|
اضغط على الزر واشعر بالقوة
سعيد حاشوش
الحوار المتمدن-العدد: 2542 - 2009 / 1 / 30 - 06:36
المحور:
الادب والفن
الشعارات تتحرش بعيون المارة تحرشا داعرا في كل الطرقات ، أشجار ملفوفة بعباءات سود خط عليها بالأبيض تعلن عن حياة أفضل . إعلانات متراكمة الأرقام عن قوائم انتخابات أو مناقصات بيع وشراء ، تمتد يد المنغولي بقبضة محكمة وهو يردد كالببغاء كلمات لقنها له الفتى الجالس قبالته وثمة دوائر حلزونية من البشر تتسع وتطلق النار على عدو جاثم على صفحة السماء . تنخرط الدائرة الى دوائر غير مكتملة ويتكاثف اطلاق النار والعدو المجهول يمد لسانه ويقهقه سخرية من شعب الأميبيا . تزبد شفتا المنغولي حين يدفن الكلمات المسروقة النهايات .. يعيشـ ... يسقـ ... تمر سيارات الشرطة بعواء متصل لقطيع منبوذ من بنات آوى .. هرير طائرة حربية .. رياح الهجير الصيفي ساخنة تكوي الوجوه بلسعات العقرب السماوي ، وخز ابر لايمل ولا يفتر كصراخ السيارات العسكرية وأرتال الجيوش الأجنبية واطلاق نار كثيف على عدو مختف في الزرقة الترابية للسماء . توقفت سيارة الاجرة . من النافذة تطالعني شجرة سلخ الفقراء قشرتها واتزرت بلافتة سوداء ممزقة .. يبز لحمها الأبيض الصلد معلنا عورة بائسة .. تلك العورة أتحسسها بمرارة كأنها عورتي ، حتى أني أطرقت بحياء .. وبدون شعور رحت أهز رأسي ناقما وأتحدث بصوت مسموع :- يغطون عورة الماعز بالاسمال .. أما الأشجار ..!.. انتفض الطالب محتجا :- الأشجار ليست لها عورة . أجبت بتصميم :- لها عورة ..!.. وكدنا نتلاكم بالأيدي لولا صراخ السائق :- ياأشجار.. ياصخل .. ألا تشعرون بالغضب فوق رؤوسنا.. مازلت مطرقا حين اقتحمت النوافذ موجات ذباب رمادي ، ذلك الذباب يتشمم وجوهنا بلذة عظيمة قبل أن يلزق بل يتعشق بوله جنوني .. أنش .. يتطاير ويلتصق مكوما على غمازتي شدقي المنغولي .. صرخت محتجا :- أنا أتهم الاحتلال .. احتج .. ابتسم الطالب وقال :- أنا معك لأن الذباب لم يلتصق بنا هكذا من قبل .. الاحتلال يفعل كل شيء .. في الخارج .. مزبلة هائلة متفسخة تصول وتجول الريح فيها .. تقذف الريح صورا ملونة لرجال ملثمين .. تكاد تلك الصور بوجوهها المقنعة أن تخرج من بطون الجرائد كالعفاريت من قمقمها وتعلن الثورة .. تطالعني لافتة علقت على قصبة خيزران مكسورة .. تراقبني عن كثب بحروف خطت بفن طبيعي من ذروق الذباب .. لم أستطع قراءة الحروف لكنها على مايبدو اللافتة الوحيدة التي تعلن كل شيء .. بدون طلاسم ورتب عسكرية تغازل الوجوه البائسة بابتسامة مصطنعة .. ابتسامة مكررة من كثرة استهلاكها مما يدل على أنها صينية المنشأ . تحت اللافتة عشرات الأطفال ببطونهم المنتفخة وهم ينبشون المزبلة بأيد تشبه مناقير الطيور . وعلى حين غرة رأيت قشورا مازال اللون الأحمر يتقاطر منها ترتطم بنافذة السيارة الأمامية .. هناك من طبل على صفيحة متأكسدة وأعلن نفير الحرب تحت لافتة أخرى تتسيد على اتجاهات أربع ببندقية ذات سبطانة طويلة .. يهتف الأطفال بحناجر مبحوحة .. اضغط على الزر واشعر بالقوة .. أنا الآخر خامرني شك دفين لايعقل أن تتسيد هذه اللافتة على كل الشوارع وهي لماكنة حلاقة من النايلون .. تمتد يد المنغولي بحماس مخبول ، اليد مهيأة القبضة .. يهتف بكلمات مبهمة الحروف ويده اليمنى تشير لسبطانة ماكنة الحلاقة .. يتطاير الزبد من زوايا الفم ويبلل وجهي الثابت بنظرات لاتحيد عن شدقيه المؤطرين بفطريات موروثة .. قال الطالب :- هذا المنغولي ثمرة استعمارنا من قبل الشعوب عبر التاريخ .. الكل كان ينكحنا .. وضحك الطالب ضحكة فاسدة فيما تقوقعت على نفسي بظلام حالك .. سمعت صوت الطالب يأتيني من قرار بعيد أشبه بالحلم أو الرؤيا .. إذا كان التاريخ هذا هو بالتأكيد سيكون الاستعمار في المستقبل بشكل مقبول وأفضل .. وأعادني للوجود بضحكته الفاسدة وأردف :- على الأقل بدون نكاح لأن نساءهم تحمل البنادق وأخواتنا بالنسبة لهم كتلة جراثيم وأمراض .. وجن جنوني حين علت ضحكته الفاسدة وهو يردد .. نحمد الله على ذلك .. نحمد الله على ذلك .. لذت بصمت مقهور . في الخارج تصول وتجول الريح الساخنة .. تراب سرفات دبابات سريعة ودوي مرعب لاطلاق نار كثيف .. في لحظة ما وقد تكون مجرد خيال ذاكرة مريضة رأيت العدو المجهول يمد لسانه الأحمر الطويل ويقهقه عاليا في السماوات ورأيت دوائر البشر تطلق النار على صفحة السماء .. ينتفض المنغولي ويرمي بجسده على الأرض ويطارد الأطفال في ساحة معركة استعر اوارها .. أغتنم عصا ملتوية القبضة ، مزق قميصه نصفين : لف نصفه على العصا ـ البندقية ـ والنصف الآخر عصب به رأسه تاركا كم القميص ينسدل على وجهه كالقناع وثمة تراب وشمس تدوخ الهامات ورجال بلحى مشذبة يزيحون الستار عن صورة وجه جميل لشاب معمم بين شيخين ولوحة أخرى اسمنتية تطل منها عيون الشهداء . تفرس المنغولي في تلك العيون .. ارتعب وعاد ببندقيته يمارس لعبة الحرب ، انبطح على الأرض . وأخذ يطلق صليات متقطعة على سيارة همر يتحصن بها المارينز ، لم تأبه عيون الجنود المختفية خلف نظارات سود ولم يبدو على وجوههم علامات خوف أو حذر ، وجوه قاسية تؤكد سطوة وقوة ، تراجع المنغولي وانبطح على الأرض .. قلت :- لايعقل أن تكون هذه السبطانة المفلطحة الرأس لماكنة حلاقة أللهم إلا ذا وضع حزب ما أسمدة كيمياوية أو بذور مهجنة وفلطح رأسها .. وبلا شعور انبثقت من فمي المطبق ضحكة عالية ورأيت كل العيون تتفرس بوجهي دون أن يجيبني أحد كأني أحد رجال النظام السابق أو عضو في عصابة ما .. وبعد لحظات وجدت عيوني في المزابل .. ومن أكوام القمامة انبرى المنغولي يزأر مثل الأسد وهاجم سيارة بنت آوى لكن الشرطة أغرقته بوابل من قهقهات ـ ساتر من السخرية الصلب كالفولاذ ، تلفت يمنة ، يسرة ، وهاجم سيارة اسعاف تعوي من الوحشة واليتم ، كاد يكسر النافذة التي اكتشفها من المعدن .. شعرت باحباط المنغولي حين ارتمى بصره يائسا وأدرك بغريزته ان السيارات ستهرب من طلقاته حين ينفتح الطريق وتهرع في اتجاهات أربع . بغتة عاد ملعونا بحزام ناسف من انكسار مظلم .. انتكاسة في أعمق نقطة في ذاته المضطهدة .. عيناه محمرتان من الغضب والهتافات يطلقها كالفحيح وحين أطلق علينا النار طار الذباب واقتحمنا صمت موروث ..!.. نظراتنا تغرقه بألم .. اندهشت .. كانت زوايا الفم خالية من الزبد .. الذباب يمتص كل شيء .. لم يجابه مقاومة بعد أن أدرك إننا عزل .. أطلق علينا شعارا مبتور النهاية .. وأصابتنا الريح المختمرة .. الملوثة .. اغتالنا واحدا .. واحدا ..عدنا للمصير .. توقف مأخوذا بنظراتي التي لاتحيد .رأيت عينيه تنزلان ببطء .. ياقة قميصي الأبيض .. ياقتي البيضاء المكوية بعناية .. وبغريزته الموروثة أدرك ان كل البلاء يأتي من ياقة قميصي الأبيض .. ومازالت نظراتي حادة كالمسامير حين أطلق النار على عيني اليمنى الثابتة هاتفا بلثغة غريبة .. أضغط على الزر واشعر بالقوة .. في تلك اللحظة هبت الريح بزوبعة تراب .. رأيت لوحة خشبية تهتز بأنين .. تلك اللوحة تحكي قصة رجل حليق الوجه وبسترة رمادية وقميص ناصع البياض ومن خلفه علم بثلاثة نجوم .. هبت الريح ثانية أنت اللوحة بتوجع وتشقلبت في الهواء فاسحة المجال لأسد يتربع على غابة من الأسمنت .. لاذ الأسد بالهرب حين طردته يدا اللوحة الأصلية المطبوعة على المرمر .. لوحة بنظرات ثقيلة ساخرة ورتبة عسكرية .. رأيت الأسد يضع ذيله بين الفخذين خائفا والرجل العسكري زعيم عصابة سابقة يلم قبضته ويهزها بحركة لوطية .. أعتقد ذلك .. لأن المنغولي هوى بالعصا على رأسي .. صوت شبيه بانفجار الدماغ .. ظلام دامس .. تنزف ذاكرتي وجوه عنجهية وعيون ثعلبية .. تنمحي الصورة الثعلبية بلطمة أخرى على الدماغ . أسمع صفير سياط تصفر قبل أن تهوي والريح تصول غضبى .. تزيح كل الشعارات .. تطبل الريح على رأسي .. أندق على المقعد ويثقل جسدي .. الريح تسقط كل الأقنعة وثمة ظلام محمر أمام العينين .
#سعيد_حاشوش (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
صورتي الرائعة
-
الوجهاء
-
قوس قزح أبيض...قصة قصيرة
-
نحن الحطب بعد شتاء أكلتنا الأرضة
-
اليحامير
المزيد.....
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|