنتم مجرد موظفين اعتياديين تؤدون عملكم الروتيني الذي تتعيشون منه ولا تهمكم العدالة في قليل أو كثير! ثم أي أصدقاء أنتم؟ ما ان شعرتم بأن موقفي قد يؤثر على راحتكم حتى أدرتم ظهوركم لي.. فيا لزيفكم! وأنت يا أبي.. ألم تكن مزيفاً في تشبثك بأمجاد عائلتك الزائلة التي لم يبق من ثرائها ونفوذها سوى المظاهر الكذابة بعد أن فقدت كل أملاكك؟! ألم تكن مزيفاً في كل مظهر من مظاهر حياتك من أجل أن تميّز نفسك عن الآخرين ؟ ألم تكن مزيفاً في أفكارك عن الشر والجريمة؟ ألم تكن مزيفاً في زعمك بأنك تكره الضعفاء لأنهم يستسلمون للشر في حين أنك كنت تحتقرهم لأنهم من الفقراء المساكين.. حثالة المجتمع كما كنت تسميهم؟! وأنت يا أمي .. ألم تكوني مزيفة بنفختك الكذابة وأناقتك المفرطة التي كانت تكلّف الأسرة فوق ما تطيق من أجل أن تميزي نفسك عن الناس العاديين وتظهري بمظهر الأرستقراطيين؟ ألم تكوني مزيفة برفضك إقامة علاقات إلا مع نساء الطبقة العالية ؟ وأنا .. ألم أكن مزيفاً ؟! ألم أكن أزعم لنفسي أنني أخدم القانون والعدالة وأحارب الشر والجريمة في حين أنني كنت أرضي في أعماقي نزعة كراهية الضعفاء واحتقارهم التي لقنني إياها أبي؟ ألم أكن أهدف في أعماقي إلى التفوق في عالم القضاء والتميز عن غيري من القضاة بأحكامي المتشددة التي تظهر تفقهي في القانون؟! وحمدا لله الذي جعل بذور الخير في أعماقي أقوى من بذور الشر وهي التي قادتني في النهاية إلى الطريق الصحيح. ولن أنكص عن هذا الطريق أبداً. وسيكون مقالي الثالث أشد صرامة من مقالتي السابقتين.
قال رحيم ونحن جالسان في مقهانا الشعبي المطل على النهر وراء المدرسة المستنصرية : لماذا أنت مكتئب إلى هذه الدرجة يا حكمت؟ ليس هذا الأمر نهاية العالم. قلت في أسى: أصارحك يا رحيم إنني لم أستطع التخلص من حالة الاكتئاب هذه منذ خابرت رئيس التحرير فأبلغني بأنه صدر أمر رسمي يمنع نشر مقالاتي. لقد ظللت طوال الأسبوع الماضي أنتظر بلهفة شديدة يوم صدور الجريدة فإذا بها خالية من مقالي. فقال رحيم وهو يبتسم ابتسامة رقيقة: ومع ذلك فهذا الأمر لا يمثل نهاية الدنيا يا حكمت. قلت والألم يعصرني: لكنه يمثل لي فعلاً نهاية الدنيا يا رحيم، كنت أعوّل كثيراً على نشر مقالي الثالث هذا، فهو يمثل تحدياً أعظم لأصحاب العقول المنغلقة التي تأبى أن تفكر، كما أنه يشتمل على تعريض بأهل السلطة وبمدى صدقهم في احترام القانون. قال رحيم: فما العجب إذن في منع نشره؟ كان ينبغي لك أن تتوقع ذلك. فقلت: أفليس المفروض أننا بلد ديمقراطي ؟ فضحك رحيم ضحكة خفيفة وقال: المفروض أنك تجاوزت هذه المرحلة من التفكير يا حكمت بعد أن هبطت من برجك العاجي. قلت في حزن: لقد عادت إليّ الثقة في الحياة يا رحيم يوم أن اكتشفت طريقي الجديد. ولقد خيّل إليّ إنني سأعوض ما فاتني من خدمة للعدالة وإذا بي أواجه بالصدود من كل الجهات حتى من أقرب الناس إليّ. ومع ذلك لم يفت ذلك في عضدي. أما معارضة السلطة فلا أدري كيف أواجهها. إنني لأشعر كأن جبلاً هائلاً يرزح على صدري. ضحك رحيم ضحكة ضئيلة وقال: مشكلتك يا حكمت أنك تواجه السلطة لأول مرة في حياتك ولهذا ترى الأمر بهذا الهول. أما أنا فأرى موقفها منك أمراً اعتياديا ما دمت قد اصطدمت بها. فمتى ما شكّل المواطن الواعي تهديداً لها اتخذت منه مثل هذا الموقف. اسألني أنا فيا طالما ذقت من جبروتها. قلت في أسى: الحق معك يا رحيم. ولعلك تسخر مني الآن بينك وبين نفسك. فأنت طوال عمرك تناضل ضد جبروت السلطة الباغية . أما أنا فقد كنت أعتقد أن عملي لا يتناقض مع السلطة فهي المسؤولة عن تنفيذ العدالة. ولغفلتي لم أكن أجدني على خلاف معها. قال رحيم وهو يضحك: مع أن أهل السلطة هم على رأس من يغتال العدالة. وهذا شأنهم في كل مكان من الأرض وفي كل زمان . قلت في حزن: فكيف إذن ستتوفر العدالة للناس المساكين؟ قال رحيم بلهجة أسيفة: يظهر أن إشاعة العدالة بين الناس سيظل حلماً من أحلام البشر الطيبين يا حكمت. فليس هناك من سلطان للعدالة في أي مكان على الأرض. أجل يا أخي حكمت . . لا مكان للعدالة على الأرض وما على الإنسان إلاّ ان ينتظرها في السماء . فالأقوياء سيظلون أقوياء بأساليبهم الملتوية والضعفاء سظلون ضعفاء باستسلامهم وخنوعهم . وسيظل قدر أمثالنا ممن يستخدمون عقولهم للتفكير في أمور الناس المظلومين حواليهم يتجرعون الآلام الممضة. أما الذين لا يبالون بما يحدث لغيرهم فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. فقلت : وما أكثر الذين لا يبالون بما يحدث لغيرهم ولا يهتمون إلاّ لمصالحهم الذاتية .. ما أكثرهم ! وهؤلاء هم البشر المزيفون والمنافقون والدجالون . وحيثما تلفت وجدتني محاطاً بهم! وصمتنا طويلاً والحزن يخيم علينا. ثم رفعت رأسي أخيراً وسألت رحيم : فماذا بقي لنا إذن من دور في هذه الحياة يا رحيم؟ قال وهو يبتسم ابتسامة حزينة : لم يبق لأمثالنا دور في هذا العالم الخسيس يا حكمت . نحن نحيا فحسب . مناجاة . . صدقت يا رحيم . لم يبق لنا دور في هذا العاام الخسيس. نحن نحيا فحسب . ولكن أية قيمة لحياتي بعد أن تكشف لعينيّ كل هذا الزيف؟ وماذا ارجو من الحياة بعد؟!!!... - تمت
#شاكر_خصباك (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الواعظ
-
التركة
-
خواطر فتاة عاقلة
-
العنكبوت
-
الخاطئة
-
رسائل حميمة
-
انطوان تشيخوف -دراسة نقدية-
-
الرجل الذى فقد النطق
-
امرأة ضائعة
-
صراع -مجموعة قصصية-
-
بيت الزوجية -مسرحية-
-
ذكريات ادبية
-
القهقهة ومسرحيات اخرى
-
الطائر
-
كتابات مبكرة
-
مسرحية -الغرباء-
-
عالم مليكة
-
البهلوان ومسرحيات اخرى
-
هيلة
-
مسرحية-القضية-
المزيد.....
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
-
الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا
...
-
“تعالوا شوفوا سوسو أم المشاكل” استقبل الآن تردد قناة كراميش
...
-
بإشارة قوية الأفلام الأجنبية والهندية الآن على تردد قناة برو
...
-
سوريا.. فنانون ومنتجون يدعون إلى وقف العمل بقوانين نقابة الف
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|