|
-العار- لتسليمة نسرين: سيكولوجية المضطهدِين
عاصم بدرالدين
الحوار المتمدن-العدد: 2547 - 2009 / 2 / 4 - 08:10
المحور:
الادب والفن
حتى الصفحة الأخيرة من رواية "العار" (أو لاجا) المُصادرة رقابياً، للروائية البنغلادشية تسليمة نصرين، والصادرة عن دار الخيال (الطبعة الأولى 1996) لم نفهم، ونكتشف الأسباب التي أوجبت منعها، والإرهاب الذي تعرضت له كاتبتها حتى إهدار دمها واضطرارها إلى ترك موطنها. فما تسعى إليه الخطة السردية للنص لا يتجاوز الرغبة في وصف حالة الاضطهاد التي يعاني منها الهندوس في بنغلادش بعد، وقبل، هدم مسجد بابري الإسلامي في ديسمبر عام 1992 في الهند على يد متطرفين هندوس. مما يعني أنها لم تعمل أبداً على إدانة أو ذم أي ديانة. فهي وعلى لسان شخوص روايتها أعلنت مراراً أنها ضد الطرف أياً كان مصدره. لكن المشكلة تكمن في كون الرقيب العربي لا يقرأ، بل يُنقل إليه كالوشايات، أو يسمع بطريقة ما أو بأخرى عن أن هذا الكتاب أو ذاك، يسيء لرمز ديني أو زمني، فيشغل مقصه ليبتر الكتاب من على المنضدة الثقافية.
هذه الرواية، لا تتحدث فقط عن الصراع الدائر بين الهندوس والإسلاميين في كل من الهند (أكثرية هندوسية وأقلية مسلمة) وباكستان وبنغلادش (الأكثرية مسلمة والأقلية هندوسية)، وإن كانت العناصر المكانية والزمنية، المُشكلة لها، قد انحصرت في بنغلادش وترابط الأحداث بينها وبين جارتيها سابقتي الذكر، فإنها تشير بوضوح إلى مشكلة كل أقلية في هذا العالم والحصار الذي تفرضه "الجماعات" الحاكمة عليها. هذه الشمولية منحت الرواية طابعها العالمي، وحققت لها نجاحاً باهراً على الصعيد الأدبي. فالأدب مهما أوغل في تناول القضايا المحلية، لا بد أن يعطي النص قيمته الإنسانية العليا والشاملة ليكون أدباً حقيقياً ذا وظيفة تحررية، هذه الصفة الأخيرة تجيز للقارئ، أينما كان، وخاصة في دولنا النامية بإسقاط الأحداث على واقع مجتمعه فكأنما الرواية هي المرآة..
تروي الأديبة حياة عائلة دوتا الهندوسية في بنغلادش على مدى ثلاثة عشر يوماً من بدء حملات القتل، والإبادة، بحق الهندوس من قبل المسلمين.
ويبدو لنا أن النص غارقاً في تفاصيل سردية ووصفية شخصية كثيرة، بيد أن هذا الأمر أفاد كاتبته، بحيث أنها لامست بنصها هذا التغير النفسي والذهني، اللاإرادي، لكل شخصية من الشخصيات الأربعة المكونة لهذه الأسرة، من خلال التعمق في ذات كل منهم واسترجاع المدى التاريخي لأرائهم. وهكذا بان السرد على أنه نوع من المقارنة بين "قبل" و"بعد". هذا لا يعني أن تغيراً شاملاً متطابقاً أصاب العائلة، فالشخصيات الأربع، الأب والأم والابن والابنة، شكلوا نماذج مختلفة اعتمدت عليهم الكاتبة لشرح النفسية الهندوسية المشتتة والمتضادة بعيد الأحداث الدموية.
ويبرز سودهاموي، الأب، على أنه الذهنية الأكثر ثباتاً في الرواية كلها. فهو الذي شارك في إضرابات عام 1971 المطالبة باستقلال باكستان الشرقية (بنغلادش حالياً) وتعرض للاعتقال خلالها والتعذيب، يرفض بعد كل ما جرى له، وما يحصل الآن، مجرد التفكير بترك وطنه الذي كافح من أجل استقلاله والهرب إلى الهند. الطبيب الشيوعي يجسم الشخصية التقليدية، الأكثر مثالية، الرافضة للانفصال والمنطق الطائفي ألتقسيمي، فهذا البلد في عرفه للجميع، وما يجري من قتل وترهيب ما هو إلا مرحلة استثنائية ستنتهي يوماً ما وتعود الأحلام الجامعة لكل الشعب، كما كانت أيام النضال المشترك للانفصال عن باكستان وقبلها للمطالبة بجعل اللغة البنغالية لغة قومية عام 1952.
أما الأم كيرو نموي، فتجسد الشخصية الأكثر توتراً وخوفاً. لذا تلجئ رغم علمانيتها إلى استعادة الطقوس الهندوسية الدينية طلباً للحماية والعون. أما الابنة الصغرى مايا فهي الأكثر واقعية، لأنها لم تفكر إلا بكيفية تخليص نفسها من المخاطر وذلك باللجوء إلى صديقتها المسلمة، دون إعطاء أي اعتبار لفكرتي الهرب واللجوء المذلتين لأخيها الأكبر سورنجان.
تقوم الرواية في أساسها، على شخصية سورنجان، فهو الناطق الأول، والأكثر تمثيلاً لعملية التحول الذهني والنفسي الذي يتعرض لها المضطهد أينما كان. وقد نجحت الراوية في تفصيل الوقائع بحيث استحال هذا التبدل إلى أمر بديهي لا مفر منه يتقبله القارئ بسلاسة دون تدقيق. فبدايةً يبدو سورنجان رافضاً لفكرة اللجوء إلى أحد أصدقائه المسلمين، كما فعل عام 1990، لأنه يعتبر نفسه مواطناً بنغلادشياً حراً، يحق له مهما كان اسمه ودينه أن يعيش بسلام ودون خوف، وفي موقفه هذا يكون أكثر قرباً لوالده منه لأمه وشقيقته. هذه الحالة لم تستمر طويلاً، فتجاهل أصدقاؤه المسلمين لوجوده والخطر الذي يحيق به، واستعادته لمسار حياته والأحداث التي طاولته لمجرد كونه هندوسياً، والحوارات الداخلية الناتجة عن الصراع بين قناعاته العليا وواقعه الجلي المرعب، سيحوله من المواطن البنغلادشي الشيوعي اللاديني، إلى سورنجان الهندوسي!
إن هذا التبدل لأمر منطقي جداً، وعبره نقدر على استيعاب مشكلة الأقليات، وبروزها كقوى مناقضة ومعادية للقيم الاجتماعية المسيطرة والجماعات المؤمنة بها. فالذات البشرية هي عبارة عن كل معرض لضربات، وصدمات، داخلية وخارجية. ومواقف هذه الذات ما هي إلا نتيجة تفاعل هذه الضربات. والذات الهندوسية هنا، الأسرة ككل أم شخصية سورنجان وحدها، تتعرض لعنف خارجي يهدد حياتها بيد إسلامية، وخوف داخلي يعطل حركتها وما الذكريات الشخصية من وضاعة زملائه في المدرسة وذمه باعتباره هندوسياً، ورفض عائلة حبيبته زواجها منه لأنه هندوسي، ومهاجمة بيته، وخطف أخته، واحتمال اغتصابها وقتلها وإلخ.. ما هذه إلا ضربات وصدمات، ستجبره على التراجع عن كل أفكاره السابقة وإعلان عدائه لكل المسلمين، ودفعه جبرياً نحو الهند.
غني عن البيان أن إعادة قراءة هذه الرواية بعد أكثر من عشر سنوات على صدورها في ترجمتها العربية، يدفعنا إلى إعادة النظر والتمعن في أحوال الأقليات، الدينية والعرقية، المتواجدة في الوطن العربي. فتهم "العمالة" و"الذمية" التي يقذفون بها لا تشي إلا بانحطاط التفكير العربي وشيوع التيارات المتطرفة، الدينية وغيرها، في الوسطين الاجتماعي والثقافي. كما أن حالة العزلة التي يغصبون على العيش فيها، ليست سوى نتيجة لتجاهل المجتمع لوجودهم ودورهم وتالياً حقوقهم. وهذا هو "العار" متجسداً بذاته. فضلاً عن استنتاج أخر لا بد منه، مع طي الصفحة الأخيرة، وهو أن علمنة المجتمع ليست صيغة قانونية تقوم على تضمين الدساتير والقوانين مواد تشير إلى ذلك فحسب، (كما كانت حال بنغلادش قبل إعلانها دولة إسلامية) بل إنها أولاً، وقبل كل شيء، فعل نفسي، وهذا طرف الخيط.
#عاصم_بدرالدين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
-العمامة والقبعة- ل صنع الله إبراهيم: الماضي نسخة روائية عن
...
-
على هامش الصراع الهامشي
-
سرٌ وراء الحجاب - الصادق النيهوم
-
زملاء من سوريا
-
لا علاقة بين فكر النيهوم ومشروع الحريري
-
الاستجابة الكاذبة، لبنانياً، لاستغاثات مسيحيي العراق!
-
قراءة في رواية راوي حاج -مصائر الغبار-
-
الكوتا اللبنانية
-
إستراتيجية الردع بين الطوائف
-
رمزية واقعة -كفررمان-: مدخل إلى الإستعارة
-
جغرافيا الطوائف وسياسات تغييب الاندماج
-
القاتل الشريف وحدود التنسيق ودولتنا
-
في تسييس السنة على الطريقة اللبنانية!
-
المواجهة مع حزب الله
-
إلى محمود درويش: سيأتي الموت ويأخذنا معك
-
بعض مفارقات التعامل اللبناني مع الذاكرة
-
في نهرها: فلسطين حقاً عربية!
-
العبارة المصرية كنموذج للغرق العربي
-
إشكالية العلاقة بين العلماني والطائفي في لبنان
-
الإنتخابات في لبنان:أبعد من السلاح، وأكثر من هيئة رقابية
المزيد.....
-
مش هتقدر تغمض عينيك “تردد قناة روتانا سينما الجديد 2025” ..
...
-
مش هتقدر تبطل ضحك “تردد قناة ميلودي أفلام 2025” .. تعرض أفلا
...
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|