أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الارهاب, الحرب والسلام - سليم الزريعي - مقاربات في نتائج المحرقة















المزيد.....


مقاربات في نتائج المحرقة


سليم الزريعي

الحوار المتمدن-العدد: 2547 - 2009 / 2 / 4 - 02:47
المحور: الارهاب, الحرب والسلام
    


بعيدًا عن حديث الغرائز والشحن الدعائي والدعاوي في آن، يصبح حساب الأرباح والخسائر مطروحًا وبقوة لدى شرائح واسعة من الشارع الفلسطيني تحديدًا ؛ كونه هو وحده الذي دفع ثمن هذا العدوان المجنون، وبعيدًا عن عقلية الاختزال والوصفات الجاهزة على الأقلّ لدى أصحاب الرأي والفكر، وأيضًا لدى القوى السياسية، لأنه إذا كان من غير الجائز نقاش ذلك أثناء المحرقة، فإنه يصبح ليس أمرًا مشروعا وحسب بعدها، بل وضرورة وطنية وقومية، بعيدًا عن سيف الإرهاب الفكري الذي قد يطال أي شخص يناقش هذا الأمر من منطلق التقييم العلمي الموضوعي وبعقل بارد بعيدًا عن ضغط شرط اللحظة، من أجل استخلاص الدروس والعبر من كل ما جرى خلال تلك الأيام الدامية.

أسئلة المحرقة

والمدخل الأساسي لقراءة ما تم يبدأ بسؤال ما الذي أراده الكيان الصهيوني من تلك العملية العسكرية الواسعة والمدمرة، وهنا يجب تثبيت خط أساسي كمعيار لما جري، وهو أن الكيان الصهيوني لم يضع أهدافا لها علاقة بتغيير الوضع السياسي أو القضاء على المقاومة، أي أن العملية لم تكن موجهة ضد حركة حماس بذاتها كسلطة قائمة في القطاع، ويأتي تصريح المنسق العام لوكالة الأمم المتحدة في غزة جون جينج الذي صرح بأن العدو دمر كل مقومات بنية الدولة المستقبلية ؛ ولم يتعرض لمؤسسات حركة حماس، كون استمرار سلطة حماس " المقلمة الأظافر " يمثل مصلحة صهيونية، وهذه المصلحة جذرها هو تكريس القسمة السياسية والجغرافية بين الضفة والقطاع ،الأمر الذي يساهم في اتساع الشقة والتناقض السياسي بين كل من حزب السلطة في رام الله وحزب حماس في غزة، فكان أن قام الكيان الصهيوني بتلك المحرقة تحت عنوان منع إطلاق الصواريخ وتثبيت تهدئة طويلة الأمد، ومنع تهريب السلاح عبر خلق معادلة جديدة في القطاع.

ذلك ما سعى الكيان الصهيوني إليه، في حين أن حماس ومعها الفصائل الأخرى، تريد تهدئة لا تُظهرها وكأنها تخلّت عن المقاومة، إضافة إلى رفع الحصار وفتح المعابر خاصة معبر رفح، مما يفسح المجال أمامها لإحداث التغيير البنيوي في القطاع لصالح مشروعها الإيديولوجي، والذي بدأت مؤشّرات بلورته واضحة قبيل العدوان بأيام ،عندما أقسمت يمين الولاء لتنظيم حركة الإخوان المسلمين العالمية في تجمّع ضم عشرات الآلاف من المناصرين، وبشكل يتعدى البعد الوطني والقومي، ثم قيامها بتمرير قانون جنائيّ في المجلس التشريعي في غزة بحضور أعضاء حركة حماس وحدهم دون النواب الآخرين، في القراءة الثانية؛ وبشكل يتجاوز النظام الأساسي وميثاق منظمة التحرير الفلسطينية، الأمر الذي يكرّس مفهوم الكيان الديني، ليأتي الإعلان عن افتتاح مصرف إسلاميّ في غزة، ليعطي الانطباع بأن حماس تتجه نحو إحكام سيطرتها على القطاع وفق تلك الرؤية الدينية في استثمار متسرّع للظروف التي كان يعيشها القطاع في ظل الانقسام.

أكبر من فصيل

ومع أن جملة الحقائق الموضوعية تقول بأن القطاع رغم شدة قبضة حماس على كل مفاصله، إلاّ أنه لا يمكن تجاهل أن هناك قوىً سياسية واجتماعية وشعبية تتوزع على كل ألوان الطيف السياسي والفكري لا يمكن بحال أن تعتبر نفسها جزءًا من مشروع حماس الاجتماعي، الأمر الذي قد يدفع حماس إلى استعمال القسر والإكراه بل والعنف أحيانًا من أجل فرض رؤيتها، خاصة وأنها لا تستطيع بالمعنى الموضوعي الادعاء بأنها تحتكر مشروع المقاومة، في وجود العديد من القوى السياسية التي تعتبر الكفاح المسلح شرطًا مستمرًّا طالما كان الاحتلال قائمًا، أكّدت ذلك يوميات العدوان، حيث شكلت تلك القوى وبثقل نوعيّ مع حماس كتلة النيران التي واجهت العدوان في غزة، والتي طالت بلداته ومدنه في فلسطين المحتلة عام 1948.

ومن ثم فإن الكيان الصهيوني استهدف من عدوانه كل هذا السلاح أي سلاح المقاومة بكل أطيافها وإن كان العنوان؛ هو حماس بحكم أن حماس هي السلطة التي تسيطر على غزة، هذا أولاً؛ وثانيا كي يكون هناك عنوان واحد يجري الضغط عليه من المجتمع الدولي، خاصة إذا ما كان هذا العنوان يصنف لدى تلك الدول ب "الإرهاب"، بهدف نزع الشرعية عمّا تقوم به المقاومة وتصوير حقها في الدفاع عن نفسها باعتباره إرهابًا، ليمكنها ذلك من حشد أوسع ائتلاف دوليّ من أجل تشديد الحصار عليه بدعوى حرمانه من السلاح.

ومع أن المؤسسة السياسية والعسكرية الصهيونية قد مارست نازيّتها لتطال كل شيء، إلاّ أنها مع ذلك عجزت عن أن توقف بشكل نهائي إطلاق صواريخ الفصائل الفلسطينية المختلفة على البلدات الصهيونية، بل إن تلك المحرقة قد فجّرت غضبًا غير مسبوق حتى لدى شعوب الدول الأوروبية، الأمر الذي دفع المسؤولين الأوروبيين المؤيدين لذلك الكيان للبحث عن مخرج لهذه الحرب غير الإنسانية، مما أربك الكيان الصهيوني ودفعه إلى تعليق عملياته العسكرية بسبب تنامي الشعور العدائي في العديد من دول العالم تجاه السياسة الصهيونية التي نفذها في قطاع غزة، وأيضا لأن استمرار العملية العسكرية بتلك الوحشية قد يقلب الطاولة تمامًا على الكيان الصهيوني؛ لأن العدوّ وهو يمارس عملية سياسة الأرض المحروقة، يصبح من الطبيعي أن يكون هناك ضحايا من المدنيين، كون العدو في هذه الحرب لم يكن يواجه جيشًا يستطيع أن يخوض معه حربًا تقليدية، فكان أن دفع الثمن المواطن الفلسطيني في غزة.

ومع أن مستوى أداء الأذرع العسكرية للمقاومة بكافة فصائلها قد أخذ في التراجع مع كل يوم استمرت فيه الحرب، إلاّ أن العدو لم يحقق ذلك الهدف وهو منع الصواريخ نهائيًا من السقوط على البلدات الصهيونية هذا أولا، وهو ثانيا لم يتمكن من تدمير كل أنفاق "تهريب السلاح". إلاّ أنه فيما نعتقد قد أكد قدرة الردع الصهيونية من خلال هذه المحرقة التي ارتكبت في غزة، والتي استهدفت كل مظاهر الحياة وما خلفته من دمار شمل كل شيء وفي القلب منها الإنسان ؛ حيث هذا الكم من الضحايا من المدنيين بين شهيد وجريح، مما يصعب عودته إلى حياته الطبيعة كما كان قبل العدوان دون ترك ندوب تحتاج إلى وقت من أجل التئامها.

ومع ذلك فإن هذا الأمر يستحضر سؤال، رفض حركة حماس ومعها كل الفصائل تمديد التهدئة التي انتهت في 19/12/ 2008 مع الكيان الصهيوني، بسبب أنه لم يحترم طلبات الفصائل المرتبطة بالتهدئة التي تم التوصل لها عبر الوسيط المصري، وهي رفع الحصار وفتح المعابر بما فيها معبر رفح، مع امتداد التهدئة إلى الضفة الغربية فيما بعد، لذلك كان من الطبيعي أن ترفض الفصائل التمديد، بهدف الضغط على الكيان الصهيوني، إلا أنها لم تكن تتوقع أن يكون رد العدو الصهيوني على انتهاء التهدئة واستمرار سقوط القذائف على البلدات الصهيونية بهذا الشكل غير المسبوق واللاإنساني، يؤكد ذلك ما نقله الأديب الفرنسي اليهودي مارك هلتر عن خالد مشعل في السادس من هذا الشهر؛ من أن حماس "لم تكن قد خططت لإدارة حرب مع إسرائيل، وكل ما أرادته هو إجراء استفزاز بسيط لا أكثر ولم تتوقع أبدًا أن يأتي ردها بهذه الضخامة ".

معادلة جديدة

ويكاد يكون ثابتا الآن أن هناك معادلة جديدة يجري ترتيبها على ضوء هذه العملية النازية، بدأت مؤشراتها قبل إعلان وقف إطلاق النار من قبل الكيان الصهيوني قبيل مراسم تنصيب الرئيس الأمريكي الجديد، من خلال الاتفاق الأمني بين الكيان الصهيوني والإدارة الأمريكية المنصرفة، والذي يكرس حضورا أمريكيا من شأنه جعل قطاع غزة والبحر الأحمر مجال عمل أمريكي ـ صهيوني مشترك، سارعت الدول الأوربية أعضاء حلف الناتو إلى تبنيه، الأمر الذي يجعل من حصار غزة بل والمنطقة العربية قرارا أطلسيا، وهو بذلك يشكل أحد النتائج الخطيرة وبعيدة الأثر للعدوان الصهيوني على غزة، أي أن مفردات المعادلة الجديدة هي وجود قوة ردع صهيوني بالغ الشراسة ستبقى حاضرة دائما، في وجه قطاع غزة، وهي من جانب آخر رسالة أرادت الدولة العبرية أن تبلغها إلى كل من سوريا وحزب الله في لبنان من أن آلتها العسكرية جاهزة لإعادة تكرار مشهد غزة في الجانب الآخر من الحدود.

وأي قراءة لما يمكن أن يكون عليه المشهد السياسي في المنطقة بعد أن ينجلي غبار محرقة غزة، يمكن أن يشير إلى أن المنطقة قد أصبحت وأكثر من أي وقت مضى تحت التأثير المباشر للولايات المتحدة ومعها دول الأوربية أعضاء حلف الأطلسي، خاصة بعد أن أعلنت كل من فرنسا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا استعدادها للتواجد العسكري المباشر في بحر غزة و ماجاورها بهدف ضبط ما يقال عن تهريب للسلاح إلى الأطراف الفلسطينية في غزة، ليصبح هذا الوجود جزءا من العدوان المباشر والمستمر على الشعب الفلسطيني والأمة العربية، وهي نتائج كارثية بالمعنى الاستراتيجي، في ظل فراغ عربي ـ فلسطيني يؤكده هذا الانقسام في المشهد الرسمي العربي ؛ ومن التصوير العاطفي لما جرى في غزة باعتباره انتصارا في غياب قراءة المعادلة من جوانبها المختلفة.

ومع ذلك فإن عدم تحقيق العدو لنتائج مباشرة وملموسة من نوع القضاء على سلطة حماس أو تصفية الأذرع العسكرية للمقاومة، لا يعني أنه قد فشل في وضع غزة أمام حالة جديدة، إن كان ذلك بسبب من تداعيات المجزرة على الوضع الداخلي بين طرفي الصراع الفلسطيني أو في تطويق وتشديد الحصار عليها، كون أي طرف فلسطيني بعد ذلك قد يفكر مليا قبل الإقدام على أي عمل عسكري يمكن أن يستجر مثل هذه المحرقة، وهي المحرقة التي كانت تستهدف جعل الفلسطينيين وغيرهم يطرحون الأسئلة حول فداحة الخسائر في السكان ومحدوديتها لدى المقاومة، بما يعنيه ذلك من أن السلطة في غزة قد تعمدت التضحية بالمواطنين بهدف تحقيق مكاسب سياسية يدفعها المواطن وحده.

سؤال النصر

ذلك أنه لمن بؤس التفكير والادعاء أن يتم دفع هذا الثمن الباهظ من حياة الناس وتدمير كل شيء، ثم القول أن حماس ( المقاومة ) قد انتصرت، فأين هو النصر الذي تحقق؟ فيما العدو هو من أوقف العدوان من جانب واحد لأمر يتعلق بضرورة إفساح المشهد الدولي أمام تنصيب الرئيس الأمريكي الجديد، فيما لا زال موضوع فتح المعابر قرارا صهيونيا، وليتم استجلاب حلف الأطلسي لفرض حصار من نوع آخر على غزة والمنطقة، والتي بدأت مؤشراته بوصول الفرقاطة الفرنسية لبدء المراقبة المباشرة لسواحل غزة.

وهذا التباين فيمن هو الذي انتصر وليس الذي صمد ؛ ثم يأتي لينسب صمود الجماهير إلى نفسه في تضخيم مفرط وغير موضوعي للذات هو الذي سيجعل من إعادة الإعمار مادة للتجاذب الداخلي على ضوء تباين الأجندات، وسيكرس المزيد من الضغط الخارجي في وجود عدم الثقة بين الجانبين فتح وحماس بل والعداء ؛ وفي انعدام ثقة قطاعات واسعة من المواطنين في الطرفين حيث وصلت نسبة الذين لا يثقون بأي فصيل سياسي موجود على الساحة الفلسطينية في غزة إلى 53%. حسب استطلاع للرأي جرى في القطاع بين يومي 18 ,22 من هذا الشهر، الأمر الذي سيدفع إلى وضع موضوع إعادة الإعمار في يد الأطراف الدولية والإقليمية المتبرعة بحيث لا تتمكن السلطة أو حماس من استثمار مال الإعمار لأغراض سياسية من قبل هذا الطرف أو ذاك، خاصة وأن أي مقارنة بين ما جرى في غزة وما جرى في جنوب لبنان منذ عامين ونصف هي مقارنة تفتقد إلى الأساس الموضوعي، لواقع جغرافية المنطقة والكتلة البشرية التي تقطنها والقوى السياسية التي تخوض الصراع عبرها.

ففي حين يتواجد حزب الله في منطقة الجنوب الشيعية حيث الولاء الديني قبل السياسي هو الذي يشكل وعي الناس، وكونه هو وحده الذي يتواجد هناك بالمعنى العملي المباشر ،فإن الوضع في غزة مختلف تماما، حيث المجتمع المدني والتعددية السياسية والفكرية والاجتماعية حيث تتنوع الولاءات والخيارات السياسة والفكرية والتي تنتج اختلافا في الرؤى، والذي وصل حد التناقض التناحري بين حماس وفتح، منذ ما يقارب العام والنصف، وحيث لا يمكن القول أن سكان القطاع ينتمون إلى مشروع حماس السياسي والاجتماعي، فيما جزء هام من هذه الجماهير ليس لها علاقة بهذا التقاسم بين الطرفين الذي مزق نسيج المجتمع الفلسطيني ناهيك عن الغزي.

وعلى ضوء ذلك لا يمكن لأي طرف بعد ما جرى من احتراب وانقسام سياسي واجتماعي وجغرافي، أن يدعي احتكار تمثيل الشعب الفلسطيني، ومن ثم يمكن القول أن هذا الادعاء لا يستند إلى الحقائق الموضوعية ؛ في ظل هذا الانقسام القائم على خلفية الصراع الذي أنتج هذا الانقسام والذي امتد ليشمل قطاعات واسعة من الشعب الفلسطيني في الداخل تحديدا، والتي بدأت مؤشراته بالغة السلبية تظهر في التصريحات التي صدرت في غزة التي تعزو بعض نتائج هذه الهجمة الصهيونية إلى وجود عملاء لها في القطاع ؛ ومن فتح تحديدا ؛ الأمر الذي سيفتح الباب أمام حملة تطهير تقوم بها سلطة حماس ضد معارضيها السياسيين الذين يمكن أن يشكلوا خطرا على نظامها السياسي كما تعتقد، وهو الأمر الذي سيدفع سلطة رام الله إلى استعمال الأسلوب نفسه في الضفة، ليصبح على ضوء هذا الواقع حديث النصر مجرد أمنية، طالما أن الثمن هو كل هذه الدماء وذلك الدمار وتكريس الانقسام، وهذا الحضور الأطلسي على سواحل القطاع وكل المنطقة العربية بذريعة تشديد ما يزعمه الكيان الصهيوني من تهريب للسلاح إلى غزة.

وإذا ما ذهبنا باتجاه استمرار الحصار فإن سؤال الانتصار عندها يصبح أكثر مسؤولية ليتصل بمدى صدقية وأخلاقية من يقول به ارتباطا بأبعاده الإستراتيجية وتأثيراته المباشرة وبعيدة المدى على الواقع الفلسطيني والعربي، ذلك أن الحصار ما يزال قائما رغم كل الدماء التي سالت، والحصار هنا مرتبط بفتح المعابر جميعها ؛ وهي معبر رفح للأفراد إضافة إلى المعابر الأخرى ومن بينها المعبر الذي يتم عن طريقه السفر إلى الضفة الغربية والعكس، ذلك أنها حتى اللحظة بعهدة القرار الصهيوني الذي يشترط لفتحها تلبية مطالبه المتعلقة بموضوع تهريب السلاح إلى غزة، وصفقة تبادل الأسرى والتهدئة الطويلة الأمد، وهذه المرة لن يتحدث أحد عن تهدئة تنتقل إلى الضفة.

وإذا كان هناك من أحد يريد تسويق ما جرى من عدوان نازي الذي كان صمودا شعبيا بامتياز باعتباره نصرا ارتباطا بسلامة رؤوس القادة السياسيين والعسكريين، فإن من حقه أن يقول ذلك، إذا كان يحق له أن يضع نفسه في كفة والشعب في كفة أخرى، وهنا يمكن استحضار ما قاله رئيس حكومة حماس بعيد بدء المحرقة ؛ من أن حماس ستصمد حتى أخر فرد في غزة، ليكون السؤال ولمن ستترك غزة بعدئذ؟ ومن ثم فإن اختزال أبعاد المجزرة في أن رؤوس البعض قد سلمت في الوقت الذي تم فيه تدمير القطاع كبنية تحتية، وسقوط كل هذا الكم من الجرحى والشهداء ليضع علامة استفهام أخلاقية حول مفهوم تلك المقاومة التي يجري الحديث عنها، لتبلغ المأساة حدها الأقصى في ظل هذا التهافت من قبل سلطتي رام الله وغزة ؛ حول أيهما أحق بالتصرف في الأموال التي سترصد من أجل إعادة إعمار القطاع المنكوب، فيما يتجاهل الطرفان سؤال من الذي سيعيد ترميم جسور النسيج الاجتماعي في غزة وكل الوطن؟، بعد أن ساهم الطرفان في تسعير هذا الانقسام عبر هذا التحريض المتبادل طوال عام ونصف، دون أن يعني ذلك تجاهل أن حماس هي من ارتكبت الخطيئة الأولي في غزة.

معايير النصر

إن أي مقاربة موضوعية لتقييم ما جرى، نعتقد أنها يجب أن تضع في اعتبارها أنه ما من قوة فوق الشعب، أيا كان ادعاءها، وإنه ما من أحد قد حصل على توكيل حصري للتحدث باسم كل الشعب الفلسطيني، وعلى هذا الأساس يمكن تقييم ما جرى، بدءا من التهدئة وصولا إلى قف إعلان العدو الصهيوني إنهاء عملياته العسكرية داخل القطاع، وفي الوقت نفسه يجب أن يدرك الجميع أن استمرار الاحتلال يعني استمرار العدوان ومن ثم استمرار الحرب على الشعب الفلسطيني، ومن المهم هنا التأكيد على أن معيار النصر من عدمه مرتبط بالمشهد في كليته وبنتائجه الآنية والمستقبلية وما سيترتب عليها من حقائق على الأرض.

ويكاد يكون محزنا ومضلا في آن تصوير ما جرى في غزة باعتباره نصرا إلهيا، لأن من شأن من يعتقد بذلك أن يدفعه إلى الخلط السياسي بمعناه الاستراتيجي والتكتيكي، ويساهم في تضخيم الذات والمغالاة التي لا تستند إلى أساس وبشكل مَرَضِي من شأنه أن يؤدي إلى حسابات خاطئة على المستوى الوطني والقومي والدولي، فالنصر يعني تحقيق نتائج ملموسة ضد هذا الكيان على صعيد بنيته العسكرية والمدنية والبشرية ؛ وأيضا على صعيد أهدافه السياسية المرحلية والإستراتيجية ؛ ولا نعتقد أنه يمكن لأي قوة على ضوء ما جرى الادعاء بأن ذلك قد تحقق في غزة، خاصة وأن هناك إجماعا فلسطينيا ودوليا يتحدث عن مجزرة ومحرقة، بكل ما يعنيه ذلك من أبعاد عسكرية وإنسانية، في الوقت الذي لم تتعد فيه خسائر العدو بضع عشرات بين قتيل وجريح، وحيث تؤكد التجربة التاريخية الملموسة، أنه ليس بإمكان أي قوة نارية تطلق عن بعد دون أن يواكبها تقدم عسكري على الأرض أن تحقق إنهاء الآخر، ومثال ذلك الهجمة الأخيرة على غزة، والسؤال من بعد أين أوجعنا العدو الصهيوني في حربه الأخيرة حتى نقول بالنصر الإلهي.

إذ لا يمكن لقيادة مسؤولة أن تضع سلامتها هي فوق الشعب، بحيث يصبح دم المواطنين الذي أريق أرخص من دمها ؛ وأن سلامتها وحدها هي الغاية التي يجب أن تدرك باعتبارها النصر المؤزر، في الوقت الذي يتساءل فيه أبناء غزة عن أولئك المسلحين الذين كانوا يملأون فضاء غزة ؛ والذين تبخروا مع قدوم الآليات العسكرية الصهيونية ؛ ليتركوا أولئك المواطنين وحدهم في وجه الآلة العسكرية الصهيونية يواجهونها بصدورهم العارية، بدعوى جرهم إلى حرب المدن، إن ذلك يمثل استهانة بدماء الناس وتخل عن القيام بالواجب في الدفاع عنهم ؛ إذ ما قيمة الأرض إذا خلت من أهلها؟.

إن درس غزة الدامي ليس استنساخًا لحرب جنوب لبنان الأخيرة، لأن حماس ليست حزب الله، وأهل غزة الصامدين، ليسوا أهل الجنوب، الذين كانوا مفتوحين على العالم، في الوقت الذي كان فيه أهل غزة يعيشون بين ناري المحرقة والحصار، وبالطبع فإن نتائج كل منهما ستكون مختلفة كذلك، ارتباطا بالحقائق الملموسة على الأرض، ذلك أن الحصار في غزة سيأخذ شكلا آخر، فبدلا من أن يكون الحصار صهيونيا وعربيا كما كان سابقا ؛ سيكون هذه المرة أطلسيا، من أجل أن يدفع أهل غزة الثمن لأكثر من مرة، ولأن الأمر كذلك فإن على حماس أولا ؛ والسلطة ثانيا الكف عن الدعاية وتضليل الناس والمتاجرة بهم والذهاب فورًا نحو وحدة وطنية تقوم على أساس مصالح الشعب لا مصالح هذه الفئة الحزبية أو تلك، وهي الوحدة التي يجب أن تبدأ بتقييم التجربة السياسية السابقة بدءا من أوسلو وحتى الآن، ثم الوقوف بمسؤولية من أجل تقييم تجربة الحرب الأخيرة ما لها وما عليها.

ذلك أن أي قوة سياسية لا تتعلم من تجاربها وتجارب الآخرين لا يتحق لها تتحدث باسم الشعب الفلسطيني الذي طالما كان عصيًّا على التطويع ؛ والذي تحمّل وحده بطش الآلة العسكرية الصهيونية ولم تنكسر إرادته، والذي لا يجب أن يكون دمه وإرادته الصلبة مادة للمناورة والتجارة السياسية بين الأطراف الفلسطينية المختلفة ومعها بعض النظام الرسمي العربي، الذي لم نسمع منه سوى " جعجعة دون طحين "، ذلك أن الانتصار على القسمة هو المدخل نحو إعادة التوازن إلى المشهد الفلسطيني بعد كل هذا التشظي. وذلك فيما نقدر هو التحدي الحقيقي.



#سليم_الزريعي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المقاومة : تباين المفاهيم
- حرب القوقاز: أبعد من أوسيتيا


المزيد.....




- رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن ...
- وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني ...
- الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
- وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ ...
- -بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله- ...
- كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ ...
- فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
- نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
- طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
- أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق


المزيد.....

- لمحات من تاريخ اتفاقات السلام / المنصور جعفر
- كراسات شيوعية( الحركة العمالية في مواجهة الحربين العالميتين) ... / عبدالرؤوف بطيخ
- علاقات قوى السلطة في روسيا اليوم / النص الكامل / رشيد غويلب
- الانتحاريون ..او كلاب النار ...المتوهمون بجنة لم يحصلوا عليه ... / عباس عبود سالم
- البيئة الفكرية الحاضنة للتطرّف والإرهاب ودور الجامعات في الت ... / عبد الحسين شعبان
- المعلومات التفصيلية ل850 ارهابي من ارهابيي الدول العربية / خالد الخالدي
- إشكالية العلاقة بين الدين والعنف / محمد عمارة تقي الدين
- سيناء حيث أنا . سنوات التيه / أشرف العناني
- الجدلية الاجتماعية لممارسة العنف المسلح والإرهاب بالتطبيق عل ... / محمد عبد الشفيع عيسى
- الأمر بالمعروف و النهي عن المنكرأوالمقولة التي تأدلجت لتصير ... / محمد الحنفي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الارهاب, الحرب والسلام - سليم الزريعي - مقاربات في نتائج المحرقة