|
في مساءلة التراجع الحضاري للأمتنا العربية : هل سببه تخليها عن دينها أم سببه ارتباطها بدينها ؟
إدريس جنداري
كاتب و باحث أكاديمي
(Driss Jandari)
الحوار المتمدن-العدد: 2517 - 2009 / 1 / 5 - 07:27
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
عاش التاريخ العربي منذ بداية القرن الخامس عشر الميلادي و حتى الآن أسوأ فتراته على السواء ؛ فقد تراجع العرب إلى حدودهم القديمة بعد أن اكتسحوا العالم من شرقه إلى غربه ؛ و دخل التاريخ العربي في ما يطلق عليه المؤرخون عصور الانحطاط على جميع المستويات . لقد تساءلت النخبة العربية المثقفة عن هذا التراجع بكل حيرة ؛ بل لقد تحول التساؤل إلى إشكال فكري صاغ تيارات فكرية مختلفة ؛ كل تيار يحاول مقاربة الإشكال من زاويته الخاصة . لكن العودة إلى مجموع هذه التيارات تؤكد أن مقاربة إشكال التراجع التاريخي الحاصل كانت في أغلبها تحمل حنينا إلى الماضي ؛ باعتباره بديلا للحاضر المتلاشي ؛ و دائما كان التذكير بما عرفته الأمة العربية من ازدهار في ماضيها . و حينما نذكر الماضي هنا فنحن نقصد أن نسبة كبيرة من هذه التيارات الفكرية كانت تعتبر أنه لا صلاح لحال هذه الأمة إلا بما صلح به حال سلفها ؛ و السلف هنا يرتبط لا شعوريا بالدين ؛ باعتباره القوة الخارقة التي صنعت التاريخ العربي في اعتبار هؤلاء . لكن يمكن أن نتساءل لماذا تعتبر مرحلة القرن الخامس عشر بداية التراجع الحقيقي و الواضح للحضارة العربية ؟ هل كان الأمر مصادفة أم إن منطق التاريخ العقلاني هو الذي حكم عليها بالتراجع ؟ هل السبب في تراجع الحضارة العربية يكمن في تخليها عن دينها –كما يؤكد السلفيون- أم على العكس من ذلك يكمن في ارتباطها بدينها خلال مرحلة بدأ التاريخ الإنساني يعرف تحولات عميقة ؛ تسعى إلى القطع مع القرون الوسطى باعتبارها مرحلة الفكر الديني ؟ هل يمكن ربط التراجع الحاصل في الحضارة العربية منذ هذه المرحلة بخسارة الثقافة العربية لرهان القطيعة مع الفكر الديني و التأسيس في المقابل لفكر يستلهم منطق التفكير الإنساني الحديث ؛ الذي بدأ يتبلور منذ هذه المرحلة ؟ إنها أسئلة كثيرة تراود كل باحث ؛ و هو يسعى إلى مقاربة ذلك التراجع الكبير الذي دخلت فيه حضارة ؛ توسعت عبر العالم حاملة قيما فكرية و سياسية و دينية جديدة ؛ لكن الجواب يرتبط في العمق بحس تاريخاني يسعى إلى قراءة الأحداث على ضوء التحولات التاريخية بشكل مادي في منأى عن أية مثالية ؛ يمكنها أن تكرس الأجوبة الجاهزة في الثقافة العربية . لقد تم التركيز غالبا على مرحلة القرن الخامس عشر في مقاربة التراجع الحضاري الذي دخلت فيه الأمة العربية ؛ رغم أن هذا التراجع بدت بوادره قبل هذه المرحلة ؛ لكن (سقوط الأندلس ) و ما رافقه من طرد للعرب المسلمين ؛ و استئصال لكل مظاهر الحضارة العربية من الأندلس كان أبرز حدث تاريخي يؤرخ للتراجع الحضاري العربي . و خلال نفس المرحلة كان الغرب الأوربي يؤسس معالم مرحلة تاريخية جديدة على أنقاض الحضارة العربية الإسلامية التي دخلت في التلاشي ؛ و قد كانت معالم الحضارة الجديدة تشي منذ البداية بتحولات جذرية يدخل فيها التاريخ الإنساني ؛ عبر القطيعة مع مجموع أفكار و تصورات القرون الوسطى ؛ و ذلك عبر التأسيس للمفهوم الجديد للإنسان و الكون و الزمن و الدين و الدولة ... فمن الثابت تاريخيا أن منظومة الحداثة ؛ قد قطعت مع منظومة التفكير القروسطوي ؛ التي تعتبر آخر مرحلة من مراحل القطيعة الابستمولوجية مع الماضي ؛ وانفتحت بالمقابل على عصر جديد يقوم بالأساس على تفكك بطيء لنمط الإنتاج الإقطاعي ؛ وانهيار متواصل لهيمنة طبقة النبلاء ؛ اقتصاديا و ثقافيا وسياسيا ؛ وولادة نمط الإنتاج الرأسمالي الذي ما فتئ يراكم الفتوحات اعتمادا على طبقة اجتماعية جديدة هي البورجوازية ؛ التي تحمل مشروعا مجتمعيا جديدا أكثر تقدما بما لا يقاس مع سابقه ؛ يرتكز على أساس حرية التجارة ؛ وحرية الملكية الفردية اقتصاديا ؛ وعلى محاربة الاستبداد ؛ والإيمان بسيادة الشعب ؛ والتبشير بالمساواة والديمقراطية ؛ اجتماعيا وسياسيا ؛ وعلى الإيمان بالعقل وسيلة لمعرفة أسرار الكون ؛ وإخضاعه لإرادة الإنسان . بالإضافة إلى تشجيع روح الابتكار والتجديد والمخاطرة في سبيل معرفة المجهول؛ والسيطرة عليه . لقد تحققت –إذن- ثورة كبيرة في مختلف أشكال التفكير و الممارسة ؛ و انفتحت شهية الإنسان لاكتشاف العوالم المجهولة التي كان يحرم الفكر الديني ارتيادها باعتبارها من اختصاصه ؛ يبث فيها بأمر إلهي . في المعرفة : تحقق تطور كبير في هذا المجال ؛ لا يمكن أن يقاس بما سبقه ؛ فقد " ظهرت طرائق و أساليب جديدة في المعرفة ؛ قوامها الانتقال التدريجي من المعرفة التأملية ؛ إلى المعرفة التقنية ". (1) في الطبيعة : وقد كان لنموذج المعرفة الجديد الذي فرضته الثورة التقنية الجديدة كبير الأثر على نظرة الإنسان إلى الطبيعة ؛ فمقابل طبيعة تمثل في العصور الوسطى نظاما متكاملا ؛ يتسم بالاتساق الأزلي ؛ نجد طبيعة جديدة يتحكم فيها الإنسان ؛ عبر عقليته الحسابية . " وقد تمثل هذا التحول المفصلي .. في الانتقال من مركزية الأرض إلى مركزية الشمس ؛ مفتتحا الانتقال الحديث من العالم المغلق إلى الكون اللانهائي " . (2) في الزمن والتاريخ : وقد كان للنظرية الجديدة في المعرفة و الطبيعة كبير الأثر على ظهور نظرية جديدة في الزمن والتاريخ ؛ الذي أصبح للإنسان دور كبير في صناعته " فقد أصبح التاريخ سيرورة و صيرورة أي مسارا حتميا تحكمه و تحدده و تفسره عوامل ملموسة ؛ كالمناخ والحاجات الاقتصادية للناس ؛ أو حروبهم وصراعاتهم من أجل الكسب " . (3) في الإنسان : كان للثورة المعرفية الجديدة ؛ سواء في المعرفة أو في الطبيعة أو في الزمن والتاريخ ... تأثيرا مباشرا على صياغة صورة جديدة للإنسان ؛ كسيد للكون ؛ يمتلك الكثير من القدرة على تشكيله على طريقته الخاصة . وبذلك فقد أصبحت للإنسان الحديث " قيمة مركزية وعملية ؛ ففي مجال المعرفة أصبحت ذاتية العقل الإنساني هي المؤسسة لموضوعية الموضوعات ؛ وتم إرجاع كل معرفة إلى الذات المفكرة أو الشيء المفكر فيه ؛ أو الكوجيتو " . (4) في ظل هذه التحولات الجذرية التي مر بها التاريخ الإنساني ؛ كان الفكر العربي يعيد إنتاج منظومة القرون الوسطى ؛ معتبرا أن النص الديني هو منبع المعرفة الإنسانية بمختلف أشكالها . لقد كان يحدث هذا في مرحلة وصل خلالها الفكر الإنساني إلى قمة رشده ؛ رافضا كل وصاية سماوية توجهه ؛ باعتبار أن الحقيقة في كل شيء تبنى بشكل عقلاني و لا تمنح بشكل (لدني). من هذا المنظور يمكن أن نفهم التراجع الكبير الذي دخلت فيه الحضارة العربية ؛ إنه تراجع يرتبط بتقوقعها حول تصورات دينية عتيقة خلال مرحلة تاريخية تتخذ المعرفة العلمية سبيلا لاكتشاف الكون و السيطرة عليه بهدف توجيهه لخدمة مصالحها . ففي الوقت الذي دخلت العقلية العلمية على الخط ؛ محاولة تفكيك أساطير النص الديني حول الإنسان و الكون و التاريخ ... كانت العقلية الدينية في الثقافة العربية تعيد الاعتبار لهذا النص و تمنحه سلطة أوسع ؛ باعتباره يحوي كل علوم الدنيا و الدين . و كل من يخالف هذا النص يعتبر محدثا لسنة سيئة ؛ يقع عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القامة ؛ و في نفس الآن اعتبرت كل محافظة على منطق هذا النص استحداثا لسنة حسنة ؛ أجرها و أجر من عمل بها ؛ لمن استحدثها إلى يوم القيامة . و ارتباطا بمنطق النص الديني هذا دخل الفكر العربي في إعادة إنتاج المنظومة اللاهوتية القديمة ؛ باعتبارها أرقى ما وصل إليه الفكر الإنساني في اعتباره ؛ و بذلك ساد الجمود في الثقافة العربية قرون طويلة ؛ حتى اعترفت به هذه الثقافة نفسها و أطلقت عليه اسم الانحطاط . و من منظور استحداث السنة الحسنة طلبا لأجرها و أجر من عمل بها ؛ تم التفكير في الخروج من هذا الانحطاط باعتماد نفس منطق النص الديني ؛ لكن هذه المرة تم التفكير في العودة به إلى أصوله الأولى . و قد تكرست سلطة النص الديني خلال التاريخ المعاصر بشكل أفدح من الأشكال السابقة بظهور ما يسمى بالحركات الإسلامية ؛ التي تفتخر بأنها تشكل صحوة لهذا النص ؛ و استعادة للمكبوت الديني القديم . و خلال كل هذه المراحل كان الفكر العربي يفشل في الارتباط بروح العصر ؛ و يكرس روح الماضي في شكل سلفي باهت ؛ يقتل في الحاضر روح الخلق و الإبداع ؛ و يفتح لمستقبل فكري مظلم سمته التردي الشامل . و هذا ما ينعكس بشكل مباشر على واقعنا الذي يعاني من جميع أشكال التخلف ؛ سياسيا عبر تكريس الاستبداد و غياب أي أفق للديمقراطية ؛ و اقتصاديا عبر تكريس اقتصاد الريع المتخلف و غير المنتج ؛ و اجتماعيا عبر تكريس نموذج القبيلة و العشيرة و الروابط الدموية ؛ و ثقافيا عبر تكريس الخرافات و الشعوذة و الفكر الغيبي التواكلي و القدرية العمياء و الدروشة ... إن حاضر أمتنا العربية يعاني جميع أشكال الاختلال ؛ الأمر الذي يهدد في المستقبل القريب بانفجارات خطيرة تقودها شعوب تعيش بأجسادها في العصر الحديث بينما ترتبط ثقافيا ووجدانيا بعصور غابرة ضاربة في القدم ؛ تستعير منها أشكال التفكير و الشعور و الممارسة . في ظل هذا الوضع المتردي الذي نمر به ؛ أتساءل –كعادتي- عن مسؤولية المثقف التنويري ؛ الذي ينهل من الفكر الحديث ؛ و يمتلك رؤية فكرية حديثة هل يقف متفرجا على ما يحدث متذرعا بعدم قدرته على التواؤم مع شعوب تعرف القرن الثاني الهجري أكثر مما تعرف عصرها ؟ أم إن مسؤوليته مضاعفة الآن أكثر من أي وقت مضى ؛ باعتباره مثقفا نقديا ؛ يفضح كل أشكال التردي السائد ؟
الهوامش : 1 – محمد سبيلا – الحداثة و ما بعد الحداثة – دار توبقال للنشر – ط:1- 2000- ص: 8 . 2- نفسه – ص: 9 . 3- نفسه – ص: 11 . 4- نفسه – ص: 13 .
#إدريس_جنداري (هاشتاغ)
Driss_Jandari#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في حاجة الفكر العربي المعاصر إلى استلهام روح التنوير النهضوي
...
-
من الشورى إلى المستبد العادل : الفكر الديني و تكريس دولة الا
...
-
الحلاج .. في صلبه المباغت
-
الديمقراطية بناء ثقافي و ليست فقط صناديق اقتراع .
-
العلمانية و الدولة المدنية في الثقافة العربية : المشروعية ال
...
-
تأويل النص الديني و تكريس الرجعية في الثقافة العربية
المزيد.....
-
مصادر: ميرتس مرشح التحالف المسيحي لمنصب المستشار
-
ماما جابت بيبي.. تردد قناة طيور الجنة Toyor Aljanah 2024 علي
...
-
بيان الجهاد الاسلامي حول احداث اليوم في لبنان
-
حركة الجهاد الاسلامي: العملية الغادرة التي نفذتها اجهزة الكي
...
-
خبير يهودي يتوقع نشوب حرب أهلية في الكيان المحتل
-
رئيس وزراء الإحتلال الأسبق ايهود باراك: الإطاحة بوزير الحرب
...
-
المقاومة الإسلامية في لبنان تستهدف موقع الراهب بقذائف المدفع
...
-
لماذا يصوت مسلمو أميركا لمرشحة يهودية بدلا من ترامب وهاريس؟
...
-
غدا.. الأردن يستضيف اجتماعا للجنة الوزارية العربية الإسلامية
...
-
بعد دعمها لفلسطين.. منظمة أوقفوا معاداة السامية تختار غريتا
...
المزيد.....
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
-
جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب
/ جدو جبريل
المزيد.....
|