أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شاكرخصباك - قصة حب















المزيد.....



قصة حب


شاكرخصباك

الحوار المتمدن-العدد: 2542 - 2009 / 1 / 30 - 07:17
المحور: الادب والفن
    



رواية

الطبعة الأولى 1998
غضبان

معذرة يا آنسة زينب ان كنت قد لجأت إلى هذه الطريقة ، فهي الطريقة الوحيدة التي تمكنني من التحاور معك . ولديّ رغبة شديدة في التحاور مع زميلة مثقفة. فما رأيك؟
واعذريني مرة أخرى إذ سمحت لنفسي أن أدس هذه الورقة مع "ملفّ" العمل دفعا للإحراج . ويمكنك أنت أيضا ان تردي عليّ بنفس الطريقة . وستكون ورقتك بمأمن من عيون أي شخص آخر .

غضبان

لماذا تجاهلت رغبتي يا آنسة زينب؟ أقسم لك أنها رغبة بريئة . فلماذا تسيئين بي الظن ؟! حينما سلمتك "الملف" صباح اليوم واجهتني بنفس النظرة الجادة غير المكترثة وكأنك لم تتسلمي ورقتي . وقد شككت في أنك استلمتها وقلت لنفسي لعلها انزلقت من "الملف" وتوارت وراء مكتبك . وربما وجدها العم كاظم الفراش فحسبها إحدى الأوراق المهملة وألقاها في سلة المهملات .. أم تُراك دعكتها أنت نفسك وألقيتها في سلة المهملات؟ إذا كنت فعلت ذلك فهذا يعني أنك تشكين بحسن نيتي وكم يحزنني ذلك.



غضبان

أنا مقتنع يا آنسة زينب انك تسلمت ورقتي الثانية وربما الأولى أيضا . فقد لاح على وجهك اضطراب خفيف وأنت تتناولين "الملف" مني صباح اليوم . هل تراني مصيب في تصوري يا آنسة زينب؟
هذه هي الورقة الثالثة التي أسعى فيها للتحاور معك . ولعلني أضايقك بعملي ولعلك غير راغبة في التحاور معي أصلا. ويجدر بي إن اكبح رغبتي هذه فربما تصورتني شابا نزقا يخطط لتطوير علاقة عمل مع زميلة محتشمة إلى مغامرة طائشة. لكنني أقسم لك أنني بريء من هذا التصور.


زينب

يا أستاذ غضبان .. إذا كنت غير مستعدة لإقامة حوار مع زميل خارج نطاق العمل فلا يعني ذلك إنني أرتاب بحسن نيته أو أنني أتصوره شابا نزقا .



غضبان

لو تعلمين كم أسعدتني السطور القلائل التي رددت بها عليّ . إنها سطور قليلة لكنها حملت إليّ معاني كثيرة . وقد تضحكين متعجبة وتقولين: لِمَ هذه المبالغة ؟ وأي معان يمكن أن تحمل كلماتي القليلة ؟ فأقول لك: صحيح يا آنسة زينب.. إنها كلمات قليلة فعلا لكنها حملت إليّ معاني كثيرة. فهي قد طمأنتني أولا انك استبعدت سوء النية في محاولتي. وثانيا إنها أكدّت لي انك راجحة التفكير وتمتلكين القدرة على الحكم الصائب على الآخرين . وقد أدركت بثاقب بصرك إنني لست من الشبان الطائشين. فشكرا جزيلا يا آنسة زينب .. شكرا جزيلا لثقتك بي.








زينب

أنا بدوري أشكرك أيضا يا أستاذ غضبن على ثقتك برجاحة عقلي. ولكنني أتساءل: أية فتاة جامعية لا تمتلك مقدرة على الحكم على نيّات زميل لها في العمل تخالطه كل يوم؟ كل ما هنالك أن وضع الفتاة في مجتمعنا دقيق ، وان هذا الوضع لا يسمح لها بعقد صلة مع زميل لها خارج نطاق العمل مهما يكن نوع هذه الصلة .

غضبان

لا تغلقي إمامي أبواب الأمل يا آنسة زينب.. أرجوك لا تفعلي ذلك . فأنت الزميلة التي هفت إليها نفسي من بين جميع الزميلات . ولكي لا أثقل عليك بطلبي ليس من الضروري ان تردي على كل ورقة من أوراقي . يكفيني الشعور بأنك لا ترفضين فكرة تحاورنا . وإذا لم تعيدي ورقتي هذه يا آنسة زينب فسأعتبر ردّك ايجابيا . واقسم لك أنني لن ألومك إذا أعدت ورقتي لكنني سأحزن جدا.

















غضبان

شكرا وألف شكر يا آنسة. لو تعلمين كم سعدت حينما تلقيت منك "الملف" صباح اليوم بدون ورقتي . شكرا وألف شكر.



















غضبان

إذا كان الشك قد راودني في المرة السابقة فيما إذا كنت ابتسمت لي حقا يا آنسة زينب فلم يعد هناك مجال للشك هذه المرة وان حاولت عيناك الزوغان من عيني. ويا لها من ابتسامة يا آنسة زينب.. يا لها من ابتسامة ! صحيح أنها كانت ابتسامة ضئيلة وانك حاولت مغالبتها جهد استطاعتك .. ولكن لو تعلمين كما أضاءت وجهك! وانأ في غنىً عن القول أن هذه هي المرة الأولى التي رأيتك فيها تبتسمين. وكثيرا ما ساءلت نفسي: هل تُراك تعانين مثلي من أحزان غيّبت البسمة من وجهك؟ ام إن اهتمامك بعملك يضفي عليك هذا المظهر الجاد؟ وعلى كل حال وجهك وضاء حتى لو لم تكوني تبتسمين. أما إنا فأعتبر غياب البسمة عن وجهي شذوذا عن الآخرين . وأؤكد لك يا آنسة زينب إنني لا أتملقك بهذا القول.













زينب

أشكرك يا أستاذ غضبان على ما جاء في ورقتك . وكل ما يمكنني قوله عن ملاحظتك أن ظروف البعض قد لا تسمح لهم بالابتسام. وفي رأيي ان ذلك لا يعد فيك شذوذا عن الآخرين.



















غضبان

شكراً جزيلاً يا آنسة زينب على ورقتك المقتضبة التي حوت معاني عظيمة. وأشكرك على نحو الخصوص على تطييب خاطري. لكنني مصرٌ على أن ذلك شذوذ فيّ. فأنا أتصور أني أنفرد عن غيري بهذه الصفة . وأراهن على انك لم تريني مبتسما يوما . لكن قولي هذا لا معنى له. فلا أظنني استرعيت انتباهك أصلاً. فلست سوى واحد من زملاء عديدين. فلماذا يجب أن أُلفت انتباهك خصوصاً وأنني لا أتميز بوسامة لافتة للنظر ؟‍‍! أما لماذا جفتني الابتسامة (وقد جفتني منذ طفولتي) فلأن الحياة ناصبتني العداء منذ صغري. واغفري لي إذ أكدّرك بمثل هذا الكلام. فالمفروض أن أقول كلاماً سارا لا مزعجاً. وعذري في ذلك أن النفس حينما تهفو إلى نفس أخرى تبثّها لواعجها بدون حرج. فمعذرة.













زينب

لا تغضّ من قدرك يا أستاذ غضبان. فلابد لشاب مثلك أن يلفت نظر الآخرين بطابعه الجادّ وتصرفاته المهذبة. أما الشبان الذين يحسبون أنهم يلفتون نظر الفتيات بالمبالغة في أناقتهم وتظرفهم فهم مخطئون.. أو على الأٌقل في رأيي أنهم مخطئون. فلا تبخس قيمتك يا أستاذ غضبان. واعلم أن شكواك من الحياة لا تزعجني. فأنا أدرك كم تجور الحياة أحياناً على البعض. ولكنني أتساءل: ماذا تنفعنا الشكوى من الحياة؟ أليس ما يجري لنا قد كتب في لوح المقدور؟










غضبان

ليتك تعملين كم سرّتني ورقتك يا آنسة زينب. فهي قبل كل شيء أثبتت لي أنني مصيب في تصوري بأنك راجحة العقل. وها أنت ذا تكشفين عن رجاحة عقلك مرة أخرى. لقد ذكرت أن الشبان الذين يبالغون في أناقتهم وتظرفهم ليسوا هم الذين يلفتون نظر المرأة في رأيك. لكن هذا الرأي لا يصدر إلا من الفتيات الراجحات العقل. وأظن أن الغالبية من الفتيات لا يستلفت نظرهن إلا هذا النوع من الشبان.
ولقد سرّني أيضاً يا آنسة زينب أنك لم تستنكري شكواي من الحياة وإن أيّدت قبول الأمر الواقع باعتباره قدر الإنسان. ولقد حاولت أنا أيضاً يا آنسة زينب القبول بالأمر الواقع لكنني عجزت. وكنت دائم التساؤل: لماذا يجب عليّ أن أعاني في حين أن الملايين غيري أُعفوا من هذه المعاناة؟ ولقد قلت أن ما يجري لنا كُتب في لوح المقدور. ولكن اسمحي لي أن أقول أنني عاجز عن فهم هذا المنطق. فلماذا يُكتب لأناس البؤس ويكتب لآخرين النعيم؟ أنا أرفض تقبّل هذا المنطق يا آنسة زينب. ولعل رفضي لهذا المنطق مسؤول عن شعوري بالغضب على الحياة. ومعذرة إن عكّرت مزاجك بهذه الأقوال.









زينب

أنت لم تعّكر مزاجي بأقوالك يا أستاذ غضبان. فمثل هذه الأفكار تطوف في الذهن فعلاً. ولكن أليس الأفضل لنا أن نأخذ بالحلّ الأسهل وهو أن الخالق قدّر لكل مخلوق نصيبه من الحياة وعليه القبول به؟!















غضبان

هل أفهم مما قلت يا آنسة زينب أنك أيضاً تتعرضين للمعاناة؟ لعل ذلك إذن يفسّر مسحة الحزن التي تعلو وجهك الوسيم. ولكن لماذا ينبغي أن تتعرض إنسانة وديعة مثلك للمعاناة؟! وعلى أية حال فأنت كما يبدو تقبلين الحياة على علاّتها. وأنا أغبطك على ذلك. وليتني أستطيع أن أفعل ذلك. وربما سأفعل بعد أن عرفتك. وصدّقيني يا آنسة زينب.. إنني لأول مرة في حياتي أشعر بشيء من الرضا عن الحياة. و لعلني سأرضى عن الحياة تماماً في يوم من الأيام. وقد سألتني يا آنسة زيبنب: ولماذا لا ترضى عن الحياة؟! فلك عمل محترم، وأنت تحمل شهادة جامعية، ولست مسؤولاً عن عائلة ( وهذا واضح فأنا لا أضع خاتم الزواج في أصبعي ) .. ولكن بأيّ حقّ أشركك في معاناتي؟ معذرة يا آنسة زينب.. وأعاهدك على أنني إن لم أعثر على موضوع سار فلن أزعجك برسائلي.












زينب

لماذا تصرّ يا أستاذ غضبان على أنك تزعجني بالتحدث عن معاناتك؟ اعلم أنني أتعاطف معك من كل قلبي. وأنا أؤمن بالمثل القائل: "الناس بعضهم لبعض"



















غضبان

شكراً وألف شكر يا آنسة زينب. يوماً بعد يوم أقتنع بأنني اهتديت إلى المرأة المثالية.. المرأة المتعاطفة البعيدة عن الأنانية وحب الذات. وإني أشكر المصادفة التي جمعتني بك في مصرف الرافدين . وإلا فكيف كان سيُتاح لي التعرف بك؟! وسأكشف لك عن حقيقة أنا مقتنع بها تماما يا آنسة زينب وهي أن بينك وبين أمّي كثيراً من الشبه. وبما أنني أحبّ أمّي فمن الطبيعي إذن أن أحّبك. فأرجوك يا آنسة زينب أن تسمحي لي بأن أحبك.
















زينب

شكراً لإطرائك يا أستاذ غضبان وإن كنت لا أستحقه. لقد طلبت مني أن أسمح لك بأن تحبني. فاسمح لي أنا أيضا أن أطلب منك أن لا تتمادى في عواطفك تجاهي لأنك ستجد نفسك في طريق مسدود. إن قولي هذا لا علاقة له برأيي فيك. فأنا أرى أنك شاب مهذب ولطيف ويمكن أن تعجب به أية فتاة. لكن هناك ظروفاً في حياتي لا تسمح لي بتشجيع شاب على حبّي. فلن يكون حبّه سوى مضيعة لوقته وخيبة لآماله. وما دام الأمر كذلك .. أفلا ترى يا أستاذ غضبان أن من الخير لكلينا أن نكفّ عن الحوار ؟!















غضبان

هل تصدقينني يا آنسة زينب إن قلت لك إن عينيّ لم تذوقا النوم حتى الصباح؟ كيف يخطر لك أن من الخير لي أن نكفّ عن تبادل لحوار ؟ إن ذلك يعني أن ينطفئ شعاع النور الوحيد الذي أشرق على حياتي المظلمة.. فهل ترضين إعادة حياتي إلى الظلام ثانية يا آنسة زينب؟! أرجوك .. لا تفعلي ذلك. لو حدث ذلك لكان كارثة عظمى بالنسبة لي. صحيح أننا لم نتبادل سوى حوارات محدودة . وصحيح أن هذه الحوارات مختصرة جداً (وخصوصاً حواراتك). لكنها أحدثت انقلاباً في حياتي. فقد كانت حياتي قبلها موحشة لا تعرف السرور. أما الآن فقد زايلتها الوحشة ودخل عليها شيء من البهجة. إن مجرد التفكير في الكتابة إليك واستلام ردّك ليغمرني بالغبطة ويملأ حياتي بالحركة. وليتك تعلمين يا آنسة زينب كم من المرات أتلو أوراقك . وبما أنها مختصرة فأنا أحفظها عن ظهر قلب. (ولكن أرجو ألاّ يدعوك قولي هذا إلى التمّسك بالاختصار !). وليتك تدركين أيضاً يا آنسة زينب كم أشعر بالبهجة وأنا أتهيأ للكتابة إليك. ومع أن حواراتي قصيرة أيضاً لكن كلماتها تظل تتقلب في ذهني لوقت طويل قبل أن أخطّها على الورق. وبعد ذلك كلّه تقترحين عليّ أن نكفّ عن تبادل الحوار ! هل ترتضين لنفسك يا آنسة زينب أن تكوني قاسية إلى هذا الحدّ؟ لو فعلت ذلك لحكمت على إنسان أن يصطلي في جحيم الوحدة. ولا أظن أن قلبك يطاوعك على ذلك.







زينب

لقد أوجعني الندم على ما اقترحته عليك يا أستاذ غضبان وتصورت نفسي غولا. لقد كانت آثار الإرهاق والسهر واضحة على وجهك وأنت تسلّمني "الملفّ" صباح اليوم. فكيف أسامح نفسي على ما فعلته بك؟! والحقيقة أنني لم أعرض عليك هذا الاقتراح يا أستاذ غضبان إلاّ تجنّباً لما قد يصيبك من أذىً من هذه العلاقة. فقد تقودنا إلى تبادل العواطف ثم إلى التفكير في الخطوات المنطقية التالية. وأرى من واجبي أن أصارحك يا أستاذ غضبان أن علاقتنا لا يمكن أن تتطور إلى أبعد من تبادل الحوار .
والآن ليتسع صدرك لبعض التساؤلات التي مرّت بذهني. ألا يجوز أن يكون مبعث رغبتك في تبادل الحوار معي الوحدة التي تعانيها وليس استظرافك لشخصي؟! والحقيقة أن وحدتك تحيّرني يا أستاذ غضبان. فكيف يشعر الشخص بمثل هذه الوحدة وهو يعيش بين عائلته؟! ثم ما الذي يمنعك من كسب الأصدقاء للتخلص من هذه الوحدة؟! وأخيراً أود أن أتساءل: لماذا اخترتني أنا بالذات من بين العديد من الزميلات مع أن البعض قد يشجّعن أكثر مني على عقد مثل هذه الصلة؟
أنا متأسفة يا أستاذ غضبان إذ أطرح عليك كل هذه التساؤلات والتي قد يكون البعض منها تدخلاً في شؤونك الشخصية. ولكنها تساؤلات مرّت بذهني.







غضبان

كلما اتسع الحوار بيننا يا آنسة زينب تعاظم إعجابي بك. وابتداءً أقول لك إن شرطك مقبول مئة بالمئة. ولن أسألك عن الظروف التي تحمل شابة مثلك على أن تغلق قلبها أمام الحب وترفض تطوير علاقة شريفة مع شاب من زملائها. ويكفيني أن تتمسكي بوعدك في أن تبقى صلتنا قائمة مهما تغيّرت لهجة حواري . فأنا بالطبع لا أستطيع أن أحول بين قلبي وبين ما يخفق به من عواطف.
وقبل أن أجيبك على تساؤلاتك أحب أن تعلمي أنها لم تبدو لي تدخلاً في شؤوني الشخصية بل اهتماماً بأمري وهذا ما أثلج صدري.
والآن حان الوقت للردّ على تساؤلاتك. أقسم لك يا آنسة زينب أن رغبتي في التحاور معك لا علاقة لها مطلقاً بشعوري بالوحدة. ولقد فكرت في التحاور معك منذ مدة طويلة. وكثيراً ما تراءى لي في أحلام يقظتي أنني كتبت إليك فعلاً وأنك رددت على أوراقي أما لماذا اخترتك من بين الزميلات جميعا فليس بوسعي الجواب على هذا السؤال. وكل ما أستطيع قوله أن قلبي هفا إليك. وإذا كان قصدك من هذا السؤال التنّصل من عواقب هذه الصلة فأطمئنك أنني المسؤول عنها كليّا.
وانتقل إلى الإجابة عن تساؤل آخر. أنا يا آنسة زينب لا أعيش مع أسرتي بل أقيم في فندق. فأنا لست من العاصمة بل من بلدة أخرى هي الموصل . ولا أكاد أزور أسرتي إلاّ مرّة كل شهر. وبعدي عن أسرتي ليس مسؤولاً عن شعوري بالوحدة. فقد كان هذا الشعور يحاصرني وأنا بين أسرتي. فمعاناتي من الوحدة إذن أمر ليس جديداً عليّ. وحينما أتحدث عن وحدتي فلا أقصد بها الوحدة بمعناها الماديّ بل بمعناها الروحي. وهذا النوع من الوحدة لا يمكن الفكاك من أسره حتى لو كان المرء محاطاً بأسرته أو بعشرات الأصدقاء. لذلك لم أشعر يوماً بالحاجة إلى الأصدقاء . هل تراني أجبت عن تساؤلاتك يا آنسة زينب؟

زينب

كم يوجعني الذنب نحوك يا أستاذ غضبان. فكل ورقة أكتبها إليك تحمل الأذى. ويظهر أنني لا أُحسن التعبير عن أفكاري. وإلاّ فلماذا أكتب بهذه الطريقة؟ لابد أن هناك طريقة أفضل للتعبير عما أُريد قوله بدون أن أجرح مشاعرك. ألا يدل ذلك يا أستاذ غضبان على أنك اخترت الفتاة غير المناسبة للتحاور معها؟

















غضبان

لا.. وألف لا يا آنسة زينب. فأنت فعلاً الفتاة المناسبة وأرجوك أن ترفقي بنفسك ولا تشتدّي في لومها. فأنا لا أطالع في حوارك سوى العواطف الرقيقة. ولقد غدت رسائلك بلسماً لروحي. وأنا لا أبالغ في هذا القول يا آنسة زينب. فشعوري بالوحدة تراجع بكل تأكيد. وبالمناسبة أخبرك أنني أحب طريقتك في التعبير عن خواطرك. إن فيها عفوية بديعة. وهي إن دلّت على شيء فإنما تدل على أنك أبعد ما تكونين عن التصّنع.
















زينب

أصارحك يا أستاذ غضبان أنني تألمت أشد الألم لأمر زميل عزيز يشعر بالوحدة مع عائلته. ففي اعتقادي أن مصدر بهجة الإنسان هو عائلته. فإذا كان الشخص يشعر بالوحدة بين عائلته.. فمن بإمكانه تبديد هذا الشعور؟ فأنا مثلاً أشعر أن عائلتي تستقطب كل عواطفي. وأنا حقاً متأسفة من أجلك. وأنا أعجب ما الذي جعلك تتخذ مثل هذا الموقف من عائلتك. لعل وراء موقفك أسباب بسيطة يمكن إزالتها لو توفرت لك الرغبة في ذلك. ولوا أنني واثقة أنك شخص طيّب ما قلت ذلك. وكم يسعدني أن تعيد النظر في موقفك من عائلتك. وأنا متأسفة يا أستاذ غضبان إن كنت لبست ثوب الناصح فليس مثلي من يسدي النصح لمن هو مثلك.














غضبان

ليتك تتخيلين يا آنسة زينب كم سعدت بحوارك الأخير. أتحزرين لماذا؟ لأنني عرفت لأول مرة أنني عزيز عليك! وبما أنني واثق من صدق لهجتك فهذا يعني أنني كسبت ودّك وهذا أمر عظيم بالنسبة لي. وأرجوك يا آنسة زينب ألا تتأثري لكل ما أقوله عن نفسي. فأنا نفسي لم أعد أتأثر كعهدي في السابق. صحيح أن حياتي البائسة خلفت مرارة لاذعة في قلبي ولا أحسب أنها ستزول. وصحيح أنني دائم التساؤل لماذا استهدفت لمثل هذا الحيف، لكنني لم أفكر يوما مثلاً بالتخلص من حياتي .. ربما لأنني أحلم ( وأنا بالمناسبة كثير الأحلام ، وأعني بها الأحلام المسماة بأحلام اليقظة ) بأنها ستتغير في يوم من الأيام.
تسألينني يا عزيزتي ما الذي ساقني الى هذا الموقف تجاه أسرتي فاعلمي أنني لا أقصد جميع أفراد أسرتي بل اقصد فرداً بالذات هو أبي. وبما أنك غدوت قريبة جداً إلى نفسي فأنا لا أجد حرجاً في اطلاعك على ظروفي العائلية. وأنت أول شخص أتحدث إليه عن تلك الظروف.
إن مأساتي يا آنسة زينب تكمن في الأب الذي اختارته الطبيعة لي. وأستطيع القول أن هذا الأب سلبني حبّ الحياة. فمنذ كنت طفلاً كرهته وامتلأ قلبي رعباً منه وأنا أراه يضرب أُمّي ويعاملها معاملة قاسية. وكبرت وكبر معي هذا الكره له والخوف منه. فإرادته واجبة الطاعة ولا بديل لها سوى الضرب. ورغباتي أو رغبات افراد أسرتي جميعا مرفوضة دائماً لأنها تصطدم بحبّه الجنوني للمال. وهو بلا شك أسوأ مثال على الانتفاع بالمال. ولا أبالغ يا آنسة زينب إن قلت أنه ربما يكون أبخل رجل في العالم ، مع أنه يُعدّ من الموسرين بما يمتلك من بيوت ومال سائل فهو تاجر أقمشة ناجح. وأضرب لك مثلاً على بخله. فبيتنا لم يعرف الكهرباء إلاّ منذ سنوات قلائل وفي غرفة واحدة فقط هي الغرفة التي يستقبل فيها ضيوفه. ونحن لم نعرف من الطعام إلاّ أبسطه.
وقد عشت طفولتي وصباي وأنا أقاسي من فقر مدقع.. فقر لا مبرّر له على الإطلاق. فلو كان أبي فقيراً حقاً لكان الوضع مقبولاً لديّ. أما أن يكون غنّياً وأتحسر على أبسط الضروريات فذلك أمر كان يحزنني حزناً شديداً. فأنا يا آنسة زينب لم استطع طوال حياتي أن أُطمئن أية رغبة من رغباتي. فلم أتلقّ يوماً لعبة في حياتي. ولم أشعر يوماً ببهجة العيد كما يشعر به الصغار. ولا أعرف الملابس الجديدة إلاّ إذا بليت ملابسي تماماً. حتى الدفاتر المدرسية كنت أعاني الأمرين قبل أن يتمّ لي الحصول عليها. وكان وضعي هذا يجعلني دائم التساؤل منذ صغري: لماذا خصَّني الله بمثل هذا الأب ؟ وكان هذا التساؤل يؤجج من غضبي على الحياة ويضاعف من شعوري بالوحدة.
أظنني أسهبت في الردّ على تساؤلك يا آنسة زينب وعساني قدّمت الجواب المقنع.





































زينب

ما اشد ما أوجعت قلبي يا أستاذ غضبان. وإني لأشكر الله لأنه وهبني أباً على نقيض أبيك. فمع أنه موظف بسيط ذو راتب صغير لكنه لم يشعرنا يوماً بالحاجة. وكان يستجيب لكل طلباتنا . ويبدو لي يا أستاذ غضبان أن الشعور بالفقر هو الذي يخلق المرارة لا الفقر نفسه. وأنا لا أدّعي أن تجاربي في الحياة كثيرة لكنها علّمتني أن حب المال هو أصل الشرور. ولعلك يا أستاذ غضبان تتخلص من شعورك الموجع بالفقر ليعود إليك حبّ الحياة.
















غضبان

أنا أقدّر فيك روح التسامح يا آنسة زينب. ولكن اسمحي لي أن أقول ان حياتك مع مثل هذا الأب الرحيم لم تكدّرك كما كدّرتني الحياة مع أب قاس مثل أبي. وأنا لست ممن يحبون المال من أجل المال. ولكن أن يُحرم الإنسان من أبسط احتياجاته هو ما يثقل النفس مرارة. وإن الفقر مهما تكن أسبابه هو إذلال لكرامة الإنسان وتعذيب له .
أرجو ألاّ أكون قد ضايقتك ببث لواعج نفسي فقلبك ولاشك يتّسع لاحتضان عذابات الآخرين خصوصاً وأن حياتك في كنف أسرتك السعيدة وأبيك الرحيم تجري كالجدول الرقراق ، ولا أدري بأي حق أعكر هذا الجدول بالتحدث عن معاناتي. فمعذرة .














زينب

ألم أقل في إحدى حواراتي يا أستاذ غضبان أنني لا أحسن التعبير عن أفكاري وإنني أحمّلك الأذى بدون قصد منّي؟ ها أنذا قد فعلتها ثانية بإسداء النصح إليك. ومن أنا حتى أقدّم النصح لشخص مثلك؟! وعذري في ذلك أنني لم أقصد من نصحي سوى التهوين من غضبك على الحياة لعلك تعاينها بمنظار جديد. أما عن قولك بأن حياتي تجري كالجدول الرقراق فهو قول بعيد عن الحقيقة. وربما عرفت السبب يوما.
















غضبان

هل تُراني أتجنّى عليك يا آنسة زينب بالتحدث عن معاناتي؟ لقد استنبطت من ورقتك الوجيزة معاني أزعجتني وأرجو ألاّ تكون حقيقية. هل تُراك تعانين مثلي؟! وإذا كنت تعانين حقاً.. فكيف لي أن أضاعف معاناتك بالتحدث عن معاناتي؟ كلاّ وألف كلاّ. أعدك بأنني لن أسمح لنفسي من الآن فصاعداً أن أخوض في أي حديث يكدّرك.

















زينب

إنني أعلمتك يا أستاذ غضبان منذ البداية أن حديثك عن معاناتك لا يكدّرني بل يمدّني بشيء من العزاء. فأنت أصبحت عزيزاً عليّ. ويسرّني جداً أن تشركني بما تختزن من ذكريات حزينة فلعلني أخفف عنك. وسأصارحك بشيء لا داعي لإخفائه عنك بعد الآن لأنني لا أريد أن أكذب عليك أو على نفسي. وهو أن أوراقك يا أستاذ غضبان صارت جزءاً مهمّاً من حياتي. وأنا أترقبها كل صباح بلهفة كبيرة. فما أن أتلقى منك "الملف" حتى أقلّب أوراقه في عجلة بحثاً عنها . وما أن تستقر في حقيبتي حتى أتعجل الوقت لانتهاء دوامنا لكي أهرع إلى البيت. وحالما أدخل منزلي أسارع إلى غرفتي وأغلق عليّ بابها. ثم أعكف على ورقتك أقرأها مرتين على الأقل قبل أن أستجيب لنداء أمّي لتناول الغداء.
وسأصارحك بأمر آخر يا أستاذ غضبان. إنني خائفة من هذا التغيّر فيّ. وإن الخواطر المقلقة تطوف في رأسي وتسلبني النوم أحياناً. وكثيراً ما خاطبت نفسي قائلة: "ألا تدركين الهاوية التي تسيرين نحوها برجليك يا زينب؟ أما آن الأوان لأن تضبطي نفسك؟" وليتني قادرة على ضبط نفسي يا أستاذ غضبان قبل فوات الأوان.









غضبان

يا زينب العزيزة.. واسمحي لي أن أناديك باسمك المجرد. فهل تُراني تجاوزت حدودي في رفع الكلفة بيننا؟ لقد أحسست أن الدنيا لا تسعني من فرحتي وأنا أقرأ ورقتك وخيّل إليّ أنني عدت مراهقاً. وقلت لنفسي وأنا عاجز عن السيطرة على عواطفي: "عيب يا غضبان أنت لست صبيّاً مراهقاً في السادسة عشرة من عمره.. أنت تجاوزت العشرين بسنوات". لكن هذا القول لم يجدني نفعا. ولم أستطع من شدة فرحتي أن أخلو بنفسي في غرفتي كعادتي فخرجت إلى شارع الرشيد وألقيت بنفسي في تيّار الناس المتدفق. ومضيت أتصفح وجوه العابرين وعواطف الحبّ تضجّ في قلبي. ولابد أن وجهي كان يكشف عما في قلبي فقد كان البعض منهم يلتفت وراءه بعد أن يتجاوزني ويرمقني في فضول. ولقد استرعى حالي هذا انتباه الحاج خلف صاحب الفندق والرجل الطيب فتطلع إليّ باستغراب وهو يرى البسمة تملأ وجهي وهتف بصوته الجهوري: "خير .. خير إن شاء الله دائماً يا أستاذ غضبان". فلقد كان يراني متجهم الوجه دائما . ونادرا ما استجبت لدعوته في أن أشاركه مع بقية النزلاء مجلسه وأقبل دعوته لشرب "استكان"شاي .
هل يمكن أن يصنع الحب بالإنسان كل ذلك يا زينب ؟ حقاً ان من حرم الحبّ إنسان بائس. وأنت يا زينب العزيزة .. لماذا تشوشين رأسك بالخواطر المقلقة؟ أنت قدرية وتؤمنين أن ما كُتب للإنسان لابد له أن يشهده. ثم لماذا تعذّبين نفسك بالأفكار المقلقة؟ دعينا نتمتع بهذه الفرصة التي أنعم الله بها علينا. ولكن .. ها .. ها !! ألا تلاحظين يا زينب العزيزة كيف تغيّرت لهجة أوراقي ؟ أنا الذي ينصحك الآن بأن تتخلي عن الأفكار المقلقة وتتمتعي بفرحة الحياة. وأنا لا أكاد أصدّق نفسي. هل أنا غضبان حقّاً ؟! هل أنا ذلك الشخص الغاضب على الحياة؟! هل أنا الشخص الذي كان يعتقد أنه اسم على مسمّى؟! أفلا يجدر بي أن أغير اسمي من الآن فصاعدا ؟ شكراً لك يا زينب .. شكراً وألف شكر.

زينب

أنا التي تشكرك جداً جداً يا غضبان. فأنت غيّرت حياتي الراكدة الخالية من أي فرح حقيقي. وأصارحك يا غضبان أن حياتي كانت قبل أن أعرفك كالبركة الراكدة المياه. كنت أخرج من منزلي صباحاً وليس أمامي سوى الانهماك في العمل. ثم أتهيأ لرحلة العودة وللخطوة الشاقة وهي ضمان مقعد لي في "الباص" . والحقيقة أن مشقة العمل في كفّّة ومشقة "الباص" في كفّة أخرى. وأنا متأسفة إذ أقول لك أن أخلاق الناس قد تدهورت عما كانت عليه. فحينما كنت طالبة في الجامعة كان بعض الشبان يتخلون عن مقعدهم لي. أما اليوم فهم يزاحموننا على المقاعد ويدفعوننا بمناكبهم. ويقتضيني الوصول إلى منزلنا في "الزوية" ما يزيد على ساعة أقضي أغلبها واقفة. فتصور حالي يا غضبان عند وصولي إلى البيت خصوصاً وأن الحر في هذا الصيف مهلك. (وإن كنّا نشكو من الحر نفس الشكوى كل صيف!). فلا أبلغ البيت إلاّ وأنا "نبديد". وطبعاً ليس في البيت سوى الرتابة الممّلة. ولحسن حظنا أن هيّأ الله لنا النوم منقذاً لنا. وإلا فكيف يمكن أن تنقضي ساعات النهار الطويلة؟! وحالنا يختلف طبعاً عن حالكم أنتم الرجال. فلديكم المقاهي ووسائل التسلية الأخرى. أما نحن فعلينا أن نقبع في البيت. وأنا شخصياً لا أزور سوى بنات عمّي فنعيد ونصقل نفس الأحاديث. ولقد كان زميلاتي في الجامعة يشكون مرّ الشكوى من الملل في نهار الصيف الطويل. وكنّ يعالجن هذا الملل بالنوم الطوبل لأن فرص الزيارات والترويح عن النفس في المنتزهات لديهن محدودة جداً . وحتى السينما لم يكن يتهيأ لهن مشاهدتها إلاّ نادرا . وأنا لا أقول إن حياتي في البيت مزعجة يا غضبان، فأنا في الحقيقة أحب عائلتي، لكنها مملّة. أما الآن فوداعاً للملل. فلديّ أوراقك التي تشغل معظم وقت فراغي. فأنا أعيد تلاوتها ثانية وثالثة ورابعة وأنشغل بالتفكير فيها. وأصارحك يا غضبان أنني لم أكن أصدقك حينما كنت تقول بأنك تعيد قراءة حواراتي وتحفظ بعضها عن ظهر قلب. (طبعاً أنت لم تعد قادراً الآن على حفظها بعد أن صارت بطول المعلّقات!!).
أشكرك من الأعماق يا غضبان إذ أدخلت البهجة على قلبي وبددّت رتابة حياتي.





















غضبان

لو تعلمين يا زينب العزيزة كم أسعدني أن أكون سبباً في بهجتك. وإذا كنت قد فعلت ذلك حقاً فقد رددت إليك بعض دينك في عنقي. واعترف لك أنني لم أكن أحلم بذلك.
أيتها العزيزة زينب : كم أحزنني ما تتحملينه من عناء المواصلات. ومن المؤسف أن يفقد الشباب أريحيتهم القديمة تجاه النساء. وعذرهم في ذلك أنه مادامت المرأة تنشد المساواة بالرجل فعليها أن تتحمل كل تبعات هذه المساواة. وهو قول حق أُريد به باطل. فالمرأة مهما تكن الحال تظل جسديّاً دون الرجل تحمّلاً للمشقات. ولا ريب أنك تصلين إلى البيت وأنت "نبديد" فعلاً. فأنت تمضين ساعات طويلة في عمل مضن. وإنه لظلم أن يقع عليك هذا الغرم، في حين تنتظر السيارات بعض زميلاتنا على باب المصرف. فأيّ قدر هذا الذي يسمح بمثل هذا التمايز بين الناس! وعلى كل حال ماحيلة أمثالنا من الفقراء في احتمال المشقات وهو ما كُتب لهم في لوح المقدور ؟!











زينب

أفّ ثم أفّ لك يا غضبان ! متى ستتصالح مع القدر؟ ألم يجعلك راضياً عن الحياة الآن؟! أم لعلك ماتزال غاضباً عليها كعهدك؟!




















غضبان

وداعاً للغضب على الحياة يا زينب . هل يحق لي أن أشكو بعد الآن وقد عرفتك؟ أنت ملاك يا زينب ومكانك ليس على الأرض بل في السماء.

















زينب

أنا لست ملاكاً يا غضبان. ما أنا سوى امرأة عادية فلا تسرف في الخيال.




















غضبان

ذكرتني ورقتك يا زينب العزيزة بالقول المأثور "من تواضع لله رفعه" .ولن أردّ عليك بأكثر من هذا القول.


















زينب

كلما تكشفت لي جوانب جديدة من شخصيتك يا غضبان أوجعني الأسى على ما لقيته من جور في حياتك . أنت إنسان طيب لا تستحق هذا الجور. وقد بدأت أتساءل مثلك: لماذا يجب أن نقاسي مثل هذا الجور؟ وما دام أبوك ثرياً .. أما كان الأولى به أن يهيء لك حياة مريحة بدلاً من حياة ملؤها الشقاء؟!

















غضبان

كنت قد قررت أن أطوي صفحاً عن الخوض في ذكرياتي البائسة يا زينب العزيزة حتى لا أثير الكدر في قلبك. ولكن ما دمت أثرت الموضوع فسأعود إليه ثانية على أن تعديني بأن تعتبري ما سأرويه أحداثاً طواها الزمن. وسأروي لك الذكريات التي رافقت التحاقي بالجامعة. وكم شغلت الجامعة من أحلام يقظتي وأنا ما أزال طالباً في الثانوية يا زينب ! ولكن ينبغي لي أن أعترف لك أن مبعث رغبتي في الجامعة لم يكن حبّ العلم. فالدراسة لم تستهوني يوماً خوفاً من السقوط والتعرّض لغضب أبي. (وبالمناسبة فإن معارف أبي يدعونه "الأحمق" لكونه سريع الغضب لأدنى أمر لا يرضى عنه أي أن يونس البزاز مشهور بحمقه ). لكنني كنت أطمع في الابتعاد عن أبي والفكاك من أسره. وكانت الجامعة هي أملي الوحيد لتحقيق ذلك. وقد كنت أسيراً لأبي بمعنى الكلمة يا زينب. فقد كان عليّ أن أهرع إلى الدكّان حالما ينتهي دوام المدرسة. فلم يُتح لي يوماً أن أشارك أقراني لهوهم ولعبهم. وكم كان ذلك يحزّ في نفسي. وكنت مغرما على نحو الخصوص بلعبة "الختيلة " ولعبة " سمبيلة السمبولة " . ولكن مع من العبها وليس لديّ أصدقاء أو أصحاب ؟ فكنت ألعبهما في أحلام يقظتي. ولم يكن يتاح لي الوقت لزيارة معالم مدينتنا . تصوري أنني لم ازر مرة مقام النبي يونس ولم أزر المتحف الآشوري . وكنت أكره تواجدي في الدكّان أصلاً. ذلك أنني لم أكن أرتح لطريقة التعامل فيه. فقد كان أبي يبيع البضائع للمشترين البسطاء بأكثر من ثمنها الحقيقي، شأنه شأن بقية أصحاب الدكاكين في "سوق البزّازين". وكان أهل السوق يثيرون اشمئزازي بجشعهم وحبّهم للمال وبتنافسهم في اجتذاب المشترين. كل ذلك جعلني أتلهف لليوم الذي أتحرر فيه من هذه الحياة. وكان يبدو لي أن منقذي الوحيد منها هي الجامعة لأنها ستحملني إلى العاصمة. وكانت العاصمة تبدو لي أيضاً مدينة خيالية آسرة وسكانها سعداء متميزين. لذلك ضاعفت جهودي في الدرس في المرحلة الثانوية لأنال درجات عالية تمكنني من الظفر بالجامعة. وكان ذلك يضطرني أحياناً إلى تمضية الليل كلّه وأنا أقرأ على ضوء المصباح النفطي الخافت. فكانت أمّي تقول لي: "إن انهماكك في الدرس سيعمي عينيك يا غضبان". وكان مما يشدّ من أزري تشجيع بعض أساتذتي لي وعطفهم عليّ. وأحسب أن مبعث عطفهم وتشجيعهم لي رثاثة حالي. لكن لهفتي للالتحاق بالجامعة اقترنت منذ البداية بالعذاب والجزع الشديدين من استحالة تحققق هذا الحلم. فالانتساب الى الجامعة سيتطلب أولاً مالاً وثانياً حرمان أبي من معاونتي في الدكان. وأنا الآن حينما أقصّ عليك هذه الذكريات البائسة يا زينب لينتابني رثاء عميق لنفسي. ولا أكتمك أنني توقفت الآن لحظة عن الكتابة لأمسح دمعتين زحفتا على خدّي.
حينما أعلنت نتائج البكالوريا وكنت متفوقاً فيها قررت مفاتحة أمّي بحلمي. (ولم أكن قد شاركت به أحداً قط). وصعقت لكلامي وشحب وجهها وارتجفت شفتاها. وردّت عليّ في البداية ردّاً صارماً. ولكن ما أن رأت دموعي تنهمر على خدّي حتى اجتاحها اضطراب شديد. وراحت تتوسل إليّ أن أبعد هذا الخاطر عن ذهني. وكانت حججها منطقية جداً، بل أنا نفسي ردّدتها مئات المرات. لكنني مع ذلك شعرت بخيبة أمل جارحة لخذلانها لي. فاشتدت دموعي انهماراً. ومع أنني لم أنطق بعبارة احتجاج واحدة لكن دموعي عبّرت عن احتجاجي أبلغ تعبير. فكفّت عن توسلاتها وأطلقت العنان لدموعها فاختلطت بدموعي وهي تعانقني .وجعلت تهمهم بعبارة جريحة خيّل إليّ أنها تقتلعها من قلبها: "يا لحظّك التعس يا غضبان". كان ذلك مشهداً لن أنساه يا زينب حتى لو عشت مئة عام. فلم أرَ أمّي طوال سنّي معاناتها على تلك الصورة من اللوعة. وحاولت أن أكبح دموعي رفقاً بها لكنني عجزت. فقمت أخيراً ودخلت غرفتي وأقفلت عليّ الباب.
ولم أفاتح أبي برغبتي هذه بالطبع، ولم أعاود الحديث فيها مع أمّي. لكن حالة من الضياع تلبستني فصرت أتحرك كالآلة. وران عليّ جمود غريب. وكان حزني يتعاظم كلما اقترب ميعاد افتتاح الجامعة. وبات حلمي كابوساً يسلبني النوم. وكثيراً ما ظللت مفتوح العينين أحدّق في السقف حتى يبزغ الفجر. ويوماً بعد يوم كنت أذوب كالشمعة . وأصابني هزال شديد. وكانت أمّي تتعذب لحالي. وكانت تبدو متجهمة الوجه طوال الوقت والحزن لايفارق عينيها.
وذات صباح، وكان موعد افتتاح الجامعة قد قرب، صحونا عند الفجر على أصوات شجار تنبعث من غرفة نوم أبي. ثم فتح الباب بقوّة واندفعت أمّي خارج الدار. وأدركنا أنها ذهبت إلى بيت خالنا.
وفي عصر ذلك اليوم أقبل خالي على الدكان وكان وجهه متجهما وطلب من أبي أن يحدثه على انفراد. ولم أعرف مادار بين خالي وأبي من كلام. ولكن في مساء اليوم نفسه عادت أمّي وهي منطلقة الأسارير وطلبت مني أن أستعد لمرافقة خالي غداً إلى العاصمة للالتحاق بالجامعة . ولا تسألينني يا زينب عن الفرح الذي غمرني وأنا أصغي إليها فهو أعظم من كل وصف. ولا أكون مبالغاً إن قلت لك إنني أحسست بجناحين تنبتان لي ويمكن أن تطيرا بي إلى السماء. وعلمت فيما بعد أن خالي أقنع أبي بالموافقة على التحاقي بالجامعة على أن يتكفل هو بنفقاتي . ولا أدري أي نوع من الضغوط لجأ إليها فلا يمكن أن يخطر لأبي أن يستغني عن معاونتي في الدكان. وأكاد أجزم أن ورقة الضغط كانت تتعلق بأُمّي بشكل من الأشكال. ولا أستطيع حتى اليوم أن أفي خالي حقّه من الشكر.
لقد أسهبت في حكايتي هذه يا زينب. ولم يكن في نيّتي حين بدأتها أن أنساق مع هذه التفصيلات. لكن قلمي كان ينطلق من تلقاء نفسه. وحين أعدت قراءتها فكرت بتمزيقها لئلا تثير كدرك. فأرجوك أن تتعاملي معها على أنها من ثراث الماضي المندثر.









زينب

هل تريدني أن أكذب عليك يا غضبان؟ إذن سأقول لك إنني قرأت حكايتك في حياد ولم أتعامل معها إلاّ بكونها من أحداث الماضي المندثر. أما إذا أردت أن أصدقك القول فاعلم بأن دموعي لم تنقطع وانا مكبة عليها . بل إن بعض دموعي تساقطت على الورق فمحت عدداً من الكلمات والحروف. أي عذاب تحملته يا غضبان وأي حياة بائسة عشتها؟! وأنا الآن أتساءل مثلك: لماذا يجب أن تتعرض لمثل هذه المعاناة؟ لقد كان يمكن أن تتحقق جميع رغباتك. فأبوك قد يسّر الله عليه ومنحه الرزق الوفير. فما نفع أمواله إذن؟ وإن الألم ليوجع قلبي حين أقارن وضع أبيك بوضع أبي، وما فعله أبوك معك وما فعله أبي معي. فأبي فاضل السلطان كان موظفاً بسيطاً في وزارة المواصلات . وكان معروفا بين زملائه بدماثة الخلق ومع أن رزقه كان شحيحا لكنه لم يقصّر يوماً في مطالبنا. وأنت رويت لي حكاية التحاقك بالجامعة فسأروي لك أنا أيضاً حكاية التحاقي بالجامعة. والحقيقة أنني لم أفكر أبداً في الانتساب للجامعة . فلم أكن اعتقد أن الشهادة الجامعية ضرورية لي. فلما ظهرت نتائج البكالوريا ونلت فيها معدلات عالية قال لي أبي: "عليك أن تستعدي للجامعة يا زينب". فقلت له:" أنا لا أفكر في ذلك يا أبي ".
ودار بيننا نقاش طويل ختمه أبي قائلاً: أريدك أن ترفعي رأسي يا زينب . سأثبت للجميع أنك أحسن من الولد.
وهكذا وجدتني أستجيب لرغبته. وكنت أدرك كم سيكلّفه تحقيق هذه الرغبة من عناء. فحاولت أن أضغط مصاريفي إلى أدنى حدّ ممكن . لكنه أصرّ إلى النهاية على أن أظهر بمظهر لائق. وتمّ ذلك على حسابه لا على حساب العائلة. وحرم نفسه من أي لون من ألوان الكماليات. فقلّل من ذهابه إلى المقهى ، وترك التدخين، وقتَّر على ملابسه. أفما كان الأولى بأبيك أن يكون أول المرحبين بالتحاقك بالجامعة وأنت ابنه البكر؟ كم أوجعت حكايتك قلبي يا غضبان!

غضبان

إذا ظللت تستجيبين لحكاياتي بهذه الطريقة يا زينب العزيزة فستضطرينني إلى الكفّ عن التحدث إليك عن حياتي الماضية. لكنك ستحرمينني من فرصة عظيمة للتخفيف من أحزاني. فأرجوك ألاَ تحرمينني من هذه الفرصة.
لقد مسست شغاف قلبي أيتها العزيزة بحديثك عن أبيك. وإنني لأغبطك على هذا الأب العظيم. وليتني استطيع أن أعبّر له عن عظيم احترامي وتقديري. وإذا كان ذلك غير ممكن بالنسبة لي فأرجوك أن تفعلي ذلك نيابة عني.















زينب

أنا مـتألمة جداً جداً يا غضبان إذ أقول لك إنه ليس بإمكاني الاستجابة لطلبك. وكم كان بوّدي أن أفعل ذلك. فأبي كان يستحق فعلاً كل الاحترام والتقدير. ولكن الله لم يشأ لنا أن ننعم بوجوده بيننا. فاختاره إلى جواره منذ أكثر من عام. وعلى كل حال اعتبر تحياتك قد بلغته.

















غضبان

إنّا لله وإنّا إليه راجعون . كم أحزنني هذا الخبر يا زينب العزيزة. لماذا ينبغي أن يرحل الطيبون قبل الأوان؟ كم كان بوّدي أن أعانق هذا الأب العظيم وأقبّل يده. واسمحي لي يا زينب أن أعترف لك اعترافاً محرجاً لي . فقد ظلمت أبيك بيني وبين نفسي. لقد تخيلته أباً مستبداً يفرض أوامره على أبنائه. أي أنني تخيلته نسخة من أبي وإن لم يكن بخيلاً مثله. وقد تبنّيت هذه الصورة له بسبب الشرط الذي حددته لعلاقتنا. ولكن يبدو أن أبيك المرحوم كان على نقيض أبي تماماً، وأنه كان ينظر إلى المرأة نظرة راقية وإلاّ ما فرض عليك مواصلة الدراسة الجامعية . وبهذه المناسبة اسمحي لي يا زينب العزيزة أن أسألك ،وأنا في غاية الحرج، لماذا فرضت ذلك الشرط القاسي علينا إذن؟! اغفري لي هذا التجاوز يا زينب العزيزة فأنا ما أزال ملتزماً باتفاقنا. واعتبري هذا السؤال من باب الفضول لا أكثر. وأنت حرّة على أية حال في الإجابة عنه أو الامتناع عن الجواب.











زينب

أنت ولاشك أدركت الآن يا غضبان مقدار معزّتك في قلبي . ولعلني أكثر شوقاً منك لأن تتجاوز صلتنا مرحلة الحوارات المكتوبة . وأجدني ملزمة الآن لمصارحتك بحقيقة ظروفي لئلا تظن بي الظنون.
أنت عرفت الآن أنني كبرى أفراد عائلتي .وعائلتي في الحقيقة تضمّ أختاً لا تزال في مرحلة الدراسة الثانوية ، وأخاً في مرحلة الدراسة المتوسطة، وأختاً في مرحلة الدراسة الابتدائية ، اضافة إلى أمّي طبعاً. وكان أبونا المرحوم معيلنا الوحيد. ولحسن حظنا أن أبي توفي بعد شهرين من تعييني في المصرف وإلاّ لبقينا بلا معيل. فأصبحت أنا المعيلة للعائلة. وقد قال لي أبي وهو على فراش الموت: ستحلّين محلّي يا زينب وستكون العائلة أمانة في عنقك.
وهكذا انحصرت كل طموحاتي في رعاية عائلتي حتى أنني حذفت فكرة الزواج من ذهني كلّياً. وكان يمكن أن تجري حياتي هيّنة فلم أكن أشعر بأيّ غضاضة تجاه هذه المسؤولية لولا أن ابتلاني الله بابن عمّ سيّء . وابن عمي هذا ، واسمه فؤاد، من النوع المتعب لكل من يعرفه وعلى رأسهم عائلته وأقربائه. وقد عجز عن مواصلة الدراسة وتوظف "كاتباً" في إحدى المصالح الحكومية. وقد تستغرب يا غضبان لماذا أروي لك هذه التفصيلات عن فؤاد. لكن استغرابك سيزول إذا ما علمت أنه يمثل لي ولعائلتي كابوساً فظيعاً. فقد بدا له قبل ما يقرب من عام أن يختارني زوجة له .. هكذا بكل بساطة!! وبما أنه قرّر ذلك فعليّ الطاعة.. أنا خريجة الجامعة وهو الفاشل .. من واجبي أن أطيعه لأنه ابن عمي أولاً وله عليّ حق الشفعة ولأنه رجل وأنا امرأة ثانيا!! تصور ذلك يا غضبان !! فأين الكلام عن حقوق المرأة وعن مساواتها بالرجل؟! وما قيمة تدوين ذلك في قوانين الدولة الرسمية؟!
ومهّد للإعلان عن رغبته هذه بالتودّد إلينا. ولم يكن من قبل يعيرنا اهتماماً. بل لم يكن يزورنا في حياة أبينا إلاّ في مناسبات متباعدة. ومنذ البداية توجست خيفة من زياراته. أما أمّي ، وهي إمرأة طيبة على نيّاتها، فسّرت لموقفه الجديد منّا. فقد فسّرته بأنه شهامة منه بعد أن فقدنا رجل البيت وأصبحنا في حاجة إلى رجل يحمينا. (تصوّر يا غضبان كأنني غير قادرة على ذلك وأنا خريجة الجامعة!). وفي إحدى زياراته طلب منّا أن نجتمع كلّنا لأن لديه ما يقوله لنا. فانقبض قلبي وقلت لنفسي : "حانت الضربة القاضية". وبعد أن تحدث عن مصاعب العوائل التي لا يرعاها رجل وعن حاجتنا إلى رجل بعد وفاة أبينا أعلن أنه عزم على الزواج مني ليكون رجلنا الحامي . ووقع علينا قوله وقع الصاعقة. وخيّم علينا وجوم شديد. ثم انتبهنا فجأة على أخي باسل وهو ينتفض صارخاً: أنت تتزوج من أختنا زينب.. مستحيل أن نسمح لك بذلك.
وفي غمرة ذهولنا رأينا فؤاد يقفز نحوه وينهال عليه صفعاً ولكماً ورفساً حتى خيّل إلينا أنه سيموت بين يديه. وتعالى فزعنا وصراخنا . وحاولنا جميعاً أن نخلّصه من يديه فعجزنا. (الحقيقة أنه قوي جداً يا غضبان ، بل إنه يملك قوة ثور !). وأخيراً قال لنا متوعداً : " سأعرف كيف أؤدب كل من يقف أمام ارادتي". ولم يعاود زيارتنا لأكثر من أسبوع. وحينما حضر ثانية كنّا قد استوعبنا الدرس. وتظاهر بأنه نادم على فعلته. وما كان لنا إلاّ ان نقبل اعتذاره. أما أنا فنويت أن أتصرف بحكمة. فقلت له: انا شخصياً لامانع عندي من الزواج منك ولكن بشرط أن تمهلني حتى أفي بمسؤوليتي تجاه آخر فرد من عائلتي، وهو وعد قطعته لأبي وهو على فراش الموت، ولن أخلّ بوعدي حتى لو كلفني ذلك حياتي.
فقال: أنا مستعد أن أشاركك هذه المسؤولية.
فقلت: إنني وعدت أبي أن أكون وحدي المسؤولة عن هذه المهمّة ولن أحنث بوعدي. وعليك إما أن تقبل بشرطي أو أن تبحث عن زوجة أخرى.
واحتار كيف يجيبني بعد ان تحدثت معه بلهجة لطيفة وبدا كأنني راغبة في الزواج منه. (ولقد قلت له يا غضبان: "من التي لاتتمنى الزواج من رجل قوّي مثلك قادر على حمايتها" وصدّق قولي هذا وانتفش كالديك الهراوي).
وأخيراً قلت له: "هل ستراك تحافظ على وعدك يا فؤاد وتنتظرني أم انك ستتزوج في أقرب فرصة تسنح لك؟"
فقال مخذولاً: بل سأنتظرك حتى تفي بتعهدك.. وماذا ورائي؟
وكنت أضحك في سرّي وأنا أرى وجهه يحمرّ ويخضرّ والاضطراب باد عليه. فالحقيقة أنه لم يتوقع هذا الردّ مني وكان يعد نفسه للقيام بحركات عنترية يفرض فيها إرادته على العائلة، العقل زينة .. أليس كذلك يا غضبان؟ ها قد عرفت يا غضبان لماذا اشترطت عليك ذلك الشرط . وأنا متأسفة إذ أضاعف أحزانك بحكايتي هذه. لكنني أشعر في الوقت نفسه أن ثقل هذا الكابوس قد خفّ عن صدري.


















غضبان

كيف أصف لك مشاعري وأنا أقرأ حكايتك يا زينب؟ لا أدري كيف أصفها فهي عصيّة على الوصف. ويكفيني أن أقول لك بأنني لم أعرف حزناً كالذي عرفته وأنا أقرأها مع أن حياتي كلّها أحزان. ولم أذق النوم حتى الصباح. لقد كنت اعتقد أن الحياة أصابتني بغرم عظيم إذ ربطتني بأب مثل أبي وإذا ببليتك بابن عمّك لا تقلّ شأناً إن لم تزد . لقد ظللت أهمس لنفسي بعذاب وأنا أتقلّب على فراشي طوال الليل: "لماذا يجب أن تتعذب فتاة رقيقة وديعة كزينب؟ ما الحكمة في ذلك؟" لكنني أعود فأتذكر ما تلقاه أمّي على يد أبي فأحسّ بشيء من العزاء المرير. ومنذ اللحظة الأولى التي رأيتك فيها يا زينب خيّل إليّ أن فيك شبهاً بأمّي. فحياتك كما يبدو لي الآن شبيهة بحياتها أيضاً. إن أمّي تمتلك نفس الوجه الوديع الذي تمتلكينه وفيه تعبير جذّاب من اللطف والرقة ويعلوه دائماً مسحة من الحزن .. مثل وجهك تماماً . وكما يمثل ابن عمّك فؤاد كابوساً لك يمثل أبي كابوساً لأمّي، ولا أظن أنها ذاقت السعادة معه يوماً . فهو دائماً عصبي المزاج (ولحسن حظها وحظنا أنه يقضي كل نهاره في الدكان و يمضي أمسيته في المقهى). ومنذ كنت طفلاً كنت أسمع شجارهما ينبعث من غرفة نومهما وأسمع بكاءها لساعات طويلة. ولم أكن أعرف السبب يومذاك. ولكنني أدركت حينما كبرت أن بخل أبي كان المسؤول الأول عن ذلك. ولعل هناك أسبابا أخرى أيضا . واشتد شجارهما حينما كبرت وكبرت أخواتي. فقد أصبحت أمّي الناطقة باسمنا فيما نحتاج إليه لأننا لم نكن نجرأ على مواجهة أبينا بمطالبنا. وصارت كبش الفداء. ويبدو أنها كانت تواجهه بمختلف الضغوط ليستجيب لطلباتنا. وكثيراً ما لعلع صوته في سكون الليل من غرفة نومهما صارخاً: "أنت لست زوجة تعرف حقوق الزوجية.. أنت متزوجة من أبنائك.. لعنة الله عليك وعلى أبنائك". وكثيراً ما يعقب شجارهما خروج أمّي من الغرفة ولجوئها إلى غرفتنا. فكنّا نتجمع حولها ونبكي طويلاً. وأظن أن دفاع أمي عنا كان سبب كراهية أبي لنا وغيرته منّا. فلم يحسّ أيّ واحد منا يوماً في تعامله معنا بأية لمسة حبّ أو حنان. لكن الأذى الذي كانت تلقاه أمي بسببنا لم يضعف من دفاعها عنّا. وإنها لتمثل في ذهني رمز التضحية. وها أنت ذا تقدمين لي رمزاً آخر من رموز التضحية يا زينب. فأنت عمليّاً تضحين بسعادتك من أجل أسرتك. وإني لأسأل نفسي أحياناً: هل خلق الله المرأة لتكون رمزاً للتضحية؟ على كل حال إنها لكذلك في بلداننا الشرقية. ولا أعرف إن كانت كذلك في البلدان الغربية.
أيتها العزيزة زينب . أرجوك أن تعلمي أنني سأبقى مخلصاً لك ما دمت حيّا. ولن تهمّني ظروفك التي تقف حائلاً دوننا. يكفيني أن أراك كل يوم وأن أتلقّى أوراقك التي باتت أعظم شيء في حياتي.
















زينب

أنا متأسفة جداً جداً لأنني اضطررت إلى أن أطلعك على ظروفي يا غضبان فأحملك بذلك أحزاناً إضافية. لكنني أصارحك بأنني أشعر الآن براحة كبيرة وكأنني أزحت صخرة ثقيلة عن صدري. ومع أنني كنت مستسلمة لقضاء الله وقدره لكن كابوس فؤاد كان يضايقني جداً جداً. أما الآن وبعد أن عرفتك فقد أخذت أنظر إليه نظرة حيادية. لقد كتمت عنك في أوراقي السابقة تفصيلات هذا الكابوس لكنني أجدني ملزمة الآن بالتحدث عنه. فالحديث عنه يخفّف من ضيقي به. والحقيقة يا غضبان أن فؤاد بات يمثّل لي ولأفراد عائلتي كابوساً بحقّ وحقيق. فلقد نصّب نفسه رجل البيت منذ أن وافقت على خطبته واعتبر نفسه زوج المستقبل .وأخذ يزورنا في أي وقت يشاء .ومن يقدر منّا على الوقوف في وجهه؟! والحقيقة أننا لسنا وحدنا نعاني من شراسته يا غضبان. فعائلته (وأعني أخواته فليس لديه إخوان) تعاني أكثر منّا. فقد نصّب نفسه الحاكم المطلق على أخواته. وهو يتدخل في شؤونهن الصغيرة منها والكبيرة، مع أن عمي ما يزال على قيد الحياة. فهن لا يستطعن الخروج لزيارة أحد إلاّ بإذن منه . ولا يحق لهن أن يرتدين من الملابس إلاّ ما يوافق ذوقه.ولا يمكنهن أن يدلين برأي يخالف رأيه. فهن يخضعن لأوامره خضوعاً تاماً ، حتى أنهن يسمينه فيما بينهن "فرعون". فهو دكتاتور البيت بحق وحقيق. وحتى عمي شاكر يتجنب مواجهته لئلا يسمع منه كلمة نابية خصوصاً وأنه شخص مسالم وموظف بسيط . وهو لم يعد يتبادل معه سوى كلمات قليلة. مسكين عمي! إنه الآن يعضّ بنان الندم ويعدّ نفسه مسؤولاً عن شراسته. فلقد كان يغضّ الطرف عن أخطائه حينما كان صغيراً لأنه ابنه البكر ولأنه الوحيد بين البنات. وكان يمحضه محبّة خاصة. فأثّر ذلك على سلوكه في البيت وفي المدرسة. وكان يشتد شراسة وتمرداً وإهمالا كلما تقدم به السنّ.
وبما أنه اعتبر نفسه زوج المستقبل فانه نقل سلوكه إلى بيتنا وجعل يتدخل في امور هي من صميم حياتنا الشخصية ويفرض فيها أوامره علينا جميعا. وإنني لأحمد الله على أنه لم يحاول حتى اليوم أن يفرض عليّ الزواج كأمر واقع. وإنني لأرتجف جزعاً وأنا أتصور حدوث مثل هذا الأمر. فماذا بإمكاني أن أفعل تجاه جبروته؟ لكنني احتطت لنفسي فأخبرت بنات عمّي (وكلهن يقفن إلى صفّي فهن صديقاتي) انني سأقتل نفسي لو حاول أن يحلّني من تعهدي ويفرض عليّ الزواج. ولابد أنهن أبلغنه بهذا الكلام وإلا لما سكت عن ذلك. ويبدو أنه يرتاب أحياناً بنيتي ويتصور أنني أخدعه بمماطلتي. فهو يتجسس عليّ بين الحين والحين ويراقب تصرفاتي في المصرف. بل كثيراً ما وجدته في انتظاري على محطة الباص عند خروجي من العمل . ومما يزيد من شكوكي أنه كرّر أكثر من مرة علي سمعي مخاطباً أمّي: "أتدرين يا امرأة عمي ماذا يحدث لو فكرت زينب في أن تتزوج غيري؟! ستكون ليلة دخلتها هي ليلة زفافها إلى القبر". وكلما سمعته يا غضبان وهو يتمشدق بتلك العبارة ارتعش جسدي رعباً. وأصارحك أنني لم أعد أخشى على نفسي فحسب بل عليك أيضاً. فأنا واثقة أن شراسته لا حدود لها . وخلاصة القول أنه ليس إنساناً بل وحشاً.
أنا متأسفة يا غضبان إذ أروي لك كل هذه التفصيلات المزعجة. لكنني أريدك أن تدرك كم نحن محاصرون.











غضبان

كلما ازددت معرفة بكابوس فؤاد يا زينب هان في عينيّ كابوس أبي. وما فؤاد وأبي سوى وجهان لعملة واحدة . ولكن لماذا ينبغي أن يكتب القدر للبعض السعادة وللآخرين الشقاء؟! أمن الضروري أن يكتب لمثلي ومثلك المعاناة؟! ما ذنبنا؟!

















زينب

أنا متألمة جداً جداً يا غضبان لأنك لم تعرف السعادة في أي طور من أطوار حياتك. أما أنا فقد عرفت السعادة في حياة أبي على الأقل. لقد كنّا عائلة سعيدة بحق وحقيق بفضل أبينا الطيّب الذي كان باسم الثغر أبداً. وكان حنانه ومرحه يملآن بيتنا. وكان دائم الاستقصاء عن مشاكل كل واحد منا صغيرنا وكبيرنا. وكان يحاول حل مشاكلنا بدون هيمنة وإجبار. فكنا نحن الذين نطلب معونته إذا ما اعترضننا مشاكل خصوصاً وان أمّنا امرأة بسيطة ولا تمتلك شخصيته الآسرة. كنا نشعر أنه العمود الذي نستند إليه وأنه لا يمكن أن يهدد حياتنا خطر ما دام هو موجودا ! ولذلك شعرنا بخسارة عظمى لفقده وتملكنا جميعاً الضياع في الأشهر الأولى وخصوصاً بالنسبة لي فقد كان يوليني مكانة خاصة . ا ولم تنقطع دموعنا عليه في تلك الأشهر وخصوصا أمي0 وكم تمنيت لو أن الله رزقك بمثل هذا الأب يا غضبان لتشعر بحلاوة الحياة. وشكراً لله الذي قـيّض لك خالاً انتشلك من شقائك. فلاشك أن حياتك قد تغيّرت حين قدمت إلى العاصمة والتحقت بالجامعة ، .











غضبان

اغفري لي يا زينب العزيزة إذ أحزنك مرة أخرى فأقول لك إن حياتي لم تتغير إلا قليلاً منذ غادرت بلدتي وقدمت إلى العاصمة، بل وحتى بعد أن تخرجت من الجامعة وتوظفت. وكل ما مسّها من تغيير هو الفكاك من أسر أبي. أما شظفها فظلّ هو .. هو . وقد تسألينني: ولكن كيف بقيت حياتك شظفة وقد تعهد خالك بالإنفاق عليك وتخلصت من بخل أبيك؟ فأقول لك إن خالي شحيح الرزق وهو يعمل "بيّاع شرّاي" لكنه ضحى في سبيلي. وكان يقتطع من لقمة عياله ليسدّ نفقاتي. وهذا ما جعلني أقترّ أشدّ التقتير في حياتي الجديدة. وألزمت نفسي بالاكتفاء بمبلغ زهيد للغاية . فاخترت لسكني غرفة في نزل في "الحيدرخانة". وكان هذا النزل يكتظ ّ بساكنيه. فقد كانت كل أسرة تقيم في غرفة مهما بلغ عدد أفرادها. وكانت باحة المنزل مسرحاً لنشاط الأسر من طبخ وغسل للملابس والأواني ومن سمر للنساء ومن لعب للأطفال. فكانت كخلية النحل طوال اليوم. وكان يمكن أن يكون ذلك مقبولاً. لكن الشيء الذي كان يزعجني الشجارات الدائمة التي كانت تثور بين نساء النزل (وأغلبها بسبب خلاف الأطفال) وكذلك بين أفراد الأسر أنفسهم والتي لم يكن يخلو منها يوم. (وبالمناسبة يخيل إليّ يا زينب أنه لابد من وجود شخص متجبر يفرض هيمنته على الآخرين. فقد كانت بين النزيلات امرأة جبّارة تفرض سيطرتها على بقية نساء النزل .ويمكنني القول أنها كانت "فرعونة" النزل) .ولكن رغم الشجارات الدائمة بين النسوة يا زينب كن يساندن بعضهن بعضا وقت الشدائد ويتبادلن المعونة. والمهم أنني كنت أعاني الأمرين من الضوضاء الدائمة مما كان يؤثر على دراستي .وكنت أعيش حياة شظفة للغاية وأتولى بنفسي إعداد طعامي وغسل ملابسي. وكان يمكن أن تتحسّن حياتي المادية بعد أن تخرجت من الجامعة وتوظفت في المصرف. لكنني خضعت لالتزامات ابتلعت معظم راتبي. فأنا أقتطع منه جزءاً كل شهر أُسلّمه إلى أمي لتقضي به حاجاتها وحاجات أخواتي. كما أنني أسلّم نسبة كبيرة منه إلى أبي. وقد تدهشين لهذا القول يا زينب وقد عرفت أن أبي في غير حاجة إلى معونتي. لكن لذلك قصة سأرويها لك الآن. فحينما تكفل خالي بنفقاتي لازمني حرج شديد. ونويت بيني وبين نفسي أن أُحلّه من هذه المسؤولية في أقرب فرصة ممكنة. فلما أنهيت السنة الثانية ولم يعد ممكناً النكوص عن الجامعة اتفقت مع أمّي على مفاتحة أبي للتكفل بمصاريفي بدلاً من خالي، على أن أسدد له كل ما ينفقه عليّ بعد تخرجي. وبعد مفاوضات شاقّة وافق أبي على طلبي لكنه اشترط أن أرد المبلغ مع فوائده. وما أن تسلمت أول راتب حتى جاءني يطالبني بسداد ديني وبأقساط مرتفعة.
وهكذا ترين يا زينب العزيزة أن أحوالي المادية لم تتحسّن إلا قليلاً بعد تخرجي. والواقع أن شظف حياتي لم يتبدد. فأنا الآن أعيش في شبه عزلة في غرفة صغيرة في فندق متواضع في شارع الرشيد . وأحاول أن أنفق أقلّ مبلغ ممكن. وأنا أجور على نحو الخصوص على ميزانية طعامي. فلا أصيب سوى وجبة مهمة واحدة في اليوم. أما الفطور فأتناوله في غرفتي وهو بسيط يشتمل على الخبز والشاي وقطعة من الجبن. وكذلك شأن العشاء. وأنا لا أكاد أنفق شيئاً على الكماليات. فأنا لا أدخن ولا أشرب ولا أرتاد المقاهي. والواقع يا زينب العزيزة ان شظف العيش بات جزءاً لا ينفصم من حياتي حتى أنني لم أعد أتخيّل حياتي على صورة أخرى. وإذا كنت قبل أن أعرفك أحسّ بالسخط على حالي فلم أعد أعاني مثل هذا الشعور منذ عرفتك. والواقع أنه لم يعد لي أصلاً وقت للتفكير في ذلك. فحينما اعتكف في غرفتي بعد عودتي من العمل أنصرف إلى قراءة ورقتك مرة ومرتين وثلاث وأفكر فيها وأستسلم لأحلام يقظتي. ثم أنصرف بعض الوقت إلى تأمل صورك المنتشرة على جدران الغرفة. (وسأفشي لك الآن سرّاً يا زينب. وهو انني كنت كثير القراءة للمجلات المصورة التي تروي حكايات عن حياة المشاهير. وكانت تلك الحكايات تحفّز أحلام يقظتي فأندمج. وذات يوم عثرت في إحدى تلك المجلات على صورة ممثلة مشهورة تشبهك كثيراً فسرّني ذلك ً. وأخذت اقتطع صورها كلما وجدتها في المجلات وألصقها على جدران غرفتي حتى امتلأت بصورك.. وأرجو ألا تضحكي مني). وبعد أن أنتهي من جولتي بين صورك أتهيّأ للكتابة إليك . وإذا ما توفر لي وقت أعدت قراءة أوراقك السابقة. إن لي في حواراتك يا زينب العزيزة عزاء يمكن أن يمحو كل معاناتي ومشقات حياتي. فهنيئاً لي بحياتي الجديدة التي أشرقت شمسك عليها.





















زينب

لقد ضحكت يا غضبان كثيراً من مسألة شبهي بالممثلة التي ذكرتها لكنني في نفس الوقت سررت لأنني أشبه ممثلة مشهورة . أما العزاء الذي تلقاه في حواراتي يا غضبان فهو نفس العزاء الذي ألقاه في حواراتك . وهي أيضاً تخفف من معاناتي. ولكن مهما تحدثت عن معاناتي فلا يمكن أن أقارنها بمعاناتك . فما أشدّ ما عانيت وتعاني من تصرفات أبيك . ألم يكن بإمكانه أن يمهلك قليلاً لسداد دينه؟! يالعجائب الحياة!















غضبان

لا تلوميني إذا ما أكثرت من الحديث عن معاناتي يا زينب العزيزة، فأنا أُحسّ أنني كلما قصصت طرفاً منها عليك تحولت الى ماض مندثر وتلاشت مرارتها من قلبي .وأنا الآن حينما أسدد لأبي دينه لا يحزّ ذلك في نفسي مادمت أملك المال. فنظرتي إلى المال تختلف عن نظرته. فأنا أعدّه وسيلة لا غاية . والمفروض أن يسعد المال الإنسان لا أن يشقيه . وأنا أحمد الله أنه جعلني كذلك. فأبي كما أظن أرادني أن أكون على مثاله. وسأحكي لك حكاية صغيرة لعلها توضح لك هدفه هذا. فكما أخبرتك أنني بدأت العمل معه في الدكان وأنا طفل. وكان ذلك يهئ لي فرصة الحصول على بعض المبالغ الصغيرة من المشترين . فهناك عادة في السوق وهي أنه حينما يبتاع المشتري حاجة من الدكان يمنح الطفل مبلغاً يسمى "الحلاوة" أو "البخشيش" . فكان أبي يصادره مني. وكان عمله هذا يثير جارنا الحاج منجي. فكان ينظر إليه مغتاظاً وهو يفعل ذلك. ومرة لم يستطع صبراً فقال له: لماذا لا تترك "الحلاوة" للطفل يا أبو غضبان؟ فهي من حقّه.
فردّ عليه أبي بحزم: لا تفسد ابني يا حاج منجي.. المال مفسدة.
لكنني اعترف أنه كان يمنحني جزءاً من "الحلاوة" في أوقات متباعدة. فكنت أطير فرحاً لذلك. وحينما أعود إلى البيت وبحوزتي هذا المبلغ أمرّ على دكان بقال في طريقي وأشتري لي منه كمية من حبّ الرمان المفرّط . فأنا أحب الرمان كثيرا ونادرا ما نذوقه في البيت . وأظل ألوكها طول الطريق .
وتطبيقاً لنظرة أبي إلى المال لم يكن يعطيني "يوميّة" . وكان ذلك يحزّ في نفسي كثيراً. فكنت أراقب زملائي التلاميذ من بعيد وهم يتزاحمون حول "حانوت" المدرسة في أوقات "الفرصة" .والواقع أنني كنت أنأى بنفسي دائماً عنهم وأتفادى صحبتهم .لذلك لم يكن لديّ أصحاب بينهم . ومرة كنت واقفاً وقفتي هذه وعيناي مسمَّرتان على الحانوت فاقترب مني أحد زملائي وقدّم لي ما اشتراه من حلوى. فنظرت إليه وعيناي مغرورقتان بالدمع. ثم ركضت إلى زاوية منعزلة من الساحة وأسندت رأسي إلى الجدار وانخرطت في بكاء مرير . ولم تغب عن ذاكرتي هذه الحادثة أبداً.
وأطمئنك يا زينب أن أخواتي لم يعدن بعانين ما عانيته بعد أن خصصت لهن جزءاً من راتبي. والواقع أنهن أصبحن يعرفن لأول مرة طعم السعادة. فهن فرحات جداً بالمبلغ الذي خصصته لهن لأنهن لم يعدن يطلبن شيئاً من أبي. وكان ذلك يثقل عليهن كثيراً خصوصاً وأنهن ملتصقات جداً بأمّي ولا يردن أن تتعرض لأي أذى من أبي بسببهن. أما أخي الأصغر جابر فهو في الواقع مستقل الشخصية أكثر مني وهو لا يخشى أبي مثلما أخشاه، بل إنه ليحصل منه على ما يريد أحياناً. وهو لا يتناول طعامه في بيتنا في أغلب الأيام ويذهب الى بيت خالي ليأكل طعاماً أفضل. وعلى كل حال فإنني أحسّ بعزاء عظيم وأنا أقتِّر على نفسي يا زينب لكي أسعد أفراد أسرتي. وهكذا ترين أننا نتشارك في هدف نبيل وهو أن نسعد أسرتينا.













زينب

كلما تكشفت لي جوانب جديدة من خلقك يا غضبان تأكدت أننا متشابهان جداً جداً في خلقنا ، وإنني لأتصور أن روحي توأماً لروحك. فأنا في الحقيقة أشعر بنفس شعورك وأنا أنفق راتبي على أفراد عائلتي ، بل إنني لا أكاد أبقي لي منه شيئاً. وكثيراً ما قتّرت على نفسي في الملبس والحاجيات الشخصية لكي لا أشعرهم بالحاجة. حتى أن أمّي كثيراً ما تحتج على سلوكي هذا. ولكن يبقى هناك فرق كبير بين تضحيتي وتضحيتك . فأنا حينما أفعل ذلك أشعر أنني أنفّذ التعهد الذي قطعته لأبي. أما أنت فالمفروض أن توسع على نفسك بعد أن أمضيت كل تلك السنوات وأنت تقاسي من شظف العيش وانعدام المال. ولكنك إنسان كبير القلب ونبيل يا غضبان . كم أحبّك يا غضبان ‍!













غضبان

أتدرين يا زينب العزيزة كم تزن ورقتك الأخيرة عندي ؟ أنا نفسي لا أدري. هل أكون مبالغاً إن قلت لك إنها تزن ذهب الأرض كله؟ وبالطبع لابد أنك أدركت السبب. فلأول مرة تقولينها بملأ فمك.. "أحبّك"! شكراً لك وألف شكر يا زينب الحبيبة. لقد ملأت قلبي بكمية من البهجة يمكن أن أقتات عليها لسنين طويلة.


















زينب

الآن وأنا أفكر فيك حينما أخلو بنفسي في غرفتي يا غضبان يتراءى لي أنك استرعيت انتباهي منذ بداية ارتباطنا بالعمل بوجهك الجادّ المريح للنظر. وقد ارتحت للتعامل معك منذ اليوم الأول. ولذلك فأنت مخطئ حينما ذكرت في إحدى رسائلك أنك لم تستلفت أنظاري. وسأصارحك بسرّ يا غضبان . فقد بدأت أراقب الزميلات اللواتي تتعامل معهن. وأنا واثقة أن عيون بعضهن قد وقعت عليك. وهذا أمر غير مستغرب. فلماذا لا يطمح العازبات منهن بزوج مثلك؟!

















غضبان

بقدر ما أسعدني كلامك يا زينب فقد أشقاني. أسعدني بما حمل من عواطف نحوي ليس بقدرتي تثمينها. وأشقاني بإشارته إلى أن واحداً مثلي يمكن أن يتزوج بإحدى زميلاته.. أي امرأة عاقلة تلك التي تفكر في الارتباط بي يا زينب؟ وحتى لو خطر على ذهن إحداهن مثل هذا الخاطر فلا شك أنها ستهرب مني آلاف الأميال إذا عرفت ظروفي. كيف لشاب له ظروف مثل ظروفي ان يطمع في الزواج ؟! أنت تعلمين أن من هم أفضل حالاً مني من الشباب أبعدوا حلم الزواج عن أذهانهم. فأنّى لشاب بمرتّب محدود أن يوفر المبالغ التي يتطلبها الزواج من مهر وأثاث وسكن ما لم يستعن بأهله؟ ولذلك فإن معظم شباننا يعيشون حياة بائسة . وهم محرومون من المرأة في مجتمعاتنا المحافظة . وقد يؤدي بهم ذلك إلى الانحراف أو المعاناة أو حتى الأمراض النفسية . فما بالك بشخص مثلي لا يمكنه الاحتفاظ إلاّ بأقلّ من القليل من مرتبه؟ ! ولا أكتمك يا زينب أنني بدأت أراجع نفسي في أمر علاقتنا . ويخيّل إليّ أنني أجرمت في حقّك. فماذا بوسعي أن أقدمه لك لو زال كابوس فؤاد عنك ؟ فاغفري لي جريمتي بحقّك يا زينب العزيزة.








زينب

أنت لم تجرم بحقّي يا غضبان الغالي. وإني لأشعر بالسعادة إذ أراك كل صباح. وأنا أشكر الله على ذلك.



















غضبان

ما خاب ظني فيك حينما قلت لك يا زينب العزيزة إنك ملاك هبط من السماء وأنك امرأة مثالية، ولقد احتجبت عليّ يومذاك وزعمت أنك امرأة عادية لا تتميز عن غيرها بشيء. هل يمكن أن تكون من هي مثلك امرأة عادية لا تتميز عن غيرها؟ إذا كان أمثالك كثيرات فالدنيا بخير إذن. أنا لا أنكر أنني أعرف إمرأة متميزة أخرى مثلك هي أمّي . ولكن كم يا ترى يوجد على الأرض من هذا النوع من النساء؟!
















زينب

كن واثقاً يا غضبان أنه يوجد مثلي ومثل أمّك الكثيرات. فلا تطريني بأكثر مما أستحق. أنت الذي قد لا يوجد الكثيرون من أمثالك ممن يتحلّون بمثل هذا النبل ويمتلكون مثل هذا القلب الكبير. أحبّك يا غضبان.


















غضبان

أنت تعذبينني بعواطفك الجياشة يا زينب الحبيبة. وكلما أغرقتني هذه العواطف تعاظم إحساسي بالذنب نحوك. وأنا الآن أعنّف نفسي طوال الوقت مردّداً: "ماذا فعلت بهذا الملاك يا غضبان؟ وأية جريمة ارتكبتها بحقّه؟ أفلا يجدر بك أن تتدارك خطأك؟" فاغفري لي أيتها العزيزة زينب .. اغفري لي هذا الذنب العظيم.

















زينب

أتتذكر يا غضبان ماذا حدث لك حينما اقترحت عليك أن ننهي علاقتنا؟ لقد فعلت بي رسالتك نفس الشيء . فإذا كنت تحبني حقيقة فإيّاك أن تعود إلى مثل هذا الكلام.



















غضبان

أرجو غفرانك يا أعظم شيء في حياتي ، ويبدو لي أنني أنا الذي لم يعد يعرف كيف يعبر عن نفسه. هل تحسبين أن في استطاعتي أن أعيش لحظة واحدة إذا فقدتك؟! تأكدي أنني لن أكون من الأحياء لو حدث ذلك.


















زينب

اسم الله عليك.. اسم الله عليك.. اسم الله عليك يا غضبان الغالي.واعلم أنني عاجزة عن تصور شكل حياتي بدونك يا نور عيني.



















غضبان

أنا أيضاً عاجز عن تصور شكل حياتي بدونك يا حبيبة قلبي. ولكنني أتعذب يا زينب .. أتعذب لأنني أراني لست الرجل المناسب الذي تستحقه فتاة مثلك. فمن أنا؟! أنا لست سوى إنسان بائس. فماذا باستطاعتي أن أقدمه لك؟


















زينب

أنت قدّمت لي أثمن ما عندك يا غضبان وهو قلبك. وأنا لا أطمع بأي شيء آخر. وأصارحك أنني أشعر بأنني أنا المذنبة بحقّك .. وأنني أنا التي يجب أن تتساءل: "ما الذي في وسعي أن أقدمه لك وفؤاد يتحكم في حياتي ويلغي وجودي"؟ ليس لديّ أنا أيضاً يا غضبان ما أقدّمه لك سوى قلبي. فأنا المذنبة بحقّك يا غضبان. وعزائي أنني حذّرتك منذ البداية عن الطريق المسدود أمامنا. ولكن ماذا بيدنا أن نفعل؟ هذا هو قدرنا.
















غضبان

وأنا أفكّر بحبنا يا زينب يبدو لي أنه قدر لا حيلة لنا فيه فعلا . وأنا الآن أصدّق القول المأثور " الحب قدر " . وأعترف لك الآن، وربما أعترف لنفسي أيضاً للمرة الأولى ، أنني أحببتك منذ عرفتك. أمّا ما كنت أزعمه لك ولنفسي بأنني لا أنشد سوى الحوار مع امرأة مثقفة فلم يكن سوى نوع من التضليل لنفسي أكثر مما لك. والواقع أنني كنت راغباً فعلاً في التحاور مع إحدى زميلات العمل. وهي رغبة قديمة كانت تخفق بين جوانحي حينما كنت طالباً في الجامعة. وما كانت تلك الرغبة حينذاك إلاّ لتزيدني بعداً عن زميلاتي. فقد كنت أشعر أن مظهري مضحك وأقرب إلى مظهر الشحاذين بملابسي الزرية. وقد زادني ذلك الشعور انطواء على نفسي وبعداً حتى عن زملائي الطلاب. لذلك لم يكن لدي ّصديق بينهم (والواقع يا زينب أنني كنت أخشى الاختلاط بزملائي الطلاب حتى لا أنجرّ إلى السياسة ومعظمهم مغرمون بها فأتعرض للفصل من الجامعة . فلو حدث ذلك.. كيف كان بوسعي أن أواجه أبي؟ فشبح أبي ورائي.. ورائي . ثم أنني كنت أيضاً أشعر بنقص تجاههم. فقد كان البعض منهم شديدو الجرأة في الاختلاط بزميلاتنا ويتصرفون معهن تصرفاً حميماً. وكان البعض الآخر عظيمي الاعتداد بأنفسهم خصوصاً أولئك المنغمرين في السياسة مما يجعلهم شخصيات جذابة ومثيرة للإعجاب الزميلات. وكان ذلك يزيدني ابتعاداً عن الجميع واستصغاراً لنفسي. والمهم أن رغبة التحاور هذه مع احدى زميلاتي ظلت تؤرقني. (ولكن لا أكتمك يا زينب أنني كنت أتحاور مع البعض منهن في أحلام يقظتي!). وإنني لأسأل نفسي الآن: كيف واتتني الجرأة على الكتابة إليك مبدياً هذه الرغبة؟ ويبدو لي أنني لو لم أكن أحببتك فعلاً ما جرؤت على ذلك. نعم.. كان وراء الكتابة إليك الحب ولاشيء غيره. ينبغي لي أن أعترف لك بذلك. فاغفري لي كذبي عليك غير المقصود يا حبيبة القلب.


زينب

بدلاً من أن أغفر لك كذبك المزعوم يا غضبان الغالي يجب أن أشكرك عليه. فلو لم تكذب على نفسك.. كيف كان سيتسنى لنا حبنا الكبير؟ وأنا متأسفة إذ ألومك على الانتقاص من قدرك تجاه الآخرين يا غضبان. لماذا تتصوّر أنك دون الآخرين شأناً؟! أنا واثقة أن زميلاتك كن يتمنين أن تتحدّث معهن. وأنا أقول لك يا غضبان أن الكثيرات منهن من أسر فقيرة حتى وإن تظاهرن بغير ذلك بملابسهن المهندمة. وكنت أعرف الكثيرات من زميلاتي ممن كن لا يملكن سوى بدلة محترمة واحدة (وأنا كنت واحدة منهن) ولكنهن كن يبدون أنيقات دائماً. ولعلك تستغرب لو قلت لك يا غضبان أنهن كن يستعرن من بعضهن بعضاً البدلات المعتبرة في المناسبات المهمة. والكثيرات منهن كن يرغبن في التعرف على زملاء لهن من مستواهن . وكن يأملن أن تقود هذه المعرفة إلى حياة زوجية ناجحة قائمة على المعرفة. فقد لا تتوفر لهن مثل هذه الفرصة بعد التخرج من الجامعة. وأنا لا أقول لك ذلك لكي أرفع من معنوياتك يا غضبان بل أقوله عن تجربة وخبرة. وأعترف بأنني كنت أ متحفظة أكثر من اللازم في سلوكي يوم كنت طالبة في الجامعة لكي لا يبدر مني شيء لا يرضى عنه أبي، لكنني كنت أعرف الكثيرات من زميلاتي اللواتي كن يتحرقن شوقاً لتبادل الحوار مع بعض الزملاء. ولم يكن يستجلب انتباههن بالضرورة الطلاب اللامعين في السياسة أو الذين يتظرفون معهن . بل يمكنني القول أن الطلاب المتحفظين وخصوصاً النابهين منهم والمتفوقين في دراستهم كانوا أكثر جاذبية لهن بصرف النظر عما كان يبدو عليهم من مظاهر الفقر أو الثراء. وكان يستثير غيظ أمثال هؤلاء الزميلات تحفظ أمثال أولئك الزملاء الزائد عن اللزوم ممن هم على شاكلتك. وكن يتمنين علهيم أن "يتحلحلوا" ( على حد تعبيرهن ) ويبادلوهن الحوار. وأنا واثقة أنك لو حاولت عقد حوار مع أية واحدة من أمثال أولئك الزميلات لرحبّت بذلك جداً. وعلى كل حال أنا مسرورة لأن الأمور جرت على ذلك النحو. وإلاّ فكيف كان سيتوفر لنا هذا الحب الكبير؟!

غضبان

ولكن ما مصير هذا الحب الكبير يا زينب ؟ أمس وجدتني أتساءل وأنا افكر بحبنا يا زينب.. هل تُرى سيحكم على هذا الحب بالسجن المؤبد بسبب ظروفنا؟!


















زينب

لقد فكرت طويلاً أنا أيضاً بهذا السؤال يا غضبان. بل إن التفكير فيه سلبني النوم فلم يغمض لي جفن. ولم أشعر بتعاسة حياتي كما شعرت بها ليلة أمس. وأصارحك يا غضبان أن دموعي انهمرت على مخدتي من دون أن أقدر على صدّها.


















غضبان

بعد أن أمضيت ساعات مضنية يا زينب هي الجحيم بعينه من وطأة التفكير ببؤس حالنا والطريق المسدود الذي يواجه حبّنا استنجدت بعادتي القديمة وهي الاستسلام لأحلام اليقظة فتمدني بما أطمح إليه هن رضى . وقد أعادت إليّ أحلامي بالفعل شيئاً من الهدوء والسكينة والارتياح .


















زينب

قل لي يا غضبان أي نوع من الأحلام تلك التي أعادت إلي نفسك السكينة لكي أحلم بها أنا أيضاً. فلأول مرة في حياتي ينتابني الشعور بالتمرد على نصيبي في الحياة. ولأول مرة أتجرع مثل هذه المرارة. لقد كنت مستسلمة لقدري قبل أن أعرفك وكانت حياتي تجري على وتيرة واحدة ارتضيتها ولا أفكر في تغييرها. أما اليوم فانني أشعر كأنني أختنق .وأراني أردّد نفس تساؤلك: لماذا يجب أن يكون من قدري ابن عمّ مثل فؤاد يدّمر حياتي؟ وانعكس تمردي على سلوكي في البيت. فقد أصبحت ضيّقة الصدر في التعامل مع أفراد عائلتي وعصبية المزاج على غير عادتي. وإن حالي هذا يثير استغراب وقلق أفراد عائلتي وخصوصاً أمّي. أنا في حاجة ملحّة إلى أحلام تعيد الطمأنينة إلى حياتي يا غضبان.












غضبان

ما أشد حزني لما فعلته بك يا زينب الحبيبة. ولو خطر لي أن علاقتنا يمكن أن تسبب لك هذا الأذى ما أقدمت عليها حتى لو كانت حياتي متوقفة عليها. ويظهر أنه ليس لأمثالنا سوى الأحلام يتعزّون بها.
سألتني ما هي الأحلام التي أدخلت السلام على نفسي فلا أكتمك أنني ترددت طويلا قبل أن أفضي بها إليك. فأنا أعتقد أنها مجرد أحلام فعلاً ولا يمكن أن تندرج إلاّ تحت هذا الباب. فهي تفترض انك وافقت على الزواج مني وأننا تزوجنا فعلاً فصارت أيامنا كلها أعياداً. وفي كل مرة تتلوّن أحلامي بألوان جديدة مبهجة لحياتنا الزوجية السعيدة . وعلى الرغم من أنني أعلم أنها مجرد أحلام (فأنا أدرك استحالتها بسبب إمكاناتي المالية المتردية وفقري) لكنها تمدّني بسعادة عظيمة.












زينب

ما شأن إمكاناتك المالية المتردية وفقرك بزواجنا يا غضبان؟ وهل الزواج والاستمتاع بالحياة مقصور على الأغنياء... أما الفقراء فعليهم أن يموتوا قهراً؟! وكيف تتصور ان واحدة مثلي يمكن أن ترفض الزواج من شخص مثلك بسبب فقره؟ ثم من أنا؟! ألست فقيرة مثلك؟! ألم أوضح لك موقفي من الفقر والغنى يا غضبان ؟ أنا أؤمن بالمثل القائل " الغنى غنى النفس " يا غضبان وأنت غنّي النفس ولديك من الثروة ما تتفوّق بها على أثرى الأثرياء . وأصارحك يا غضبان أنني أنا التي ينبغي أن تتساءل إن كنت سترضى بمشاركتي مسؤولية عائلتي. لكنني لم أطرح على نفسي مثل هذا السؤال لأنني موقنة إنك كبير القلب ونبيل النفس ولا يمكن أن ترضى لي أن أتخلّى عن مسؤوليتي تجاه عائلتي والتي اعتبرها أقدس واجباتي. فالذي يقف حائلاً دون زواجنا يا غضبان هو ليس المال بل كابوس فؤاد. ويوماً بعد يوم يتعاظم ثقل هذا الكابوس على صدري. وإنني لأشتد تمرّداً عليه. بل إنني بدأت أشك في سلامة موقفي من فؤاد. ويبدو لي أنه كان يجب علي ألاّ استسلم لجبروته. كان عليّ أن أواجهه بالرفض القاطع. ماذا كان سيفعل؟! كل ما كان في وسعه أن يفعله هو أن يضربني كما فعل مع أخي باسل. فكم مرّة كان سيضربني؟ مرّة؟ مرتين؟ ثلاث؟ وإلى متى كان سيظل يفعل ذلك؟ بالتأكيد إنه كان سييأس في النهاية ويتركني لحالي. ولكن مشكلتي أنني أخاف الضرب يا غضبان. فلم أضرب مرة في حياتي. وهكذا أصبحت عاجزة عن الوقوف تجاه جبروته خشية من أن يضربني. وإ ن هذا الخوف ليشلّني ويستحكم في قلبي. فيا لتعاسة حياتي.




غضبان

لقد أثار تساؤلك عن موقفك المتخاذل من فؤاد يا زينب نفس التساؤلات في ذهني حول موقفي المتخاذل من أبي. ويخيل إليّ أننا لو كنا تحررنا من خوفنا لاتخذت حياتنا شكلاً آخر. بل إنني لأجزم بأن الخوف قد أتلف حياتنا. وإنني لأتساءل الآن: أما كان الأجدر بي أن أقاوم جبروت أبي؟ لكن لي بعض العذر على موقفي المتخاذل من أبي يا زينب. فقد شلّني الخوف منه منذ صغري.. منذ حدثت تلك الحادثة وكنت في حوالي الرابعة من عمري. وكان أبي يتشاجر مع أمّي دائماً. وحينما يرتفع صوته ملعلعاً كنت أنكمش في زاوية من البيت وأراقبهما من بعيد. ولكن في احدى تلك الشجارات رأيت الدم يسيل من أنف أمّي. فما شعرت إلاّ وأنا أهجم على أبي وأتشبث بساقه وأغرز أسناني فيها. فانهال عليّ بالضرب الشديد حتى خيّل إليّ أنني سأموت. وكان ذلك الضرب الدرس الذي لم أنسه أبداً. وفد علّمني ألاّ أخالف له أية أرادة أو اعترض على أي فعل من أفعاله. أتصدقينني يا زينب لو قلت لك إنني حينما أواجهه حتى اليوم أحسّ بإحساس نفس الطفل الذي تلقّى منه ذلك الضرب؟ وصدّقيني يا زينب.. إن أسوأ شيء يمكن أن يتعرض له الإنسان هو الضرب فهو ينطوي على إهانة للكرامة البشرية وهو يجعل الفرد جبانا وفاقد الثقة بنفسه وهي أسوأ صفة في الإنسان . ولكن ما جدوى الكلام في ذلك؟ لسنا الآن - أنا وأنت - سوى أسيرين.. أنت أسيرة لفؤاد وأنا أسير لأبي. فما أعظم مأساتنا ويا لبؤس حياتنا!







زينب

إن التفكير بمأساتنا يوجع قلبي يا غضبان .وأنا لم أعد أطيق الصبر على كابوس فؤاد. لماذا يجب أن تتحطم حياتي بسبب إرادة شخص شرير؟! إنني أصبحت أكثر تمرداً على جبروته منذ قصصت عليّ أحلامك وأدركت أنك مستعد لمشاركتي مسؤولية عائلتي وأنك لا تضيق بها.

















غضبان

يا حبيبة القلب.. إن أهلك هم أهلي. فكيف يمكن أن تتصوري أنني أوافق على أن تتخلي عن مسؤوليتك تجاههم؟ من يتولى رعايتهم إذن؟ وكيف يخطر على بالك أن تسيئي بي الظن فتتصورين إنني أضيق بهم ؟! ولا أبالغ إن قلت لك يا زينب إنني أشعر أنني جزء منهم. وسأكون محظوظاً لو عشت كفرد منكم. هل يمكن أن يتحقق لي مثل هذا الحلم يوما يا زينب؟ لاشك انني سأكون أسعد إنسان في الوجود.
















زينب

شكرا على عواطفك النبيلة يا غضبان . ولكنني أصارحك بإنني صرت معذبة جداً جداً يا غضبان.



















غضبان

أرجوك يا زينب أن ترفقي بنفسك. لقد لاحظت صباح اليوم أن وجهك ذابل فعلا وأن نظراتك تائهة. وقد أصبح كلانا عاجزاً عن السيطرة على نفسه حينما نتبادل " الملفات " . ويخيّل إليّ أن حالنا بدأت تستلفت أنظار بعض زملائنا. وأنت تعلمين يا زينب أن بعض هؤلاء الزملاء يرصدون الصغير والكبير مما يجري في ردهة العمل ولا يفلت من عيونهم الراصدة شيء، وقد شككت من مدّة أن علاقتنا مرصودة من بعضهم (وخصوصاً عباس الرشدي ومحمود الهادي) وأنهم يتغامزون علينا. ولكن ذلك لن يضيرنا على أية حال فعلاقتنا شريفة. وأحب أن أخبرك أيضاً يا زينب أنني وجدت لديك عدة أخطاء حينما راجعت "الملف" صباح اليوم. ولحسن الحظ أنني تداركتها.













زينب

أنا متأسفة جداً جداً يا غضبان إذ خيبت أملك فيّ. كنت أحسبني أقوى شكيمة في مواجهة الصعاب. سأحاول أن أكون أكثر امتلاكاً لزمام نفسي وأفضل دقة في عملي. أما عن زملائنا فلا يهمني إن عرفوا بعلاقتنا أم لم يعرفوا فهي علاقة شريفة. وأنا واثقة ان بعض زميلاتي قد خمّن خمن هذه العلاقة ولكنهن يتظاهرن بالجهل لئلا يحرجنني (فهن كما ترى أفضل من الزملاء!). وقد سألتني أمّي أمس عمّا بي فادعيت إنني مصابة بصداع حاد. وأعتقد أنها لم تصدقني وأنها عزت حالي إلى ضيقي بفؤاد. وإن عينيها الحزينتين لتتبعاني حيثما تحركت. لابد أن نجد حلاًّ لقضيتنا يا غضبان .. لابد أن نجد الحلّ.














غضبان

لا أستطيع أن أنصحك بشيء يا زينب العزيزة سوى أن أقول لك إن علينا أن نتذرع بالصبر.. فأنا مثلك أيضاً أوشك أن أنهار.



















زينب

لم يعد في قوس الصبر منزع يا غضبان. لابد أن نجد حلاًّ. لماذا يجب أن نعيش معذبين هكذا؟ ما ذنبنا؟ أنا لم يعد يهمني شيء. كل الذي يهمّني أن تعدني وعداً قاطعاً ألاّ تضيق يوماً ذرعاً بعائلتي. إن عائلتي هي حياتي ولو مسّها أي ضرر تحطمت حياتي. ثم أن ذلك سيؤذي روح أبي.. ذلك الأب الذي لم ألمس منه طوال حياته سوى الحنان والحب. فكيف أسيء إليه وهو في قبره؟ فإذا كنت تشعر برغبة صادقة في أن تكون جزءاً من عائلتي فلن يهمني أي شئ آخر.















غضبان

أنت التي تحسنين إليّ يا زينب إذا قبلتني عضواً في عائلتك. فكيف لي أن أكفر بهذه النعمة؟ ثم أنك بتساؤلك هذا - واغفري لي ما أقول - تعبّرين عن بعض الشكوك في حبّي. فهل لديك فعلاً شك في حبّي؟!


















زينب

لا.. ثم لا.. ثم لا يا غضبان الغالي. كل ما هنالك إنني أأتمّ بالآية الكريمة" بل ليطمئن قلبي ". والآن يمكنني القول أن العقبة الوحيدة تجاه سعادتنا هي فؤاد.


















غضبان

ما أسعدني بك يا زينب . إنك تضيفين إلى قناعاتي دائماً قناعة جديدة بحسن اختياري كلما اشتدت معرفتي بك. ماذا أفعل بدونك؟ لا أتخيّل حياتي بدونك يا حبيبة القلب.



















زينب

وأنا كذلك يا نور عيني. ولقد قرّ رأيي على استشارة ابنة عمّي بدور في مشكلتنا فهي أقرب أخوات فؤاد إلى نفسي . سأصارحها بحبّنا (وستكون أول شخص يطلع على هذا السرّ) وسأختبر رأيها في قضيتنا. ولعلنا نتوصل معاً إلى حل خصوصاً وأن بدور موزونة العقل.

















غضبان

نِعمَ الرأي يا زينب . وأنا موافق على كل ما تقرّرين.





















زينب

زرت اليوم بدور يا غضبان وحدثتها بصراحة عن كل شيء. وقد فرحت من أجلي فرحاً كبيراً. تصور يا غضبان أنها سُرّت لأنني أرغب بالزواج من شخص آخر غير فؤاد مع أن المفروض أن يسيئها ذلك. ولكنها في الحقيقة (هي وبقية أخواتها بل وحتى عمّي وإمرأة عمّي) يرثون لحالي . وهم عاجزون عن فعل شيء من أجلي. ففؤاد "فرعون" بحق وحقيق.
ولقد تداولنا في الأمر طويلاً وقلّبناه على مختلف وجوهه ثم استقرّ رأينا على الحلّ التالي. ستخبر بدور فؤاد بأنها عثرت على زوجة له من بين زميلاتها المعلمات وأن ذلك سيجعله في حلّ من الارتباط بي وخصوصا وأن هذا الارتباط قد يطول كثيراً. وستقنعه بأنها فتاة جميلة ذات راتب محترم. ولقد رفضت هذا الحلّ في البداية لأنه قد يعرّضها إلى أذى فؤاد إذا انكشف زيفه لكنها أصّرت على ذلك. ولم يبدو أمامنا حلّ آخر. فيا لها من صديقة مخلصة. ولقد طلبت منها ألاّ تبدأ تحركاتها ما لم أستشرك . فما رأيك بهذا الحلّ يا غضبان؟









غضبان

إنه حلٌ عظيم يا زينب . وسلمت ابنةُ عمك بدور. ويا لها من صديقة عظيمة! وفي كل الأحوال ستكونين أنت في الظل ولا علاقة لك بالأمر. المهم ألاّ يصيبك أي أذىً لأنني لن أغفر لنفسي ذلك أبداً.



















زينب

أنا متأسفة جداً جداً إذ أخبرك يا غضبان ان استجابة فؤاد لاقتراح بدور لم يكن مشجعاً. وقد قال لها إنه ليس مستعجلاً على الزواج وأنه يفضل انتظار موظفة المصرف على الزواج من معلمة. فهناك فارق كبير بين مرتبيهما. ولقد انزعجت جداً جداً من إجابته ولم تغمض عيناي طوال ليلة أمس. يبدو لي يا غضبان أن فؤاد سيكون لعنة حياتي. ولكن ما ذنبي لأتلقى هذه اللعنة؟! لقد فكرت وأنا أتقلب على فراشي مسهدة وذهني يكاد ينفجر من التفكير أن أعلن الحرب عليه وأجابهه برفض صريح. وليحدث ما يحدث. عليّ وعلى أعدائي يا رب!















غضبان

أرجوك يا زينب ألاّ تتسرعي. لا داعي للقرارات المستعجلة0 .والواقع أن جواب فؤاد قد فتح أمامي باباً للأمل بعد أن كنت اعتقد أننا نسير في طريق مسدود. فقد بدا لي أنه ليس متمسكاً تماماً بك وأن وراء رغبته في الزواج منك هدف مادّي. ومعنى ذلك أنه إذا أشبع هذا الهدف فليس هناك مشكلة. ولذلك ينبغي ألاّ نلجأ إلى القرارات المستعجلة.
















زينب

أنا نفسي يا غضبان قد شككت في هدفه منذ زمن بعيد.ولم أكن مقتنعة أن دافعه عاطفي. ثم إنه مدرك جيداً أنني لم أكنّ له أية عاطفة يوما . وحتى حينما كان يتردد على بيتنا وهو صغير لم أكن أخالطه. وأنا واثقة أيضاً أنه يشعر تجاهي بعقدة نقص. فأنا أُعتبر فخر العائلة لأنني الوحيدة التي تخرجت من الجامعة. أما هو فالشخص المحتقر في العائلة. فعلاوة على شراسته فهو فاشل في الدراسة. وأنا موظفة في مصرف كبير وهو كاتب بسيط في إحدى المصالح الحكومية. فكيف لا تخلق لديه مثل هذه الفروقات عقدة نقص تجاهي؟ ولذلك فهو يحاول دائماً أن يغطي على عقدة نقصه هذه حينما يأتي لزيارتنا. فحديثه حافل دائماً ببطولاته الوهمية. وهو دائم التباهي بأهميته بين موظفي "قسمه" مدّعياً أنهم يهابونه ويلجؤون إليه لحلّ مشكلاتهم وخصوصاً ما يحتاج منها إلى القوة البدنية. وإلى آخره من الحكايات العنترية التي إما أن أتقزز منها أو أجد صعوبة في كتم ضحكي من سخفها. والأدهى من كل ذلك يا غضبان انه لا يحضر لزيارتنا إلاّ وهو سكران مما يجعل حديثه "شيش بيش" أصلاً. لذلك تجد أمّي مرتعبة دائماً أثناء وجوده ولا تفارقني في حضوره لحظة واحدة. وخلاصة القول إنني أعتقد أنه غير مرتاح لفكرة الزواج مني. وغاية الأمر أنه يجدني صيداً سهلاً لا يكلفه أية نفقات. وهو ينوي أن يسير نفس سيرته الحالية بعد الزواج فينفق كل راتبه على مباذله. فهو الآن لا يساهم بفلس واحد في مصاريف البيت . ولاشك أن عائلته بحاجة إلى إسهامه في نفقاتها (وهذا ما تفعله بدور) ، فعمّي موظف بسيط على قدر حاله. ولكنه بدلاً من ذلك يقترض من بدور دائما ، وطبعاً لا يردّ القرض.
ومن مزايا الزواج مني أيضاً يا غضبان إنني لن أكلّفه أية نفقات. فباعتباري ابنة عمّه لن يكون مطالباً بأيّ مهر، بل ولا حتى بشراء ملابس للعروس. كما لن يكلّفه الأمر تجهيز بيت الزوجية بلوازمه. كل ما سيفعله هو أن يحمل حقيبة ملابسه وينتقل بها إلى بيتنا. فهل هناك صيد أفضل مني بالنسبة له؟ وإن بدور لتتفق معي في كل ما ذكرته يا غضبان. وخلاصة القول أن وراء رغبته في الزواج مني هدف ماديّ فعلاً. لكن التوصل إلى هذا الاستنتاج لن يقدّم ولن يؤخر في قضيتنا يا غضبان. ولقد أصبح ذهني عاجزاً عن التفكير ومشوشاً جداً جداً. ولم يعد لي صبر على مشاركة عائلتي في جلساتها حول التلفزيون . فحالما أفرغ من طعامي ألجأ إلى غرفتي. وأصارحك يا غضبان إنني بتّ مقتنعة بأن أفضل حلّ لقضيتنا هو مجابهة فؤاد ولتكن النتيجة ما تكون.


















غضبان

كم يحزن قلبي ما تقاسينه من معاناة يا زينب . وأنا أعدّ نفسي مسؤولاً عن هذه المعاناة. فقبل أن تعرفيني لم تكوني تقاسين مثل هذه المعاناة. صحيح أن كابوس فؤاد كان يفرض ظلّه المقيت على حياتك لكنك كنت تعيشين في سلام داخلي وكنت مستسلمة لقدرك. فأنا المسؤول عن فقدانك لهذا الاطمئنان والسلام. لذلك فأنا أرى إنني مسؤول أكثر منك عن إيجاد حلّ لقضيتنا. وقد فكرت في الأمر مليّاً فتوصلت إلى أن الحلّ ليس مستحيلاً مادام يتعلق بالمال. وإننا بشكل أو بآخر يمكن أن نتغلب على عقبة فؤاد. فلو أنه أُغري بمبلغ من المال ليتخلّى عنك فقد يرحّب بمثل هذا العرض. فما رأيك يا زينب؟














زينب

رأيك في فؤاد صحيح مئة بالمئة يا غضبان. فهو لا يهمّه في الحياة سوى المال الذي ينفقه على ملذاته. وطبعاً من الممكن أن نختبر مثل هذه الإمكانية عن طريق بدور وهي في الحقيقة متألمة جداً جداً لحالي. وقد أكدّت لي مراراً أنها مستعدة لأي شيء لحلّ مشكلتي. ولكن ما فائدة ذلك؟ وكيف سيتوفر لنا المبلغ الذي سيطلبه؟ أصارحك يا غضبان أنني لا أرى فائدة من مثل هذا الاقتراح.
















غضبان

فلنجرب هذا الحل يا زينب مادام هناك بارقة أمل فيه. ماذا سنخسر؟ فاذا استجاب له فلكل عقدة حلاّل.



















زينب

لقد رحّبت بدور ترحيباً حاراً بهذا الحل يا غضبان. بل رأت فيه الحلّ الأنسب للقضية . فهي مثلنا ترى أن نقطة الضعف في فؤاد هي حبّه للمال. وقد أخبرتني أنها ستقنعه بأن المبلغ الذي سيتوفر له سيعاونه في الحصول على زوجة مناسبة وقد تقبل به موظفة محترمة . وأكدّت لي أنها ستتفق معه على طريقة تحررني منه نهائياً. وقد فوّضتها بالتحدث بلساني كما تشاء.

















غضبان

منذ أن وعدتك بدور بمفاتحة فؤاد بهذا الحلّ يا زينب وأحلام يقظتي ترافقني باستمرار . وكلّها أحلام مبهجة ترسم لي مستقبل حياتنا المشتركة السعيدة. وقد بتّ متشوقاً للاندماج في عائلتك . والواقع أنني أشعر يا زينب كأنني أعرفهم منذ زمن بعيد، بل كأنني عشت معهم طوال حياتي، مع أنني لم أتشرف حتى اليوم بمعرفة أي واحد منهم. وكم أشتاق لذلك اليوم الذي أشاركهم فيه العيش.
















زينب

أنت لن تندم أبداً يا غضبان حينما تعيش مع عائلتي فستجد أفرادها ودودين جداً جداً وستحبهم كما أحبهم. فأمّي امرأة طيبة جداً جداً وبسيطة وتحب جميع الناس. وهي امرأة متديّنة تخشى الله. وهي خدومة جداً جداً. تصور أنها لا تسمح لي ولا لأختي الأصغر مني زهراء أن تقوم بأي عمل من أعمال البيت باعتبار أننا مشغولات . وهي قائمة على خدمتنا ليل نهار . وأختي زهراء ذات شخصية محبوبة وهي لا تتدخل في شؤون غيرها أبداً. أما أخي باسل فهو لطيف وودود ويحب أفراد عائلته جداً جداً. وأنا واثقة أنه سيحبك جداً جداً.
أنا الآن مثلك يا غضبان أتحرّق شوقاً لردّ فؤاد على اقتراحنا الجديد. وأنا أيضاً أحلم أحياناً بأن ردّه سيكون إيجابياً. ولكن يأسي من التحرر من كابوسه لا يفسح مكاناً للبهجة في قلبي حتى حينما أحلم بمثل هذا الردّ. وأصارحك يا غضبان أنني لست متفائلة مثلك.












غضبان

لأول مرة في حياتي يا زينب أنظر إلى الجانب المشرق من الأمور مع أنني كنت متشائماً طوال حياتي. وإنني لأردّد المثل القائل " تفاءلوا بالخير تجدوه ".



















زينب

لقد نقلت إليّ بدور أمس ردّ فؤاد يا غضبان. إنه وافق مبدئياً على الاقتراح لكنه اشترط أن يناقشه معي. فما رأيك؟ أنا خائفة.



















غضبان

ولِمَ الخوف يا زينب؟ أرى أن شرطه في صالحنا.. فستختبرين بنفسك مدى جدّيته وتملين شروطك التي تتحررين بها من قبضته نهائياً.



















زينب

يبدو أن التعاسة قد كتبت علينا يا غضبان. فنحن وقعنا بيد شخص لا يرحم. إن فؤاد وحش يا غضبان وليس إنساناً. لقد طلب مني مبلغاً لا يمكن تصوّره لرفع يده عني نهائياً . إنه طلب ثلاثة آلاف دينار . لقد ذهلت وأنا استمع إليه يفجّر هذه القنبلة في وجهي . ويبدو أنه وضع في اعتباره ان هذه فرصة عمره وأنني الدجاجة التي ستبيض له ذهبا. وكعادتي بدلاً من أن أثور في وجهه وأتحداه أخذت أتوسل إليه.. بل إنني ذللت نفسي وتضرعت إليه بأرقّ العبارات ودموعي تسحّ على خدّي. ولو كان قلبه من صخر للان لحالي. لكنه بدلاً من ذلك تمادى في عنجهيته. بل وذكّرني بوعده وهو أن تكون ليلة دخلتي هي ليلة زفافي إلى القبر أنا وزوجي. وقد وقعت عليّ عبارته هذه وقع الصاعقة يا غضبان فارتعش جسدي كما ترتعش السعفة في مهب الريح. والحقيقة أنني لم أكن خائفة على نفسي بقدر خوفي عليك.
مع الأسف يا غضبان إن بدور أخطأت وهي تعرض عليه الاقتراح خطأ غير مقصود. فأخبرته حينما شكّك في كلامها أن هناك شخصا يرغب في خطبتي وسيدفع المال فأبوه غنّي .ولكن مهما يكن الأمر فلم يدر بخلدي أن يتجاوز في طلبه الألف دينار. ألم أقل لك يا غضبان أنني لست متفائلة؟!








غضبان

ويلنا..! لقد وقعنا بأيد لا ترحم يا زينب.. يدي فؤاد ويدي أبي. لقد أذهلني هذا المبلغ كما أذهلك وأحسست وأنا أقرأ رسالتك كأن هراوة خبطت رأسي وترنحت وأوشكت أن أسقط على الأرض. بل خُيّل إليّ أن جدران الغرفة تدور بي وأن سقفها سينطبق على أرضها. يا لنا من بؤساء! لا استطيع الاستمرار في الكتابة يا زينب لأن فكري مشوّش للغاية.

















زينب

لن أكون إلاّ لك يا غضبان حتى لو انتظرتك ألف عام! فلا تحزن ولا تيأس. أحبّك عيني.



















غضبان

بعد آن فكرت في قضيتنا يا زينب عزمت على مشاورة أمي لتفاتح أبي في إقراضي المبلغ . سأسافر عصراً إلى الموصل . كوني على ثقة يا حبيبة قلبي أنني لن أسمح لفؤاد أن يهزم حبّنا.



















غضبان

لقد حكيت لأمي حكايتنا يا زينب من ألفها إلى يائها. ولو تعلمين كم أحبتك وكم أكبرتك. ولكن حينما حدثتها عن أمر فؤاد وعن المبلغ الذي طلبه ليحررك من قبضته صعقت وراحت تهمهم: "طلبك أبعد من نجوم السماء يا غضبان". وبعد أن استفاقت من ذهولها أخذت تتوسل إليّ أن أصرف النظر عن الموضوع. لكنني قلت لها بلهجة قاطعة ان الموضوع بالنسبة لي مسألة حياة أو موت. فما كان منها إلاّ أن أجهشت باكية وجعلت تنشج نشيجاً عالياً مزّق قلبي. وبعد أن استعادت هدوءها وعدتني أن تفاتح أبي في الأمر . فلنأمل خيراً يا زينب.













زينب

يا ويلي ! كم حمّلتك من المعاناة يا غضبان. ألم يكن من الخير لك ألاّ تعرفني؟ أما كان ممكناً أن تحب فتاة غيري لا تكبّلها مثل هذه الظروف؟! أنا الآن أؤيد قولك بأن الحياة غاضبة عليك. ومن حقّك أن تغضب على الحياة.. ولو لم يكن الأمر كذلك ما منحتك أباً مثل أبيك وما جعلتك تحب فتاة لها ظروفي. ولكن ما ذنبنا ؟ لماذا تتعرض لمثل هذا الحيف وأنت أطيب الناس قلباً؟! أحبّك عيني.

















غضبان

يا حبيبة قلبي . كل شيء يهون في سبيلك . أنت شعلة حياتي الوضاءة يا زينب فإذا انطفأت انطفأت حياتي . فلا مبرّر هناك للوم نفسك. سأسافر عصر اليوم الى الموصل لمعرفة ما انتهت إليه مساعي أمّي.


















غضبان

وا أسفاه. يا زينب . لا أدري كيف سمحت لنفسي أن أتفاءل . لقد خيّل إليّ أن أبي قد يتفهم دقّة موقفي فيقرضني المال، فهو بعد كل شيء أبي. بل إنني لطيبة قلبي نسيت ما فعله معي ورحت اختلق له الأعذار على سلوكه معي. ثم أن مبلغ الثلاثة آلاف دينار مبلغ تافه بالنسبة له. فأنا أعلم مقدار ثروته. وأنا ابنه البكر.. فكيف يضنّ عليّ بمثل هذا المبلغ؟ ولكن أبي هو أبي يا زينب ولا يمكن أن يتغير. لقد أخبرتني أمّي والدموع تصبّ من عينيها أن أبي لم يسمح لها حتى بمناقشة الأمر معه. وصرخ في وجهها: "قولي لابنك أن يسدّد لي ديني أولاً قبل أن يفكر بمشاريع أخرى". أنا لا أريد هبة يا زينب.. أريد قرضاً. فهل هذا كثير عليّ وأنا ابنه البكر؟! ماذا سنفعل يا زينب؟! ماذا سنفعل؟! أيّ بؤس يواجه حبّنا؟!





زينب

لانحزن يا غضبان فأنا لك مهما طال الزمن. ألم تنصحني بأن أتذرع بالصبر؟! أحبّك عيني.



















غضبان

عادت إليّ كوابيسي القديمة يا زينب.. لم أعد استطيع المكوث في غرفتي . أخذت أهيم في الشوارع ليلاً ولا أعود إلى غرفتي إلاّ بعد أن تكلّ قدماي من السير. إن جدران الغرفة تخنقني.



















زينب

ليس حالي بأفضل من حالك يا غضبان . لكنني لا أقدر أن أنفّس عن كربي مثلك. ليس أمامي سوى أن أحبس نفسي في غرفتي وأطلق لدموعي العنان . أحبّك عيني.



















غضبان

لقد اقتنعت بعد تفكير طويل يا زينب أن أعاود الكرّة مع أبي. وفي هذه المرّة سأواجهه بنفسي.وسأحاول إقناعه بكل طريقة ممكنة . سأذكرّه أنني إبنه البكر.. ابنه الذي كان ساعده الأيمن في الدكان.. ابنه الذي كان مطيعاً له طوال حياته.. الابن الذي سيحمل اسمه بعد عمر طويل. سأستغفره عن أي ذنب ارتكبته بحقّه إن كنت فعلت ذلك. سأسأله صفحه حتى عن تلك الهفوة التي عضضت فيها ساقه انتقاماً لأمّي. وسأطلب منه أن يضاعف عليّ المبلغ وأقسم له أنني سأعيده إليه حتى آخر فلس. سأقول له إن رفضه اقراضي المبلغ معناه الحكم عليّ بالموت. إنه أبي بعد كل شيء يا زينب، ومن غير المعقول ألاّ يرقّ لحالي. أنا أتعذب يا زينب وأخشى أن أفقد عقلي وأنا أفكّر بأن مبلغاً كهذا يمكن أن يقف حائلاً دون سعادتنا. أمن العدل أن تتبدد سعادتنا بسبب الحاجة إلى المال؟ سأسافر عصر اليوم إلى الموصل لمقابلة أبي . وآمل أن أحمل إليك أخباراً سارة عند عودتي.

غضبان

أيتها العزيزة زينب.. يا حبّي الأوحد. ما أشد أسفي لما انتهت إليه محاولاتي.. وأنا أكتب إليك هذه الرسالة من السجن في انتظار حكم القضاء ، يعذبني أنني جنيت عليك أكثر مما جنيت على نفسي. وبدلاً من أن أحقق لك السعادة حطمت حياتك وحياتي.ولكنني أقسم لك أنه لم يكن في نيّتي أبداً أن أؤذي أبي. وأنت تعلمين أنني طيب القلب وغير قادر على الإتيان بعمل شرير . وأنا عاجز عن فهم ما حدث. وإن سؤالاً ملحّاً يقرع جمجمتي ليلاً ونهاراً.. أكان حتماً أن يقع ما وقع؟ وهل حقاً أنه لا مفرّ للإنسان من مواجهة قدره؟ اصفحي عني أيتها الحبيبة ،و أقسم لك أنني لست حزنانا على نفسي بقدر حزني عليك.

- تمت -

















#شاكرخصباك (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- الفرقة الشعبية الكويتية.. تاريخ حافل يوثّق بكتاب جديد
- فنانة من سويسرا تواجه تحديات التكنولوجيا في عالم الواقع الاف ...
- تفرنوت.. قصة خبز أمازيغي مغربي يعد على حجارة الوادي
- دائرة الثقافة والإعلام المركزي لحزب الوحدة الشعبية تنظم ندوة ...
- Yal? Capk?n?.. مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 88 مترجمة قصة عشق ...
- الشاعر الأوزبكي شمشاد عبد اللهيف.. كيف قاوم الاستعمار الثقاف ...
- نقط تحت الصفر
- غزة.. الموسيقى لمواجهة الحرب والنزوح
- يَدٌ.. بخُطوطٍ ضَالة
- انطباعاتٌ بروليتارية عن أغانٍ أرستقراطية


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شاكرخصباك - قصة حب