|
ضجيج الموت
جاكلين صالح أبو طعيمة
(Jaklin Saleh Abutaima)
الحوار المتمدن-العدد: 2539 - 2009 / 1 / 27 - 05:31
المحور:
الادب والفن
24/01/2009 السبت - غزة تتنافس الذكريات على عقلي الذي لم يحتمل فهذه آثار الدبابة نفسها التي هدمت بيتي في العام 2003، وهي نفسها التي تخط لها شوارع فرعية هنا في أحياء غزة، نفس الطريقة بل المنهج والأسلوب، يرهبها الموت من الشوارع الرئيسية فتفتح لنفسها فرجاً جديدة فوق المنازل والمساجد والمدارس، لتسلك به طريقاً لهدم الجهة الأخرى من البيوت.. يتجدد مشهد عملية قوس قزح 2003، ليلتحم به مشهد الموت الجديد في حرب غزة، ويتكاثفا من أجل صنع ضجيج ليس كالذي نعرفه في أبواق السيارات وزفات الأعراس لأبناء المخيم وحفلات سمرهم الليلية، لا. الضجيج هنا من نوع آخر اسمه ضجيج الموت، الموت وحسب، كانت تنتقل بنا السيارة من رفح في أقصى الجنوب إلى غزة، كان الذهول عين الناظرين، موت في كل مكان على طول الطريق، ألتفت يمنةً ويسرى ومرات تتابع عيني المشهد لأستدير بوجهي للخلف، كان صوتي يختنق في حلقي، وعيناي تدمع بلا دمع بل بصدمة جففت كل الدموع وأسكنت تحجراً آلمني حتى الوصول.
انتابني ذلك الشعور يوم وقفت أمام بيتي لا أحمل سوى ما أرتديه من ملابس عَفَرَها غبار آخِرَ حجارة سقطت من بيتي، وانتقلت الصورة للبيوت المدمرة بيت جميل كان يجمع عشرة وعشرين في جوفه يلمهم حول طاولة واحدة أصبح الآن كومة أحجار، وتلك بناية من أربع طوابق لم يبقى منها إلا سقف الطابق الأخير، وهذه شجرة برتقال بل هي الوحيدة.. كان البرتقال يمتد كامتداد البصر المتنقل عبر سيارة الأجرة، كان يزهر وينبت وتكبر النبتة وتزدان جنبات الطريق بحبات البرتقال، وأتذكر كتاب التاريخ يشتهر قطاع غزة بالحمضيات، ومن شهرته بقيت هذه الشجرة ذابلة خائفة، لا ترى إلا جذور جاراتها وكلما نَظَرَت أكثر تسقط برتقالة حتى أصبحت جرداء كقلبي في تلك اللحظات، وهذا أيضاً كان مكان لأشجار نخيل لا يبتعد عن البرتقال كثير، لطالما نظرته وحدثته لكنه اليوم تاه في الضجيج، كان الضجيج يتنشر في كل مكان، أذكر من الشوارع أماكنها لكنها ليست هي التي كنت أمر بها، هناك كان مسجد، وهنا ورشة لحداد صغير يعمل معه صبي يتيم، وذاك كان سوق للسيارات، وتلك حضانة للأطفال، وفي هذا المكان كان جدار عليه صور الشهداء من أبناء المنطقة، ودكان عجوز يصنع مرايا، كل المنطقة تاهت في مرايا العجوز فلم يبق العجوز ولم تبق حتى شظايا المرايا، وانتشر الضجيج... وكل حبة رمل هجروها مكانها كُتِبَ عليها من هنا مر الموت، لكن تلك أكوام الحجار بقايا البيوت نادت هنا يسكن الموت، الوجوه في تلك المنطقة أعرفها أمر بها كل أسبوع مرتين أو ثلاث، لم تبهت أو كان لونها شاحباً إثر الحرب، لم ترتسم على محياها الأحزان والدموع، لم أسمع امتعاظها ولم أشعر باستيائها لأنها.. لأنها لم تكن هناك ... كل الوجوه قُتِلَت، كل الوجوه ماتت حفروا لها قبوراً في مخيلتهم وجاؤوا غزة ينفذون خيالهم، ظنوا أنهم مخرجي أفلام هوليود فأخذوا يصورون المشاهد فأبدعوا ... هنا يقتلون كل سكان البيت بقذيفة صاروخية تنهال على أمنهم وخوفهم فتقتلهم جميعاً، والمخرج المعلق في الهواء على كاميراه يلقي قذيفة مبرمجة لتقتل كل ساكني البيت ولا يبقى إلا طفل واحد في السادسة من العمر، وليكن المشهد أكثر إثارة للمتفرجين من بني صهيون سنقتل لهذه المرأة خمسة ونترك واحداً، ولتزداد الإثارة أكثر نقتل أم وسبعة أطفال ونترك الأب... ما رأيكم؟ أليسوا أفضل من مخرجي هوليود؟ ...
يعلو ضجيج الموت في الطرقات، فلا تفتح بيوت العزاء ولا تصب القهوة، ولا يعلو صوت ننعي الشهيد، كل الأصوات صُمَّت واختفت الحناجر، وظن مخرجو الحرب الإسرائيلية بأنهم نجحوا في عملهم، ولم يكن عِلْمَهُم بالكثير، فقد برز في كل شارع جبل من الرمل والحجارة ليعلن مزيداً من الصمود، بل أخذت تتكوم جذوع الشجر لتنشر دفئاً لكل الخائفين، بل إن المرأة التي فقدت الخمسة وبقيت هي وواحد ستنجب ألف خمسة غيرهم، وذاك الذي قتلوا أبناءه وزوجته دونه سيتزوج في الغد ودودٌ ولود، وينبت البرتقال من المستحيل، ويخفت ضجيج الموت بل يختفي من الأزقة والطرقات، وستقام الصلاة على ركام المساجد، ويعلو صوت الله أكبر، ويكبر التحدي وتزداد القوة فلا تهزها رائحة الموت ولا حتى ضجيجه..
سيختفي ضجيج الموت يا إسرائيل في غزة، وستُوَلِي كل مشاهدكم، ويبدأ مخرجو غزة بتصوير فيلم جديد لرجل تزوج اليوم وأنجب أحمد وقيس وزياد، وسيتبعهم بكرمل وهالة وأحلام، ليكبروا ويكونوا وقوداً لثورة لن تنتهي ولكنها سَتُنْهِي ضجيج الموت في كل فلسطين...
#جاكلين_صالح_أبو_طعيمة (هاشتاغ)
Jaklin_Saleh_Abutaima#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أهداف حرب إسرائيل على غزة بين الإعلام والحقيقة
-
رحيل الأمان يا غزة
-
لأبي بيت وأرض صغيرة ضاعت في غزة
المزيد.....
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|