|
رومولوس العربي يبيع غزة
مهدي بندق
الحوار المتمدن-العدد: 2517 - 2009 / 1 / 5 - 01:44
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
للأديب السويسري العالمي فردريش دورنمات مسرحية بعنوان " رومولوس العظيم " بها مشهد في غاية الطرافة ، خلاصته أن ضابطا رومانيا أقبل منهكا من الجبهة لينهي إلي الإمبراطور النبأ الفاجع : لقد هزم الجيش ، وهاهي ذي روما تواجه خطر السقوط مالم يخرج الشعب ليفتديها بحياته .. فما كان من رومولوس إلا أن قال : لقد مات الرومان طيلة العصور فداء لعظمة الإمبراطورية ، أفلا يصح أن تبرهن الإمبراطورية على عظمتها بأن تختفي ليحيا الرومان ؟! والمغزى أن الأفكار العظيمة إنما ُخلقت للإنسان ، ولم ُيخلق الإنسان ليكون برهانا ً على عظمة الأفكار المحلقة في العالم ما فوق الواقعي Meta- reality . يقبل بهذه الحقيقة كل من آمن بأن الحياة البشرية تستحق أن تصان ، فهي الهدف من كل سعي ، والغاية لكل نضال مشروع . بيد أن السيد إسماعيل هنية ليس واحدا ً من أصحاب ثقافة الحياة هؤلاء ، ومن هنا فلقد جعل من العدوان الإسرائيلي المجرم فرصة لكي يسجل اسمه في لائحة الفيلسوف شوبنهور ( داعية الإنتحار فكريا ً ) بأن أصدر تصريحه الحماسي " ليمت كل الغزاويين و لتبق غزة " غير ملتفت إلى حجم التناقض اللغوي والوجودي في جملته ، ذلك أنه لو تحقق الجزء الأول من جملته- لا قدر الله – لكان عليه أن يوضح لمستمعيه الكرام الكيفية التي سيبقى بها الجزء الثاني . هل سيبقى القطاع خاليا ً من السكان؟! أم يتحول إلى قبر كبير شاهد على " عظمة "المقاومة ؟! أم تراه سوف يستخدمها أيقونة ً في عالم المثل الأفلاطوني؟! أم عساه يرتهنها " فكرة ً " لدى إيران مثلا ً لزمن مناسب ، بإيصال يحمل توقيع الجماعة الحمساوية التي ستختفي (تكتيكيا ؟ ) إلى أن تعود- كالإمام المستور - كي تباشر النضال ضد أعداء الأمة أحفاد القردة والخنازير ؟! قد يسأل قارئ : هل هذا وقت يمارس فيه النقد إزاء فصيل هو في مقدمة الصفوف التي تحمل لواء المقاومة المسلحة بالضد على العدو المحتل ؟ وماذا عن العدو ذاته ؟ أولم يكن العدو الجلاد الأولى بالإنتقاد من الشقيق الضحية ؟ في ملتي واعتقادي أن العدو لا ُينقد بل ُيحارب .. ولكن بالإسلوب المتيح لصاحبه تحقيق النصر لا الهزيمة ؛ وفي حالة حماس لا يتصور إلا " المتحمسون " أن ما تنخرط فيه هو الطريق الصحيح المؤدي للغاية المرجوة . فمن نافلة القول أن فصيلا ً للمقاومة المسلحة لا غرو يفقد ورقته الرئيسة - التي هي إمكانية الكفاح المسلح - ساعة أن يتحول إلى سلطة ،إذ تحل محل هذه الورقة أوراق السياسة والدبلوماسية ( هكذا فعلت منظمة التحرير بداية من مدريد وحتى أوسلو ) وربما ورقة المقاطعة الإقتصادية مع العدو ( هكذا فعل شعب الهند بقيادة غاندي ) لكن حماس بانقلابها على المنظمة الأم في حزيران 2007 قد وضعت نفسها ومعها القضية الوطنية في أشد المواقف وعورة ، الأمر الذي أغرى بها أطرافا ً إقليمية أخرى كي توظفها لحساب أجندتها الخاصة . وهكذا وبضربة إنقلابية واحدة عزلت حماس نفسها عن المجتمع الدولي الذي لا يعترف بغير منظمة التحرير ممثلا ً وحيدا ُ للشعب الفلسطيني ، وفي نفس الوقت فقدت استقلالية قرارها في ممارسة المقاومة المسلحة إلا بالقدر الذي ُ تعطي فيه الضوءُ الأخضرُ من القوة ِ الإقليمية الراعية ( محور إيران / سوريا ) وهو ضوء لا يعطيه هذا المحورُ إلا لحسابه هو يقينا ً، وليس لحساب الفلسطينيين . فإذا أضفنا إلى هذا وذاك أن شعب غزة – تحديدا ً – لا يمكنه تنفيذ سياسة المقاطعة الاقتصادية مع إسرائيل ( حيث يعتمد الغزاويون على أحفاد القردة في شئون الطاقة والغذاء والدواء ، بل والعمل ) لأدركنا أي هاوية سياسية ألقت فيها حماس نفسها بنفسها . في مثل هذا المأزق يغدو مفهوما ً تزايد ُ الدعوة إلى إعادة إنتاج ثقافة الإنتحار الجماعي ، تلك التي سربتها الميثولوجيا اليهودية للاوعي الجمعي العربي خلال العصور ، مثلا الإشادة بشمشون الذي هدم المعبد على رأسه ورؤوس أعدائه ( شجاعة فردية ! ) والترويج لأسطورة قلعة "موسادا " التي لاذ بها ألف مقاتل يهودي لينتحروا جميعا ً بديلا ً عن استسلامهم للجيش الروماني في القرن الأول الميلادي( بطولة جماعية ! ) والتلميح المستمر باقتراب معركة هر مجيدون التي ستنتهي بمقتل كل المحاربين ( الفناء مصير البشر!) وغير ذلك من الموروثات الثقافية ، التي تحتقر الحياة وترحب بالموت . وغير منكور أن العرب لم يجدوا صعوبة في تقبل هذه الثقافة خاصة في عصور الانحطاط ، مما لا يسمح المجال بعرض تفاصيله . وفيما تمكن المذهب الصهيوني ( العلماني ) من إنشاء دولة لليهود في فلسطين ، ولم يعد بحاجة لمثل هذه الأساطير ؛ فلقد رأى أنه من المناسب أن يصد ّر تلك البضاعة البائرة عنده ، للسكان الأصليين كمتفجرات رمزية تضاف إلى القنابل والرصاص ، وتدمير المنازل ، واقتلاع أشجار الزيتون ، واعتقال الشباب بأوهى الأسباب والعلل . والحاصل أن الفلسطينيين – وتحديدا ً أهالي غزة – قد وجدوا أنفسهم بين نقيضين ، الأول :ترحيبهم بالموت فرارا ً من قسوة العيش المفروضة عليهم ، والثاني : تراهم فيه كأبناء طبيعيين للحياة يطلبونها في أي مكان .. ولكن أين ؟ إسرائيل تحاصرهم وتمنعهم من العمل عندها . وحماس تمنعهم عن أهلهم في الضفة . لم يبق إلا مصر . غير أن مصر دولة لها حدودها ودستورها وقوانينها ، ومن المحال أن ترقص على موسيقى إسرائيل التي تتمنى أن تفرّغ فلسطين من سكانها جميعا ً ، ومن المحال أيضا أن تغفل عن مخطط حماس – ومن ورائها إيران و الأخوان – فتلغي حدودها وتشطب سيادتها وهويتها كدولة مدنية ، لتصبح مجرد إمارة من إمارات الخلافة الإسلامية / تحت التأسيس ! فأين يذهب إذن أهل غزة ؟ لا يستطيع أحد أن يجيب عن هذا السؤال المصيري غير الغزاويين أنفسهم ، ومع ذلك فثمة حقائق لا يمكن إغفالها ، ولا يمكن أن يتحرج محب عن البوح بها ، وأول هذه الحقائق أنهم يعلمون من واقع التجربة التاريخية المريرة أن " من خرج من داره قل مقداره " بنص المثل الشعبي ، فالذي يحرضهم على الخروج الثاني( الأول كان عام 1948) هو عدو لا غش في هويته . وثاني تلك الحقائق أنهم أمسوا على بينة من أمرهم فيما يتعلق باختيارهم الانتخابي ، فإذا اختاروا حماس في المرة القادمة فهذا شأنهم ولا تثريب عليهم ، إنما لا تثريب منهم بعد ُ على مخالفيهم ممن يرون أن إطلاق الصواريخ الاستعراضية ليس هو السبيل القويم لتحرير الأرض ، سيما وردود أفعال العدو أبشع من أن تذكر ، وردود أفعال الأهل أضعف من أن يشار إليها . أما ثالث الحقائق فتتعلق بثقافة المقاومة التي هي إرادة حياة لا إرادة موت ، فبناء مصنع وقارب صيد ومدرسة والسعي لإنجاز الوحدة الوطنية أفعال مقاومة من الدرجة الأولى ، وهي أفعال تقربنا من يوم التحرير ، بقدرما تبعدنا عنه صيحات الحناجر ، والأحزمة الناسفة ، والصواريخ التي إن أصابت فلا تصيب دبابة أو طائرة بل مدنيا ً تقوم الدنيا لمقتله ولا تقعد ! على أهل غزة إذن ، وقبل أن يسألوا غيرهم " إلى أين نذهب ؟ " أن يسألوا السيد هنية : هل حقا ً تريدنا أن نموت جميعا ً لتبقى غزة لك وحدك ؟! وساعتها ستبيعها لمن يا رومولوس العرب؟!
#مهدي_بندق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قصيدة : القادمون للهلاك
-
إسرائيل تعلن الحرب الثقافية على اليونسكو
-
الحوار المتمدن يصحح الممارسة اللغوية المعاصرة
-
حوار مع الشاعر المفكر مهدي بندق - أجراه وائل السمري
-
التفكيك ضرورة حياتية للعالم العربي
-
قراءة يسارية في أزمة الرأسمالية العالمية
-
سقوط امبراطورية اليانكي
-
التعديلات الدستورية القادمة في مصر
-
تفكيك الثقافة العربية بين المفكرين والمؤرخين الجدد 2
-
تفكيك الثقافة العربية بين المفكرين والمؤرخين الجدد 1/2
-
هيا بنا نتفلسف x هيا بنا نغيّر العالم
-
ثقافة الإرهاب الفكريّ : الجذور والثمار
-
كتاب البلطة والسنبلة - نقد النقد
-
مستقبل مصر ليس وراءها في الصحراء ، بل أمامها صوب البحر
-
كيف يعرقل المثقف التقليدى مسيرة الديمقراطية
-
هل هو محتوم أن ينجح النموذج الأيرلندي ويخفق لبنان العربي؟
-
بيروت : طائر الفينيق أسطورة العصر
-
ماذا أحجم حزب الله عن إعلان الجمهورية الإسلامية في لبنان؟
-
الفاشيون قادمون إلي لبنان وغيره
-
هل الفلسطينيون قادرون علي تجاوز عبثية الحياة ؟
المزيد.....
-
قائد الثورة الاسلامية يزور مرقد الإمام الخميني (ره)
-
خطيب المسجد الأقصى يؤكد قوة الأخوة والتلاحم بين الشعبين الجز
...
-
القوى الوطنية والاسلامية في طوباس تعلن غدا الخميس اضرابا شام
...
-
البابا فرنسيس يكتب عن العراق: من المستحيل تخيله بلا مسيحيين
...
-
حركة الجهاد الاسلامي: ندين المجزرة الوحشية التي ارتكبها العد
...
-
البوندستاغ يوافق على طلب المعارضة المسيحية حول تشديد سياسة ا
...
-
تردد قناة طيور الجنة على القمر الصناعي 2024 لضحك الأطفال
-
شولتس يحذر من ائتلاف حكومي بين التحالف المسيحي وحزب -البديل-
...
-
أبو عبيدة: الإفراج عن المحتجزة أربال يهود غدا
-
مكتب نتنياهو يعلن أسماء رهائن سيُطلق سراحهم من غزة الخميس..
...
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|