ديانا مقلد
الحوار المتمدن-العدد: 772 - 2004 / 3 / 13 - 09:58
المحور:
حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات
حين استهدف مسلحون مجهولون عضو مجلس الحكم العراقي الانتقالي عقيلة الهاشمي في شهر أيلول (سبتمبر) الماضي وأطلقوا عليها الرصاص أمام منزلها في بغداد لتفارق الحياة بعد أيام, شعرت عراقيات كثيرات أنهن مستهدفات بشكل مباشر. ولعلّ الهاشمي, الموظفة السابقة في مكتب نائب رئيس الوزراء في النظام السابق طارق عزيز, لم تكن عضو المجلس الوحيد المستهدف بالاغتيال, لكنها كانت الوحيدة التي تمكن المسلحون من تصفيتها. ولا بد أن من دبّر اغتيال هذه السيدة الناشطة استهدف امرأة بالدرجة الأولى, قبل أن يكون قصده قتل صفة عضو المجلس عبرها.
عراقيات ينددن بالاحتلال الاميركي والاعتقالات .
لقد بدت الهاشمي الخاصرة الضعيفة التي يمكن النفاذ منها واستهداف المجلس من ورائها, بل ربما استهداف شريحة كاملة من النساء الطامحات لدور في الحياة العامة العراقية.
وتحمل هذه الحادثة في طياتها أكثر من مغزى ودلالة, فالرسائل التي استهدفت العراقيات توالت منذ ما قبل سقوط نظام صدام, بحيث بات وضعهن أكثر تعقيداً وصعوبة في ظل الوضع الأمني الدقيق واحتمالات تفجره في أي لحظة, وانتشار دعوات متطرفة إلى إحياء خطاب ديني متشدد, جنحت احياناً إلى حدّ المطالبة بمنع النساء من الخروج والعمل والتحامل على غير المحجبات, خصوصاً في المراحل الأولى من سقوط النظام السابق. وإذا كانت العراقيات انشغلن في حقبة البعث وصدام, إما بحماية أنفسهن أو التستر على أبنائهن وأزواجهن وأشقائهن خوفاً من إرسالهم إلى جبهات القتال أو الاعتقال أو الإعدام, فإن حالهن اليوم لا يبدو أفضل وسط الارتباك الكبير في كيفية التعامل مع الأوضاع المستجدة في البلاد.
لم تستثن المرأة في العراق من الخوف الذي طبع الوعي العام, وهو ما تثبته مؤشرات كثيرة, فالخوف من المرأة يوازي تماماً الخوف عليها, فهي دائماً موضوع لهذيان الشكوك وهو أمر لا يحتكره العراق وحده. وليس من قبيل الصدفة ان يردد العراقيون في بداية احتلال القوات الأميركية للعراق حكايات واشاعات تحدثت عن حيازة جنودها نظارات تسمح لهم برؤية أجساد النساء عارية. وهدفت هذه الاشاعات, من دون شك, الى التحريض على الوجود الاميركي, وبان ان مطلقيها يدركون إمكان نفاذ هذه الروايات إلى مشاعر العراقيين وإمكان تحريكها الهمم في مواجهة المحتلين.
لم تكن الأشهر الماضية سهلة على العراقيين ولعل النساء شعرن بثقل أكبر وسط منع عائلات كثيرات بناتها ونسائها من الذهاب إلى العمل أو الجامعة وحتى المدرسة مخافة أن يتم التعرض لهن أو اختطافهن, وهو أمر تكرر على نطاق واسع في الأشهر الأولى من الاحتلال. وارتدت نساء كثيرات الحجاب خوفاً, إثر تهديدات وتحذيرات تلقينها من جهات متشددة, وطاولت مطربات وممثلات ومؤديات رقص وفنانات.
وليست الدعوات المحافظة وحدها ما يقلق العراقيات عموماً, فارتفاع حالات الاعتداء على الفتيات والنساء جسدياً وجنسياً أمر يقلق العائلات العراقية ويرعبها, الأمر الذي دفع بطلاب جامعة بغداد مثلاً في إحدى المراحل إلى إنشاء هيئة لحماية زميلاتهم الطالبات خلال ذهابهن إلى الجامعة وايابهن إلى منازلهن.
عملياً, لا يوجد إحصاء دقيق لعدد النساء والفتيات اللواتي كن ضحايا حالات عنف جسدي وجنسي خلال حقبة حكم صدام, وهو أمر يصعب تحقيقه في ظل عدم إبلاغ ضحايا الجهات المسؤولة بهذه الحوادث, وعدم لجوئهن إلى رعاية طبية في بعض الأحيان.
ان المخاوف الأمنية التي تعيشها العاصمة العراقية وغيرها من المدن يخلف تأثيراً واضحاً على الحياة اليومية للنساء والفتيات مما يعوق إمكانية مشاركتهن بشكل واسع وفاعل في الحياة العامة في هذا الوقت الحاسم من تاريخ البلاد, من دون إغفال الدور المهم للعديد من الناشطات العراقيات, اللواتي برزت تجمعاتهن المختلفة منذ سقوط صدام, وهنّ يعملن في ظروف أمنية واجتماعية بالغة الصعوبة, ومع ذلك فهن مصرات على المتابعة. ويلقي كثير من العراقيين باللوم في انتشار الجريمة على أكثر من مئة ألف شخص أطلق سراحهم من السجون إثر عفو أصدره الرئيس المخلوع قبل أشهر من بدء الحرب, ومعظم من أطلق سراحهم كانوا من أصحاب السوابق والقتلة.
ولعل حكايات مثل التي تعرضت لها الطفلة سبأ (9 أعوام) هي ما دفع بعائلات محافظة كثيرة إلى منع فتياتها ونسائها من العمل أو مغادرة المنازل من دون مرافقة رجل من العائلة. واختطفت سبأ من أمام منزلها في احدى ضواحي بغداد واقتيدت إلى مبنى قريب واغتصبت, ووجدها أحد ابناء الجيران لاحقاً جالسة على الدرج تنزف, فنقلت إلى مركز طبي أميركي وفحصتها طبيبة أكدت أن الطفلة تعرضت للاغتصاب. وهي واحدة من الحالات القليلة الموثقة حول العنف ضد النساء في عراق اليوم, إذ تخشى الكثيرات من الإبلاغ عما يتعرضن له, لذلك فإن توثيق هذه الحالات غير دقيق.
وبحسب منظمة "حرية المرأة في العراق" التي تشكلت بعد سقوط صدام فإن عشرات من النساء العراقيات قتلن على يد أقربائهن منذ اعلان الرئيس جورج بوش الحرب في أيار (مايو) الماضي. وكتبت المجموعة إلى بول بريمر الحاكم الإداري الأميركي للعراق مستنكرة موجة الجرائم ضد النساء بما في ذلك الاغتصاب والخطف وجرائم الشرف, من دون ان تتلق رداً من المسؤول الأميركي.
قانون الأحوال الشخصية
ويتجلى الارتباك الأميركي في طريقة التعامل مع القضايا الحساسة في أكثر من مجال في العراق, خصوصاً في الجدل الذي تسبب به الغاء مجلس الحكم قانون الأحوال الشخصية, حسب قراره رقم 137 في كانون الأول (ديسمبر) الماضي وخلال فترة رئاسة عبدالعزيز الحكيم رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق, وقضى بتعديل القانون الأصلي الذي صدر في العام 1959, وتطبيق أحكام الشريعة على قضايا الأحوال الشخصية حسب المذاهب. ويفسح هذا القانون المجال في أن تختار كل طائفة أو جماعة عرقية القواعد التي تطبق عليها بنفسها بعدما كانت هذه القضايا من اختصاص المحاكم المدنية. وهذا القرار الذي اتخذه المجلس فجأة لم يستغرق نقاشه أكثر من دقائق وتبرأ أكثر أعضائه منه لاحقاً ونفى آخرون مشاركتهم التوقيع عليه واعتمد بعجالة وهو ما أثار تساؤلات حول المغزى من إثارته وطرحه في هذا الوقت بالذات. ولكن وبعد شهرين من صدور القرار الذي بقي معلقاً بعد مماطلة الحاكم الأميركي بول بريمر في التوقيع عليه, عاد المجلس وألغاه معيداً إحياء القانون السابق. وبدا ان المجلس رضخ للضغوط الشعبية خصوصاً الاحتجاجات النسوية والحقوقية, والتي عكست تخوف شريحة واسعة من العراقيات مما ينتظرهن مع مدّ السلطات الدينية سيطرتها على الحياة العامة في العراق, والتي يرين انها ستؤدي الى مزيد من التراجع في وضع المرأة.
ومثلما أثار القانون حفيظة جماعات مدافعة عن حقوق المرأة فإن إلغاءه أثار غضـب كثيرين ممن يرون أن الشريعة تتضمن أحكاماً تحدد بوضوح حقوقاً للمرأة لا لبس فيها. ففي معرض تبريره للقرار قال عبد العزيز الحكيم إن القانون 137 أمر إيجابي يتماشى مع الحرية, معتبراً أن القانون الأصلي كان ظالماً لأنه يملي على الناس كيف يجب أن يتصرفوا في المسـائل الشخصية مثل الزواج والطلاق والميراث.
ويحيل قانون الأحوال الشخصية الصادر عام 1959 في عهد الرئيس عبدالكريم قاسم قضايا كثيرة إلى أحكام المذاهب لكنه يعتمد معايير موحدة للجميع, خصوصاً بالنسبة إلى الطلاق والزواج والإرث على أن تتولى تطبيقها محاكم مدنية. ولم يكن هذا القانون يسمح بالزواج لمن هم دون الثامنة عشرة كما كان يحظر الطلاق الاعتباطي ويمنع تفضيل الذكور على الإناث في الحضانة أو في الميراث. ولم يمسّ صدام حسين حتى في ذروة بطشه وطغيانه هذه الحقوق, لكن القيادات الدينية المستجدة اليوم, والتي تطالب باعتماد الإسلام مصدراً رئيسياً للتشريع وليس مصدر التشريع, تعتبر هذا القانون على رغم العيوب الكثيرة التي تشوبه مجحفاً ومخالفاً لأحكام الشريعة. صحيح أن مجلس الحكم عدل عن الغاء قانون الأحوال الشخصية إلا أن العديد من العراقيات اعتبرن ما حدث نذيراً لما ينتظرهن تصاعد نفوذ رجال الدين. في المقابل لا ترى عراقيات كثيرات أي ضير في تمدد نفوذ المراجع الدينية, بل وجدن فيه ضرورة كن يفتقدن إليها في عهد البعث.
طموحات دينية
أطلق سقوط صدام وما تبعه من احتلال أميركي العنان لشيعة العراق الذين كانوا طبقة مسحوقة تعرضت للقمع على مدى عقود, وأجج المشاعر الدينية التي وجدت في المرجعيات شبكة خلاص. وفي ظل سعي الشيعة إلى استعادة هوية ودور لهم في العراق الجديد, يبدو أن النساء لسن بمنأىً عن هذا المسار. فالصحوة الدينية التي تشهدها الحوزات والمراجع تشهد تزايداً في ارتياد النساء المساجد, وانخراطهن في حلقات وتجمعات دينية. ولا تخفي كثيرات ممن يرين في الإيرانيات مثالاً يحتذى, ضرورة أن تكون هناك حوزة خاصة بالنساء تصدر تشريعات تتعلق بالمرأة. فعندما سقط النظام السابق انخرطت نساء الشيعة فيما اعتبرنه عودة إلى الأصول, وبدأت الأمهات تدريس بناتهن مبادئ الدين, خصوصاً المذهب الشيعي في المنازل والمساجد, وهو أمر كانت تطاله عقوبة السجن أو الإعدام خلال حكم حزب البعث. لكن بعض هذه الخطوات لم يكن كافياً لإرضاء طموحهن. ففي مكاتب "الحركة الاسلامية النسائية" وهو حزب شيعي يروج للديموقراطية الإسلامية, تسعى عضواته الى أمر أكبر: حوزة خاصة بالنساء في النجف. وتقول الصحافية حليمة حمدي: "في المستقبل نريد أن تكون لدينا مدارس تخرج نساء, ان الحوزة النسائية لن تكون مختلفة عن أي حوزة, لكنها ستكون للنساء فقط لتساهم في إثارة قضايا تهم المرأة في العراق وتصدر تشريعات معنية بقضايا الأسرة والمرأة". وهذا الطموح ليس دينياً فقط, إنه طموح لاستعاد دور في الحياة العامة التي تعتقد كثيرات أن الإسلام يمنحهن إياه, لكن النظام القمعي السابق حال دونها. إنهن يرين أن الإسلام هو الحلّ. وأظهر استطلاع لمعهد غالوب جرى في تشرين الأول (اكتوبر) الماضي ان في مدينة النجف دعماً مطلقاً لدولة إسلامية وصلت نسبته إلى 92 في المئة, فيما شدد 72 في المئة على ضرورة أن يكون هناك دور للنساء في الحياة العامة.
لكن ما أن يتقدم النقاش السياسي والاجتماعي في العراق خطوة, حتى يعود ويصطدم مجدداً بالواقع الأمني الخطر والمعقد, وليست انفجارات عاشوراء في بغداد وكربلاء سوى دليل على محاولة إبقاء النقاش في البلاد عند بداياته. لقد عادت ثقافة الخوف تطغى بقوة, وباتت جزءاً من وجدان كثيرين في المجتمعات المأزومة في المنطقة, خصوصاً تلك التي تعيش أوضاعاً غير مستقرة, واستهداف النساء في ظل هذه الظروف المعقدة ليس بالأمر الجديد, فقد كانت النساء دائماً هدف الأطراف المتنازعة في الحروب والأزمات: إنهن مركز الشرف والعار, الذي يصيب ضربه مجتمعاً بأكمله. وما هذا إلا مسار لثقافة قديمة تجسدت في أكثر من منطقة وفي أكثر من ظرف سياسي واجـتماعي راكمت جميعها توجهاً عاماً يضع النساء في خانتين متـناقـضتين: إما الحماية الـكاملة إلى حدّ الإلغاء التام وإما الاستهداف الكامل إلى حدّ التصفية.
#ديانا_مقلد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟