مريم نجمه
الحوار المتمدن-العدد: 2530 - 2009 / 1 / 18 - 08:07
المحور:
أوراق كتبت في وعن السجن
1 -
ماذا تساوي هذه الكلمات ؟
ربما أتساءل أنا ؟
والبعض أيضاً يقول .. والجميع يتساءلون :
ماذا تساوي كل هذه التحديات الكلامية ؟
مجرَد تعبئة ورق , تعبئة وقت , ملل , مجرَد حبر نرسم به للتسلية .
نعم ... أنا أتسلى الاّن في ليلي الطويل , وأفضَل ألا أسليه بأحلامي ..
أجل , أسلّيه بواقعي .. بأناملي .. بأفكاري التي تحضنها قابلة الأحداث المحيطة بالإنسان الذي يحس ويعي الماضي والحاضر والمستقبل .
إني ألومك أيتها الأيدي كيف ترهقين أعصابك في سبيل بضع كلمات , سيقرأها يوماً ما بعض الناس , أو ربما لم يقرأها أحد ..
سيقرأها أبنائي أم لا لا أدري ..؟
..... ولكني واثقة تماماً بأنها في يوم ما ستكون قرباناً للمصلين .. لأنها نابعة من عشائي .. ومن قوتي .. ونزيفي اليومي .
لأن القربان الذي هو ( الخبز ) كان طوال أشهر وفي ذات اليوم من نهاية شهر اّب لعام 1976 / فطورنا وغداؤنا وعشاؤنا , تماما كما يأكل جياع الأرض المحتلة , وسجناء الأرض المحتلة , وكما يأكل المشردون في الخيام وفي مدن الصفيح في عواصم العالم ....
هكذا النضال السياسي , والكفاح الوطني الشريف يوحَدنا في خبزنا .. واضطهادنا .. في ألمنا .. ويومنا , ولكننا , كنا بالتأكيد غير جياع للمحبة والعطاء والتضحية والكرم والمشاركة ..
كنز يتدفق للاّخرين , كنا غير جياع للشرف والمواقف المبدئية , لأن الرأسمال الكبير للمناضلين نملكه . وأيضاً غير جياع للوطنية لأننا نعيش والوطن في سجن واحد .. في شرنقة واحدة .. ننسج من ّالام شعبنا موسيقى دوّت في كل أرجاء العالم .
هكذا المناضلون و المناضلات يجب أن يعلنوا رسالتهم للناس كل الناس , لأنها مع الناس مع الشعب تحيا وتعيش وتموت .
فمن أجل ذلك على المناضلة ألا تنفصل عنهم بفواصل المعاناة والألم . ألا تنفصل عنهم بأنانية الذات , وأن تسبر الأغوار .. والأعماق .
هي دوماً تعيش في كنف الأخطار , والصدام , والتحدَي , لأنها تعيش دوماً مع الحقيقة .. والحب الإنساني .
ولذلك فهي تحترق كل يوم , بل كل ساعة وهي تضئ , عليها أن تضئ دائماً بتألق وإشعاع أكثر فأكثر .
هكذا يا رفيقي ..
يا من كنا شعلة الحقيقة .. ومنارة القضية ..
أول المؤشرين للإنحراف والخطأ , والمتطلعين للأفضل .. والأبعد ...
التأفف في العطاء , ليس بعطاء , العطاء في سبيل الأخذ , في سبيل المكاسب ليس عطاءاً
فإذا توقف العطاء والتضحية , معناه الفناء , وتوقف الحياة .
يا رفيقي : وجدت يوماً أن الليل يحمل لي الف زهرة ليلكية .. وألف عنقود ريّان في سفوح جبالنا الصلدة .. شاهدتها لوحة مضيئة بعشرات خوابي الخمر تدفق للأفواه الظامئة , واّلاف الأسماك البحرية تقفز للشاطئ لتطعم اّّلاف البطون الخاوية .. شاهدتها رفيقي , زهرة مشرقة نديَة من ذاتي , من أعماق أعماقي .. قبلة .. خيمة .. لمن بحاجة إلى الحنان .. إلى دفء القلب الإنساني ..
هكذا , أريد أن أكون دائماً متفائلة .. وديعة .. مبتسمة .. معطاءة ..
لأن صورتي الحقيقية , هي ذاتها صورتي الظاهرية الخارجية , برغم فواصل الإضطهاد والألم والمرارة التي تجتاح محطات وجودي , تجتاح أصالتي وأغوار نفسي ..
هكذا المناضلة في محنة شعبها
أمام ذبح القطيع .. وفي عهد النخاسة.
فالقتال أو النضال المعنوي والأخلاقي هو أساس القتال والنضال المادي , ولذلك أنا أقاتل –
ولكن بصمت ,
لم يسمع صدى طلقاتي إلا أوراقي .. وقلمي .. وحبري .. وليلي ,
وعندما يتمزَق الفجر في يوم ما , سوف تقرأ كلماتي في ضوء النهار ..
وسيقول أحدهم : حقاً كان هناك سهَاراً في الليل ..
كان هناك .. يقظات على الأرض
تضئ بنجوم قلبها ظلام الليل
وتعصر زيت سراجها من دموعها
لتنير ليل صغارها ...!؟
2 –
كل حرف أكتبه اليوم .. لا أرضى عنه غداً .
وكل كلمة أعبَر بها الاّن , لن أرض عنها .. غداً .
الإنسان دوماً يعيش فعل التطوَر والتجدَد , قانون التطور والأحسن والأفضل .
هكذا علمتنا الماركسية , وهكذا هو الماركسي حتى بعواطفه , بعقله , وقلبه ..
فالغد دائماً يحمل أشياء جديدة للمشاعر , والفكر .
يعيش الكبر .. يعيش التجربة .. يعيش الزمن .
طبيعي أن لا أرضى بكتابات كتبتها البارحة , أو قبل زمن ,
ولكني سأعترف بها , وسأحترم الحرف الذي كتبته , لأنه عبَر عن لحظة معاناة معينة ,
لها زمان , ومكان , وتأثيرات معينة .
فهي معايشة واقعية لا أستطيع أن أمثلها أو اعيشها اليوم , أو غداً ,
وهذا سرَ ما أعبَر ..
لم أعد أكتب أي شئ ,
لم يعد ثمة ما يؤرّقني , أو يحرَك مشاعري .
ولكن فجأة أجد نفسي مدفوعة بعامل ذاتي داخلي , وعامل خارجي , لكي أخط بعض كلمات توقظني من سباتي ..
فالإنسان الذي يفكر , يستطيع أن يسجَل باسنتمرار أفكاره
فهو إبن الطبيعة .. إبن البيئة .. والمجتمع الذي يعيش فيه .
فهو دوماً يحكي قصته مادياً ومعنوياً , جغرافياً , وإنسانياً
وهو المترجم أحاسيسه النبيلة .. وهو الفنان الذي يرسم , والكاتب , والشاعر , والسياسي الذي يعمل ويناضل .
والأم ..؟ والأم تبني .. تعطي بلا انقطاع
ضوء قلبها .. وخوابي حنانها .. وشارات تجاربها
تعطيها بوفرة الغلال .. بكرم لا محدود
لتسجل في المجتمع الذي تنتمي إليه , أرقاماً بشرية حقيقية , وأصواتاً فاعلة ومؤثرة
ترصفها لبناء المجتمع , بدمها .. وعرقها ...!؟
>>>>>>>>>>>>>>>>>> ليلة الجمعة الواحدة بعد منتصف الليل 17 / 10 / 1975
3 -
لا أحب قراءة ما كتبت , لاعتقادي بأنها مضت معايشتي لها , والدوافع التي شحنت لكتابتها وأنا أعيشها . أو الشحنات التي دفعت لكتابتها ؟؟؟؟
لا أحب العودة إليها ثانية , لأنني أشعر بأنها أثر قديم مضت ولو كانت تلك قبل دقيقة , ولشعوري بأنني سأتفاعل وأتحسس وأتأثر بأشياء مختلفة وأشعر أكثر وأفضل من ذي قبل .... وأملي بالعطاء أكثر وبالتعبير وجودة التعبير أكثر من ذي قبل .
أملي أن أكون أمينة أكثر للتعبير عن مشاعري , جميع مشاعري دون استثناء , نقل ما يعتمل في الروح والقلب والفكر ..
أليس جميلاً أن يخط الإنسان كل ما يختلج في الشعور ؟ ولكن , دائماً تأتي الكلمة ناقصة , وأحياناً تفقد قوة التعبير وجمالية وانتقائية الكلمة واختيارها ورصفها ضمن هيكلية قطعة النثر التي أبنيها وأشيد فوقها برجاً متيناً يشرف على سهول اللغة وأزهارها ومشاتلها التي تلون شرفات ونوافذ وأبواب البناية التي سأجلس فيها ولا أجلس إلا عبر موادي وأدواتي البسيطة البدائية هذه , وخاصة إنسانة مثلي أعترف بطفولية التعبير وأسلوبه الفني وملكتي الأدبية .
ولذلك يجول في الفكر الكثير من المواضيع والصور والأشياء وأعجز عن التعبير عنها – أو هي تتراكم لتتلاشى أفكار ... وتتقدم أفكار أخرى ..
هكذا الذين يكتبون في الليل , بدون تصميم سابق , ودون استعداد لموضوع معين , إنما أسرع بالورقة والقلم , والمعاناة تتكلم وحدها . تتكلم بلغتها التي أفهمها أنا أكثر مما يفهمها إنسان اّخر – لأنني أعيش الحرف .. والكلمة .. والمعنى .
فهل أنا عاجزة كما أتصور ؟
ربما ذلك ,
ولكني اّملة أن أكون جيدة في المستقبل وأن أطور عملي الأدبي وإبداعي الثقافي ..؟
4 –
لم نكتب للتسلية
ورسم الأوراق
وتحويش الجمل
وتعبئة سلال المعرفة , والمكتبات
كي نتصدر الدعايات
أبداً ,
رسالتي تختلف عن أي شخص اّخر .
فلكل كاتب أسلوب ,, ومعاناة ومعايشة لا تشبه الاّخر
كذلك تعبيره , أسلوبه , معالجته لصراعه , وتحدياته مع الحياة , مع الطبيعة , مع المجتمع , مع السلطة القائمة ,
التفوق والصمود على تحديها يختلف كل واحد عن الاّخر , وأسلوب تعاطيه معها .
فلكل منا درجة من الإحساس , ومساحة من النار , وقدرة على تحمل الألم , ومداواة الألم , أي التكيف الإيجابي والسيطرة عليه .
المكان والزمان والمحيط والبيئة , والمناخ
والدرجة من الإحتراق , والأعماق التي وصلت له الجراح !؟
كثير من الكلمات لم أكتبها إلا بعد ما عشتها في العمق , ولدت في الداخل , ورددتها شفاهي ..
وأجمل الكلمات حين تكون من التجربة والمعاناة , صورها تعابيرها تشابيهها ورؤاها ...
لأن الكلمة تولد في العقل , يحضنها القلب , ويصيغها الفكر , فتستقبلها الأقلام .... وأجمل الكلمات لم نقلها بعد !؟
...................................
دمشق / 1975.... من خواطر زوجة معتقل سياسي .
#مريم_نجمه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟