|
بين النسبي و المطلق، كيف يجزم الإنسان بقناعاته
كامل كاظم العضاض
الحوار المتمدن-العدد: 2511 - 2008 / 12 / 30 - 03:23
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
1. تمهيد: ليس في هذا المقال كشف جديد ولا إضافة مستجدة في مجال المعرفة، بل هو محاولة للمساهمة في الإيضاح والتطوير، بعيدا عن التعقيد الفلسفي اللغوي والتجريبي والإنطباعي والإيماني الذي يغلّف المفاهيم والرؤى والمواقف الجازمة منها والمشككة واللاأدرية، بل ويغطي حتى الحقائق التي تسمى حقائق، بإعتبارها محسوسة أو ملموسة أو مشاهدة أو مسموعة أو معاشة أو موصوفة، كأشياء مادية أو معنوية. ولكي نتجنب السرد أو الغوص في الفلسفات والأديان والعلوم، بشتى مذاهبها ومدارسها وأدواتها التحليلية والوصفية، والتي حاولت، ولا تزال تحاول أن تفسّر ظاهرة الوجود والسلوك الإنساني، الفردي والجماعي، إزاءها، لابد من تكثيف البحث وإختصاره بجانب واحد، يجيب على سؤالين؛ الأول هو متى وكيف تكون المفاهيم والحقائق التي تنتجها الخبرة والمعرفة الإنسانية، نسبية أو مطلقة؟ والثاني هو ما تأثير الكشف عن نسبية أو إطلاقية المفاهيم والحقائق على تشكيل قناعات الإنسان ومواقفه الجازمة والمشككة إزاءها؟ وفي حالة نفي الصفة الإطلاقية عن تلك المفاهيم والحقائق، ثمة سؤال ثالث يفرض نفسه؛ كيف إذن تتثبّت قناعات الإنسان حولها؟ 2. متى وكيف تكون المفاهيم والحقائق نسبية أو مطلقة؟ دعنا أولا، نحدد معنى كلمة كل من المفاهيم والحقائق، وهنا نحن لا نتحدث عن مفهوم المفهوم، ولا عن حقيقة الحقيقة، إنما عن التعريف اللغوي لهاتين الكلمتين؛ فكلمة مفهوم، وجمعه مفاهيم أو مفهومات، هي كلمة مشتقة من الفعل فهم، أي أدرك، أي عقل، أي عرف عقليا، وليس باللمس أو الشم أو البصر أو التذوّق، فكلمات، مثل، الحرية، العدالة، المساواة، الخير، الشر، الظلم، ( وهو غير الألم الجسدي )، السعادة، البؤس، الإيمان، الكفر، الحب، الكراهية؛ هذه كلها كلمات للتعبير عن مفهومات عقلية أو معقلنة، أي أنها تدرك عقليا من خلال إحساسات وسلوكيات إنسانية، مرّت بحالات معينة، فتم التعبير عنها، عبر الأداة اللغوية؛ بتلك الكلمات؛ فهي تعبّر، إذن، عن مفهومات أو مفاهيم. ولكن هذه المفاهيم هي تعميمات قد تفهم كتعاريف عامة، بيد أنها تنطوي على تخصيصات، قد لا يمكن حصول تطابق في فهمها. لنأخذ مثلا، كلمة العدالة؛ هل المقصود بها خضوع كل البشر الى نص قانوني واحد، أم إنهم يخضعون الى نفس الثواب والعقاب لجريمة أو جناية واحدة، أم أن النصوص القانونية تختلف، والثواب والعقاب يتأثران بدوافع وظروف الفعل، إذا كان مثابا أو كان يستحق العقاب. وعلى ذلك، فإن المفهوم العقلاني للعدالة يجب أن يحيط بكل هذه الجوانب. أما إذا أطلق كتعميم مجرد، صار نسبيا، ذلك لأن الأمر يعتمد على أية تخصيصات من العدالة أنت تتحدث، وفي أي مكان أو زمان وفي أية ظروف وعن أي موضوع وبأية آثار؟ كذلك الحال، لو أخذنا كلمة المساواة، فما هو المقصود؟ هل الناس متساوون على الإطلاق؟ بماذا يتساوون؟ في الطول، في العرض، في اللون، في الجنس، أم في الحقوق؟ وأية حقوق؟ الطبيعية، الشخصية، الدستورية أم ماذا؟ وهل هذه الحقوق مطلقة أم مقيدة، مثل حق الحرية. ماهو مدى التقييد لهذا الحق وفي أي مجال؟ فحقوق التملك هي غير حقوق التعبير عن الرأي، وحقوق التصرف بالأموال والأنفس، غير حقوق العمل والإضراب، وغيرذلك. وعلى ذلك هناك مستويان للمفاهيم، الأول، هو التعريف العام للحالة، وهذا التعريف هو موضوع للفحص الفلسفي،(أنظر،أير،1)، والثاني، هو تخصيصات المفهوم، كما قد يتضمنها التعريف العام، وهذا هو موضوع للإستقصاء التجريبي الفلسفي. وفي كل الحالات يبقى هذه المفهوم، كما هي بقية المفاهيم، نسبيا وغير مطلق، وذلك لأنه إحتمالي، أي أن حدوثه إحتمالي، أي يعتمد على حالات محددة بزمانها ومكانها وظرفها؛ ومعروف بأن الزمان والمكان وحتى الظروف، لا تكون محدودة، بل هي لا نهائية. ومن هنا ندرك إن المفاهيم نسبية، ولا يمكن أن تعبّر عن الحقيقة إلا بمنظور محدد في زمان ومكان محددين. وماذا عن المفهوم الديني القاطع والمطلق لدى المؤمنين عن الوجود الإهي، هل هو نسبي أيضا؟ هنا تعجز الفلسفة العقلية وكذلك التجريبية، كما يعجز حتى اللاهوت، عن الإثبات أو النفي، ذلك لأن الفلسفات والعلوم العقلية والتجريبية تقوم على السببية، أي أنها تقول بأن لكل شي سبب أو مسبب، وأن حلقات التسبيب هذه تقف عند حالة الله، اي أن الله لا يمكن أن يكون مسببا بشي يسبق وجوده، فهو أزلي وكلي الخير، ويتمتع بمواصفات، لايمكن أن يتماهى معها كائن من كان، فكمالات الله مطلقة. فما هو التفسير العقلي، في هذه الحالة، إذن؟ لايوجد تفسير عقلي، بل هو تفسير إيماني أو إلهامي. ولكن المعرفة الإيمانية، في رأينا، يمكن أن تتحول الى معرفة عقلية؛ وهذا إستنباط يقيمه هذا الكاتب من خلال دراسة أطروحة الفيلسوف اللبناني، عادل ضاهر، في كتابه الواسع الحديث، "الفلسفة والمسألة الدينية"، (أنظر،2)،حيث يجد الضاهر أن الفلسفة والعلوم التجريبية تعجز أيضا عن إثبات الإلحاد. وإذا ما خُيّرنا ما بين الإيمان والإلحاد، فالأخير، أي الإلحاد، لايحلّ لغز الوجود، بل على العكس، إنه سيجرد الإنسان من أية مرجعية أخلاقية عليا، وسيحوّل الوجود الإنساني بلا غاية و لاسقف أعلى للقيم السماوية العليا. وإذا كان للعقل السليم أن يختار بين وجود، له مرجعية، تشكل حافظة للأخلاق والعدل والقيم الإنسانية، وبين إلحاد بلا مرجعية منزّهة، ولا حافظة لقوانين الحياة لتعمل بسببيتها المعروفة، إنما يتركها تسير بلا بوصلة، عندئذِ سيكون خيار الإيمان بالله هو الخيار المتسق مع الفكر العقلاني من جهة، والعلوم التجريبية، من جهة أخرى، طالما إن الإنسان، في سلوكه الدنيوي، يظل يستند الى معايير العقل وحدها للمفاضلة بين الخير والشر، وليس للإستلاب الفقهي الديني القائل بأن الإنسان مجبر وليس مخير! وماذا عن الحقائق الملموسة والمحسوسة؟ فهذه كينونات مادية يمكن التأكد منها من خلال لمسها أو مشاهدتها أو الإحساس بها، أو تذوقها، فهل هي نسبية أيضا؟ لا شك إن المحسوسات، كالمرئيات والملموسات تفرض نفسها ككيانات مادية لها وجود زمكاني محدد. فهذه تدخل الإدراك البشري، حتى بدون بذل جهد فكري لعقلنتها. فالجدار، جدار، والطاولة، طاولة، والشمس تشرق، فهي تشرق، وحين تغيب فهي تغيب. وهذه كلمات إشتقت من أفعالها الأولية لوصف حقائق تبدو ثابتة. ولكن هل هي حقائق ثابتة فعلا؟ فلو نظرنا الى الطاولة من زاوية معينة لرأينا أبعادها تبدو مختلفة، بل حتى لو لمسناها؛ قد تبدو صلابتها مختلفة، حينما نلمسها بأصابعنا، ولكن لو تحسسناها من خلال الجلوس عليها، لبدت صلابتها مختلفة. كما هي الحال مع الجدار، فأبعاده تختلف بإختلاف الزاوية التي ننظر منها إليه. بل يمكن القول بأن الحواس البشرية، كالنظر، كثيرا ما تكون خادعة أيضا. ولنأخذ شروق الشمس، مثالا، حينما تسأل شخصا ما، هل ستشرق الشمس غدا، لأجاب بدون تردد نعم ستشرق،( وجود الغيوم لا ينفي أن الشمس ستشرق، طبعا )، وإذا سألته لماذا تعتقد إن الشمس ستشرق غدا؟ لأجابك بأن القوانين الكونية ثابتة ولا تتغير. ولكن يبقى السؤال، ومن أدراك أنها ستبقى ثابتة ولا تتغير؟ وهنا سيتوقف، وقد يقول، هي هكذا!؟ أو ان الله سخرها؛ هذه مسألة تتعلق بالإيمان وليس بالعقل، (انظر، برتراندرسل،3). تأسيسا على ذلك، تكون الحقائق المحسوسة والمادية حقائقا، ولكن لا يمكن التثبت منها إلا بعد أن ننظر إليها من جميع الزوايا، وبعضها، كشروق الشمس، هي حقائق، لكنها هي أيضا حقائق إحتمالية، قد لا تتكرر، لأن لا أحد يضمن، وإن كان يؤمن بالله، بأنه سيستمر بتسخيرها أم لا؟ إذ لا رقيب على إرادة الله. 3. كيف، إذن، تتثبّت قناعات الإنسان حولها؟ الإنسان كائن مفكّر ومجرب، لكن القوة الفكرية أو العقلية تتباين بين الناس، حسب ملكاتهم العقلية وثقافاتهم وبناءاتهم النفسية. كما إن البشر يختلفون ليس فقط في نوعية وكمية التجارب التي يخوضونها، بل أيضا في تفسيراتهم لتجاربهم. فالأكثر حصافة وثقافة وملكه عقلية، قد يعقلن المفاهيم التي يتعرض لها، والتجارب التي يمر بها هو أو غيره، بصورة تقوده أما الى النفي أو الإيجاب أو الجزم المشروط، وليس المطلق. أي أن قناعاته ليس للمفاهيم فقط؛ إنما قد تطال الحقائق المسلم بها أيضا، ستكون شرطية وغير مطلقة. أما من لا تتوفر له هذه الملكات العقلية العالية، فهو سيجزم جزما مطلقا ونهائيا بما يسمع من مفاهيم وما تمرّ به من تجارب مرّت عليه أو على غيره أيضا. إن هذه النسبية في المفاهيم، والمشروطية في الحقائق، ( التي تبدو مفروغا منها في زمان ومكان معينين )، تعرضت كلها للمراجعات، بل وإلى الدحض عبر التطور التأريخي والعقلي، بما فيها المفاهيم العلمية حول الكون والعلم والحياة، فالنظرية النسبية دحضت الكثير من مفاهيم الفيزياء الطبيعية السابقة، وهناك من يحاول أن يدحض نسبية أنشتاين بنسبية مشروطة. وكذا الحقائق الكونية والمادية، فحالما تتغير شروطها تتحول الى حقائق من نوع آخر مشروطة، مرة أخرى، بزمانها ومكانها. إن التطور العقلي البشري والإنجازات العلمية الباهرة، في عالم متغير، لا يتسم بالثبات منذ الوعي بالوجود، كلها أفضت الى البرهنة النسبية على عقم الأفكار والأنظمة المطلقة والشمولية والدكتاتورية، ذلك لأن التغيّر هو من سمات ديالكيتك الوجود، منذ وعاه الإنسان. فمن يملك الحقيقة المطلقة، إذن؟ لا أحد، أنما هي مطلقة، حينما تكون قيم عليا ذات مرجعية غير بشرية، وأفكار وآراء وتوصيفات بشرية نسبية، لها الأرجحية العقلية في زمان ومكان محدد، وذلك عند تستوفى شروط فحصها فحصا علميا. وعلى ذلك، فإن من يتنطع بالقول، أنه يملك الحقيقة كلها، فإنه يدعي ما ليس موجودا. ومن هنا إنطلق الفهم العقلاني، في المجال الإجتماعي/السياسي/الإقتصادي، بأن النظم الديمقراطية هي التي تتماهى مع العقلانية والعلم، ذلك لأنها النظم الوحيدة التي لا تسمح فقط لمواهب البشر بالتفتح والتلاقح والإنصهار، إنما أيضا، لأنها متسقة مع متطلبات التغيّر الديالكتيكي للحياة والوجود، طالما هو وجود مستمر؛ أي أن سماته التناقص والتوفيق، ثم التناقض والتوفيق ثانية، وهكذا، بحلقات لا تنتهي، ذلك لأن الحياة البشرية، كجزء ديناميكي من هذه الوجود، هي دفق لا يتوقف؛ إلا بالموت؛ فالأنظمة المستبدة والمحتكرة والطاغية، تشكل توقفات قسرية لا تلبث حتى تختنق بدفق الحياة المستمر؛ فهذه النظم الكابحة لا تلبث قوتها النسبية حتى تنهار، فيواصل دفق الحياة سريانه الى الأبد غير المنظور.
د.كامل العضاض ديسمبر2008 [email protected] مراجع مختارة: 1. Alfred Jules Ayer, “Language,Truth and Logic”, Wadham College, Oxford, January,1946. 2. عادل ضاهر، "الفلسفة والمسألة الدينية"، الطبعة الأولى2008، بيروت، لبنان. 3. Bertrand Russell, “On Induction”, the Academy Library, London, UK.
#كامل_كاظم_العضاض (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الحذاء لا يبني وطن!
-
حوارية الحوار المتمدن
-
نحو استراتيجية لبناء تيار ديمقراطي علماني في العراق
المزيد.....
-
مجلس الوزراء السعودي يوافق على -سلم رواتب الوظائف الهندسية-.
...
-
إقلاع أول رحلة من مطار دمشق الدولي بعد سقوط نظام الأسد
-
صيادون أمريكيون يصطادون دبا من أعلى شجرة ليسقط على أحدهم ويق
...
-
الخارجية الروسية تؤكد طرح قضية الهجوم الإرهابي على كيريلوف ف
...
-
سفير تركيا في مصر يرد على مشاركة بلاده في إسقاط بشار الأسد
-
ماذا نعرف عن جزيرة مايوت التي رفضت الانضمام إلى الدول العربي
...
-
مجلس الأمن يطالب بعملية سياسية -جامعة- في سوريا وروسيا أول ا
...
-
أصول بمليارات الدولارات .. أين اختفت أموال عائلة الأسد؟
-
كيف تحافظ على صحة دماغك وتقي نفسك من الخرف؟
-
الجيش الإسرائيلي: إصابة سائق حافلة إسرائيلي برصاص فلسطينيين
...
المزيد.....
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
المزيد.....
|