|
هاجس الغزو الثقافي
طارق حجي
(Tarek Heggy)
الحوار المتمدن-العدد: 2522 - 2009 / 1 / 10 - 09:58
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
منذ نحو أربعين سنة وهاجس الغزو الثقافي يسيطر على تفكير الكثيرين في واقعنا. وعندما سقط تقسيمُ العالم إلى كتلةٍ شرقيةٍ وكتلةٍ غربيةٍ في نهايةِ الثمانينيات وبدأ العالمُ يتحدث عن ظاهرةٍ جديدةٍ سماها البعضُ (ثم إنتشرت التسمية) بالعولمة بدأنا نتحدث عن "العولمة الثقافية" ومخاوف إجتثاثِ ثقافتُها لخصوصياتنا الثقافية. وقد كتبت كثيراً في هذا الموضوع وكانت وجهة نظري أن أصحابَ المحصولِ المتواضعِ من الخصوصيات الثقافية هم المهددون فقط بسحقِ ثقافةِ العولمِة لثقافاتهم أما أصحابُ المحصولِ الثري من الخصوصيات الثقافية مثلنا والذين ترجع خصوصياتهم الثقافية لعواملٍ متصلة بالتاريخ وعوامل متصلة بالجغرافيا فإنهم يكونون مثل اليابانيين غيرَ معرضين لزوال الخصوصيات الثقافية الكبيرة لهم. وكنت أكررُ أن كلَ الأمثلةِ التي يعطيها البعضُ على تأثر اليابان ثقافياً برياحِ تغيرٍ من الخارج كانت تصبُ في خانة "البنود الثانوية" مثل تناول الوجبات السريعة وإرتداء الملابس الأمريكية إلى آخر هذه السلسة من البنود الثانوية أما العلاقاتُ الإنسانية والقيم المعطاة للكبار في السن والعلاقات الأسرية اليابانية وغيرها من القيمِ الأصليةِ ومن بينها فهمُ الياباني للعمل، كل ذلك لم يطرأ عليه أي تغيرٍ منذ ستين سنة كانت فيها اليابان ذات تعاملات عارمة مع الآخرين. ومع ذلك فإذا كان من حقِ البعض أن يتخوف على خصوصياتنا الثقافية في مواجهةِ ما يسمى بثقافةِ العولمٍة فإن الأمرَ مختلفُُ تماماً بالنسبةِ لقيمِ التقدم: فهذه القيم تجد كلها تأييداً من الأسس التي ترِتكز عليها خصوصياتُنا الثقافية إذ يستحيل أن يقول قائلُُ أن الأسسَ المصريةَ أو العربيةَ أو الإسلامية أو المسيحيةَ تقف بأي شكلٍ من الأشكالِ موقف التضاد مع قيمٍ مثل الوقت والإتقان وعالمية المعرفة وعمل الفريق وثقافة النظم عوضاً عن ثقافة الأفراد أو الإيمان بأن الإدارة هي أحد أهم أدوات صنع النجاح. بل إنني أتصور أن يزعم عديدون في واقعنا أن هذه القيم وجدت تعضيداً لها في تاريخنا قبل مئات السنين وقبل أن تأتي دورةُُ من دوراتِ الحضارة الإنسانية وتوظفها توظيفاً جيداً لصنع حياة أفضل. وقد يظن البعضُ أن ما أقوله في هذا الفصل قد يكون منطبقاً على معظم قيم التقدم ولكن يصعب إنطباقه على قيمة التعددية إذ يعتقد البعض أن التفكيرَ الديني الإسلامي يقوم على "وحدانية نموذج الصواب" – وهذا في إعتقادي خطأ بحت فهناك العديد من النصوص القرآنية التي تعضد التعددية ولعل أهمها النص الذي يشير إلى أن الله لو أراد أن يكون الناسُ على دينٍ واحد لفعل ذلك كما أن هناك العديد من النصوص الواردة في السنة التي يمكن أن تكون دليلاً على أن التعددية من سنن الحياة. وسيكون من الغريبِ للغاية وجود حوار حول "تضاد" بين خصوصياتنا الثقافية وقيم مثل الوقت أو الإتقان لأن زعماً كهذا سيكون بمثابة ترويج لقيم التخلف والبدائية. كذلك مما يدل على عدم وجود تضاد بين قيم التقدم وخصوصياتنا الثقافية أننا شهدنا خلال القرن الأخير فترات كان التواجد النسبي لمعظم هذه القيم في واقعنا أعلى منه في فترات لاحقة عندما تمت عمليةُُ يسميها البعض "تفكيك المجتمع المصري" فواكب ذلك إنخفاضُُ كبيرُُ في نسبةِ توفرِ قيمِ التقدمِ. وأذكرُ أنني كنت في الثمانينيات أعمل في أحدِ مراكزِ التقدمِ المبهرِ في جنوب شرق آسيا وكان الشعارُ العام للمؤسسات الإقتصادية في هذا الجزء من العالم أننا أمام مجموعتين بشريتين "المجموعة الصينية" و "المجموعة المالاوية" وكان السائد أن من يريد تكوين تنظيم عملٍ على درجةٍ عاليةٍ من الكفاءة فإن عليه أن يعتمد كلياً على العنصر الصيني لإنه يتقن العمل ويخلص فيه كما أنه مجبولُُ على العمل الجماعي ويبلغ تقديسه للعمل درجة عالية جداً. أما المجموعة الأخرى (وأفرادها مسلمون) فسماتها الأصلية الكسل وعدم الإتقان والتشرذم وعدم تقديس العمل. وكانت هذه المقولة شبه مطلقة حتى جاء رجلُُ واحدُُ في دولةٍ أكثر من سبعين بالمائة من سكانها من الطائفة المستبعد تميّزها في العمل وهي ماليزيا والتي يشكل المسلمون المنتمون للطائفة الثانية السواد الأعظم من سكانها وحقق معجزة وصول هذا الشعب لأعلى مستويات التميز في كل مجالات العمل، وإذا بنا في أقل من عشرين سنة نرى كلَ قيم التقدم مجسدةً في هذا المجتمع الذي كان قبل ذلك يغط في سباتٍ التخلفِ والعجزِ والكسلِ... وإذا بالعالم يكتشف حقيقتين كبيرتين لم يكن من الممكن تصديقهما من قبل: • الحقيقة الأولى أن التأخر ليس نتيجةً لحتميةِ بيولوجية وإنما لظروفٍ إن تغيرت تغيرت الأحوال كلية. • الحقيقة الثانية أن قيم التقدم يمكن أن تُزرع في بيئاتٍ مسيحية وبيئات بوذية وبيئات مسلمة بل وأنها ليست حكراً على أحد. وإذا أردنا أن نضيف الآن حقيقة ثالثة فهي أن كل الخصوصيات الثقافية الماليزية والمتعلقة بالعلاقات الإنسانية والعلاقات الأسرية وإستمداد القيم من الدين بقت كما هي في زمن الإزدهار ولم يحدث أي تضاؤل لها عما كانت عليه في زمن الإنحدار . حتى الذين يقولون أن ما حدث في ماليزيا كان بتأَثير الأقلية الصينية فإننا نقول لهم أن هذا الكلام لا معنى له إلا معنى أخر غير الذي تقصدونه فالمعنى الوحيد لهذه الملاحظة أن (التقدم) يمكن أن يحدث بالعدوى.وهي فكرة لا بأس بها على الإطلاق وأن كنت أعتقد أن دحضَها في النموذج الماليزي سهلُُ للغاية: فالأقلية الصينية كانت دائماً متواجدة في (ماليزيا أما الذي لم يكن متواجداً فهو الرجل الذي صنع هذا التغيير (محمد (مهاتير أو محمد محاضر.
#طارق_حجي (هاشتاغ)
Tarek_Heggy#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هويتنا .. بين البقاء والزوال
-
التعليم ... وصناعة المستقبل
-
مهازلستان
-
حول غياب العقل النقدي
-
حواراتنا .. بين الحضارة والفاشية
-
هل للإبداع والفكر -جنسية- ؟
-
نظرات في سلبيات الشعوب
-
نظرات في المسألة القبطية
-
علي شريعتي ونظرية الإستحمار
-
الملك والسيف
-
السعودية والإختيار الحتمي
-
لا للأحزاب الدينية
-
التقدم بين الثبات والتغيير
-
.دليل القارئ الذكي لعقل المتأسلمين
-
التعليم ... التعليم ... التعليم
-
الإسلام المحارب
-
العقل المسلم .. إلى أين؟
-
الإسلام بين النقل والعقل
-
الثقافة العربية والإقامة في الماضي
-
هوامش على دفتر الواقع 3
المزيد.....
-
-ذي تلغراف-: الولايات المتحدة قد تنشر أسلحة نووية في بريطاني
...
-
-200 ألف جثة خلال 5 سنوات-.. سائق جرافة يتحدث عن دفن الجثث ب
...
-
وليد اللافي لـ RT: البرلمان الليبي انحاز للمصالح السياسية وا
...
-
ميزنتسيف: نشر -أوريشنيك- في بيلاروس كان ردا قسريا على الضغوط
...
-
خوفا من الامتحانات.. طالبة مصرية تقفز من الطابق الرابع بالمد
...
-
ألمانيا وفرنسا وبريطانيا تدعو إيران إلى -التراجع عن تصعيدها
...
-
طهران تجيب عن سؤال الـ 50 مليار دولار.. من سيدفع ديون سوريا
...
-
محكمة مصرية تؤيد سجن المعارض السياسي أحمد طنطاوي لعام وحظر ت
...
-
اشتباكات مسلحة بنابلس وإصابة فلسطيني برصاص الاحتلال قرب رام
...
-
المقابر الجماعية في سوريا.. تأكيد أميركي على ضمان المساءلة
المزيد.....
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
المزيد.....
|