من أهم الشخصيات الثقافية على مستوى العالم. وهو أهم عالم لغويات معاصر، وأحد أكثر العلماء تأثيرًا في علم اللغويات الحديث. وتستخدم نظريات تشومسكي اللغوية بكثرة في علوم الاتصالات وعلوم الحاسب الآلي. بيد أن هذا الجانب العلمي لا يمثل الجانب الأهم في تشومسكي؛ فيكفي أن نعرف أنه أهم "المنشقين" في الولايات المتحدة الأمريكية. وقد نعتته منظمة "بناي بريث" (أبناء العهد) اليهودية ذات الميول الصهيونية- بأنه أشد مواطني الولايات المتحدة الأمريكية عداءً لإسرائيل. ووصفه البعض بأنه يهودي يكره ذاته.
واعتبرته محطة "سي إن إن" الإخبارية العالمية - أهم نقاد السياسة الأمريكية. واختير ضمن أحد الاستفتاءات الثقافية في الولايات المتحدة ليكون ضمن أهم ثلاث شخصيات ثقافية على قيد الحياة في هذا القرن.
ولد نعوم إفرام تشومسكي عام 1928 وحصل على درجته العلمية في اللغويات عام 1951 من جامعة بنسلفانيا. بعدئذ في بداية الخمسينات سافر إلى إسرائيل ليعيش لفترة في أحد الكيوبوتزات حيث اعتقد في الطبيعة الاشتراكية والإنسانية لحركة الكيبوتز. بيد أن الغشاوة انقشعت بسرعة عن عينيه وترك إسرائيل وعاد إلى الولايات المتحدة؛ حيث عمل عام 1955 في جامعة هارفارد، ثم انتقل ليعمل في معهد ماساتشوستس للتكنولوجياM .I.T وما زال يعمل به حتى الآن.
في عام 1957 نشر مؤلفه الهام "البناء السياقي" الذي أحدث ثورة في علم اللغويات الحديث، واعتبر التجاوز الأساسي للبنيوية في مجال اللغويات. ومن أهم أعماله الأخرى في هذا المجال سنجد "اللغة والعقل" و "بعض جوانب نظرية السياق" و"القواعد والتمثيلات" و"دراسات سيمانطيقية في النحو التوليدي".
وتتسم نظرية تشومسكي اللغوية المعروفة باسم النحو التوليدي التوليدي أو التحويلي أو الكوني بعدة سمات أهمها: أن النحو عند تشومسكي هو مجموعة القواعد التي تُمكِّن الإنسان من توليد مجموعة من الجمل المفهومة ذات البناء الصحيح. وينتقد تشومسكي عملية الكفاءة الرصدية التي اتسم بها النحو التقليدي؛ أي القدرة على الرصد الكمي للبيانات دون محاولة تقديم نموذج تفسيري يفسر قدرة المتكلم مستخدم اللغة وحدسه اللغوي. فتشومسكي يفرق بين القدرة التي هي ملكة معرفة اللغة؛ حيث يمكن للفرد إنتاج وفهم عدد غير محدود من الجمل، وتحديد الخطأ، وتلمس الغموض الكامن في الناتج اللغوي، وبين الأداء الذي هو عملية استخدام هذه القدرة في نسق محدد. وينعي تشومسكي على التقليديين اهتمامهم بالأداء وانصرافهم عن القدرة.
في منتصف السبعينات ؛ وضع العالمان الأمريكيان الدكتور جون غرندر عالم لغويات وريتشارد باندلر عالم رياضيات أصل البرمجة اللغوية للذهن ، وقد بنى غرندر وباندلر أعمالهما على أبحاث قام بها علماء آخرون ، منهم عالم اللغويات نعوم تشكومسكي ، والعالم البولندي الفريد كورزيبسكي Aifrd Korzybsky ، والمفكر الإنجلزي غريغوري باتيسون Gregory Batison ، والخبير النفسي الدكتور ميلتون أركسون Milton Erickson والدكتورة فرجينيا ساتير virginia Satir ، والعالم الألماني الدكتور فرتز بيرلز Fritz Perls ، ونشر غرند وباندلر اكتشافهما عام 1975م في كتاب من جزأين بعنوان The Structure of Magic، وخطا هذا العلم خطوات كبيرة في الثمانينات ، وانتشرت مراكزه ، ولا نجد اليوم بلداً من بلدان العالم الصناعي إلا وفيه عدد من المراكز والمؤسسات لهذه التقنية الجديدة التى نعني بها الهندسة النفسية هي المصطلح العربي المقترح لما يطلق عليه باللغة الإنكليزية Neuro Linguistic Programming أو NLP والترجمة الحرفية لهذه العبارة هي ( برمجة الأعصاب لغوياَ ) أو البرمجة اللغوية للجهاز العصبي ، كلمة Neuro تعني عصبي أي متعلق بالجهاز العصبي ، و Linguistic تعني لغوي أو متعلق باللغة ، وProgramming تعني برمجة،أما الجهاز العصبي فهو الذي يتحكم في وظائف الجسم وأدائه وفعالياته، كالسلوك والتفكير والشعور ، واللغة هي وسيلة التعامل مع الآخرين ، أما البرمجة فهي طريقة تشكيل صورة العالم الخارجي في ذهن الإنسان ، أي برمجة دماغ الإنسان.
إنّه فن يمدّنا بأدوات ومهارات نستطيع بها التعرف على شخصية الإنسان وطريقة تفكيره وسلوكه وأدائه وقيمه والعوائق التي تقف في طريقه ، كما يمدنا بأدوات وطرائق يمكن بها إحداث التغيير المطلوب في سلوك الإنسان وتفكيره وشعوره وقدرته على تحقيق أهدافه.
بيد أن أهم سمات نظرية تشومسكي اللغوية هي "الداخلية" Innateness حيث يرى تشومسكي أن الإدراك اللغوي والقدرة اللغوية هي صفات إنسانية أساسية تكمن في النوع البشري وليست مكتسبة.
ويشابه تشومسكي هنا اللغويين الإسلاميين في صدر الإسلام مثل: ابن جنى والعسكري والجرجاني في رؤيتهم للغة على أنها هبة من الله للإنسان، حيث يرى تشومسكي أن لغة الفرد العادية هي عملية إبداعية، وأن كل كلام هو تجديد في ذاته، فاللغة ملكة إنسانية وهي ملكة تؤنس الإنسان أيضًا.
بيد أن الجانب الأهم بالنسبة لنا كعرب ومسلمين فيما يخص تشومسكي هو أنه من أشد المدافعين عن القضايا العربية في الولايات المتحدة الأمريكية، ومن أشد نقاد السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط. وهو يصف هذه السياسة بأنها ضالة ومضللة، وخادمة وتكيل بمكيالين، وقد تؤدي بالعالم إلى الدمار الكوني؛ لأن الشرق الأوسط من المناطق شديدة الالتهاب في العالم.
ولتشومسكي عدة كتب تنتقد السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط منها "السلام في الشرق الأوسط" و "مثلث المقادير" و "قراصنة وقياصرة" و "ثقافة الإرهاب" و "أوهام ضرورية" و "الديمقراطية المعوَّقة" وغيرها.
وتشومسكي من المفكرين الذين يعيشون فكرهم، وتتطابق الأفعال عندهم مع الأقوال ، فقد كان عضوًا نشطًا في حركة "قاوم" Resist الراديكالية التي لعبت دورًا هامًا في معارضة التدخل الأمريكي في فيتنام.
وكان من قيادات هذه الحركة التي أدت إلى تعبئة الرأي العام الأمريكي ضد الحرب؛ ومن ثم أُجبرت الحكومة الأمريكية مع توالي انتصارات الشعب الفيتنامي على الانسحاب.
بيد أن ثمة نقطة هامة ينبغي ملاحظتها في كتابات تشومسكي السياسية، تلك النقطة هي تشاؤمه الشديد رغم إيمانه الهائل بقدرات الإنسان الإبداعية الهائلة.
لقد كتب تشومسكي: "أعتقد أنه لا أمل على الإطلاق في مستقبل أفضل للبشرية، وخاصة مع ازدياد اكتساح النموذج الأمريكي المادي الاستهلاكي على مستوى العالم".
كيف يمكننا أن نفهم هذا القول؟ وكيف يمكن رؤية هذا مع أنه قال أيضًا: "إن اللغة البشرية العادية المستخدمة في الحياة اليومية عملية إبداع مستمر تعكس قدرات الإنسان المذهلة؟!!"
إن النظرة الإنسانية العلمانية تفتقد الأساس الإيماني الذي يؤدي إلى أمل المؤمنين، حيث إن يقين المؤمن في الله سبحانه وتعالى، يعطيه القدرة على رؤية مستقبل أفضل دائمًا.
بينما تتعدد إحباطات العلماني، ولا يرى في الجنس البشري الذي يحبه ويؤمن بقدراته إلا دمارًا وكراهية وهزائم متكررة، ولا يجد منبعًا يستمد منه الإيمان، ومن ثم لا مناص من إحساسه بالفشل والإحباط رغم استمراره في العمل الدؤوب لتغيير هذا.
في اطار «ملتقى امستردام»، البرنامج الحواري الذي يبثه راديو هولندا، توالت الاسئلة التي طرحت على المفكر والكاتب نعوم تشومسكي الذي وصفته صحيفة «نيويورك تايمز» بانه ربما كان اهم مثقف على قيد الحياة، وفي معرض الرد مضى تشومسكي ينتقد بشكل صريح السياسة الخارجية للولايات المتحدة ويشدد على ان بلاده تحاول بعد ان وضعت الحرب في العراق اوزارها السيطرة على العالم عن طريق القوة، ويحذر من ان هذه السياسة ستؤدي الى انتشار اسلحة الدمار الشامل والهجمات القائمة على الحقد على الادارة الاميركية.
ومن خلال الاسئلة التي يطرحها مستمعو الراديو الهولندي وردود تشومسكي تبرز ملامح الصورة التالية:
ـ السؤال الاول من نوربرتو سيلفا من جزر كابو فيردي ومفاده: هل يمكن للولايات المتحدة والرئيس بوش المضي بالعالم الى حرب نووية بسياستهما الخاصة بالهجمات الاستباقية؟
ـ بلا ريب، لكن قبل اي شيء لابد من الحديث بشكل واضح، فالامر لا يتعلق بسياسة هجمات استباقية حيث ان هذه الاستباقية في هذا السياق لها معنى في القانون الدولي، ان هجوما استباقيا هو ذلك العمل الذي يتم اللجوء اليه في حالة التهديد الداهم، على سبيل المثال، اذا كانت هناك طائرات تحلق فوق المحيط الاطلسي لقصف نيويورك.
فسيكون امرا مشروعا ان تقوم القوات الجوية للولايات المتحدة بإسقاطها، وهذا يمكن ان يشكل هجوما استباقيا يسمى احيانا حربا وقائية اما المسألة التي نحن بصددها فهي تتعلق بعقيدة جديدة اعلن عنها في اطار استراتيجية الامن القومي الاميركي التي تنادي صراحة بحق الهجوم امام اي تحد كامن للسيطرة العالمية للولايات المتحدة،حيث من الواضح ان القوة الكامنة لهذه السياسة هي ذاتية وتعطي بذلك عمليا اذنا بمهاجمة اي احد على الاطلاق، وهل يمكن لهذا ان يؤدي بنا الي حرب نووية؟ نعم، بلا ادنى شك.
ولقد كنا قريبين جدا من هذا الوضع في الماضي، ففي شهر اكتوبر الماضي تحديدا تم الكشف على سبيل المثال، امام صدمة الذين ابدوا اهتماما بالامر انه اثناء ازمة الصواريخ الكوبية عام 1962 وقف العالم فعليا على حافة حرب نووية، ربما كانت ستكون الحرب الاخيرة لو انها وقعت.بعض الغواصات الروسية المزودة بأسلحة نووية وجدت نفسها مهاجمة من قبل مدمرات اميركية، وبعض القيادات اعتقدت ان الحرب النووية قد اندلعت، واعطت الاوامر بإطلاق صواريخ نووية، لكن احد الضباط الاميركيين رفض تنفيذ الامر، وبفضله فإن بمقدورنا ان نتحدث هنا، ولقد كانت هناك حالات مماثلة كثيرة منذ ذلك الحين.
ـ هل هذا يعني اننا نمر بوضع اكثر خطورة الان مع هذه العقيدة العسكرية الاستباقية.
ـ هذا من نافل القول، فعقيدة الحرب الاستباقية عمليا دعوة لان تطور الاهداف الممكنة نوعا من القوة الرادعة، حيث لايوجد سوى نوعين من القوى الرادعة، واحدة هي اسلحة الدمار الشامل والثانية هي «الارهاب» على مستوى كبير، ولقد اشار الى هذا الجانب مرارا وتكرارا المحللون الاستراتيجيون والاجهزة الاستخبارية.. الخ، وطبعا يزداد خطر خروج شيء ما عن السيطرة.
ـ هناك سؤال من فون رودس من استراليا مفاده: لا اعتقد ان الولايات المتحدة تريد السيطرة على العالم، فلقد هوجم الاميركيون من عدة جبهات وهجمات الحادي عشر من سبتمبر ليست الا تحركا على احدى هذه الجبهات، ولابد لاحد من وضع حد للدول المارقة والولايات المتحدة وحدها لديها القدرة على فعل ذلك، وبدون «شرطة العالم» تلك، يمكن للعالم ان يتفكك الى زمر متحاربة، وهناك عدة امثلة في التاريخ، كيف يبدو هذا النوع من التأكيد؟
ـ الجملة الاولى ليست صحيحة عمليا، ذلك ان استراتيجية الأمن القومي تعلن بشكل واضح للغاية ان الولايات المتحدة تنوي السيطرة على العالم بالقوة، التي هي البعد الذي تمارس من خلاله القيادة العليا والتأكد من انه لن يظهر ابدا اي تحد لتلك السيطرة.
وهذا لم يتم فقط الاعلان عنه بشكل واضح، بل انه ذكر مرارا وتكرارا ايضا في صفوف النخبة القائدة، وكانت مجلة «فوريغن افيرز» قد حذرت من ان الولايات المتحدة اعلنت حقها بالسيطرة على العالم، حسب ما تقتضيه مصالحها، من الممكن ان الشخص الذي طرح هذا السؤال يعتقد ان الولايات المتحدة لديها بعض الحق الاستثنائي لقيادة العالم بالقوة.
اما انا فلا اعتقد ذلك وعلى عكس ما قيل فإنني لا اعتقد ان التاريخ يؤكد ذلك لا من قريب ولا من بعيد. وعملياً فإن الملف التاريخي الاميركي، المدعوم من استراليا، ومنذ فترة سيطرته على العالم في سنوات الاربعينيات هو ملف تاريخي حافل بالحث على الحرب والعنف والارهاب على مستويات معتبرة للغاية.
فلقد كانت حرب الهند الصينية على سبيل المثال التي شاركت فيها استراليا حرباً عدوانية من حيث المبدأ. الولايات المتحدة هاجمت فيتنام عام 1962. وامتدت الحرب لاحقاً الى الهند الصينية وكانت النتيجة النهائية موت عدة ملايين من الاشخاص وتدمير تلك البلدان وهذا مجرد مثال واحد ليس الا.
ـ سؤال من نويل كولامير من واشنطن مفاده ما يلي «يقول نعوم: «تنوي ادارة بوش السيطرة على العالم بالقوة وهو البعد الذي تمارس من خلاله السلطة العليا وجعلها بصورة دائمة»، سؤالي هو اذا لم نتصرف نحن الذين نستطيع عن طريق القوة ضد الطغاة، فما الذي يقترحه تشومسكي اذن؟ ان يلجأ السكان الذين يعاملون بوحشية الى مقاومة غير عنيفة لطغاتهم على الرغم من ان هذا يؤدي الى ابادتهم؟
ـ قبل اي شيء، لست انا من يقول ذلك، بل ادارة بوش نفسها.وانا اكرر فقط ما يعلن عنه بشكل بالغ الوضوح ولا احد يناقشه. وكما كنت قد اشرت، لقد كتب حول ذلك وبالكلمات نفسها مبدئياً في عدد «فورين افيرز» الذي صدر بعد الاعلان مباشرة. اما فيما يتعلق بالبلدان التي تعاني في ظل انظمة مستبدة، فسيكون ايجابياً ان يساعدها ويدعمها احد.
ولنأخذ مثالاً الادارة الاميركية الحالية. هم انفسهم (لا ننسى ان غالبيتهم تتألف من ريغانيين متمرسين) دعموا سلسلة من الطغاة الذين اخضعوا شعوبهم لأنظمة مستبدة فاسدة، مثل صدام حسين وتشاوشسكو وسوهارتو وماركوس ودوفالييه.
القائمة طويلة. لكن الاسلوب الامثل لحل المشكلة من الممكن ان يكمن اولاً في التخلي عن مساندة مثل هذه الانظمة التي غالباً ما تمت الاطاحة بها على يد شعوبها نفسها، وذلك على الرغم من مساندة الولايات المتحدة لها.
لقد كان تشاوشسكو، على سبيل المثال، طاغية يمكن مقارنته تماماً مع صدام حسين ومع ذلك هزم عام 1989 على يد شعبه نفسه بينما كان مدعوماً من قبل من يحكمون الان في واشنطن. والناس الذين يواجهون بالمقاومة القمع والعنف، لابد لنا من ايجاد وسيلة ندعمهم من خلالها والطريق الابسط يتمثل في التوقف عن دعم الطغاة.
وبقول ذلك، تظهر قضايا معقدة، حيث لا يوجد يقين على حد علمي بأن تدخل الولايات المتحدة ولا اي بلد اخر (الامثلة محدودة) من اجل محاولة تجنب القمع والعنف. فهذا لا يحدث الا في مناسبات معدودة.
ـ حسناً، لدينا سؤال اخر من ه. ب فيلتن من نيو جيرسي مؤداه «لماذا لا توجد اشكالية اخرى حول دوافع بوش في وسائل الاعلام الاميركية؟
ـ في واقع الامر ثمة اشكالية كبيرة. شيء يستدعي الكثير من الفضول حول الحرب العراقية واستراتيجية الامن القومي، انه الاطار الذي استلهمه، ذلك انها كانت محط انتقاد شديد تحديدا في نواة نخبة السياسة الخارجية حيث ظهرت انتقادات لاذعة من اهم اصدارين في ميدان الشئون الخارجية، وهما مجلتا «فورين افيرز» و«فورين بوليسى».
اما الاكاديمية الاميركية للفنون والعلوم التي نادراً ما تعلق على مسائل اشكالية راهنة، فلقد نشرت بحثاً ذا موضوع واحد ادانت فيه تلك السياسة. وهناك كذلك كل انواع المقالات.
والنقاش معكوس بشكل جزئي في وسائل الاعلام لكن ليس كثيراً، لأنه يجب التذكير بأن وسائل الاعلام تميل الى دعم السلطة لاسباب شتى.
ـ هناك سؤال اخر مفاده: على مدار التاريخ، حاولت بعض الامم السيطرة على العالم دائماً، احدثها المانيا واليابان وروسيا، واذا كانت الولايات المتحدة هي الان الطامح الاخير للغزو، فإن علينا اعتبار ذلك من حسن طالعنا. فالولايات المتحدة تقوم بالعمل من اجل كل الانسانية. وما يجري هو انه لا بوش ولا الحكومة الاميركية يقصدان السيطرة.
انت تنسى ان الولايات المتحدة لديها دستور وانها على خلاف ستالين وهتلر طغاة اخرين، على بوش ان يقدم نفسه لاعادة الانتخاب والمقترعون الاميركيون ليسوا اغبياء ولا هم مقموعون او فزعون. ذلك ان التصويت سري». هل تعتقد ان المسئولية الانتخابية سوف تكبح جماح حكومة الولايات المتحدة كما يرى هذا المستمع؟
ـ الشيء الأول في كل ذلك هو ان ذلك الاسلوب لسرد التاريخ مشبع بالأوهام، لكن اذا نحينا هذا جانباً، فإن مسألة ان يكون لدى بلد ما دستور وان يكون ديمقراطياً داخل حدوده، لا تعني عدم ممارسة العنف والعدوان في الخارج. ثمة تاريخ طويل بهذا الخصوص. اذ ربما كانت انجلترا، مثلاً، في القرن التاسع عشر البلد الاكثر حرية في العالم، لكنها كانت تمارس فظاعات رهيبة في انحاء كثيرة من الكرة الارضية وحالة الولايات المتحدة مماثلة.
والسوابق تعود الى الماضي البعيد حيث كانت الولايات المتحدة بلداً ديمقراطياً على سبيل المثال عندما غزت الفلبين قبل قرن من الزمان وقتلت مئات الاف الاشخاص وضربت البلاد. كذلك كانت بلداً ديمقراطياً في سنوات الثمانينيات عندما شن حكام واشنطن في ذلك الحين حرباً ارهابية مدمرة في نيكاراغوا خلفت وراءها عشرات آلاف القتلى وبلداً مدمراً عملياً، بالمناسبة ادانت المحكمة الدولية ومجلس الامن الدولي هذا الهجوم بشكل رسمي. ومع ذلك صعد حكام واشنطن هجومهم وهكذا تمضي الامور.
فيما يتعلق بالانتخابات الديمقراطية، نعم هناك انتخابات والجمهوريون شرحوا بشكل واضح جداً كيف ينوون تجاوز مسألة ان غالبية السكان تظهر معارضة قوية جداً لسياستهم. فهم يحاولون تجاوز ذلك بحسب البلاد الى الخوف والذعر بطريقة تجعل الناس تتجمع تحت مظلة شخصية قوية طلباً للحماية.
وعملياً شاهدنا ذلك يحدث في سبتمبر الماضي عندما اعلنت استراتيجية الأمن القومي وبدأوا باعادة دق طبول الدعاية الحربية حيث كان هناك دعاية غير مباشرة مشهدية للغاية من جانب الحكومة وتمكنت من اقناع غالبية السكان بأن صدام حسين كان يمثل تهديداً وشيكاً بالنسبة لأمن الولايات المتحدة. لكن احداً اخر لم يؤمن بذلك، حتى في البلاد التي كان صدام فيها محل ازدراء وينظر اليه على انه تهديد. لقد ادركوا انه اضعف بلد في المنطقة.
كما تمكنت هذه الحملة الدعائية من اقناع غالبية السكان ربما بأن صدام حسين كان يقف وراء الحادي عشر من سبتمبر، وبأنه حث عليه ونفذه، وانه كان يخطط لشن هجمات اخرى. مع انه لا يتوفر دليل على ذلك ايضاً ولا يوجد لاجهاز مخابرات ولا محلل امني في العالم قاطبة يعتقد بذلك.
ـ اذن اين هي المعارضة السياسية في الولايات المتحدة؟ الديمقراطيون؟ لماذا لا يحاولون دق اسفين في المعسكر الجمهوري؟ من الواضح وجود حركة قوية من اجل السلام حيث نشاهد مئات الاشخاص في الشوارع الاميركية الذين يعارضون العمل العسكري.
أين هي الآن المعارضة السياسية في الولايات المتحدة؟
ـ ان المعارضة السياسية للجمهوريين فاترة جداً، اذ انها بشكل تقليدي قلما تناقش شئون السياسة الخارجية، وهذا يعترف به حتى التيار الرئيسي، والشخصيات السياسية ترفض ان يوجه لها اصبح الاتهام بأنها تسعى الى تدمير الولايات المتحدة ومساندة اعدائها وإثارة كثير من الضجيج حول الاوهام والنزوات، فالسياسيون لا يرغبون بتعريض انفسهم الى ذلك والنتيجة هي ان اقترع عدد كبير من السكان بالكاد لديه تمثيل والجمهوريون يعترفون بذلك.
فلقد اوضح كارل روف المسؤول عن الحملة الانتخابية الجمهورية قبل الانتخابات الاخيرة عام 2002 انه كان على الجمهوريين محاولة تركيز الانتخابات على الموضوع الامني، لانهم اذا تصدوا لموضوعات سياسية داخلية فمن الممكن ان تكون الهزيمة حليفتهم. هكذا اذن قاموا بإدخال الهلع الى قلوب الناس للحصول على طاعتهم، ولقد اعلنوا كذلك انهم سيضطرون الى فعل الشيء نفسه في انتخابات عام 2004، سوف يتعين عليهم تقديم الحملة تحت شعار «اقترعوا لرئيس حرب يحميكم من الدمار».
ولاشك بأنهم يجرون التدريبات على سيناريو يأتي من سنوات الثمانينيات عندما كانوا في السلطة لأول مرة «السياسيون ذاتهم تقريباً». فاذا دققنا قليلاً فسنجد ان السياسات التي طبقوها كانت غير شعبية وبعض الناس عارضوا لكنهم لم يتخلوا عن الضغط على زر الهلع ولقد جنوا ثمار تلك السياسة.
ـ هل تعتقد بوجود نقطة يمكن عندها تبرير القوة. لقد سمعنا الكثير من البراهين حول الحرب في العراق، مثل انه كان يمثل الشر الاصغر، التاريخ الحديث للعراق كان معروفاً جيداً، لكن الآن كانت اللحظة التي يجب فعل شيء فيها من اجل التخلص من صدام حسين، اذ ان الكثير من العراقيين انفسهم داخل البلاد بدا انهم يدعمون هذا الطرح؟
ـ أولاً نحن لا نعرف ان العراقيين كانوا يطلبون ان يتم اجتياح بلادهم لكن ذلك كان الهدف وإلا لماذا كل تلك الاكاذيب؟ ما تقوله هو ان توني بلير وجورج بوش وكولن باول والبقية هم مدعون متعصبون كانوا يتظاهرون حتى اللحظة الاخيرة بأن الهدف كان التخلص من اسلحة الدمار الشامل.
واذا كان الهدف تحرير الشعب العراقي. لماذا لم يقل ذلك على هذا النحو؟ لماذا الاكاذيب؟
ـ الرئيس بوش قال ذلك في الاسابيع الاخيرة التي سبقت الحرب حين بدأ الحديث عن حرب تحريرية.
ـ في اللحظة الاخيرة، في قمة الازور قال انه حتى لو ترك صدام حسين وشركاؤه العراق، فإن الولايات المتحدة كانت ستجتاحه في جميع الاحوال، بمعنى آخر ارادت الولايات المتحدة السيطرة على ذلك البلد. توجد الآن عملياً قضية خطيرة وراء ذلك ولا تمت بأية صلة بتحرير الشعب العراقي. بوسع المرء ان يتساءل لماذا لم يطح العراقيون بصدام كما فعل الرومانيون مع تشاوشسكو على سبيل المثال؟ ويمكننا اضافة قائمة طويلة من الطروحات.
ـ حسنا ان الامر واضح جيداً. فالغربيون الذين يعرفون العراق على افضل وجه لديهم مئات الباحثين الذي يعملون في كل البلاد التي خبروها بعمق وكانوا قد اشاروا، مثلما فعل آخرون كثر، الى ان الذي كان قد حال دون اي ثورة في العراق كان نظام العقوبات الذي قتل، حسب حسابات معتدلة مئات الألوف من الاشخاص وبذلك عززت هذه العقوبات قوة صدام حسين وجعلت السكان يعتمدون عليه بشكل مطلق للبقاء على قيد الحياة.
وبالتالي إن الخطوة الاولى للسماح للعراقيين تحرير انفسهم بأنفسهم تمثلت في عدم الوقوف في وجه هذه الخطوة والسماح للمجتمع بأن يعيد بناء نفسه كي يتمكن من الاهتمام بشئونه الخاصة.
لو ان هذا باء بالفشل لو ان العراقيين كانوا عاجزين عن فعل ما فعلته شعوب اخرى في ظل سيطرة طغاة آخرين، في تلك النقطة كان ممكناً طرح قضية استخدام القوة، لكن بدون اعطاء العراقيين فرصة على الاقل لا نستطيع طرح ذلك السؤال جدياً وعملياً لم تطرحه لا بريطانيا العظمى ولا الولايات المتحدة اثناء الاعداد للحرب. فمركز القضية كان اسلحة الدمار الشامل راجع الاحداث.
ـ لماذا يعارض تشومسكي الى هذا الحد نشر الديمقراطية والتحرر لغالبية شعوب العالم بواسطة الولايات المتحدة اذا كان ذلك ضرورياً ذلك ان الاتحاد الاوروبي كان قد تخلى عن معارضة الانظمة الاستبدادية؟ وما هي السبل التي يقترحها للخروج من هذا النفق؟
ـ انني اقف في صف نشر الديمقراطية في جميع انحاء العالم. لكن احد الاسباب «وهو ملفت للانتباه» هو اني لم اشاهد ابداً حقداً وازدراء حيال الديمقراطية اكثر وضوحاً من الذي عبرت عنه نخبة الولايات المتحدة، فأوروبا مثلاً انقسمت على نفسها بين ما اطلق عليه اوروبا القديمة وأوروبا الجديدة وذلك على اساس الموقف من الحرب على العراق حيث مثلت اوروبا القديمة البلدان التي اتخذت الحكومات فيها موقف الغالبية الساحقة من السكان. وهذا ما يسمى ديمقراطية.
اما اوروبا الجديدة «ايطاليا، اسبانيا، المجر» فلقد تمثلت بالبلدان التي تجاهلت حكوماتها نسبة اكبر من سكانها. فالشعوب في هذه البلدان عارضت الحرب اكثر من شعوب ما يسمى بأوروبا القديمة، لكن الحكومات لم تعر اهتماماً بسكانها «ربما 80 أو 90 بالمئة منها»، واستمرت أوامر واشنطن، وذلك ما يسمونه بالتصرف الجيد. لكن تركيا قدمت المثال الاكثر لفتاً للانتباه.
كانت تركيا هدف هجمات متمادية للمعلقين والنخب الاميركية لان الحكومة اخذت الموقف نفسه الذي اخذته نسبة وصلت الى 95 من السكان. قبل بضعة اسابيع ادان بول وولفويتز الذي يصفونه بممثل الديمقراطية الكبير، الجيش التركي لانه لم يتدخل لاجبار الحكومة على «مساعدة الاميركيين» كما قال هو وذلك بدل ان تعير الاهتمام اللازم لنسبة ال95 بالمئة من شعبها، هذا يثبت احتقاراً وقحاً للديمقراطية والاحداث تؤكده.
وهذا ليس لأن الولايات المتحدة تتفرد بالسوء، فهي كذلك كأية دولة قوية اخرى. لكن دقق في تاريخ المناطق التي تسيطر عليها الولايات المتحدة منذ زمن طويل: اميركا اللاتينية والكاريبي حيث استعدت الولايات المتحدة للتسامح مع الديمقراطية هناك لكن على ان تكون مدافعاً عن ديمقراطية ادارة ريغان اي عن ديمقراطية شاقولية تستمر النخب التقليدية فيها على رأس السلطة مع ملاحظة انها نخب متحالفة مع واشنطن وتقود مجتمعاتها تماماً كما ترغب الولايات المتحدة.
إن تشومسكي مثال لهذا المثقف الإنساني العلماني الذي يحب الإنسانية، ولكنه لا يجد القدرة على الأمل؛ لافتقاد الإيمان.
وفي الحوار الذى اجراه معه هاري كريزلر في 22/3/2002 يتحدث عن نفسه :
نعوم: مرحبًا بك، أين ولدت ونشأت؟
- ولدت في فيلادلفيا عام 1928، وبقيت هناك حتى انتهيت من دراستي الجامعية في بنسلفانيا ثم التحقت بهارفارد لمدة عامين في منحة بحثية، وبعد ذلك تخرجت، وبعد أن انتهيت من كل هذا ذهبت إلى معهد ماساتشوتس للتكنولوجيا، ومنذ ذلك الحين أقمت في بوسطن وحولها منذ 1950 تقريبًا.
كان والداك نحويين عبريين ودرسا في المدارس العبرية؟
- كان أبي عالمًا في العبرية واشتغل في النحو العبري، وكانت أمي مدرسة للغة العبرية. وقد أدار أبي المدرسة العبرية في مدينة فيلادلفيا، ودرست أمي فيها ودرس أبي في الكلية العبرية بعد ذلك. هناك جامعة للدراسات اليهودية هي كلية دروبسي وقد درس فيها، ولكن كل هذا كان جزءاً منها يمكن أن نسميه الجيتو العبري -جيتو يهودي في فيلادلفيا-، ليس بالمعني المتعارف عليه من كونه وجودًا حقيقيًّا لحي مغلق، فقد كان هذا الوجود موزعًا في جميع أنحاء المدينة.. كان نوعًا من الجيتو الثقافي.
هل كانت العبرية هي لغة الحديث في المنزل؟
- لا.. كانت في الخلفية، مثلا عندما كنت في الثامنة والتاسعة من عمري اعتاد أبي أن يقرأ معي الأدب العبري في ليالي الجمع.
الخال.. شارع 72 بنيويورك
كيف ترى دور أبويك في تشكيل رؤيتك للعالم؟
- هذه سؤال صعب؛ لأن ما يحدث هو توليفة من التأثير ومقاومة التأثير، ومن الصعب فصل هذا عن ذاك. وبلا شك فلقد شكّلت النشأة أنواع اهتماماتي ومناحي المجالات التي اتخذتها فيما بعد، لكن هذا حدث بطريقة اللاواعي، وربما كان التأثير المباشر لآخرين في أسرتي، لقد كان أبواي مهاجرين وانتهى بهما المطاف في فيلادلفيا، لكن أمي أتت من نيويورك، وأتي أبي من بالتيمور، وعندما وصل عام 1913 ذهبت أسرته إلى بالتيمور بينما كانت أسرة أمي من مكان آخر، وارتحلت إلى نيويورك، وكانت أسرتاهما مختلفتين كليًا؛ كانت هناك أسرة نيويورك وفي الجانب الآخر أسرة بالتيمور، وكنا في المنتصف في فيلادلفيا، ومن ثم كنا نروح ونجيء بين الأسرتين؛ فقد كانتا قريبتين منا.
كانت الأسرتان مختلفتين تمامًا؛ كانت أسرة بالتيمور أرثوذكسية متطرفة (ألترا أرثوذكس: وهي الطائفة اليهودية التي كانت تعادي الصهيونية بشدة، وترفض فكرة العودة إلى الوطن أو صهيون طالما بات الماشيح المخلص، وبقايا هذه الطائفة هم يهود الناطوري كارتا أو حراس المدينة الذين يعادون دولة إسرائيل تمامًا) [المترجم]. وقد أخبرني أبي أنهم قد صاروا أكثر أرثوذكسية عند وصولهم لبالتيمور مما كانوا عليه في أوكرانيا التي أتوا منها. وبشكل عام فقد كان هناك اتجاه بين أجزاء من المهاجرين يهدف إلى تعميق التقاليد الثقافية التي ينتمون إليها، وربما كان هذا على الأغلب، رغبة في تقوية إحساسهم بالهوية في مناخ غريب على ما أعتقد، وتلك هي أسرة أبي.
كانت أسرة أمي من الطبقة العاملة اليهودية، وكانت راديكالية جدًا، اختفى فيها العنصر اليهودي، كان هذا في ثلاثينيات القرن الماضي. ومن ثم كانت الأسرة جزءًا من الحركات الراديكالية النشطة التي اجتاحت العالم في تلك الأيام، وكان أكثر أفراد تلك الأسرة تأثيرًا فيَّ هو زوج خالتي.
كان رجلا مثيرًا للغاية، دخل هذا الرجل الأسرة عندما كنت في السابعة أو الثامنة، وكان تأثيره عليَّ كبيرًا.. كان قد نشأ في نيويورك في أسرة من المهاجرين أيضًا، لكنه نشأ في أحد الأحياء الفقيرة في نيويورك، ولم يتجاوز الصف الرابع في تعليمه، لكنه تعلم في الشارع، كما تعلم، وخبر كل ما كان يحدث في شوارع الطبقات الفقيرة المعزولة في نيويورك من جريمة وصراع ومشاكل، كان معاقًا، ومن ثم استطاع الحصول على كشك جرائد وفقًا لبرنامج مساعدة المعاقين الذي كان ساريًا في ثلاثينيات القرن العشرين، كان الكشك في الشارع 72 بنيويورك، وكان خالي هذا يعيش بالقرب منه في شقة صغيرة، وأمضيت جانبًا طويلا من طفولتي هناك.
صار هذا الكشك مركز جذب ثقافي للمهاجرين القادمين من أوروبا، في هذه الأوقات هاجر إلى الولايات المتحدة ألمان كثيرون، وكان هناك مهاجرون من دول أخرى كذلك، وكما قلت لك لم يكن خالي هذا متعلمًا، فلم يتجاوز في تعليمه الصف الرابع، ولكنه ربما كان أكثر شخص مثقف قابلته في حياتي علّم نفسه.
وبدون الدخول في تفاصيل انتهى الحال إلى أن صار محللاً هاويًا للشؤون العامة في شقة صغيرة بشارع ريفر سايد بنيويورك، لكن الكشك كان شديد الحيوية ومركزا ثقافيا -أساتذة وخبراء في كل جوانب المعرفة كانوا يتناقشون طوال الليل- وكان العمل في الكشك ممتعًا للغاية.
تشومسكي والصهيونية.. المواقف المركبة
كان الكشك إذن كمقهى بدون قهوة تناقَش فيه الأفكار والشؤون العالمية؟
- نعم هذا صحيح، كان بمثابة بوتقة تعارف، لقد مرت عليّ أعوام طوال كنت أظن فيها أن ثمة جريدة اسمها "نيوزينميرا"، والسبب هو ما يلي: كان الناس يخرجون من المترو ويهرعون إلى الكشك، ويقولون: نيوزينميرا.. هذا هو ما كنت أسمعه.. كنت أعطيهم جريدتين: النيوز والميرور (الكلمة التي ذكرها تشكومسكي هي كلمة مركبة من كلمتي نيوز آند ميرور، والحادثة كلها تدل على فكرة أساسية يريد الوصول إليها؛ وهي أن الناس العاديين في أمريكا لا ينشغلون كثيرًا بالعالم، وأن إيقاع حياتهم سريع للغاية، وأن ما يشغلهم في معظم الأحيان بعد عملهم هو الرياضة وخاصة الرياضات الأمريكية) [المترجم]، كما عرفت فيما بعد، ولقد لاحظت أنهم كانوا يلتقطون نيوزينميرا، وأول شيء يفتحونه هو صفحات الرياضة.. تلك كانت صورة صبي في الثامنة من عمره للعالم، كان الكشك مليئا بالجرائد، ولكن كانت هناك أشياء أخرى.. تلك هي خلفية المناقشات التي كانت تدور حينئذ في هذا المكان.
من خلال هذا الخال وغيره وجدت نفسي متداخلا في أحداث الثلاثينيات وفي التيار الراديكالي فيها، وكان التأثير العبري المتعاطف مع الصهيونية كبيرًا في هذا الوقت، كانت تلك هي فلسطين.. الحياة المتوجهة نحو فلسطين لليهود الراديكاليين.
وكان هذا جانبا أساسيا من حياتي.. قد صرت فيما بعد مدرسًا للغة العبرية وقائدا شبابيا صهيونيا، وجمعت هذا مع النشاط الراديكالي في شتى المجالات، وفي الواقع كان هذا ما انتهى بي إلى اللغويات (في أكثر من كتاب له رفض تشومسكي إدانة الصهيونية باعتبارها عنصرية، وبالرغم من إدانته لمعظم أو كل القادة الصهاينة واقتباس عبارات لهم في كتاباته تؤكد أنهم كانوا عنصريين ويكرهون العرب ويحقدون عليهم، فإنه يرى أن تأثير الحركة الصهيونية على العديد من اليهود كان تأثيرًا إيجابيا، وأنها جعلت العديد منهم يتحولون لتأييد الاتجاهات الراديكالية، بل ونبذ معظمهم الفكرة الصهيونية مع رفض دولة إسرائيل وعدوانيتها؛ وهو الأمر الذي حدث مع تشومسكي ذاته -المهم هنا هو رؤية السياق التاريخي للموضوع وفهم أبعاد هذه القضية، فمن السهل القول بأن تشومسكي كان صهيونيًا، وهو ما لا ينكره الرجل.. ولكن في أي سياق؟- وهناك العديد من القيادات الصهيونية التي رفضت هذه الحركة بعد اكتشاف حقيقتها، مثل: دي هان الهولندي الذي قتله الصهاينة في فلسطين بعد أن صار من أشد المعادين للصهيونية) المترجم.
كان من أهم التأثيرات التكوينية في حياتك -كما أظن- قراءة جورج أورويل في تلك الفترة، ومن ثم الكساد العظيم والحرب الأهلية الأسبانية.. احكِ لنا قليلا عن هذا.
- لا.. العكس هو الصحيح، كتاب أورويل العظيم، وفي اعتقادي أعظم كتبه "تحية لقطا لوينا"، طبع على ما أذكر عام 1937 لكنه منع، طبعت 200 نسخة في إنجلترا والولايات المتحدة؛ أي منع حقًا وصدقًا، السبب أنه كان معاديا للشيوعية بشدة، ولم يكن هذا موضة ولا رائجًا في تلك الفترة، وتم منعه تمامًا أثناء الحرب العالمية الثانية؛ لأنه لم يكن من الممكن نقد العم يوسف (المقصود الديكتاتور ستالين سكرتير عام الحزب الشيوعي السوفيتي في الفترة من 1924 حتى 1953 والمسؤول عن العديد من الجرائم والفظائع في حق الإنسانية) المترجم.
ولذا لم يطبع، وبعدئذ وصل الكتاب للجمهور -إذا لم تخني الذاكرة- عام 1947 أو 1948 تقريبًا، وقدم له ليونيل تريلنج بوصفه وثيقة من وثائق الحرب الباردة في هذا الوقت. وأعتقد أن أورويل كان سيكره هذا، إلا أنه كان قد مات (جورج أورويل مؤلف بريطاني شهير، من أشهر مؤلفاته "مزرعة الحيوانات" و"1984"، وهما روايتان ينتقد فيهما المجتمعات الشمولية والشيوعية، وكان اشتراكيًا تحرريًا) المترجم، في تلك الفترة قرأت "تحية لقطا لونيا" -أعني عام 1948-، ولكني كنت مهتمًا بالحرب الأهلية الأسبانية قبل ذلك بكثير.
لقد كتبت أول مقال لك وعمرك 10 أعوام عن الحرب الأهلية الأسبانية.. ماذا قلت عندئذ؟ وماذا تعتقد الآن في تأثير هذا الحادثة عليك؟
- حسنًا أنت تعرف.. لقد كتبت هذه المقالة عندما كنت في العاشرة من عمري، وبالتأكيد لا أود أن أقرأها اليوم، أذكر جيدًا عن ماذا كتبت؛ لأني أذكر ما أثارني عندئذ، كان هذا بعد سقوط برشلونة مباشرة، لقد اجتاحت القوات الفاشية برشلونة، وكان هذا نهاية الحرب الأهلية الأسبانية تقريبًا، وكانت المقالة عن انتشار الفاشية في أوروبا، ولذا بدأتها بالكلام عن ميونيخ وبرشلونة وانتشار النازية والفاشية، وكان هذا مرعبًا جدًا.
دعني أضف كلمة قصيرة عن خلفيتي الشخصية، كنا الأسرة اليهودية في الحي الذي نسكنه في فلادلفيا، وكان غالبية سكان الحي من الكاثوليك الأيرلنديين والألمان.. كان حياً من أحياء الطبقة المتوسطة الفقيرة، وكان معاديًا لليهود بشدة ومؤيدًا للنازية للغاية، ومن المفهوم لماذا كان الأيرلنديون يؤيدون النازي.. لقد كانوا يكرهون البريطانيين، وليس مفاجئًا أن يكون الألمان معادين لليهود.. ما زلت أذكر حفلات البيرة التي كانت تقام بعد سقوط باريس، كان الإحساس بانتشار هذه السحابة السوداء عبر أوروبا خانقًا ومرعبًا، وأذكر جيدًا شعور أمي وإحساسها في هذا الوقت، كانت مرعوبة.
على أي الأحوال مع نهاية الثلاثينيات صرت شديد الاهتمام بالفوضوية الأسبانية والحرب الأهلية الأسبانية، وكان هذا مدار الحديث في تلك الأيام.. كان هذا قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية مباشرة، لكن أسبانيا كانت بمثابة أنبوب اختبار، وعندما صرت قادرًا على استقلال القطار بمفردي -أي في حوالي العاشرة أو الحادية عشرة- كنت أذهب لنيويورك لقضاء عطلة نهاية الأسبوع وأقضيها مع أقاربي، وأتسكع حول المكتبات الفوضوية في ميدان يونيون والشارع الرابع، كانت مكتبات صغيرة ممتلئة بالمهاجرين الذين كانوا أشخاصًا مثيرين للغاية، وكنت أظنهم في التسعين لكنهم كانوا في الواقع في الأربعينيات أو نحوها، وكانوا مهتمين جدًا بالشباب، كانوا يريدون من الشباب أن يأتي إليهم ويولونهم اهتمامًا كبيرًا.. كان حديثي معهم تعليمًا حقيقيًا.
وهكذا كتبت ذلك المقال على هذه الخلفية قبل قراءة كتاب أورويل بزمن.
هذه التجارب التي وصفتها لنا، وقلت بأنها قد قادتك نحو اللغويات هدتك أيضا إلى رؤيتك السياسية ورؤيتك للعالم. أنت فوضوي تحرري. وعندما يسمع المرء ذلك فثمة عديد من الخلط؛ نظرًا لطريقة فهم الأمور في هذه البلاد (الولايات المتحدة الأمريكية)، وكذلك بسبب كتاباتك. ساعِدنا على فهم ماذا تعني الفوضوية التحررية. بمعنى آخر هذا لا يعني بالضرورة أنك تحبذ الفوضى أو عدم وجود حكومة؟!!
- الولايات المتحدة تُعتبر خارج العالم في هذا الصدد. وكذلك بريطانيا إلى حد ما. ولكننا في الولايات المتحدة نبدو كما لو كنا قادمين من كوكب آخر؛ ولذا فإن مصطلحًا تحرريًّا هنا يعني عكس ما كان يعنيه دائما في التاريخ.. فالتحرري طوال التاريخ الأوروبي هو الاشتراكي الفوضوي.. إنهم "المعارضون" في الحركة العمالية والاشتراكية، لقد انقسمت تلك الحركة إلى فرعين بشكل عام: أحدهما يحبذ الدولة -أو دولتيّ– والآخر ضد الدولة. وتطور الفرع الدولتي إلى البلشفية ولينين وتروشكي ومن بعدهما، بينما انصهر الفرع الآخر الذي ضم ماركسيين وماركسيين يساريين مثل روزا لوكسمبورج وآخرين، في بوتقة ضخمة ذات صبغة فوضوية صارت تدعي الاشتراكية "الاشتراكية التحررية"، ولذا كانت التحررية في أوروبا تعني دائما الاشتراكية، بينما هنا صارت تعبر عن الحافظة المتطرفة مثل إيان راند أو معهد كاتوا أو ما شابه.. لكن هذا استخدام خاص بالولايات المتحدة.
هناك العديد من الأشياء الخاصة بطريقة تطور الولايات المتحدة وهذا جزء منها.
ويعني المصطلح في أوروبا دائما الاشتراكية ومعاداة الدولة أنها فرع من الاشتراكي يرفض فكرة الدولة. إنها تعني مجتمعا متطورا ذا تنظيم عال، تنظيم تام وفائق الدقة، لا علاقة للمصطلح بالفوضى، إنه يعني ديمقراطية في كل الدرجات، إنه يعني التحكم الديمقراطي في المجتمعات والتجمعات وكل الأعمال والأبنية الاتحادية، وينبني هذا الحكم على نسق من المشاركة التطوعية المنتشر بشكل أعمى. تلك هي الفوضوية التقليدية، أنت تعرف أنه بوسع أي فرد أن يطلق على نفسه ما يشاء، ولكن هذا بالتحديد هو المعنى التاريخي للفوضوية التقليدية.
الجذور.. فتيات المصانع
وهذا المعنى له جذوره، ويمكننا أن نتقصى هذه الجذور حتى في الولايات المتحدة، نعم في الولايات المتحدة ثمة جذور قوية للفوضوية. نجد هذه الجذور في تاريخ الحركة العمالية الأمريكية. فلو عدنا مثلا إلى خمسينيات القرن التاسع عشر مع بداية الثورة الصناعية فسنجد أنه بالقرب من المنطقة التي أعيش فيها الآن في شرق ماساتشوستس في مصانع النسيج وغيرها كان معظم العاملين في هذه المصانع نسوة شابات أتين من المزارع. كان يطلق عليهن "فتيات المصانع" أي أولئك النسوة القادمات من المزارع للعمل في مصانع النسيج. كان بعضهن أيرلنديات مهاجرات يعشن في بوسطن وغيرها. كانت لديهن ثقافة غنية وشديدة التنوع. كن مثل هذا الخال الذي ذكرته والذي لم يتجاوز في تعليمه الصف الرابع، أعني أنهن كن ذوات ثقافة غنية ويقرأن الأدب الحديث. لم تكن الحركة الراديكالية الأوروبية تعني لهن أي شيء ولم تؤثر فيهن البتة، لكنهن كن جزءًا لا يتجزأ من الأدب والحركة الأدبية. ومن ثم طورن مفاهيمهن الخاصة عن كيف يجب تنظيم العالم، كانت لهن جرائدهن الخاصة.. في الواقع كانت تلك الفترة أكثر فترات حركة الصحافة في الولايات المتحدة.
في 1850 كان عدد الصحف الشعبية أي تلك التي تدار عن طريق فتيات المصانع في لويل وغيرها يعادل عدد الصحف التجارية أو أكبر، كانت تلك صحافة مستقلة، ويمكن إجراء دراسات أكاديمية عديدة ومثيرة عنها لو قرئت هذه الصحف الآن. كانت تبدأ بشكل عفوي ودون خلفية، لم يسمع كتاب هذه الصحف عن ماركس أو باكوس أو أي فرد آخر ولكنهم طوروا نفس الأفكار؛ فمن وجهة نظرهم كانت "العبودية المأجورة" -أي تأجير جهدك لمالك ما- لا تختلف كثيرا عن عبودية الأرض التي خاضوا الحرب الأهلية ضدها.
وعلينا أن نتذكر أن تلك كانت وجهة النظر السائدة في منتصف القرن التاسع عشر في الولايات المتحدة. على سبيل المثال كان موقف الحزب الجمهوري هو موقف إبراهام لينكولن. لم تكن تلك وجهة نظر غريبة، أعني أن هناك فرقا كبيرا بين أن تبيع نفسك أو تؤجّر نفسك. ولذا كانت فكرة إيجار نفسك -أي العمل المأجور- فكرة وقتية، كانت هجومًا على تكاملك الشخصي. كن يحتقرن النظام الصناعي الذي كان آخذا في التطور، ويدمر ثقافتهن واستقلالهن وفرديتهن، ويجعلهن خاضعات للأسياد.
كان ثمة تقليد لما يسمى بالجمهورية في الولايات المتحدة، نحن شعب حر كما تعرف، أول شعب حر في العالم(!!) كانت فكرة العمل المأجور تدمر وتخرب هذه الحرية. كان هذا لب الحركة العمالية في كل مكان، وبداخل هذا سنجد فرضية كانت تؤخذ على أنها بديهية، وهي تقول: "إن من يعمل في المصانع فلا بد أن يديرها". في الواقع كان هذا أحد شعارات الحركة الرئيسية، وها أنا أذكره بنصه: "علينا أن ندين ما يُدّعى بروح العصر، أي اكسب الثروة وانس كل شيء إلا نفسك".
الروح الجديدة التي تدعو المرء للاهتمام بذاته وكسب المال ونسيان كل شيء عن هذه العلاقات مع البشر، كن يحتقرنها ويرين أنها خرق للطبيعة البشرية. تلك كانت ثقافة أمريكية قوية وغنية، وتم تدميرها بالقوة والعنف.
إن تاريخ الحركة العمالية في الولايات المتحدة مليء بالعنف الشديد، عنف أشد مما حدث في أوروبا.. لقد سُحقت الحركة العمالية ودُمرت تماما ولفترة طويلة باستخدام أعنف الأساليب، وعندما بدأت مرة أخرى في الثلاثينيات من القرن العشرين التقطت طرف الخيط منها. وبعد الحرب العالمية الثانية حطمت مرة أخرى، والآن صارت نسيا منسيا، ولكنها حركة لا يمكن تجاهلها، ولا أعتقد أنها ذهبت طي النسيان تماما. أعتقد أنها لا تزال تحت أسقف في ضمير الشعب.
مدعي السلطة.. عبء الإثبات
تلك مشكلة مستمرة، وتظهر مرارًا في عملك العلمي كذلك.. أي مدى نسيان التاريخ والتقاليد، فلتحديد موقف جديد علينا أن نعود للوراء ونبحث عن تلك التقاليد الأخرى القديمة (هنا نواجه مشكلة هامة ومحورية في قضية إعادة صياغة الفكر العربي والإسلامي، وهي قضية القطيعة المعرفية.. فالقطيعة المعرفية ليست قطعا تاما مع الحاضر، ولكنها إعادة صياغة له من خلال إعادة الاعتبار للماضي وإعادة الارتباط معه؛ بمعنى إعادة قراءة التاريخ بشكل يجعلنا أكثر قدرة على استشراف المستقبل، وليس رؤية الماضي كحل سحري وعصر ذهبي دائم) المترجم.
- نعم بالضبط لقد نسيت الأوساط الأكاديمية هذه التقاليد، ولكني أشعر أنها ما زالت حية في الثقافة الشعبية وفي أحاسيس وسلوكيات الناس ومفاهيمهم وغير ذلك. أعرف ذلك عندما أخاطب جمهورا من الطبقة العاملة اليوم وأكلمهم في هذه الأفكار، فتبدو لهم بديهية وطبيعية، أعني أنه حقيقي ألا يوجد من يتكلم عن هذه الأفكار اليوم، ولكن متى طرقت فكرة مثل: عليك أن تؤجر نفسك للآخرين وتتبع أوامرهم. وأنهم يملكونك وأنت تعمل لديهم. وأنك تبني ولكنك لا تملك. تبدو هذه الفكرة غير طبيعية، وليس عليك أن تدرس نظريات معقدة لتدرك أن هذا يضر بالكرامة البشرية.
وحيث إنك قد أتيت من هذا التقليد وتأثرت به وما زلت تؤمن به.. فما رأيك في مقولة "السلطة الشرعية"؟ وما هي شروط الشرعية للسلطة؟
(رأي تشومسكي القادم يمثل رؤيته الخاصة للفكر الفوضوي الذي يمثل جانبًا هاما في الفكر الراديكالي العالمي الذي يرفض أساسا فكرة الدولة، ويطالب بالتنظيم الذاتي للمجتمع من خلال فكرة المشاركة الاختيارية، وتتنوع فروع الفكر الفوضوي بين الفكر العنيف الذي ينتهج الاغتيال والعنف كسبيل لتحقيق دمار الدول ونهايتها، والفكر الديمقراطي الذي يرى أن الأفراد أحرار، وسيصلون إلى رفض الدول من خلال الديمقراطية الكاملة).
- لب الفوضوية -كما أفهمها- هو أن السلطة غير شرعية ما لم تثبت شرعيتها، ومن ثم فإن عبء الإثبات يقع على عاتق من يدعي أن العلاقات الهرمية السلطوية مشروعة، ولو لم يستطع إثبات هذا فهذا الادعاء مرفوض.
هل يمكن إثبات هذا؟ أعتقد أنه عبء ثقيل. ولكني أظن أيضا أنه بالإمكان أحيانا تحمله. دعنا نأخذ مثالا من حياتنا اليومية، لو كنت أسير في الشارع مع حفيدتي ذات الأربعة أعوام وبدأت في الجري في الشارع وأمسكت بيدها وشددتها.. إن هذا نوع من ممارسة السلطة والقوة، لكني أستطيع تبريره، ومن الواضح ما هو هذا المبرر. ويمكن أن تكون هناك حالات مماثلة يمكننا فيها تبرير استخدام السلطة والقوة. لكن السؤال الذي يجب أن يمثل دائما في ذهننا هو: "لماذا يجب عليّ قبول هذا؟" إنها مسئولية أولئك الذين يمارسون السلطة أن يوضحوا للآخرين لماذا ثمة شرعية في هذه الممارسة.. ليست مسئولية الآخرين أن يوضحوا عدم شرعيتها، إنها غير مشروعة أساسا؛ لأنها علاقة سلطة بين البشر تضع البعض فوق البعض الآخر، ولذا فهي غير مشروعة من الأساس.
(الناس سواسية كأسنان المشط. تلك هي القضية الأساسية والمحورية عند تشومسكي وكثير غيره من مفكري الاشتراكية التحررية. وعدم شرعية فكرة "السلطة" يرتكز على هذه المقولة أساسا، لماذا نفترض أن البعض أفضل من البعض الآخر بحيث يمكن للأوائل ممارسة عنف أو سلطة على الآخرين؟ أو بمعنى آخر هل فضل البعض على الآخر أن يجعل من حق الأول أن يمارس سلطته؟ إن التفاضل في المنظومة الإسلامية هو في الدين ولا يكون إلا بالتقوى.. فكيف تتيح التقوى التي هي مخافة الله ممارسة السلطة؟ وهل من العدل الذي هو أقرب للتقوى أن نمارس سلطة بأي شكل من الأشكال على الآخرين دون إعطاء مبرر حقيقي ومقبول؟ أعتقد أن هذه القضية تحتاج لبحث كبير في إطار علم السياسة الشرعية. ورغم أن معظم مفكري علم السياسة الشرعية من السلف الصالح كالطرطوسي والماوردي على سبيل المثال قد رأوا أن "جور السلطان ألف عام أفضل من فتنة ساعة"، مفضلين النظام على الفوضى.. فإنهم جميعا أكدوا "أن العدل أساس الملك"، وناقشوا قضية السلطة المطلقة غير المبررة بكثير من التفصيل. ومع تعقد العالَم وتطور العلوم أعتقد أنه من الواجب على علماء المسلمين إعادة طرح هذه القضية) المترجم.
غير مشروعة ما لم تعطِ مبررا قويا يوضح أنها مشروعة ومقبولة، إن ممارسة السلطة مثل استخدام العنف مثلا في الشؤون الدولية. أي فرد يدعو للعنف عليه أن يبرر هذا تبريرًا قويًا وواضحًا.
أحيانا قد يحدث هذا. وأنا شخصيا لست من دعاة السلام بأي ثمن ولذا أظن أنه يمكن أحيانا تبرير استخدام العنف.
في الواقع في هذا المقال الذي كتبته وأنا في الصف الرابع طالبت الغرب باستخدام القوة لمحاول إيقاف الفاشية، ما زلت أعتقد أن هذا كان صحيحًا.
لكني الآن أعرف أكثر عن هذا الموضوع، أعرف أن الغرب في الواقع كان يؤيد الفاشية ويدعم فرانكو ويؤيدون موسوليني وهكذا وحتى هتلر. لم أكن أعرف هذا في ذلك الوقت ولكني اعتقدت يومها وما زلت على رأيي بوجوب استخدام القوة لإيقاف هذا الطاعون وأن هذا أمر مشروع. وكان مشروعا في النهاية. لكن علينا أن نبرر هذا تبريرا واضحًا.
أمريكا وإسرائيل وحيدتان
هل تقل الحاجة للتبرير عندما تنظر للضعفاء، أو لأولئك المحرومين من القوة أساسا؟ هل يمكن قبول مبرر واهٍ في هذه الحالة؟
- لا، إنها نفس القضية. عندما نأخذ مثلا الشعوب التي تعيش تحت الاحتلال العسكري أو الأنظمة العنصرية، فلها الحق في المقاومة. وفي الواقع كل العالم يرى أن لها الحق في المقاومة عدا الولايات المتحدة وإسرائيل، وهذا ثابت في قرارات الأمم المتحدة.
تتكلم عن فلسطين الآن؟
- فلسطين أو جنوب أفريقيا. لو نظرنا نظرة واحدة لوجدنا قرارات أساسية للأمم المتحدة فيما يتعلق بالإرهاب في 1987، وهي تدين طاعون الإرهاب الدولي، وتدعو كل فرد في العالم أن يفعل شيئا لإيقافه. لقد أُقر هذا القرار مع معارضة دولتين: الولايات المتحدة وإسرائيل، وهذا هو السبب كما شرحوه: "هذا القرار يدعم حق الشعوب في الكفاح من أجل الاستقلال من الأنظمة الاستعمارية والعنصرية والاحتلال العسكري الأجنبي"!.
لقد سمعنا عن إسرائيل وجنوب أفريقيا (في ذلك الوقت) ولكن لماذا تعارضه الولايات المتحدة؟ لأنها تعارض وترفض حق الشعوب في الكفاح ضد الأنظمة العنصرية والاستعمارية والاحتلال العسكري الأجنبي. وتظل الولايات المتحدة وإسرائيل وحيدتين في هذا المجال. وعندما تصوت الولايات المتحدة ضد قرار يخرج من مضبطة التاريخ لا تعود للسماع عنه، لكنه حقيقي وموجود. إن الحرب ضد الإرهاب ليست جديدة.. إنها قديمة، فقط الولايات المتحدة تعارضها، وأعتقد أن العالم على حق، وأن الولايات المتحدة مخطئة. فمن حق الشعوب مكافحة العنصرية والاستعمار والاحتلال العسكري الأجنبي.
لكن هنا يطرح سؤال نفسه: هل من المشروع استخدام العنف في هذا الكفاح؟
-هنا أعتقد أن إثبات هذا الحق في استخدام العنف يقع على عاتق من يقول إنه من المشروع استخدام العنف، هذا الإثبات أمر صعب للغاية سواء على المستوى الأخلاقي أو حتى على المستوى التكتيكي. وبصراحة أعتقد أنه من النادر جدًا إثبات هذا.
لقد قرأت مقابلات لك حيث حاولت أن تربط بين مقاربتك في المجال العلمي ومقاربتك في المجال السياسي؟
أعتقد أن دراسة العلوم هي طريق جيدة للدخول في مجالات مثل التاريخ، والسبب هو أنك تعرف معنى مفهوم الإثبات والتدليل والقرنية والدليل، وتتعلم الفرضية ذات المعنى ومتى تستخدم؟ وكيف تكون منطقيًا مقنعًا؟ إنك ستدمج ما هي وسائل البحث المنطقي وهي أكثر تقدمًا بكثير في مجالات العلوم عنها في أي مجال آخر.
وفي الجانب الآخر فبتطبيق نظرية النسبية، أي أن التاريخ لن يقودك إلى أي مكان يعني أنه نوع من التفكير ووسيلة كالاستدلال، أنا أحاول استخدام هذه الوسيلة التي نستخدمها في العلوم في مجالات الشئون الإنسانية بأي قدر من النجاح، وهذا ما يحدده الآخرون.
بالنسبة للعلاقات الأخرى بين طريقة تناولي للعلوم وطريقة تعاملي مع السياسة أعتقد أن ثمة علاقة، ولكنها بعيدة بعض الشيء لو فكرت فيما أدعوه بالفوضوية التي أعتقد أنها ذات جذور عميقة في الفهم الجماهيري في كل مكان ولأسباب واضحة، ثم حاولت تحليلها فستجد أنها تعتمد على مفهوم أسماه باكونين "غريزة الحرية"، أي أن الناس لديهم دافع غريزي لأن يكونوا أحرارًا ويرفضوا السيادة والتحكم.. لا أستطيع إثبات هذا، ولكنني أعتقد أن هذا صحيح في الأغلب.
ومعظم عملي العلمي في مجال اللغة يهتم بشكل ما بالحرية الإنسانية؛ أي القدرة الإدراكية على الإبداع بشكل لا نهائي التي لها جذورها في طبيعتنا، وتاريخنا ربط الناس بين المجالين، فلو بحثت في عصر التنوير في القرن 18 وفترة الرومانسية فستجد هذه العلاقة جلية، لو قرأت روسو أو ولهالم فون هامبولت وغيرها فستجد أن اللغة هي الرابطة بين الحرية البشرية في المجال السياسي والاجتماعي والحرية البشرية في الاستخدام الإبداعي، لقد حاولوا إيجاد هذه الرابطة.
الآن لو سألت هل يمكن الربط بين هذه المجالات على مستوى العلم؛ فالإجابة لا.. إنه حدس فقط لا يمكن إثباته إمبريقيًّا، لكن يجوز حدوث هذا يومًا ما لو ازدادت معرفتنا.
قلت من قبل في مكان ما ربما في كتابك الأخير عن السلطة: "بإمكان المرء أن يكذب أو يشوه كما يشاء في قصة الثورة الفرنسية، ولن يحدث شيء، لكن لو افترض أحدنا نظرية كاذبة في الكيمياء فسيتم دحضها فورًا".
- هذا هو ما أعنيه تمامًا الطبيعة حاسمة ولا يمكننا التلاعب معها، إنها دقيقة؛ ولذا فأنت مجبر أن تكون أمينًا في مجال العلوم الطبيعة في المجالات الأخرى، لست مجبرًا على الأمانة، ثمة معايير بالطبع، لكنها ضعيفة جدا في الواقع، فلو كان ما تفترضه مقبولا أيديولوجيا، أي يدعم الأنظمة والسلطة، فبإمكانك أن تنجح في الكذب في الواقع، فإن الفرق بين الشروط المطلوب توافرها في الرأي الموافق للسلطة هائل حقًّا، ولو أردت لأعطيتك مثالا واضحًا (حتى في العلوم الطبيعية ثمة مجال للتلاعب الأيديولوجي والتدخل السلطوي ومعظم الجوائز العلمية والتقدير، وغير ذلك يتم التعامل معها بشكل أيديولوجي، وقد حاولت المؤسسات العلمية في الدول الشمولية، مثل النازية والشيوعية إيجاد قاعدة "علموية" للنظريات الأيديولوجية ـ وثبت فشل وخطأ هذه النظريات فيما بعد، ولكن المشكلة أن الأيدلوجية وشهوة السلطة صارت تدخل في كل شيء حتى ما يسمى بالعلوم الصارمة الطبيعية) المترجم.
نعم أرجوك التحدي في "النايت لاين".
- حسنًا لقد كتبت عن الإرهاب، وأعتقد أنه بوسع المرء أن يوضح بسهولة أن الإرهاب يرتبط بشكل كبير بالسلطة، ولا أعتقد أن هذا مدهش؛ فالدول الأكثر قوة تستخدم الإرهاب بشكل أكبر، والولايات المتحدة أكثر الدول قوة وسطوة، ولذا فهي تستخدم إرهابًا ضخما جدًّا وفقًا لتعريفها الخاص للإرهاب، حسنًا لو أردت أن أثبت هذا فالمطلوب مني كم هائل من الأدلة، وأعتقد أن هذا أمر جيد، ولا أرفضه.
فعلى كل من يدعي شيئا كهذا أن يلزم نفسه بمعايير عالية للخطأ، ويستخدم وثائق دقيقة كثيرة مأخوذة من السجلات التاريخية والسجلات السرية الداخلية.
وحتى لو سقطت فصلة واحدة في مكان ما فستجد من ينتقدك على هذا؛ ولذا أعتقد أن تلك المعايير صحيحة.
حسنًا دعنا نلعب لعبة الاتجاه السائد، مثلا لقد نشرت مطبعة جامعة "يال" مؤخرًا كتابًا اسمه "عصر الإرهاب"، ومعظم المشاركين فيه من أكبر المؤرخين، وأغلبهم من "يال" أي من أكثر الخبراء في مجالهم، وعندما تقرأ الكتاب (عصر الإرهاب)، فإن أول ما ستلاحظه هو أنه لا وجود لمرجع واحد أو إشارة لوثيقة واحدة، مجرد عبارات إنشائية بعضها مقبول وبعضها فارغ، ولكن لا توجد أي معايير فكرية على الإطلاق، كل عروض الكتاب مشجعة جدًّا بل شديدة الحماس، ويجوز أن يكون هذا صحيحا أو غير صحيح، أعتقد أن معظمها خاطئ ومن السهل إثبات أنه خاطئ، ولكن الأمر لا يهم في الواقع؛ فبوسعك أن تقول ما تشاء؛ لأنك تدعم السطوة والقوة والسلطة، ولا يوجد من يتوقع منك أي مبررات، مثلا لو حدث المستحيل ودعوني إلى برنامج نايت لاين (أحد البرامج الإخبارية والتحليلية في الولايات المتحدة يستضيف كبار الشخصيات السياسية والفكرية في أمريكا والعالم لمناقشة القضايا الهامة والحساسة باستمرار، وقد استضاف في نهاية 2001 كل من كوندوليزا رايس وديك تشيني ودونالد رامسفيلد لتحليل حملة أفغانستان) المترجم.
قد يسألونني: "هل تعتقد أن القذافي إرهابي؟" بوسعي أن أقول نعم: "القذافي إرهابي"، وهنا لا أحتاج لأي دليل، لكن افترضْ أنني قلت: "جورج بوش إرهابي".. حسنًا سيطلب مني أن أقدم الدليل، وسيسألونني: "لماذا تقول هذا؟". هذا إذا ما لم يتم قطع الإرسال فورًا.
- في الواقع فإن نسق الإنتاج الإخباري هو أنه ليس بوسعك تقديم الدليل ـ ثمة مصطلح لوصف هذا النسق عرفته من منتج (نايت لاين) جيف جرنيفيلد أنه (الالتزام).. سأله أحدهم في مقابلة في مكان ما: لماذا لا يستضيفونني في "نايت لاين"؟ وكانت إجابته إجابتين في الواقع أولاً: "حسنًا أنه يتكلم التركية ولا أحد يفهمه"، لكن الإجابة الثانية هي "أنه ليس ملتزمًا"، وهذا صحيح، وأنا أتفق معه تمامًا، فكل ما سأقوله في نايت لاين لا يمكن أن تقوله في جملة واحدة؛ لأن ما سأقوله بعيد تمامًا عن الديانة الرسمية (المقصود هنا العقيدة أو اللغة السائدة في أجهزة الإعلام الأمريكي التي جعلت جرنفيلد يري فيما يقوله تشومسكي لغة تركية لا يفهمها أحد ـ حيث إنه يعارض تمامًا كل ما يقدم على أنه بديهيات ـ أو ما أسماه تشومسكي صناعة الموافقة والكلام الجديد). المترجم.
لو أردت أن تكرر مقولات الديانة الرسمية يمكنك أن تفعل هذا بين فقرتين إعلانيتين لو أردت أن تقول شيئا يشكك في الدين الرسمي فعليك أن تقدم الدليل على ما تقول، وهذا ما لا تستطيع فعله بين فقرتين إعلانيتين، ومن ثم فأنت تفتقد (الالتزام)؛ ولذا لا يمكنك الكلام (الالتزام هنا على مستويين: المستوى الأول الشكلي، أي الكلام القليل الذي يبدو كأنه بديهة؛ لأنه تقليدي وغير صارم، بينما في المستوي الثاني يطول كلامك) المترجم.
أعتقد أن هذا نوع رائع من أنواع الدعاية والإعلان، وفرض الالتزام هو السبيل لضمان تكرار الخط الحزبي دائما وأبدا، وأنه لا سبيل لسماع غيره.
الموافقة.. صناعة ديمقراطية
* لذا عليك أن تركز كثيرًا في مجال كتاباتك السياسية على ما أسميته "صناعة الموافقة" أي صياغة الأطروحات بطريقة معينة وطرحها للمناقشة.
نعم هذا صحيح تمامًا، في الواقع ينبغي أن أقول إن مصطلح صناعة الموافقة ليس من صياغتي لقد استعرته من والترليبهان أحد قيادات الرأي العام، أحد القيادات الإعلامية في القرن العشرين الذي كان يعتقد أنها فكرة رائعة، لقد قال: "علينا أن نصنع الموافقة".. هكذا يجب أن تعمل الديمقراطيات، يجب أن يكون هناك مجموعة صغيرة من الأقوياء وباقي الشعب هم من جمهور النظارة، وعلينا إجبارهم على الموافقة عن طريق التحكم في عقولهم وتنظيمها، هذه هي الفكرة الأساسية عند هؤلاء المفكرين الديمقراطيين، وهي أساس صناعة العلاقات العامة؛ ولذا أنا لم أضعها لقد استعرتها منهم فقط، وأخبرت الناس عنها وعن كيفية صناعتها، لكن هذا أمر هام، وثمة أمل دون شك، وعلى ما أعتقد أن الإحساس العادي يكفي لفهم هذا، أنت لا تحتاج لتدريب خاص، مثل حالة خالي الذي ذكرته، لتدرك زيف هذه الصناعة وتدرك ما يحدث حقًا.. أعتقد أنه من السهل أن يكتشف المرء أن الولايات المتحدة هي الدولة قائدة الإرهاب في العالم، في الواقع هذا أمر واضح.
عندما نقرأ الأدلة التي تقدمها على صحة ما تقول يصبح ما تقدمه واضحا وبسيطا، بمعنى: إذا قلنا فجأة في التسعينيات إن العراق دولة إرهابية فماذا كنا نسميها في الثمانينيات؟ وهل حدث تغير في النظام العراقي بين العهدين؟ ولماذا كنا نساعدهم في الثمانينيات؟ وتلك هي انتقاداتك للسياسة الخارجية الأمريكية.
-لو قال لنا جورج بوش الابن مثلما فعل مؤخرًا ومعه بلير: (إنه ليس بوسعنا الإبقاء على صدام حسين فهو أشد البشر شرًا في التاريخ، لقد استخدم أسلحة كيميائية ضد شعبه)؛ فأنا أتفق معه لو توقفنا عند هذا الحد، لكن النفاق يخجل من قائل هذا الكلام.. وعلينا أن نضيف: (نعم لقد استخدم الأسلحة الكيميائية ضد شعبه، بدعم من بابا بوش، الذي استمر في دعمه بعد ذلك وكان يعرف تمامًا ما يفعله صدام، وما فعله حين طور أسلحة الدمار الشامل ورحب به بوصفه صديقًا وحليفًا، وأعطاه مساعدات كثيرة بعد أن ارتكب صدام العديد من الجرائم…)، وما لم تضف هذا فإن الكلام السابق يخجل النفاق حقًا، ولكن لا أحد يقول هذا.
يمكنك قراءة التعليق والرأي الأكاديمي وآراء القيادات العامة.. الجميع يتوقف عند (استخدام صدام الأسلحة الكيميائية ضد شعبه) الآن هذا ليس عسيرًا على الفهم.. يمكنك أن تشرح هذا للأطفال في المدارس. وتبذل الطبقات العليمة ببواطن الأمور مجهودا خارقًا لمنع الناس من معرفة هذه الأمور. إنه التزام حقيقي من الأسهل جدًا أن تقول الحقيقة وهذا مجرد مثال واحد ولكنه دال حقًا.
في نهاية التسعينيات كان ثمة جوقة كبيرة للمديح الذاتي في الغرب تغني حول الحقبة التاريخية الجديدة التي ندخلها حيث تجلب الدول المتنورة المثل الإنسانية للعالم، ولأول مرة في التاريخ وفقًأ للمبادئ والقيم، والدليل على هذا أننا نقصف صربيا، أليس كذلك؟ حسنًا في نفس اللحظة، كان نفس هؤلاء المغنين يؤيدون أفظع الأعمال الإرهابية التي تجاوزت أفعال ميلوسفويتش في كوسوفا بكثير، في الواقع كنت عائدًا من أحد تلك المواقع جنوب شرق تركيا حيث كانت أعمال إرهابية بالجملة ترتكب.
حيث كانت الحكومة التركية ترتكب الفظائع ضد الشعب الكردي.
- نعم هذا حقيقي، ولكنني أرى أن الصواب أن نقول بأن حكومة الولايات المتحدة هي التي ارتكبت الفظائع...
عن طريق الدعم الذي تقدمه للحكومة التركية؟
- عن طريق تقديم 80% من السلاح بتدفق متزايد مع تزايد الفظائع وتوفير الدعم الإعلامي ومنع انتقاد تركيا، وساعدت الصحافة بعدم الكلام عن هذه الفظائع، وفي الواقع فإن الأكثر إثارة للدهشة والعجب هو أن تركيا تُمدح هنا بوصفها نموذجا لمعاداة الإرهاب أي من خلال ارتكاب أشد الأعمال الإرهابية في التاريخ في التسعينيات.
دعم الدكتاتوريات.. مهمة تاريخية
لو كنا مجلس العلاقات الخارجية ونحن لسنا هذا فسنقول لك: حسنا يجب أن نرى تركيا في إطار إستراتيجي أوسع؛ فهي دولة عصرية علمانية وشعبها مسلم، فما هو ردك على هذا؟
-لذا ينبغي أن نساعدها على طرد مليونين إلى 3 ملايين من منازلهم وتدمير آلاف القرى وقتل 50 ألف نسمة؟! (من الواضح السخرية المريرة في كلام تشومسكي، وهذا جزء من أسلوبه الخاص الذي نراه في كتاباته أو حتى في حواراته.. إنه دائمًا يستخدم فكرة الطرح المضاد للمألوف للوصول لفكرة جديدة مغايرة تمامًا للرؤية التي يعرفها القارئ واعتاد عليها) المترجم.
بالطبع لا.. حسنًا، أكمل
-حسنا تلك هي المسألة، أعتقد أننا نضر تركيا حين نفعل هذا نحن ندعم أشد الفصائل رجعية في تركيا، كما قلت كنت هناك وتكلمت عن هذه الأشياء. الناس تدعم المعارضة ضد النظام الذي يديره العسكر دعمًا هائلا، ونحن ندعم النظام الذي يديره العسكر، نحن نمنع تطوير وتحديث وتنمية تركيا، وفي الواقع هذا ما يحدث في أغلب بقاع الأرض، ولكن حتى لو كان هذا حقيقيًا، أي أننا نساعد التحديث، فإن هذا لا يبرر إطلاقًا المشاركة في أفظع أعمال الإرهاب في التاريخ الحديث، وربما أسوأ، لا أدري. والأفظع من المشاركة أننا نمدح هذا النظام الإرهابي على أنه نموذج مضاد للإرهاب من خلال ارتكابه لأشد أنواع الإرهاب والجرائم.
ويمكننا أن نعمم من خلال هذا النموذج، يكفينا أن نذهب لمكان آخر، إندونيسيا مثلا، عندما كانت إندونيسيا تسير في طريق مستقل في الخمسينيات وأوائل الستينيات كانت الولايات المتحدة تعارض بشدة، وفي الواقع حاولت تقسيم إندونيسيا عام 1958، وأخيراً وقع انقلاب عسكري بمساعدة الولايات المتحدة الأمريكية في 1965، وذبح رجال الانقلاب حوالي 200.000 نسمة وربما مليون نسمة لا أدري ولا أحد يدري، ومعظمهم من الفلاحين المعدمين، وتم الترحيب بهذا الانقلاب هنا بشكل مذهل، ووصف بدقة قالت النيويورك تايمز: "حمام دماء فظيع"، وقالت التايم: "حمام دماء يفور".. والكل مدح ما حدث، مدحوه لأن ما يسمونهم المعتدلين الإندونيسيين، أي من ارتكبوا المذابح كانوا يحولون البلاد إلى دولة عميلة للولايات المتحدة، ومنذ هذا التاريخ 65 حتى 1998 كنا نكيل المدائح لسوهارتو وندعمه بوصفه رجلا عظيما، وهو أحد أسوأ الديكتاتوريين في التاريخ.. أسوأ من صدام حسين وأحد المجرمين العتاة في العصر الحديث، أسمته إدارة كلينتون "رجلنا" لأنه كان يخدم مصالح الولايات المتحدة، وفي نفس الوقت يرتكب أفظع المذابح، ويدون أسوأ سجلات الفظائع في العالم، ماذا حدث لكل هذا في مضابط التاريخ؟ أنت تعرف أنه التاريخ، ولكنه ليس ما نعلمه للشباب في المدارس الثانوية كما يجب أن يحدث في دولة حرة، وتلك مسئولية المثقفين، عليك أن تكون حذرًا حتى لا يفهم أحد ماذا يحدث وتلك مسئولية ضخمة حقًا. (يقصد تشومسكي الدور الذي يلعبه المثقف والإعلامي الأمريكي المرتبط بجهاز الدولة بشكل مصالح لا وظيفة) المترجم.
أنت ترى أن هناك نوعين من المثقفين: أحدهما الذي يخدم السلطة ويكافأ على ذلك، والنوع الآخر هو الذي يقف خارج السلطة ويقول للأعور أنت أعور.
-نعم نحن نتفق على هذا عندما نتكلم عن الأعداء؛ لذا عندما نتكلم عن الاتحاد السوفيتي نتفق جميعًا أن ثمة فرقا بين المفوضين (أعضاء الحزب في البلاد الشيوعية السابقة) المترجم. والمعارضون المفوضون هم أولئك الناس داخل السلطة الذين ينشرون دعاية الدولة، والمعارضون جماعة صغيرة على الهامش تحاول أن تقول الحقيقة وتقول للأعور أنت أعور، ونحن نحترم المعارضين وندين المفوضين.
احترام المعارضة.. للأعداء فقط
لأنهم يعملون هذا في صفوف أعدائنا؟
-بالضبط ولكن عندما ننظر إلى أنفسنا سنجد الأمر معكوسًا، نحن نحترم المفوضين وندين المعارضين، وهذا هو دأب السلطة في كل العصور على مر التاريخ، لنعد لعصر الإغريق والتوراة، من شرب السم في عصر الإغريق؟ (إشارة لسقراط الفيلسوف اليوناني القديم والذي أجبرته السلطة على شرب السم بتهمة إفساد العامة) المترجم.
هل كان مفوضًا أم معارضًا؟ ولو عدنا إلى التوراة وقرأت السجلات التوراتية هناك أولئك المسمون بالأنبياء، النبي يعني المثقف، كانوا أولئك الناس الذين يقدمون تحليلا سياسيًا جغرافيًا ودروسا أخلاقية وما شابه؛ نسمي هؤلاء المثقفين اليوم، إنهم الذين كان القدماء يكرمونهم بوصفهم الأنبياء، ولكن كان هناك أيضًا أولئك الذين يدينهم الناس بوصفهم الأنبياء الكاذبين، لكن لو نظرت للسجلات التوراتية كان الأمر معكوسًا أيضًا، كان الكذبة هم المكرمون، وطُرد الأنبياء إلى الصحراء وسجنوا، نعم كان هذا هو الحال عبر التاريخ، ومن المفهوم أن السلطة لا تحب من يخربها.
هناك نقطة أود التأكيد عليها وهي أنك تقارن قصفنا للصرب في الوقت الذي كنا لا نفعل شيئا في تيمور الشرقية في إندونيسيا أو غيرها من البلاد.
-حسنًا لم نكن نقف مكتوفي الأيدي...
حسنا كنا نفعل الفعل الخطأ
-كنا نفعل شيئا، كنا نقوي قدرة المجرم على ارتكاب الفظائع.
الأمر المثير حقًا هو دور وسائل الإعلام في خداع الذات، لقد نسينا ما نفعله في أحد الأماكن، وكان الأمر بسيط جدًا علينا، فقط أن نوقف المساعدة العسكرية، وفي مناطق أخرى كصربيا مثلا بدأنا القصف ولم نعبأ بمصير الأبرياء.
هذا موضوع آخر، إنه أمر خارج عما كان يجب علينا أن نفعله في كوسوفا.. في وسعك أن تسأل هذا السؤال، ولكن كل ما تظهره أن كل ما نفعله ليس إنسانيًا.. انظر إلى كل شيء حدث وستعرف أن هذا صحيح، ماذا كان علينا أن نفعل في كوسوفا؟
حسنا، هناك عليك النظر إلى السجلات والسجلات مدهشة، وقد تم التغاضي عما فيها، هناك كتابات هائلة عما حدث ولو نظرت في هذه الكتابات والوثائق فستجد أن هناك نوعا من الحذف المنتظم لبعض الأشياء، أي التسجيل الواقعي لما حدث، على حد علمي لدينا سجلات ضخمة من وزارة الخارجية ووزارة الدفاع البريطانية وحلف شمال الأطلنطي (الناتو) والأمم المتحدة، وللأسف هناك كتاب واحد تحت الطبع يتكلم عن هذه السجلات: كتابي وبالطبع الكتاب مدان؛ لأنه يراجع السجلات، فما تظهره السجلات مذهل: كان البريطانيون (وهم أكثر العناصر تشددًا في التحالف) يعتبرون الفدائيين المصدر الرئيسي للفظائع حتى قبل القصف بوقت قليل، وكان هذا مذبحة راشاك في كوسوفا.
تعني الفدائيين الألبان؟ (أو جيش تحرير كوسوفا ) المترجم
- نعم، قال البريطانيون إنهم أساس المتاعب، ما كانوا يحاولون فعله هو أن يحدثوا رد فعل صربيا عنيفا، وهو ما حدث، وكانوا يتوقعون أن يؤدي إلى تدخل الغرب، وهو ما حدث.. أنا لا أصدق هذا شخصيًا، ولكن هذا رأي البريطانيين.
نحن نعرف أنه لم يحدث تغير كبير في الموقف حتى بداية القصف، أعني أن الناس على الجانبين ليسوا الأخيار في الأفلام؛ فالمحتلون الصرب كانوا يقومون بأعمال مروعة، ليس على مستوى ما نفعله في أماكن أخرى، ولكنها مروعة إلى الحد الكافي، لكن لم يكن ثمة تغيير في الواقع إلى أن بدأ القصف، عندما بدأ القصف كانوا يتوقعون أنه سيؤدي إلى ارتكاب فظائع (صربية) المترجم، وهذا ليس مستغربًا، نحن نبدأ في قصف الناس وهم يردون… وهذا ما حدث.. ولو نظرت لمحاكمة ميلوسوفيتش فستجد أن أغلب الجرائم ارتكبت بعد القصف باستثناء واحد.
تعني قصف الناتو؟
-بالضبط فبعد القصف والتهديد بالغزو وكما هو متوقع بالضبط تصاعدت الفظائع وبدأ الصرب في طرد الشعب الألباني تلك جرائم بلا شك، وهذا الرجل –ميلوسوفيتش- مجرم كبير، لكن تلك الجرائم نتيجة لاستفزاز الناتو وقصفه، ما تقرأه الآن هو: "حسنا كان علينا أن نقصف لنعيد الألبان لديارهم".. حسنًا، فضلا عن حقيقة نغفلها هي أنهم لم يطردوا من ديارهم إلا بعد أن بدأ القصف بالطبع، كانت هناك عمليات طرد على نطاق صغير قبل القصف، لكن الترحيل الجماعي حدث بعد القصف، قبل القصف رأى الغرب الموقف كما يلي:
الفدائيون يحاولون إثارة الصرب وارتكاب الفظائع ـ ردود فعل من الجانبين ـ هذا هو الوصف: يمكنك أن تقرر أن ما حدث كان صوابًا أو خطأ، لكن ما لم تنظر للوقائع فلست في العالم الحقيقي.
على سبيل المثال وهي حقيقة لا بد أن ننظر إليها، يمكننا أن نسأل: هل كان ثمة بديل للعنف؟ هل كانت ثمة حلول دبلوماسية بديلة؟ حسنًا يمكنك أن تلقي نظرة على الماضي وترى الوقائع.
لقد كتبت في هذا الوقت أنه يبدو أن هناك خيارات دبلوماسية بديلة، الصرب لهم موقف والناتو له موقف، ولو نظرت لنتيجة 78 يوما من القصف فستجد أنها حل وسط بين الموقفين، لقد تخلى الناتو عن أقصى طلباته وكذلك فعل الصرب وتوصلوا إلى حل وسط، هل كان من الممكن الوصول لهذا الحل دون القصف والفظائع؟
-ولكن تذكر فإن الإثبات يقع على عاتق أولئك الذين يقولون عليك أن تقصف وهم يحاولون أن يلقوا بمسئولية الإثبات على الآخرين، وليس بوسعهم فعل هذا.. فمن يستخدم العنف عليه أن يبرره.
ليس كل فرد هو نعوم تشومسكي وبوسعه إنتاج الكم الهائل من الأعمال حول تلك الموضوعات.. ما هي نصيحتك للناس الذي يعانون من نفس المشاكل والذين يرون أنفسهم في التقليد الذي خرجت منه والذين يريدون أن ينشطوا في معارضة هذه السياسة ماذا يجب عليهم أن يفعلوا ليكونوا منتجين؟
- عليهم أن يفعلوا ما فعلته فتيات المصانع في مصانع لويل للنسيج منذ 150 عاما خلت.. لينضموا لبعضهم البعض.. من العسير جدا أن تفعل شيئا وأنت بمفردك وخاصة عندما تعمل 50 ساعة في الأسبوع لتضع الطعام على المائدة.. انضم للآخرين وسيكون بوسعك أن تفعل الكثير.. إن المشاركة لها أثر إيجابي ضخم.. ولذا كانت النقابات دائما في طليعة التنمية، والتقدم الاقتصادي والاجتماعي.. لأنها تجمع الفقراء معا ومعهم العمال وتمكنهم من الاطلاع على خبرات بعضهم البعض وتوفر لهم مصادر معلوماتهم وتمكنهم من العمل الجماعي.
وهكذا يتغير كل شيء، هذا هو تاريخ حركة الحقوق المدنية (حركة شعبية في الولايات المتحدة في ستينيات القرن العشرين كانت تهدف للوصول إلى حقوق مساوية لكافة الأعراض في أمريكا ومن أهم ممثليها تشومسكي، مارتن لوثر كنج) المترجم.
والحركة النسوية وحركات التضامن والحركات العمالية.. إن سبب أننا لا نعيش في زنزانة هو أن الناس قد تجمعوا معا لتغيير الأشياء ولا فرق بين الآن وما كان من قبل.. في الواقع في الأعوام الأربعين الماضية رأيت تغيرات ملحوظة في هذا الصدد.
بهذا المعني فإن حركات المقاومة في الستينيات قد غيرت وعينا كثيرًا، بالإضافة لحرب فيتنام غيرت البلد تماما.
- غيرت سلوك الحكومات ماذا عليها أن تفعل لتحصل على ما تريد.
فيتنام.. الوصول عبر النضال
- نعم هذا أفضل وقت للكلام عن هذا الموضوع.. في مارس 2002 حالت الذكرى الأربعين لإعلان حكومة كيندي أنها سترسل الطيارين الأمريكيين لقصف فيتنام الجنوبية، وكان هذا بداية القصف المعلن الأمريكي لفيتنام.. كان بداية الحرب الكيميائية لتدمير المحاصيل الغذائية وسجن ملايين البشر في معسكرات الاعتقال، لم يكن هناك بشر إلا الفيتناميين والأمريكان كانت حربا تشنها الولايات المتحدة ضد فيتنام وبشكل علني ولم نسمع حتى صافرة احتجاج لقد استمرت الحرب أعواما قبل أن يبدأ الاحتجاج.
ولكن عندما بدأ الاحتجاج ظهرت حركات كثيرة ليس فقط حركة مناهضة الحرب وحركة الحقوق المدنية بل غيرها من الحركات الصاعدة التي غيرت من الضمير الشعبي، والأمر صحيح في جوانب أخري كثيرة؛ فلنعد إلي عام 1962 لم تكن هناك حركة نسوية، وكانت حركة حقوق الإنسان محدودة جدا جدا، ولم تكن هناك حركة بيئية أي حركة لحقوق أحفادنا، لم تكن هناك حركات تضامن مع العالم الثالث لم تكن هناك حركة ضد الفصل العنصري.. لم تكن هناك حركات ضد مفسدات البيئة والاستهلاك.. أعني كل الأشياء التي نأخذها علي أنها واقعة ولم تكن موجودة كيف وصلت إلينا؟ هل كانت منحة لا نعرف من أين؟ لقد وصلت إلينا عن طريق النضال، النضال المشترك الذي خاضه الناس الذين كرسوا أنفسهم للعمل مع الآخرين، لأنك لا يمكن أن تفعل ذلك بمفردك وهذا ما جعل هذه البلدة أكثر تحضرا.. لقد كان هذا طريقا طويلا وصعبا ولم تكن تلك هي المرة الأولى ولن تكون الأخيرة.
البحث عن المناضل المجهول
أعتقد أنك تؤمن بأنه عندما نركز على الأبطال في أي حركة فتلك غلطة؛ لأنه في الواقع من يغير العالم هم أولئك الأبطال المجهولون أو قواعد أي حركة نضالية؟
- نعم إنهم الأبطال الحقيقيون، لنأخذ علي سبيل المثال حركة الحقوق المدنية، عندما تفكر في حركة الحقوق المدنية، فأول من ستفكر فيه هو مارتين لوثر كينج، كان كينج شخصية هامة، لكنه كان أول من سيخبرك وأنا واثق من هذا أنه كان يمتطي موجة الفعل السياسي الجماهيري، وأن الناس الذين كانوا يقومون بكل العمل والذين كانوا في قيادة حركة الحقوق المدنية كانوا شبابا من طلبة لجنة التنسيق بين حركات اللاعنف وعمال وجماهير في الشارع كل يوم تضرب وتقتل أحيانا، ولكنها تعمل بدأب وبلا انقطاع.. لقد صنعوا الظروف التي أتي فيها مارتن لوثر كينج وصار قائدا.. كان دوره مهما للغاية، أنا لا أنكر هذا.. لكن الناس الذين كانوا مهمين حقا كانوا أولئك الذين نسينا أسماءهم، وهذه هي حقيقة أي حركة في الوجود.
لو قرأ الطلبة أو شاهدوا هذه المقابلة كيف تنصحهم للتحضير للمستقبل إذا رأوا أنفسهم في الأهداف التي تضعها أمامهم؟
- أقول لهم كونوا أمناء وناقدين واقبلوا المبادئ الأخلاقية الأساسية مثلا مبدأ أنه إذا رأيت أن ثمة أمرا خطأ في الآخرين فهو خطأ في كذلك.. وغير ذلك.. أقول لهم افهموا المبدأ الفوضوي الأساسي وبالتحديد عدم شرعية السلطة والعنف من الأساس ما لم تستطع تبرير هذا أو هو أمر عسير.. وهذا حقيقي سواء كان الأمر يتعلق بالعلاقات الشخصية في الأسرة أو كان يتعلق بالعلاقات الدولية.. وبعد هذا أقول لهم شاركوا الآخرين لتحسين المشاكل العديدة الحقيقية في العالم.. وهو أمر ممكن.
شيء من الشجاعة
هناك نوع من الشجاعة في هذا النوع من العمل أليس كذلك؟ وماذا تتضمن تلك الشجاعة في بلد مثل الولايات المتحدة فإن مستوى الشجاعة المطلوب منخفض فعلا؟
- حقا لو كنت منظما جماهيريا أسود فقيرا تعمل في أحياء فقيرة فالأمر يتطلب شجاعة؛ لأنك يمكن أن تقتل.. لو كنت أبيض مرتاحا متعلما فإن الشجاعة المطلوبة قليلة.. أعني علينا أن نرى ماذا يواجه الناس الآخرون.. كما قلت لقد عدت من تركيا.. الناس هناك في الجنوب الشرقي يعيشون في زنزانة الملايين منهم، ولكنهم يظهرون شجاعة حقيقية عندما يلبسون الألوان الكردية أو يتكلمون الكردية في العلن، قد ينتهي بهم الأمر إلي سجن تركي أو ما هو أسوأ من ذلك وهذا ليس مرحا.. ولكن دعنا نذهب إلى إستانبول وهي أكثر تغربا. لقد ذهبت هناك لمحكمة سياسية.. كانت الحكومة تحاكم ناشر نشر عدة عبارات لي حول قهر الأكراد في إستانبول، كان الكتاب الكبار والصحفيون والفنانون والمثقفون وغيرهم يقومون بعصيان مدني مستمر.. عندما كنت هناك طبعوا معا كتاب من الكتابات الممنوعة، كتابات ممنوعة للكتاب المسجونين . طبعوها معيا، ذهبوا معا للمدعي العام.. ذهبت معهم وطلبنا أن يحقق معنا ويتهمنا.. ليست نكتة.. بعض هؤلاء كان مسجونا وبعضهم سيعود للسجن.. وواجهوا قمعا لكنهم لم يقيموا ضجة كبرى، كانوا يتصرفوا بطبيعتهم ولا يلوحون بأعلام وهم يقولون انظروا كما أنا شجاع.. إنها الحياة بالنسبة لهم إنها تحتاج لشجاعة.
وبالمقارنة بما يواجهونه كل يوم فإن ما نواجهه ضئيل جدا حتى ينبغي أن لا نتكلم عنه.. نعم ثمة أمور ضئيلة قد تحدث ولكن ليس بالمقارنة بما يحدث في العالم.
بالنظر لخلفيتك العلمية ومدى تعقد مجال عملك في اللغويات، أنا متشوق لأعرف ما إذا كان هذا يعني رؤية محافظة أو معتدلة من جانبك لكيفية التغيير على المدى القريب؟ هل ترى كثيرا وتفهم أنه من الصعب إنجاز الكثير أحيانا ولكن هذا القليل الممكن هو أمر غاية في الأهمية؟
- نعم غاية في الأهمية والأهم من ذلك أعتقد أنه لا يجب أن نتخلى عن الرؤى المستقبلية، أنا أتفق مع بنات المصانع في لويل في 1850.. أعتقد أن عبودية العمل المأجور انتهاك للمبادئ الأساسية لحقوق الإنسان.. أعتقد أن ما يعمل في المصانع يجب أن يملكها.. أعتقد أن علينا أن نناضل ضد ما كان يسمى يومها روح العصر الجديد.. اكسب الثورة بصرف النظر عن أي فرد إلا نفسك..
وعلى المدى البعيد ولا أعرف إلى متي يجب الخلاص منه.. ولكن الآن ثمة مشاكل كبيرة يجب معالجتها مثل 30 مليون أمريكي لا يجدون ما يكفي لطعامهم أو مشاكل شعوب أخرى في العالم تعاني أكثر من ذلك بكثير.. والذين يعيشون في الواقع تحت أقدامنا نطحنهم ونحولهم لتراب.. تلك أمور هامة علي المدى القريب ويمكننا التعامل معها.. لا عيب البتة في الحصول على مكاسب صغيرة مثل المكاسب التي تكلمت عنها من قبل من الستينيات حتى الآن.. إنها مهمة جدا للحياة البشرية، وهذا لا يعني أن أمامنا طريقا قصيرا.. طريقنا صعب وشاق وطويل لكن عليك أن تفعل ما في وسعك.
والأمر كذلك في العلوم ربما تريد أن تحل معضلات مثلا ما سبب الفعل الإنساني، ولكن المعضلات التي تعمل عليها هي تلك التي تفهمها، هناك نكتة شهيرة عن السكران الذين كان يبحث في ضوء عمود نور عن شيء على الأرض وأي فرد وسأله عمّ تبحث؟ فرد: أبحث عن قلم سقط في.. سأله الآخر حسنا أين سقط؟ رد السكران: هناك عبر الشارع.. رد الآخر مستغربا: حسنا لماذا تبحث هنا؟ رد السكران ببساطة لأن النور هنا.
هكذا الأمور في العلوم ربما كانت المعضلة التي تود حلها عبر الشارع، لكن عليك أن تعمل حيث يوجد النور.. ربما لو حاولت تحريكها قليلا ربما ستجد نفسك في النهاية عبر الشارع.. وكذلك الأمر بالنسبة لشؤون البشر.. وأعتقد أن الأمر ينطبق على العلاقات الشخصية.. عندك مشاكل مع أطفالك.. هكذا يجب أن تحلها.
سؤال أخير.. أنا أفهم عدم رغبتك في التركيز علي الأبطال أو عدم حبك لأن تحول إلى بطل، لكن لو كان أحد النشطاء يشاهد أو يقرأ هذا الحوار فما هو الدرس الذي سيستخلصه من حياتك وينفعه في حياته؟
- مؤخرا ألقيت محاضرة في بركلي لمجموعة من الناس عن الولايات المتحدة والشرق الأوسط وإسرائيل وفلسطين وتركيا ومثل هذا الأمر من المسئول عن هذه المحاضرة؟ لست أنا المسئول طرت من بوسطن وأتيت وتكلمت.. المسئول عن هذا هم أولئك الذين عملوا عليها، الناس الذين يعملون مع المظلومين والمضطهدين في كل مكان.. ربما لن نعرف أسماءهم لكنهم الذين قادوا كل شيء.. لقد أتيت وإنه لأمر رائع بالنسبة لي أن أستطيع أن أشاركهم فيما يفعلونه ولو لمدة ساعة ولكنه أمر سهل أيضا.. أنت تعرف تصحو وتعطي محاضرة ليس بالأمر الكبير.. لكن تعمل على هذا الموضوع يوما بعد يوم وكل وقتك هذا أمر صعب، وهو أمر مهم، وهذا هو ما يغير العالم.. وليس الفرد الذي يأتي ويحاضر.
نعوم، أشكرك كثيرا على مشاركتك لنا اليوم، كان حوارا رائعا عن بعض جوانب حياتك وعملك.. شكرا.
- شكرا لك.
في مقالته
مـذهــب أمـريكــا الجـديــد ...إرهــاب الـرد عــلى الإرهاب
من المؤكد أن الحادى عشر من سبتمبر سوف سيسجل على أنه يوم فارق فى تاريخ الإرهاب. فقد أدينت الفظائع التى حدثت فى ذلك اليوم فى أنحاء العالم كله بوصفها جرائم خطيرة ضد الإنسانية، مع إجماع يكاد يكون كاملاً على أنه يجب على الدول كافة أن تعمل «على تخليص العالم من مرتكبى الأعمال الشريرة»، وأن «كارثة الإرهاب الشيطانية» ـ خاصة ذلك الإرهاب العالمى الذى ترعاه الدولة ـ وباء نشره «الأعداء الجبناء للحضارة نفسها» فى محاولة منهم «للعودة إلى البربرية»، وهو أمر لا يمكن القبول به. أما فيما وراء التأييد القوى لتصريحات القادة السياسيين للولايات المتحدة، فإن التحليلات التى اقتُرحت لتفسير ذلك الحدث تختلف: فيما يخص السؤال المحدد عن الرد المناسب على الجرائم الإرهابية، وفيما يخص المشكلة الأوسع التى تتعلق بتحديد طبيعة هذه الجرائم. وفيما يخص المسألة الثانية تحدِّد التعريفات الأمريكية الرسمية «الإرهاب» بأنه «الاستعمال المخطَّط له للعنف أو التهديد باستعمال العنف من أجل تحقيق أهداف سياسية أو دينية أو أيديولوجية من حيث طبيعتها. وذلك باستخدام التهديد أوالابتزاز أو بَذر الخوف». ويترك هذا التعريف عددا من المسائل معلَّقة، ومنها، مدى قانونية الأعمال التى يقصد منها تحقيق «تقرير المصير، والحرية، والاستقلال، التى يضمنها ميثاق الأمم المتحدة، وهى الأعمال التى يلجأ إليها أولئك الذين حرموا من ذلك الحق.. «خاصة أولئك الذين يرزحون تحت أنظمة ذات طبيعة استعمارية أو عنصرية أو تحت احتلال أجنبي».
وقد أيدت الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1987 فى واحدة من أقوى إداناتها لجريمة الإرهاب مثل هذه الأعمال، وكانت نتيجة التصويت فى تلك الجلسة 153 صوتا ضد صوتين. وفسَّرت الولايات المتحدة وإسرائيل تصويتهما ضد ذلك القرار احتجاجا بالنص الدقيق لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذى أوردناه هنا. فقد فُهِم هذا النص على أنه يسوغ المقاومة ضد نظام جنوب أفريقيا السابق، الذى كان حليفا للولايات المتحدة، وكان مسئولاً عن قتْل أكثر من مليون ونصف المليون وتدمير ما قيمته 60 بليون دولار فى الدول المجاورة فيما بين 1980 و1988 فقط، هذا إذا غضضنا النظر عن ممارسات ذلك النظام فى الداخل. وكان يقود تلك المقاومة نيلسون مانديلا رئيس المؤتمر الوطنى الأفريقى، وهو «واحد من أكثر الجماعات الإرهابية فظاعة» كما ورد فى تقرير أصدره البنتاجون فى سنة 1988، فى مقابل حزب رينامو الموالى لحكومة جنوب أفريقيا العنصرية الذى وصفه التقريرُ نفسه بأنه «ليس إلا جماعة من المتمردين المحليين» فيما يلاحِظ أن هذه الجماعة ربما كانت مسئولة عن مقتل مائة ألف مدنى فى موزمبيق فى السنتين السابقتين. وقد فُهم النص نفسُه على أنه يسوغ مقاومة الاحتلال العسكرى الإسرائيلى، الذى كان فى سنته العشرين، وكان مستمرًا فى الاستيلاء على الأراضى فى المناطق «الفلسطينية» المحتلة، وفى ممارساته الفظيعة مدعوما بمساعدات الولايات المتحدة الحاسمة وبتأييدها الدبلوماسى، وتمثَّل الدعم الدبلوماسى الأمريكى بمعارضته الإجماعَ الدولى المستمر لسنين طويلة على وجوب إيجاد حل سلمى.