|
الهجرة الى البحر........منلوج قصصي
أحمد الجنديل
الحوار المتمدن-العدد: 2534 - 2009 / 1 / 22 - 07:08
المحور:
الادب والفن
وصلَ الليلُ سريعاً !! وأنا أتدحرجُ بين خرائب الكلمات الساقطة الحلوة ، بين رفات مواعظ مولانا الوثن الأعظم ، تأخذني أللعنة حيناً ، أقفزُ بين محطّات العتمة ، وأغرقُ أحياناً بين خطابات الوالي . أمس ، لا أعتقدُ ذلك بالضبط ، ربمّا قبلَ شهر أو سنة ، يبدو لي في اليوم الفائت ، اختلط َ الماضي والحاضر والآتي في زنزانات الوعظ الوثنية ، والظلمة ألغَت كلّ محطّات الوقت . فلنفترض ما حصلَ أمس ، هذا لا يضّر : تسلقتُ جدارَ الر فض الأملس ، زحفتُ على طحالبه ، كالخنفساء ، كان الجمعُ غفيراً أثناء الزحف ، متحلقة حولي الأنظار ، يصلبها الموت من الخوف . أرجَعني صوتُ الواعظ نحو غياهب عصر الرعب القاتل . منـذ البدء والكلمات الساقطة الحلوة تلعبُ فينا ، فأصبَحْنا بفضل دعارتها ، علباً فارغة لا تصلحُ إلا للنقر عليها . في اليوم التالي ، لا أعرفُ معنى اليوم التالي !! ليس لدينا زمنٌ نؤرخّ فيه العمر ، بوصلة الوقت يملكها الواعظ وحده ، سفيرُ الله يذيع بيانات ، تعلنُ عن زمن الميلاد ، ووقت مغادرة الدنيا . كان جنودُ الوالي نياماً ، والوحشة والغربة ، ظلاّن ، يعشقُ بعضهما بعضاً في محراب الوعظ ، في تلكَ الساعة ، صرختُ بأعلى ما أملكه من جهد : ـــــ هند ... هند ... ما معنى أن يحيا الإنسان بلا مضمون ؟ . صوتي أثقلُ من صمتِ القبر ، سمعَت هندُ صراخي ، فطارَتْ نحوَ البحر . كان جنودُ الوالي نياماً ، راوَدني حلمُ التسلق ، رقصتُ له ، وعلى أطرافي التي يأكـلها التسوّس ، وإسناد أظافري التي يرقدُ فيها الدود ، تسلقتُ ، حَبوتُ في بداية الأمر ، كان الحائطُ مرصوفاً بجماجم أطفال الفقراء ، ومطلياً باللون الأحمر . في تلك الساعة ، هند ، تحلـّقُ فوق البحر ، وأنا مشغولٌ في البحث ، عن درب يُبعِدُ عنّي لغة الخزي ، أبحثُ عن لغة تسقيني معنى ، في تلك اللحظة ، جاءَ بشيرُ الخير ؛ زغرودة هند ، وحليب أمي ، وتصفيق الطين الأسمر ، وأنا في جوف الليل ، وفي عمق سواد اللجّة ، لحمي ينـزّ دماً من ثقل الكلمات البلهاء ، ورأسي مزبلة لمواعظ كهّان الوثن الأعظم . زغرودة هند ،ابتسامة أمي ، تصفيق الطين الأسمر يزيدُ عنادي ، وتسلقتُ ، تسلقتُ ، وصلتُ لنافذة الرفض ، صغيرة جداً هي النافذة ، بحجم الجرذ المولود حديثاً ، أو أصغر ، تشبثتُ بها . بابُ النافذة العليا حطّمَ قيده ، شُرّعت الأبواب أمام البحر ، وصلَ الضوءُ سريعاً ، أصابني الدُوار ، لكنّ الريحَ القادم من جهة البحر ، قلعَ القرنَ المزروع برأسي . مثلما تـُقلـَعُ الأضراس يا هند !!! . كلٌّ في جبهته قرن يزرعه الواعظ بأمر من مولانا الوالي لنصبح من شعب الغلمان ، كلّ صباح يجـلـدنا الواعظ بسوط الكـلمات الساقـطة الحـلوة ، يقـول لنا : ـــــ الكّل هنا منتسب بالفطرة التي فطرَ اللهُ الناسَ عليها إلى شعب الغلمان . الريحُ أطاحَت بالقرن المزروع برأسي ، وأنا أمسكُ نافذتي وأقاوم ، سقطَ القرنُ المتعـفنُ أرضاً ، رأسي أصبحَ مئذنة للخير وللنور ، عيني ما عادت تنظرُ للأسفل . في الأفق الغاطس بشعاع الضوء الأبيض ، رأيتكِ يا هند ، تمرّينَ من أمامي ، وأنتِ تمتطين حصانَ الغيمة الهائجة ، كحورية من حوريات البحر . لا أملكُ في تلكَ اللحظة غير صراخي ، كان صراخي أسرع من صوت صهيلِ الماء المتدفق من عمق البحر ، تمدّدَ في الأفق الواسع ، كان الصراخُ خرافياً ، استطال وخرج من النافذة : ـــــ هند .. هند .. هند . لكنكِ عبرتِ الأفقَ المغسول بالشفق الأرجواني ، وابتسامة على شفتيكِ ، لا زالت ملء فمي ، وابتلعكِ البحر ، وبقيتُ ملتصقاً بالنافذة ، رغمَ السوط الذي بدأ يلتصق بظهري ، ليأكل ما تبقـّى فيه من حياة .
* * *
ــــ لماذا تجلسُ هكذا يا ولدي ؟ ـــــ هذا ما اعتدتُ عليه يا أمي . ـــــ لا يجوز الجلوس على قارعة الطريق !! ـــــ الطريق مسرح الناس ، وعلى قارعته أرى الأشياءَ بوضوح . ـــــ لكنّه حالـة من التجسس على ما يفعلـَه الآخرون ، ربمّا السطو على أسرارهم . ـــــ لم تكن لنا أسرار مخبّئة في صناديق مغلقة ، الجميع يعرفُ أسرار الجميع . ـــــ لكنّ البعضَ لا يروق له أن يجد أسراره تحت رقابة أحد . ـــــ ليس البعض يا أمي ، الكّل يرفضُ الوصايـة على أسراره ، والأسرار مكشوفـة أمام الكّل ، والكّل كتاب مفتوح بين فخذي عشيقة الوالي . ـــــ رغم هذا ، فانـك تعرضّ نـفسكَ للاسـتجواب ، وربمّا للـموت ، وأنا لا أملـك غيرك يا ولدي . ـــــ اطمئني يا أمّاه ، فأنا أتقنُ ارتداء ملابسي الداخلية سرّاً . ـــــ لعبة اِكتشفها جند الوالي . ـــــ كيفَ عرفتِ ذلكَ يا أمّاه ؟ ـــــ أمس شنقوا جارنا نوفل . ـــــ لماذا ؟ ـــــ ضبطوه يرتدي سروالا داخليا قصيرا . ـــــ وبعد !! ـــــ علقّــّوا خلف مشنقته لائحة تعليمات الوالي ، وشنقوه . ـــــ يا للكارثة !!! ـــــ وقبلها رجموا مريم ، ورموا جثتها للكلاب . ـــــ مَن هي مريم يا أمّاه ؟ ـــــ الحمامة ُ التي تسكنُ أكواخَ العوز . ـــــ وماذا فعَلتْ ؟ ـــــ أرادت أن تنجو من العقوبة ، فخلعَت ملابسَها ، فأمسكوا بها متلبسة بالجرم المشهود . ـــــ كيفَ حصلَ هذا ؟ ـــــ كانت عارية ٌ، وضوء الشمس يداعبُ حلمتها . ـــــ وهل كنتِ حاضرة حفلَ الرجم هناك ؟ ـــــ كنتُ هناك ، وكانت هندٌ حاضرة ، صرَخَت ساعة إعلان المرسوم الوثني !! ـــــ وكيف نجَتْ ؟ ـــــ رُسل الوالي بحثوا عنها في كلّ مكان ، لكنّها اِختفـَت ، ولم يعدْ لها أثر . ـــــ لقد شاهدتـَها تمتطي صهوة الريح باتجاه البحر . ـــــ منذ متى يا ولدي ؟ ـــــ لا أعرفُ بالضبط ، ربّما أمس ، أو الشهر الذي اِنصرم ، أو السنة الماضية . ـــــ كيفَ رأيتها ؟ ـــــ كنجم كبير في عالمي اللامرئي . ـــــ هل أدمنتَ على فقدان الذاكرة يا ولدي ؟ ـــــ وهل أنتِ متأكدة ، أنـّي أملكُ ذاكرة ، عندما خرجتُ من رحمكِ ؟ ـــــ الأوغادُ مسخوكَ مخلوقا آخر ، عندما وضعوك في زنزاناتهم . ـــــ أنا أعاني من زنزانتي الداخلية يا أمّاه !! بكـَت أمي بحرقة ، سقطت دموعٌ غزيرة منها ، وقبل أن أغرق في طوفان دموعها ، طبَعتْ على جبيني قبلة واِختـفـَت . رأيتها بعد حين تمتطي صهوة الريح باتجاه البحر ، وأنا أمسكُ نافذتي ، وأقاوم .
* * *
النافذة ما عادت بحجم الجرذ المولود حديثا ، اِتسّعَ الأفقُ الأزرقُ فيها ، وتدّلت شمسٌ مشرقة ، وهلّ هلال ، ونسيمُ عَذِبٌ يأتيني من بُعد ، والسوط الأخرس ينهشُ لحمي ، والنافذة العليا اِتسعتْ أكثر ، وتلويحا يأتيني من هند ، ونداء من أمي يدخلُ رأسي ، والحرس الوثني ، يطلقُ نيرانَ الكلمات الساقطة الحلوة ، وأنا في هذا الوقت محاصر ، سوفَ أموت قريباً ، أخّـرُ صريعا ، شهيدا ، مجرما ، أرحَلُ بالرجم أو الشنق ، أو تحتَ سياط الكلمات الساقطة الحلوة ، لكّني سأقاوم ، كي أصلَ البحر . زغرودة هند ، ونداءُ الأم ، وتصفيقُ الطين الأسمر ، جعلوني أتتشبثُ بالصبر ، وأقاومُ بشكل أعنف ، وأُداري الموقفَ أكثر . عند الفجر التالي ، كان نداءُ الله قوياً ، اهتزّ الرأسُ المرفوع على رمحي ، جَلجَلت الأصواتُ ، وأجراسُ دوّت في الأفق الواسع ، تـُعلنُ عن أزمنة آتية للعشق ، وأخرى لحرق وصايا الوثن الأعظم . وبدأتُ أفيقُ ، ما عاد الرأس بلا ذاكرة يا أمّاه ؟ الذاكرة حاضرة في رأسي يا هند !! صرختُ بصوت كالرعد : أمي ... هند ...أمي .....هند . النافذةُ الآن اِتسعت أكثر من ذي قبل ، والأفق ُالأزرقُ يملكُ أجنحة ، وهند وصَلت مسرعة ، كان جناح الأفق الأزرق يحملها ، وبأسرع من خَفق القلب ، حَملتني نحو البحر . كان البحرُ كبيراً جداً ، رحيماً وعطوفاً جداً ، غَسَلَ الجرَبُ المتراكم من فعل الخوفِ ، والكلمات الساقطة الحلوة ، ما عادَت صالحة للاستعمال ، أشرَقَت الدنيا في قلبي ، وضحكتُ ، وضحكتُ ، الوالي يأمرنا أن لا نضحك ، قال الولي يوماً : ـــــ الضحك بلا سبب ، من قلّة الأدب . وبقينا نبكي ، نبكي ، واجتهدَ القومُ بتفسير الأسباب ، وبقينا لا نعرفُ لون وشكل البسمة ، لم نعرفْ طعمَ ولا صوت الضحك ، والدنيا فارغة إلا من البكاء . سأذهبُ نحو الشمس ، وأزورُ القمر الليلي وأسامره ، سأموت من الضحك ، أغرقُ فيه ، أراسله وأناجيه . وصلَ التمساحُ الأخضر ، ركبتُ ظهره ، وهند ركبَت ظهرَ التمساح الآخر ، اِبتسمَ التمساحان لنا يا أمّاه ، . كان الوالي يركبُ ظهري كلّ صباح ، تقرّحَت عظامنا من شدّة الركوب ، وحديث الوالي يشربُ ما شاءَ من العمر ، وينخرُ في العظم ، والبحر هنا ، لا يعرف البكاء ، يحملُ في داخله رفضاً يُرقصُ الحياة ، وفي البحر ، نصطادُ الدفء ، الخصبَ ، والدنيا زاهية كأحلام الأطفال ، والليلة موعدنا مع الفرح القادم من أقدام البحر ، ها هي أمي قادمة من صوب الخوف إلى صوب الرفض ، والليلة عرس ، وهـند تبكي فرحاً ، وعلى أجنحة اللامرئي ، وصلت مريم يتبعها نوفل ، اِجتمع الشملُ ، والعرسُ القادم ، سيكون مع الفجر .
#أحمد_الجنديل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حكايات عن عواصف الرعب .......... قصص قصيرة
-
الحفاة ........ .. قصة قصيرة
-
الارصفة تشرب الصراخ ................... قصة قصيرة
المزيد.....
-
إصدارات جديدة للكاتب العراقي مجيد الكفائي
-
الكاتبة ريم مراد تطرح رواية -إليك أنتمي- في معرض الكتاب الدو
...
-
-ما هنالك-.. الأديب إبراهيم المويلحي راويا لآخر أيام العثمان
...
-
تخطى 120 مليون جنيه.. -الحريفة 2- يدخل قائمة أعلى الأفلام ال
...
-
جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي تكرِّم المؤسسات الإع
...
-
نقل الموناليزا لمكان آخر.. متحف اللوفر في حالة حرجة
-
الموسم السادس: قيامة عثمان الحلقة 178 باللغة العربية على ترد
...
-
حبس فنانة مصرية 3 سنوات
-
راسل كرو.. لماذا انطفأ نجم صاحب الأوسكار وأصبح يعيش في الماض
...
-
أحداث مليئة بالإثارة والتشويق في الحلقة 178 من مسلسل المؤسس
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|