تتميز هذه المرحلة باضطرابات وتحولات سياسية كبيرة: صعود النازية في ألمانيا والنمسا، ثورة وحرب أهلية في إسبانيا، إفلاس الجبهة الشعبية في فرنسا، محاكمات موسكو والتصفيات الكبرى في الاتحاد السوفياتي، وانطلاق حرب التحرير الصينية... سنوات معدودة ستتغير فيها المجتمعات الأوربية، الخريطة السياسية، وستعرف الحركة العمالية تحولات عميقة: تقاليد وثقافات ستمحي وقارات سيتم خنقها.
إلا أننا في هذه الورقة سنتطرق فقط إلى المسائل السياسية الكبرى التي نتجت عن الانحطاط البيروقراطي للأممية الشيوعية.
تحظى هذه المرحلة، بالنسبة لحركتنا، باهتمام مزدوج:
1) اهتمام وطني: معرفة وفهم من أية معارك ولدت حركتنا، وما هو الإرث البرنامجي الذي تجسد استمراريته.
2) اهتمام تطبيقي وعملي، حيث العديد من المسائل والإشكالات التي تحدد توجهنا اليوم، تجد جذورها في شروط تأسيس الأممية الرابعة.
1. متى وانطلاقا من أية معايير، سيتخلى تروتسكي وقيادة المعارضة اليسارية عن خط النضال من أجل إصلاح الأممية الشيوعية، لصالح بناء أممية جديدة؟
2. على أية قاعدة، ما هي الأسس البرنامجية التي ستميز هذا التيار الجديد داخل الحركة العمالية؟
3. كيف، وما هي الطريقة التي سيتم اعتمادها في تجميع أقصى ما يمكن من القوى حول هذا المشروع؟
4. مع من؟ سنتناول هنا العلاقة المعقدة بين العمل على بناء فروع قومية والعمل على بناء منظمة عالمية، ثم مختلف التكتيكات التي تم العمل بها: تقارب، تجميع، اندماج، دخولية وحزب عمالي يرتكز على النقابات.
المعــايير:
إن الأممية الثانية لم تسقط فجأة في الشوفينية عام 1914، بل لقد ظهرت علامات انحطاطها قبل هذا التاريخ. تجلى هذا على المستوى النظري والإيديولوجي في ما سمي ب"مراجعة الماركسية" مع إدوارد برنشتاين، وعلى المستوى السياسي في مشاركة وزراء اشتراكيين في حكومات برجوازية (ميلران) وفي الموقف الشوفيني من مسألة المستعمرات.
ليس أقسى بالنسبة لمنظمة أممية من الموقف تجاه الحرب، عندما تضطر للاختيار بين موقف "يا عمال العالم اتحدوا" ونقيضه "يا عمال العالم تقاتلوا".
إن انضمام الأحزاب الاشتراكية - الديمقراطية في 4 غشت 1914 إلى "التعبئة العامة" و "الاتحاد المقدس" قد حكم على الأممية الثانية بالإفلاس، وجعل ضرورة أممية جديدة مهمة على رأس قائمة الأعمال.
إنها الخلاصة التي استخلصها لينين في كراس حول "إفلاس الأممية الثانية".
لم يكن يكفي بالنسبة للينين إعلان أممية جديدة، بل إن جوهر العمل في نظره هو في بناء الأممية وإعداد الشروط لذلك. فكانت مؤتمرات زيمرفالد وكانتال أولى الخطوات نحو هذا الطريق. لكن الحدث الأكبر بامتياز ـ انتصار الثورة الروسية ـ هو الذي أعاد رسم الخطوط الجديدة لتجميع الحركة العمالية العالمية، ووضع مهمة بناء أممية جديدة موضع التطبيق.
تأسست الأممية الشيوعية في 1919، لكن ليس من دون عدة ترددات، فأغلبية الحزب الشيوعي الألماني الفتي كانت تعارض هذا الإجراء وازداد الوضع تعقيدا بعد مقتل روزا لكسمبورغ وكارل ليبكنخت.
فكان على البلاشفة أن ينزلوا بكل ثقلهم، ثم إن انفجار الوضع على الحدود النمساوية – الهنغارية ستختفي معه كل التحفظات، وحسمت مسألة الإعلان عن تأسيس الأممية الشيوعية.
كذلك فقد بدأ مسلسل الانحطاط البيروقراطي للاتحاد السوفياتي والأممية الشيوعية، مبكرا في العشرينات. تروتسكي يؤرخ "بداية الترميدور" أي الثورة البيروقراطية المضادة في 1924، ويهم جدا، من أجل استخلاص الخلاصات العملية والاختيارات التنظيمية، التمعن في المتغيرات النوعية التي تحدد المهام الجديدة.
لا يتعلق الأمر هنا فقط بأفكار ونظريات ومبادئ، رغم أهميتها وضرورتها، بل بانقلاب تاريخي هائل، يحدد مصير ملايين وملايين الشغيلة، بعد انتصار أول ثورة بروليتارية في بلد متخلف ومعزول.
حتى سنة 1932 وفي وثيقة بعنوان "المعارضة اليسارية العالمية، مهامها وطرقها" لا زال تروتسكي يدافع عن "خط إصلاح الكومنترن" ويعرف المعارضة اليسارية كجناح وليس كمشروع حزب كامل بذاته.
« إن من شأن كارثة، كسقوط الدولة السوفييتية أن تؤدي دون شك إلى سقوط الأممية الشيوعية. كذلك من شأن صعود الفاشية في ألمانيا وسحق البروليتاريا الألمانية أن يجعل الكومنترن تقتات من نتائج سياستها الفظيعة ».
في مارس 1933، أي سنة بعد ذلك، ستتحقق للأسف الفرضية الثانية، لقد تم سحق البروليتاريا الألمانية دون مقاومة نتيجة السياسة الإجرامية لقيادتها الاشتراكية ـ الديمقراطية والستالينية.
فكانت خلاصة تروتسكي سريعة، والتي تجسدها عبارته الشهيرة: « غدا ستنهض البروليتاريا الألمانية، أما الحزب الألماني فلن ينهض أبدا ».
ونتيجة ذلك سيعلن عن ضرورة حزب جديد في ألمانيا، دون الذهاب إلى حد تشييع كل الكومنترن في جنازة واحدة مع الحزب الألماني.
إلا أنه وإلى حدود يوليوز 1933 كان خط "من أجل حزب جديد في ألمانيا" استثناء، أما الخط العام فكان لا يزال لصالح "إصلاح الأممية الشيوعية وفروعها".
فالانحطاط البيروقراطي للاتحاد السوفياتي والأممية الشيوعية وإن كان مسلسلا عالميا، فإن هذا لا يعني أن الأحزاب الشيوعية الفتية، كانت مجرد ملحقات تابعة للكومنترن، فقد كان لها تاريخها الخاص بها، مما جعل مسلسل الانحطاط يكون متفاوتا.
في بعض البلدان تمكنت "الستلنة" (Stalinisation) من خنق الحركة الشيوعية في طور الولادة، وهي حالة إسبانيا. وفي بلدان أخرى أدت السياسة المغامرة "للحقبة الثالثة" إلى قطيعة وعدة انشقاقات في فروع الأممية الشيوعية، هي حالة السويد، حيث أغلبية الحزب الشيوعي بقيادة كيلبوم (Kilbom) ستغادر الأممية الشيوعية. وبدرجة أقل حالة ألمانيا مع ظهور تيار براندلر (Brandleir) .(K.P.D.O) وأيضا حالة كاطالونيا مع انشقاق فيدرالية كاطالونيا بقيادة Jean Maurin.
ببلدان أخرى اتخذت عملية بقرطة الأحزاب الشيوعية وإلحاق قياداتها بمصالح الدبلوماسية السوفياتية معارك رهيبة، طيلة الثلاثينات، دون أن تتخذ شكلا مكتملا. في حين ستعرف قيادات ستالينية أخرى نوعا من الاستقرار: فرنسا حول Thorez، وفي إيطاليا حول توغلياتي، أما القيادة الماوية فستتشكل خلال المسيرة الكبرى ضد مجموعة Wang Ming المدعومة من طرف قيادة الكومنترن، في حين حافظ الحزب الشيوعي الفيتنامي على بعض الاستقلالية. أما القيادة اليوغسلافية فستعرف علاقاتها مع الكومنترن عدة تشنجات منذ ما قبل الحرب العالمية الثانية.
فقط في يوليوز 1933 وبعد أن استنتج غياب أي رد فعل داخل الكومنترن حيال التراجيديا الألمانية، سيتراجع تروتسكي عن خط "إصلاح الأممية الشيوعية" ويدعو إلى ضرورة قيام أممية جديدة.
يمكننا أن نناقش معيار الهزيمة الألمانية كمحطة في تغيير خط نضال المعارضة اليسارية، ونتساءل حول ما إذا كان خط "الإصلاح" قد فقد معناه منذ 1927 مع تراجيديا الثورة الصينية الثانية، ومجازر شنغاي وكانتون الرهيبة، والتصفيات الأولى في الاتحاد السوفياتي.
في مقالات فيما بعد سيتحدث تروتسكي عن وعيه بهذه المسألة، لكنه كان يرى فيها مادة للمؤرخين. بدورنا لا نرى فيها غير ذلك، وسينصب اهتمامنا حول شروط وطرق بناء الأممية الجديدة.
إن المعيار الألماني، أي صعود النازية، ليس معيارا اعتباطيا، فقد كان يعني هزيمة البروليتاريا الأكثر تنظيما والبلد الذي كان الرهان على توسيع الثورة العالمية فوق أطرافه منذ انتصار الثورة الروسية. إن مجرى التاريخ برمته سيعرف تغييرا حاسما.
غير أن هناك فرق بين انحطاط الأممية الثانية والثالثة، يرتبط هذا الفرق بوجود الدولة العمالية السوفياتية نفسها. فقد اصطدم تروتسكي بإشكالية استراتيجية عميقة: الدعوة إلى تأسيس حزب ثوري عالمي جديد، بما فيه الاتحاد السوفياتي، يعني الدعوة إلى ثورة جديدة في الاتحاد السوفياتي نفسه. وحتى بداية الثلاثينات، لم يكن تروتسكي يتصور الدعوة إلى مثل هذه الثورة قبل أن تتمكن البيروقراطية من إسقاط الدولة العمالية في الاتحاد السوفياتي.
في مارس 1933 كان لا يزال الخط العام هو "إصلاح" الأممية الشيوعية وفروعها باستثناء ألمانيا، حيث أصبحت مهمة بناء حزب جديد على جدول أعمال المعارضة اليسارية.
وبعد مصادقة الكومنترن في أبريل 1933، دون تحفظ، على السياسة السابقة في ألمانيا، تساءل تروتسكي حول ما إذا كان ينبغي الدعوة إلى تأسيس أممية جديدة. في مارس إذن لم يكن بناء حزب جديد في ألمانيا سوى استثناء، وفي بداية يوليوز 1933، أصبح خط إصلاح الأممية والحزب في الاتحاد السوفياتي هو الاستثناء. إن هذه التضاربات هي انعكاس للأحداث الضخمة التي كانت في طور التكون آنذاك، وللاتجاه الذي يمثله انحطاط أول دولة عمالية جاءت على إثر ثورة بروليتارية ظافرة.
حل هذا التناقض سيأتي مع فكرة "ثورة سياسية" في الاتحاد السوفياتي، دون انتظار سقوط الدولة العمالية والعودة إلى الرأسمالية. إنها ثورة سياسية، ضد مصادرة سلطة البروليتاريا من قبل البيروقراطية، تهدف إلى إقامة نظام ديمقراطية اشتراكية.
ضرورة أممية جديدة، أصبحت إذن جوابا متماسكا بما في ذلك المسألة السوفياتية.
إشكالية أخرى ارتبطت بالسياق العام وبطبيعة المعيار التاريخي الذي تمثله الهزيمة الألمانية.
فبالنسبة للاشتراكية ـ الديمقراطية، يمثل 4 غشت 1914 اكتمال تطور انتهازي بدأ منذ زمن بعيد، وعملية اندماج تدريجي في الأجهزة البلدية والبرلمانية للدولة البرجوازية، تشكلت على إثره بيروقراطية برلمانية ونقابية داخل أحزاب الأممية الثانية.
في بداية ال30 لم تعد سياسة الكومنترن هي سياسة التعاون الطبقي، بل سياسة "الحقبة الثالثة"، وهي سياسة قتالية، من شأنها استقطاب العناصر الأكثر كفاحية وسط البروليتاريا الفتية، التي استنهضها صيت الثورة الروسية. وليس من دون حق عندما يتكلم إسحاق دويتشر عن "البطولة المبقرطة" للأممية الشيوعية. هذا ما جعل من الضروري التفكير بعمق قبل إصدار حكم الإفلاس النهائي على الأممية الآخذة في الاحتراق، ليس في لهيب الشوفينية المعممة، بل في لهيب السياسة المغامرة لقيادة الكومنترن في ألمانيا، حيث كان يتقرر مستقبل الثورة العالمية.
بالرغم من هذه الصعوبات، يجب استخلاص هذا الدرس المنهجي الصحيح: للحكم على طبيعة تنظيم ما، يجب امتحانه على ضوء الأحداث الكبرى، أي من "الأفعال" رغم ما يرافق تحديد هذه الأفعال من تحفظ.
منذ 1930، كتب تروتسكي ما يلي:
« واضح أن كل إمكانات واحتمالات التطور نحو البونبارتية، تقلص من النجاحات الجزئية في طريق الإصلاحات، لكن النتائج لا يمكن قياسها مسبقا. سنتابع طريق الإصلاحات ».
وفي 1933، أي بعد الامتحان الألماني، سيكتب تروتسكي:
« بالرغم من أن البعض منا حصلت عنده القناعة، بأن الأممية الشيوعية، سارت إلى الإفلاس، لم يكن ممكنا بالنسبة لنا أن نعلن أنفسنا أممية جديدة. لقد كنا نطرح هذا السؤال دائما، بارتباط مع الأحداث التاريخية الكبرى التي من شأنها أن تخضع الكومنترن الستاليني إلى امتحان تاريخي ».
تعتبر هذه الطريقة صحيحة، حتى بالنسبة للتنظيمات الصغيرة. صحيح أن وزن الأخطاء التاريخية، والانزلاقات البرنامجية هي مباشرة وكارثية بالنسبة لتنظيمات ذات علاقة ضعيفة وهشة مع الحركة الجماهيرية، أكثر مما هي بالنسبة للأحزاب الجماهيرية. لكن حتى في هذه الحالة لا يمكن للأخطاء والمراجعات النظرية، أن تتجسد على مستوى الممارسة.
لقد انقسمت الأممية IV بشكل عميق خلال سنوات 52-1953 ويمكننا الآن أن نناقش بوضوح ما كان خطيرا أو ذا ميل تحريفي في المواقف المدافع عنها آنذاك من طرف بابلو (Pablo) هو الستالينية والبيروقراطية. لكن الامتحان الحاسم يبقى هو الموقف السياسي اتجاه الثورة الهنغارية سنة 1956، أي الدعم دون تحفظ للمجالس العمالية ببودابست ضد البيروقراطية الستالينية. كل من توصل إلى خلاصة الانحطاط النهائي لبابلو في سنة 1953، اعتمادا على مقالاته، كان مرغما على تغيير موقفه ثلاث سنوات بعد ذلك، بالارتكاز هذه المرة على التزامات بابلو العملية.
هذا ما جعل من الضروري عقد مؤتمر توحيد الأممية IV (1963) على قاعدة اتفاق لمواجهة الأحداث الكبرى التي تمثلت في الصعود المتنامي للثورة السياسية سنة 1956، ومعركة التحرير بالجزائر وانتصار الثورة الكوبية 1959.
في الحقيقة لا بد من التزام الحذر في الحكم على التنظيمات الصغيرة، بفعل محدودية انغراسها الجماهيري وعلاقاتها الدولية، وعدم توفرها على وسائل قياس سريعة ومضبوطة للجواب في أية لحظة على كل تطورات الثورة العالمية.
قبل إصدار أي حكم نهائي، يجب إعطاء هذه التنظيمات الوقت الكافي للإخبار والتفكير ومراجعة الأخطاء وإلا أصبح كل حدث كبير محطة انقسام.
أممية جديدة: على أية أسس؟
« ليس الحزب هو الذي يصنع البرنامج، بل البرنامج هو الذي يصنع الحزب » !
تجد عبارة تروتسكي هذه جذورها في البلشفية الأصيلة، إن البرنامج هو القاعدة التي يتشكل على أرضيتها الحزب، ويختار مناضليه ويربي أطره. إنها إحدى الدروس الكبرى للصراع الطبقي.
في سنة 1933 كان الرجوع إلى البيان الشيوعي والمؤتمرات الأربعة الأولى للأممية الشيوعية، منطلقا ضروريا وكافيا من أجل تحديد الهوية البرنامجية للأممية الجديدة. وخلال عشر سنوات فقط أفرز التطور الصاخب للصراع الطبقي على المستوى العالمي، دروسا جديدة حاسمة: الثورة البيروقراطية المضادة في الاتحاد السوفياتي، صعود الفاشية في ألمانيا، سحق الثورة الصينية الثانية (25-1926).
دروس هذه التطورات ستجد تحليلها في النقط البرنامجية الإحدى عشر للمعارضة اليسارية لسنة 1933 والتي بعد مراجعة النقطة العاشرة، ستكون أول قاعدة برنامجية للأممية الجديدة. يتلخص المهم في هذه الوثيقة فيما يلي:
1) الدفاع عن استقلالية الحزب البروليتاري مهما كانت الظروف. إنها إحدى دروس إلحاق الحزب الشيوعي الصيني بالكيومينتانغ ونظرية "الأحزاب العمالية الفلاحية" التي صنعت داخل الكومنترن في النصف الثاني من العشرينات.
2) معارضة نظرية "الاشتراكية في بلد واحد" بنظرية الثورة الدائمة، وبالتالي الإقرار بالطابع العالمي للثورة البروليتارية.
3) الإقرار بكون الاتحاد السوفياتي دولة عمالية منحطة بيروقراطيا، ونتيجة لذلك وجب الدفاع عنها ضد الإمبريالية وكل محاولات إعادة الرأسمالية.
4) إدانة السياسة الاقتصادية الستالينية ومغامرة "التجميع القسري".
5) ضرورة النضال داخل النقابات الإصلاحية والتي تعني إدانة سياسة الانشقاقات النقابية المميزة للحقبة "الثالثة".
6) رفض تصور "دكتاتورية العمال والفلاحين الديمقراطية" والتي تعني في نظر الأجهزة القيادية للكومنترن، مرحلة منفصلة عن دكتاتورية البروليتاريا. يتعلق الأمر هنا أيضا باستخلاص دروس الثورة الروسية والصينية.
7) ضرورة تعبئة الجماهير حول شعارات انتقالية، وبالخصوص شعارات ديمقراطية في البلدان المستعمرة أو أمام أنظمة دكتاتورية. هذه النقطة ستضع حدا للنقاش الطويل الذي دار خلال المؤتمر V و VI للأممية الشيوعية حول الشعارات وبالخصوص الشعارات الديمقراطية من قبيل الجمعية التأسيسية في البلدان المستعمرة والتابعة.
8) ضرورة تبني سياسة جبهة عمالية موحدة مقابل سياسة التعاون الطبقي من جهة والسياسة العصبوية الانقسامية ل"الحقبة الثالثة" من جهة أخرى.
9) إدانة ما يسمى بنظرية "الاشتراكية ـ الفاشية" التي تماثل الأحزاب الاشتراكية بالفاشية.
10) الإقرار بضرورة أممية ثورية أصيلة.
11) ضرورة نظام ديمقراطي داخل الحزب لمواجهة الانحطاط البيروقراطي للأممية الشيوعية والحزب الشيوعي السوفياتي وأنظمتها الداخلية.
خمس سنوات بعد ذلك سيتم إغناء هذه النقط وتدقيقها على ضوء التجارب الجديدة، في وثيقة برنامجية ثانية: "البرنامج الانتقالي". ينبغي التعلم من التجارب الجديدة، كما ينبغي أن نستخلص الخلاصات اللازمة من الأحداث، كما فعلت المؤتمرات الأربعة الأولى بالنسبة للثورة الروسية، وكما فعل تروتسكي والمعارضة اليسارية في العشرينات والثلاثينات. فنحن لا نعتبر برنامجنا برنامجا نهائيا. فالبيان الشيوعي تم إغناؤه بعد عشرين سنة على ضوء تجربة كمونة باريس. وبدأت السوفييتات كتجربة معاشة سنة 1905، قبل أن تصير مكتسبا برنامجيا. ونفس الشيء يمكننا ويجب علينا أن نتعلمه من تطورات الثورة على الصعيد العالمي، من الانتصارات (الصين، يوغسلافيا، كوبا، فيتنام، نيكاراغوا...) ومن الهزائم (ألمانيا، إسبانيا، اليونان، إندونيسيا...). كما ينبغي لنا اليوم أن نتعلم من أمريكا الوسطى، الفلبين، بولونيا، ومن كل الحركات الجماهيرية في البلدان الرأسمالية المتقدمة، ليس النضالات العمالية فقط، بل أيضا الحركات النسائية، والنضالات الإيكولوجية، والحركات المعادية للحرب والتسلح.
50 سنة، تتطلب منا مزيدا من الدقة والليونة التكتيكية، لكن السؤال يظل هو: هل وقعت أحداث وتجديد برنامجي مهم يتطلب منا مراجعة جذرية وتغيير نوعي للخطوط الرئيسية للنقط الإحدى عشر؟ إننا نرى العكس، فهذه النقط، شأنها شأن المؤتمرات الأربعة الأولى للأممية الشيوعية، تشتمل على مسائل برنامجية راهنة، تتحدد من خلالها التيارات الكبرى الرئيسية للحركة العمالية العالمية: الاشتراكية ـ الديمقراطية، الستالينية والماركسية الثورية.
ونتيجة لأزمة الستالينية وتفكك الحركة الشيوعية، وإفلاس الاشتراكية ـ الديمقراطية، أصبحت خريطة القوى أكثر تعقيدا من سنوات الثلاثينات، فالمواقف التوفيقية والغموض قد أصبحا أكثر تعقيدا من ذي قبل. تيارات تتراوح بين الستالينية والاشتراكية الديمقراطية، وأخرى تتدحرج بين الستالينية والماركسية الثورية.
إن الذي يحافظ على استمرارية الأممية IV ، أمام تفكك وانقراض أغلب التيارات التي كانت إلى جانبها في فترة ولادتها، هو صحة وراهنية برنامجها العام. فقد لا تطرح اليوم الجبهة العمالية الموحدة بنفس الوزن بالمقارنة مع تجربة "الحقبة الثالثة"، لكنها لا زالت تطرح في وجه كل سياسة الانقسامات والتعاون الطبقي. ومسألة طبيعة الاتحاد السوفياتي والثورة السياسية وموقفنا من الدول العمالية المبقرطة، لا زالت أحداث الصراع الطبقي تثبت صحتها. مسالة الثورة الدائمة، أي نضج النضالات الديمقراطية إلى نضالات اشتراكية في البلدان التابعة هي في قلب دروس ثورات كوبا، الفيتنام ونيكاراغوا. ومسألة بناء أممية ثورية جماهيرية، والنظام الديمقراطي داخل الأحزاب الثورية، لا زالت هي الأخرى في قلب النقاش.
نحو أممية ثورية جديدة: كيف؟
سنتناول هنا ثلاثة مسائل:
1. متى وفي أية شروط وضعت مسألة الأممية الجديدة؟
2. بناؤها على أية قاعدة برنامجية؟
3. مع من وكيف سيتم بناؤها؟ وهي مسألة تهمنا اليوم بشكل مباشر.
صحيح أن شخصية ليون تروتسكي، أفكاره، تحاليله، وقدراته الأدبية، لا يمكن مقاومة تأثيرها والإعجاب بها، لكن شيئا ما، لا يمر : الأممية الرابعة.
كيف لشخصية كبيرة مثل تروتسكي، أن تتعلق بفكرة كهذه؟
نقاد آخرون لا يعترضون على ضرورة أممية جديدة، لكن على طريقة بنائها: تروتسكي المثقل بالهزائم والعزلة جعله يلجأ إلى أممية معلنة بذاتها "Autoproclamé" ، أقلية دائما ومعزولة ومطبوعة بما يشبه "الخطيئة الأصلية". لنتناول فكرة "الإعلان الذاتي" العزيزة دائما على كل المترددين، إذا لم نبادر نحن إلى بناء المنظمات التي نراها ضرورية للعمل اليومي، وأداة المشروع الثوري، فمن سيقوم بهذا مكاننا؟
إن الحقيقة هي أن فترة معركة بناء الأممية الجديدة، كانت مثالا حقيقيا لمنهجية سياسية متأنية ومفتوحة، لكن أيضا صارمة فيما يخص المبادئ. فمنذ 1933 كانت تروتسكي مقتنعا بضرورة أممية جديدة كما كان لينين مقتنعا بأممية ثالثة بعد إفلاس الأممية الثانية.
بعد تحديد الهدف، كان لا بد من 5 سنوات قبل المؤتمر التأسيسي (1938)، سنوات بذل فيها تروتسكي مجهودا جبارا من أجل كسب قوى جديدة لفكرة وبرنامج الأممية الجديدة، وتجميع قوى كانت مشتتة أو معارضة للفكرة. كانت هذه السنوات سباقا ضد الساعة، أمام شبح محاكمات موسكو، الحرب الأهلية في إسبانيا، صعود النازية في ألمانيا والتهديد بحرب عالمية جديدة.
إلى جانب الأنوية الماركسية الثورية، كانت توجد قوى أخرى منحدرة من الاشتراكية ـ الديمقراطية أو من الأممية الشيوعية السائرة في طريق الانحطاط.
انطلاقا من هذا الوضع تم تطبيق منهجان: من جهة بناء الأممية الرابعة على قاعدة برنامجية محددة بشكل واضح، ومن جهة أخرى إقامة تنسيق دبلوماسي على قاعدة اتفاقات حد أدنى.
إنها المعركة من أجل بناء الأممية الرابعة في وجه الترددات و"أنصاف الحلول" التي كانت تدعو إليها "المجموعة العالمية للعمل" (I.A.G) المعروفة باسم "مكتب لندن".
عندما تخلت المعارضة اليسارية عن خط "إصلاح الأممية الشيوعية" لصالح بناء أممية جديدة، توجه تروتسكي إلى كل المنظمات المستقلة التي كانت هذه المسألة موضع خلاف معها. ووجدت الأممية IV نفسها أمام مهمة جديدة: تنشيط وتسريع تطور المنظمات الاشتراكية اليسارية نحو الشيوعية عن طريق ضخ أفكارها وتجاربها.
"كتلة الأربعة": غشت 1933
ثلاثة منظمات فقط من ألمانيا وهولندا هي التي ستوقع في غشت 1933، على اتفاق العصبة الشيوعية العالمية (الاسم الذي كانت تحمله المعارضة اليسارية آنذاك) يدعو إلى أممية رابعة.
تضمنت هذه الوثيقة عشر نقاط:
1) الإقرار بإفلاس الإصلاحية والدعوة إلى ضرورة دكتاتورية البروليتاريا.
2) الدفاع عن مبدأ الأممية في وجه "الاشتراكية في بلد واحد".
3) رفض كل سياسة انتظارية من شأنها رفض الاستيلاء على السلطة، تحت تبرير انتظار تقدم جديد للثورة العالمية.
4) الإقرار بالانحطاط البيروقراطي للاتحاد السوفياتي وإفلاس الأممية الشيوعية.
5) الإقرار بأن ظاهرة الفاشية هي تأكيد على إفلاس الاشتراكية الديمقراطية.
6) التأكيد على كون الفاشية قد سرّعت إفلاس الكومنترن.
7) ضرورة أممية جديدة.
8) ضرورة تحديد استراتيجي يشمل مسألة الانتفاضة، دكتاتورية البروليتاريا، وشكل الدولة السوفيتية أو المرتكزة على المجالس العمالية.
9) الدفاع عن الاتحاد السوفياتي كدولة عمالية، رغم انحطاطها البيروقراطي.
10) مسألة الديمقراطية داخل الحزب.
بالمقارنة مع النقط الإحدى عشر للمعارضة اليسارية تظل هذه النقط العشرة، أقل وضوحا وتدقيقا. فهي لا تتضمن بشكل واضح مسألة الثورة الدائمة، الاستقلال الطبقي، الجبهة العمالية الموحدة والشعارات الانتقالية. لقد كان تروتسكي واعيا بهذا الاختلاف، لكن "إعلان الأربعة" كان يشكل في نظره قاعدة كافية من أجل خطوة جماعية في طريق الأممية الجديدة، خطوة من أجل الإنجاز الجماعي لبيان وأطروحات استراتيجية، ومن أجل الإعداد التنظيمي للأممية الجديدة. إن هذه النقط تمثل حدا أدنى بالمعنى الإيجابي للكلمة، يسمح بقيام عمل جماعي بين تيارات ذات أصول مختلفة: زينوفييفية أو بوخارينية. دون الأخذ بحصيلة خلافات العشرينات كشرط مسبق لتحديد العلاقة معها، ما دامت "العصبة الشيوعية العالمية" (L.C.I) توجد كتيار يعبر بكل وضوح عن مواقفه الخاصة به.
أياما بعد ولادة "كتلة الأربعة" اجتمعت "المجموعة العالمية للعمل" (I.A.G) في باريس بمشاركة الحزب الشيوعي السويدي، (DNA) النورفيجي، (ILP) البريطاني، (BOC)الكطلاني، (RSP) الهولندي و (SAP) و (DSP) من ألمانيا، وحضور (LCI) للدفاع عن موقفها حول ضرورة أممية جديدة. تبنى هذا الاجتماع مواقف أكثر عمومية حول الصراع ضد الفاشية ودعا إلى "التوحيد العضوي" بين الأممية الثانية والثالثة، الشيء الذي جعل تروتسكي يصف بسخرية "مكتب لندن" بالأممية "الثانية والنصف" أو "الثالثة والربع" أو "الثالثة والثمن". واعتبر قرار الاجتماع خطأ خطيرا، لكن هذا لم يمنعه من مطالبة الSAP بالاندماج فورا بالمعارضة اليسارية الألمانية.
الرسالة المفتوحة 1935
عرفت 1934 تطورات سياسية جديدة، في فبراية تم سحق انتفاضة فيينا، وعرفت باريس تظاهرات كبيرة للفاشية، وتوقع تروتسكي ما سيمثله الصعود الفاشي من تهديد للاشتراكية ـ الديمقراطية، فتهديد مؤسسات الديمقراطية البرجوازية (البرلمانية) يشكل تهديدا لشروط وجود الاشتراكية ـ الديمقراطية، التي تتغذى من وجودها داخل هذه المؤسسات، كما توقع بروز حركات دفاع ذاتي في صفوف الاشتراكيين من شأنه تسريع تطور تيارات يسارية وراديكالية. شهور بعد ذلك سيشارك الاشتراكيون الإسبان في انتفاضة أستوريس (Asturies) ليؤكد صحة هذا التحليل، وهو ما دفع تروتسكي إلى استخلاص الاستنتاجات السياسية والتنظيمية بالنسبة لإسبانيا، بلجيكا، وخاصة فرنسا، وهي خلاصات تسمح بدخول قوى المعـارضة اليسـارية في الأحزاب الاشتراكية ـ الديمقراطية، وهو التوجه الذي سيعرف ب "Le tournant Français" : (الانعطاف الفرنسي).
في حين لقي توجه 1933 القاضي بالتخلي عن "خط إصلاح الأممية الشيوعية" لصالح أممية جديدة، ترحيب واستجابة الأغلبية المطلقة في صفوف المعارضة اليسارية. لقي التوجه الجديد نحو الاشتراكية ـ الديمقراطية صعوبات عديدة في طريقه.
سنة بعد انطلاق هذا التوجه الجديد، أي في غشت 1935 تم توقيع حلف ستالين ـ لافال، ودعم المؤتمر السابع للكومنترن سياسة الجبهات الشعبية، فتغير الوضع من جديد، بحيث لم تقتصر سياسة الكومنترن على إقامة حلف مع البرجوازية المعادية للفاشية، بل تعداه إلى أفق الوحدة العضوية بين الاشتراكيين والشيوعيين، أو ما يسميه تروتسكي "وحدة بيروقراطية الأجهزة" التي سيترتب عنها طرد وتصفية العناصر الثورية، وهو ما حصل أسابيع بعد ذلك، بالنسبة "للبلاشفة ـ اللينينيين" داخل الحزب الاشتراكي الفرنسي (SFIO) .
في نفس السنة 1935 عقد "مكتب لندن" اجتماعا ثانيا، وللحيلولة دون تفجيره، تغاضى الاجتماع عن البث في المسائل الأساسية مبررا ذلك بعدم توفر الوقت الكافي لمناقشة وتبني قرارات مبدئية.
وفي غياب "العصبة الشيوعية العالمية" التي رفضت الحضور، تقدم RSP و OSP بمقترح يدعو إلى أممية IV. أمام هذا الوضع العالمي الجديد، استعادت LCI مبادرة بناء الأممية الرابعة، معتمدة على التقدم الذي حصل في هولندا نتيجة توصل كل من OSP و RSP إلى الاندماج في تنظيم موحد RSAP، ونفس الشيء في الولايات المتحدة، حيث ستندمج "العصبة الشيوعية للمعارضة اليسارية" و "حزب العمال الأمريكي" في تنظيم موحد "حزب العمال".
في غشت 1935 سيقوم تروتسكي بنشر "رسالة مفتوحة من أجل أممية رابعة" موقعة من طرف LCI ، RSAP الهولندي، "حزب العمال" الأمريكي، "المنظمة الكندية" و "البلاشفة ـ اللينينيين" داخل SFIO. ورغم عدم رضاه على ضياع سنتين بسبب تعنت OSP، فقد قبل تروتسكي بالانتماء المزدوج لRSAP لكل من مكتب لندن والتوقيع على الرسالة المفتوحة من أجل أممية IV. بل إن الهولنديين تحملوا مسؤولية الإعداد لمؤتمر عالمي في فبراير 1936.
بالرغم من تعدد هذه التكتيكات ، فإن تروتسكي كان يعتبر أن مجموع هذه المبادرات التنظيمية، للعصبة الشيوعية العالمية، تشكل كلا متماسكا: الاندماج مع المنظمات الوسطية (هولندا،USA) الدخول إلى الأحزاب الاشتراكية ـ الديمقراطية (فرنسا، بلجيكا...) والرسالة المفتوحة من أجل بناء الأممية IV.
الحركة من أجل بناء الأممية الرابعة
مباشرة بعد "الرسالة المفتوحة ..." في نهاية 1935، اصطدمت المعركة من أجل بناء الأممية IV بسلسلة من العوائق والصعوبات، ففي ربيع 1936 عرف حزب العمال الأمريكي (WPUS) انقساما بسبب الخلاف حول آفاق الدخول إلى الحزب الاشتراكي، أما الفرع البرازيلي فسيتفكك بفعل القمع الشرس الذي تعرض له، وفي يناير 1936 حدثت القطيعة مع ANDRESNIN وأغلبية المعارضة اليسارية الإسبانية التي وقعت من خلال انتمائها إلى "حزب العمال الموحد الماركسي" (POUM) على اتفاقية الجبهة الشعبية من أجل انتخابات فبراير.
وفي الأخير وتحت تبرير الخلاف حول "التوجه الأمريكي" الذي كان في بدايته، لكن في العمق تضامنا مع الPOUM ، وانبعاث التعاطف من جديد مع "مكتب لندن"، ابتعد الهولنديون من جديد، وتوقفوا عن الإعداد لمؤتمر فبراير الذي سوف لن يعقد إلا في يوليوز من نفس السنة.
لقد كان تروتسكي واعيا بعمق الثورة البيروقراطية المضادة، صعود الفاشية والتهديد بحرب عالمية ثانية. وقد أدرك التفاوت في التطور بين الثورة العالمية والثورة المضادة. وقد كانت أحداث فرنسا وإسبانيا تمنح إمكانية أخيرة لقلب هذا التفاوت، رغم محدودية إمكانيات انتصارها.
في يوليوز 1936 عقد أخيرا مؤتمر الحركة من أجل الأممية IV بمشاركة تسعة منظمات من كل من فرنسا، بلجيكا، هولندا، بريطانيا، سويسرا، ألمانيا، إيطاليا، URSS و USA.
إلا أن الفرع الفرنسي كان في أزمة آنذاك، أما الفرع الألماني وكذا الإيطالي فأغلبية أعضائهما من المنفيين، الفرع السوفياتي هو مجموعة من المختطفين المحاصرين في معسكرات الستالينية، أما الهولنديين فقد غادروا المؤتمر قبل نهايته، في حين لم يتمكن ما يقرب من 20 فرع من حضور المؤتمر.
تبنى المؤتمر مواقف واضحة من مسائل من مثل الجبهة الشعبية، طبيعة الاتحاد السوفياتي، العمل في النقابات، والعلاقة مع مكتب لندن. لكن المؤتمر لم يتمكن من الإعلان عن الأممية الجديدة.
في كتابه حول تاريخ الأممية IV ، يقول بيير فرانك بأن تروتسكي كان لصالح إعلان الأممية IV. سنتان بعد ذلك (1938) وفي المؤتمر التأسيسي للأممية IV وجدت أغلبية الفروع التي صوتت لصالح إعلان الأممية صعوبة كبيرة في تفسير سبب تأخر هذا الحدث، فالبعض كان يتحدث عن الأمل في إقناع التيارات الوسطية، والبعض الآخر يرى أنه كان من الصعب الإعلان عن الأممية في وقت كانت فيه أغلبية عدة فروع لا زالت تخوض تجربة الدخولية في الأحزاب الاشتراكية.
المؤتمر التأسيسي 1938
هي 1938 إذن، وبعد التصفيات الكبرى بالاتحاد السوفياتي، وفي وقت كانت فيه الهزيمة قد تم هضمها عمليا في كل من إسبانيا وفرنسا، في هذا الظرف إذن عقد المؤتمر التأسيسي للأممية IV ، بحضور إحدى عشر فرعا، وثلاثة عشر فرعا تم ذكرها في التقرير الشفوي.
سيتبنى المؤتمر الوثيقة المعروفة ب"البرنامج الانتقالي" وكذا قرارات تكرس الأممية IV كحزب عمالي عالمي للثورة الاشتراكية : منظمة عالمية واحدة وممركزة.
ثلاثة أصوات فقط هي التي عارضت هذا القرار كان الناطق بلسانها هو البولوني Hesh Mendel (Stockfish) الذي كان يرى أن ماركس، انجلز ولينين قد تحفظوا جميعهم من مسألة تأسيس الأممية I و II و III ، في مراحل التراجع، وعرفوا كيف يستغلون التصاعدات الكبيرة للنضال البروليتاري لإعلان الأممية. أما سنة 1938 فقد كانت مرحلة تراجع، لا يوجد فيها حزب جماهيري يمكن الاستناد إليه في بناء الأممية الجديدة، كما استندت الأممية الأولى على الفرع البريطاني والثانية على الفرع الألماني والثالثة على الفرع الروسي.
ولدت الأممية IV إذن أقلية وفي مرحلة تراجع وضد التيار، وقد كان بالنسبة لمعارضي الفكرة الاكتفاء بالإعلان جماهيريا عن ضرورتها، دون الذهاب إلى حدود إعلانها: "إن البروليتاريا هي التي ستخلق الأممية IV ".
أما الأغلبية الساحقة فقد صوتت لصالح التأسيس: الاكتفاء بأفق أممية جماهيرية واتخاذه شعارا على المدى الطويل، دون إعطاءه تجسيدا تنظيميا، يعني السقوط في الانتظارية. ينبغي، عكس ذلك، الانطلاق في البناء الفعلي إلى جانب القوى المستعدة لذلك. فتجربة سنوات من المجهود اتجاه التيارات الوسطية، أكدت عقم انتظار المترددين والاستمرار في ذلك يعني التكيف مع وضعهم الخاص بهم، عوض صهر الأداة الضرورية لمواجهة الامتحانات الكبرى للحرب التي تم إعلانها.
من أممية الكوادر إلى أممية الجماهير
لقد كان تروتسكي واعيا بالشروط الصعبة التي ولدت فيها الأممية IV :
• كونها أقلية بدون فروع جماهيرية، أممية كوادر.
• كونها ولدت بعد سلسلة من الهزائم التي حصدتها البروليتاريا العالمية والانحطاط البيروقراطي لأول دولة عمالية.
• الإطار التاريخي الذي ولدت فيه الأممية الرابعة: تتميز الحركة العمالية بكونها منظمة جماهيريا، لكن منقسمة بشكل عميق، يتجاذبها تياران، يتغذى الواحد من الآخر، التيار الاشتراكي ـ الديمقراطي والتيار الستاليني.
في ظل هذه الشروط يبقى "الخط المستقيم غير ممكن" في نظر تروتسكي.
يجب إذن معرفة الخلل وتحديد نقط الارتكاز لتعبيد المسافة بين الأممية الأقلية ـ أممية الكوادر ـ التي تشكل أداة ضرورية لبناء الأممية الجماهيرية.
« إن العصبة الشيوعية العالمية لا يمكنها أن تعمل كحزب مستقل للبروليتاريا، فهي ليست سوى السلاح من أجل خلق أحزاب مستقلة. يجب استعمال هذا السلاح حسب ظروف كل بلد ».
ينطبق هذا النهج على تصور دور الأممية على الصعيد العالمي، كما على تصور بناء الفروع على الصعيد القومي. لقد كان تروتسكي يتصور دائما أن بإمكان الأممية IV أن تشمل قوى واسعة، يمثل فيها الماركسيون الثوريون مكونا أو كتلة بداخلها. وهي الفكرة التي كانت تحكم مبادرة "حلف الأربعة".
« إن البلاشفة ـ اللينينيين، يعتبرون أنفسهم جناحا داخل الأممية التي هي في طور البناء، وهم مستعدون للعمل يدا في يد مع باقي الأجنحة الثورية فعلا ».
إنه اعتراف صريح من تروتسكي في رسالته إلى Marceau ، بحق تواجد "أجنحة ثورية" لا تتبنى البرنامج "البلشفي ـ اللينيني" بأكمله. ولقد طبق تروتسكي هذا التصور على الصعيد القومي في حالة ألمانيا سنة 1933 خلال الانعطاف من أجل حزب مستقل في ألمانيا.
« بديهي أن توجهنا لا يعني إعلان أنفسنا ذلك الحزب الجديد، إن هذا ليس ممكنا، بل نقول: إن الحزب الألماني الرسمي قد قضي عليه سياسيا. ينبغي على طليعة العمال بناء حزب جديد. نحن البلاشفة ـ اللينينيين نقترح عليهم تعاوننا ».
إن الشروط التي تأسست فيها الأممية IV كأممية كوادر معزولة، قد حدد خصوصية بنائها. فمن خلال التحولات الكمية والكيفية ـ الاندماج والقفزات ـ يمكنها التحول إلى أممية جماهيرية أو خلق شروط ذلك. لكن على الفروع أن تتحول بدورها إلى أحزاب جماهيرية داخل واقعها القومي. فهناك علاقة بين الاثنين.
من المؤكد أن الأممية برنامج، لكن أيضا تعبير عن حقيقة فروعها، دون أن يعني ذلك بالضرورة علاقة مباشرة وميكانيكية بين التحول النوعي لبعض الفروع، والتحول النوعي للأممية في مجموعها.
فبالنظر إلى الشروط القومية للصراع الطبقي، قد تتمكن بعض الفروع من تحقيق التقدم نحو حزب جماهيري ، في حين قد تراوح الأممية مكانها كأممية أقلية مع ما يعنيه هذا من محدودية الجذب لديها. فبعد هزيمة كمونة باريس وتقدم الحزب الألماني، عرفت الأممية الأولى هذا الشكل من التطور المتفاوت.
هذه التناقضات يمكنها خلق العديد من الحالات والمسائل التي يجب الاستعداد لحلها ومعالجتها حالة بحالة، مع التزام الصرامة فيما يخص المبادئ التوجيهية الرئيسية، وفي نفس الوقت الليونة التنظيمية.
لقد نتج عن هذه الشروط التي رافقت ولادة الأممية IV ، حالة دائمة بين خطر التكيف مع قوى واسعة، وخطر الانعزال العصبوي. بين الإثنين لا يوجد خط مستقيم، بل مجهود دائم ودؤوب لإيجاد الوساطة الضرورية لبناء أممية جماهيرية. فمنذ الثلاثينات طرحت مسألة الوساطة عمليا، من خلال تجربة العلاقة والاندماج مع التيارات الوسطية من جهة، ومن خلال تجربة الدخولية في الأحزاب الاشتراكية من جهة أخرى.
مسألة الدخولية والاندماج
طيلة سنوات التأسيس، أبدى تروتسكي اهتماما كبيرا بما سماه "الوسطية الحديثة"، ففي بداية العشرينات وجد قادة الأممية الشيوعية أنفسهم أمام وسطية من نوع آخر: تيارات جماهيرية داخل الاشتراكية ـ الديمقراطية استدارت نحو البلشفية بفعل قوة الجذب الكبيرة للثورة الروسية. والحالة المعروفة أكثر هي حالة USPD، فالاشتراكيين المستقلين الألمان حزب من مئات الآلاف اندمجت أغلبيتها مع السبارتاكيين لتأسيس الحزب الشيوعي الموحد.
أما "الوسطية الحديثة" لسنوات الثلاثينات فتختلف، فهي أقلية بالمقارنة مع المنظمات الكبيرة. والأزمة داخل التشكيلات الاشتراكية الديمقراطية والأحزاب الشيوعية الستالينية تختلف أيضا.
إن الوسطية حسب تروتسكي "لم يسبق لها أن اتخذت كل ألوان قوس قزح كما اتخذته الآن"، لأن صفوف الحركة العمالية لم يسبق لها أن عرفت مثل هذا الاختمار بين قطبي الإصلاح والثورة. هذا الاختمار الذي سيتعقد بفعل الانحطاط الستاليني، الذي تولدت عنه كل أنواع المواقع الوسطية التي لا تعرف الاستقرار.
عوض إعطاء تعريف محدد للوسطية، يفضل تروتسكي تحديد خطوطها المشتركة:
تعارض "الوسطية الحديثة"، بشكل إرادي، الصرامة النظرية مقابل البراغماتية تحت تبرير الواقعية.
تعارض العصبوية، لكنها تغض الطرف عن المسائل الأممية الحاسمة.
تفرغ شعار الجبهة الموحدة من كل مضمون ثوري وتحوله إلى مبدأ مجرد.
وعوض أن يعطي تروتسكي، تعريفا محددا لفصائل "الوسطية الجديدة" يقترح منهجا سياسيا لتشخيص هذه التيارات:
قبل كل شيء يجب عدم الخلط بين سلوك تيارات جماهيرية قابلة للتطور على قاعدة تجارب جديدة، والوسطية الاحترافية التي أصبحت طبيعة ثانية لبعض القيادات.
إنه لضروري جدا تحديد المنحى والاتجاه الذي تتطور فيه منظمة وسطية، فكثير من الاختلافات يمكن أن يكون لها معنى، ويمكنها أن تساعد على تحديد الاتجاه الذي تتطور فيه الوسطية، سواء تعلق الأمر بمنظمة تبتعد عن الإصلاحية وتقترب من الماركسية الثورية، أو منظمة تنحط نحو الإصلاحية، أو منظمة مشلولة، تتخبط في الغموض.
ينبغي التمييز بين النضال من أجل الجبهة الموحدة، أي وحدة العمل على الصعيد الجماهيري، والنضال من أجل جمع القوى الضرورية لبناء حزب ثوري.
لا ينبغي إهمال أي حليف مهما كان ضعيفا، كما ينبغي متابعة هذه المجموعات بدقة ومساعدتها على التطور دون تقديم تنازلات ذات مضمون.
يجب معرفة، بوضوح، ما هي المبادرات العملية القادمة لتقدم الأشياء إلى الأمام.
انطلاقا من تجربتنا، تستحق النقطة الثالثة الكثير من الاهتمام، يتعلق الأمر بين النضال من أجل الجبهة الموحدة، والنضال من أجل بناء الحزب الثوري.
لقد وضح تروتسكي هذه المسألة لأول مرة في رسالة إلى السكريتارية الأممية من أجل الإعداد لمؤتمر "مكتب لندن" في 1933.
فسياسة الجبهة الموحدة، تهدف إلى الاتفاق من أجل عمل موحد حول أهداف عملية محددة. وهي لا تشترط اتفاقا مبدئيا وبرنامجيا. يجب إذن التمييز بين هذا العمل المرحلي وبين العمل المنظم والمتصل لبناء الحزب. إن النضال المشترك لا يعني خلط الرايات الذي لا يؤدي سوى إلى اللبس والغموض. وهذا ما حصل بالذات لمؤتمر "مكتب لندن" الذي تاه في الغموض وهو في منتصف الطريق، بين الاتفاق حول الجبهة الموحدة للنضال ضد الفاشية والنضال من أجل أممية جديدة على قاعدة برنامج حد أدنى.
لقد كانت النتيجة هي الفشل على الواجهتين: لا تعبئة حقيقية وموحدة للجماهير الواسعة نتيجة عدم التوجه إلى النقابات والأحزاب العمالية الجماهيرية، ولا إحراز تقدم في عملية بناء أممية جديدة.
والخلاصة، غياب مبادئ برنامجية صارمة حكم على "مكتب لندن" بالنمو على قاعدة المساومات الهشة.
هذا التمييز بين جبهة موحدة وبناء حزب تم الرجوع إليه بشكل منهجي بعد أن تم إغناؤه بعدة تجارب حقيقية. ففي سنة 1936، انتقد تروتسكي بصرامة "مجموعة العمل الثوري" التي تشكلت في إحدى ضواحي باريس، فهي في نظره، ليست لجنة جماهيرية ولا جهاز للجبهة الموحدة، يمكنه أن يتحول إلى مجلس إقليمي موحد وتعددي، ولا بتجمع برنامجي في أفق بناء حزب. بل فقط تشكيلة وسيطة ولا متجانسة. لا ترقى إلى عمل جماهيري موحد ولا إلى الوضوح النظري والبرنامجي الضروري.
كما انتقد البلاشفة ـ اللينينيين الذين كانوا يتحدثون عن جبهة موحدة مع التوجه اليساري داخل SFIO:
« إنها في العمق هرطقة، الجبهة الموحدة تفترض أدوات جماهيرية، وأنتم لستم سوى تجمعات للدعاية، إذا كانت لكم نفس التصورات عليكم أن تندمجوا (...) وإذا كان على العكس، اختلافات مبدئية، فكل دعاية مشتركة هي سلبية ولا تزرع سوى الأوهام ».
ونفس الفكرة تناولها تروتسكي فيما يخص "حزب العمال المستقل" (ILP) البريطاني، فكل "جبهة موحدة" بين الحزب الشيوعي البريطاني و ILP لا معنى لها. فلجان دائمة للعمل الموحد بين هاتين المنظمتين المعزولتين لن تكون، حسب تروتسكي، سوى "سوفييتات للدعاية"، إلا أن تروتسكي لم ينكر إمكانية الاتفاق حول عمل موحد ومحدد.
« جبهات موحدة من أجل عمل محدد يمكن أن تكون ذات فائدة، لكن الجبهة الموحدة الوحيدة الممكنة أمام ILP هي مع حزب العمال، ولهذا يجب الظفر بالحق من أجل جبهة موحدة ».
وفي رسالة إلى دانييل جران D. Guerin في مارس 1939 كتب تروتسكي:
« إن جبهة موحدة يكون لها معنى عندما يتعلق الأمر بمنظمات جماهيرية... بوجود منظمات منفصلة، تبقى الاتفاقات المرحلية بهذه المناسبة أو تلك لا مفر منها. وهنا لا يهمنا الحالات المعزولة بل السياسة كلها.
المهمة المركزية هي العمل داخل النقابات واقتحام الحزب الاشتراكي والشيوعي. هذه المهمة لا يمكن حلها بواسطة الجبهة الموحدة، أي بواسطة العمل الدبلوماسي لمنظمات ضعيفة. يجب تركيز القوى حول برنامج محدد من أجل الانغراس وسط الجماهير بقوى محددة ».
ورغم أن تروتسكي يقلل هنا من أهمية الجبهة الموحدة، فإنه لا ينفي إمكانية قيام جبهات موحدة جزئية بين تنظيمات ضعيفة ومعزولة. إنها مسألة تكتيكية معقدة لا زلنا نصطدم بها اليوم في عملنا.
لقد صيغت سياسة الجبهات الموحدة في المؤتمرات الأولى للأممية الشيوعية، لاستعمالها من قبل أحزاب شيوعية جماهيرية، في حين أن فروع الأممية IV ، بالأمس كما اليوم، هي منظمات صغيرة أو حتى "تجمعات للدعاية" حسب تعبير تروتسكي لسنة 1936 فيما يخص البلاشفة ـ اللينينيين. ولهذا فالنضال من أجل الجبهة الموحدة ولاحتلال مكانتنا كاملة داخلها، تفترض سلسلة من الإجراءات الوسيطة التي تفترض بدورها أكبر ليونة تكتيكية ممكنة. ولنا تجربة فيما يخص هذه المسائل والتي تظهر في كل مرة بشكل جديد وفي شكل خاص، بين منظمات أقصى اليسار أو بين منظمات ثورية وأجنحة أحزاب الأغلبية. ورغم أنها لا تجمع سوى منظمات ثورية ووسطية، فإن الأمر يتعلق باتفاقات عملية، وليست اتفاقات دائمة على قاعدة حد أدنى مشترك. الأهداف الفعلية لهذه الاتفاقات ينبغي لها أن تكون جوابا عن المشاكل التي تعيشها الطبقة العاملة، بشكل يمكن طرحها حتى مع منظمات ذات الأغلبية وسط الحركة العمالية. يجب تسجيل أن الاتفاقات الانتخابية تضع بشكل دائم مشاكل من نوع خاص، مما يحتم علينا تمييزها عن الاتفاقات التكتيكية من أجل الجبهة الموحدة، أو من أجل بناء حزب على قاعدة برنامجية، باعتبار أن هناك حملة انتخابية وحملة انتخابية.
فحسب الظروف يمكن لحملة انتخابية أن تسخر كحملة من أجل الدعاية (لتقوية الحزب) كما يمكن أن تكون حملة من أجل التحريض تهدف إلى نشر بعض الأفكار المركزية الظرفية على صعيد جماهيري.
هناك حملات إذن يجب خوضها بشكل منفصل، وهناك حملات يجب خوضها بشكل مشترك. ويعطي تروتسكي هنا مثالا، الاتفاق بين البلاشفة والمناشفة اليساريين، في الانتخابات البلدية لسنة 1917 في بتروغراد. كما أن شكل الاقتراع يتدخل هنا لتحديد هذا التكتيك أو ذاك، إذ ليست هناك "وجبة عامة" بل يجب تحديد التكتيك المناسب حسب شروط كل ظرف.
لكن إذا أمكن لاتفاق انتخابي أن يؤدي إلى شكل محدود وجزئي لجبهة موحدة، أو إذا أمكنه إحداث تقدم ملموس نحو تقارب تنظيمي فسيكون من الخطأ اشتراطه بجبهة دائمة على قاعدة برنامج حد أدنى.
لقد وقعنا مرات عديدة على اتفاقات من أجل جبهة موحدة جزئية، والحالات الواقعية هنا أكثر تعددا وتعقيدا من أي عمل منهجي. إذ ليس من الصواب السقوط في البراغماتية أو التخلي عن التمييز بين النضال من أجل جبهة موحدة والنضال من أجل بناء الحزب، هذا التمييز الذي لا يعني أية عصبوية اتجاه المنظمات الوسطية، بل على العكس، فالوضوح في هذه المسألة يمكننا من تحديد علاقاتنا والسماح بوضع جيد لشروط تقاربنا، وإذا ما حصل تطور إيجابي، تقارب على المستوى العملي أو حول مسائل برنامجية أساسية، يمكننا آنذاك استغلال هذا التقارب لطرح المسائل الحقيقية: إمكانية تنظيم موحد، بأية شروط؟ كيف يمكن تحقيق هذه الشروط؟ وعوض العمل على استمرار الغموض واللبس على قاعدة اتفاقات هشة، لا تسمح بتقدم عمل فعال أو دعاية توضيحية (لغياب مضمون برنامجي) نقترح العمل، في هذه الشروط، على بناء حزب موحد.
هذا النهج للتجميع والاندماج لا ينطلق من مبدأ البحث عن حد أدنى مشترك، بل يرتكز على الاختلافات العملية، رغم محدوديتها، ليرقى إلى الأسس والمبادئ التي هي القاعدة الضرورية لبناء حزب موحد، قوي ودائم، قادر على العمل بشكل جماعي أمام الامتحانات الكبرى للصراع الطبقي. إن هذا ما يؤكد ضرورة نقاش برنامجي ومعمق.
عندما طرحت مسألة الاندماج مع SAP الألماني، كتب تروتسكي:
« قبل معرفة مدى إمكانية التعاون فيما بيننا، والذي نتمنى أن يكون أوسع ما أمكن، يجب التأكد من أن لنا نفس المواقف اتجاه الإشكالات الأساسية للاستراتيجية البروليتارية. هذا ما نفكر فيه، فما هو موقفكم إزاء هذه المسائل؟ وإذا لم تحددوا موقفكم بعد، فلنعمل إذا على معالجتها بشكل مشترك، ولتبدأ بالمسائل الأكثر حدة والأكثر سخونة ».
كل هذه المحاولات ورغم فشل العديد منها فهي تطرح إشكالية عامة حول المنهج: فتروتسكي بدون شك ذا مؤهلات كبيرة لإدراك نضج وضعية ما، وإعطاء الجواب التنظيمي المناسب لكل وضعية، لكن يمكن أن نتساءل، ألا تتناقض هذه الليونة التكتيكية مع سياسة البناء؟
ففي فرنسا مثلا بين 32 – 1939 تم اللجوء إلى 5 اختيارات تكتيكية: 1932 البقاء في الحزب الشيوعي كمعارضة يسارية، 1933 الخروج بعد امتحان صعود النازية في ألمانيا، في 1934 الدخول إلى SFIO لتسريع انسلاخ يساري في صفوفه، في 1935 الخروج من أجل بناء منظمة مستقلة كجواب تنظيمي على وحدة الأجهزة البيروقراطية في "جبهة شعبية" وفي 1939 الدخول إلى PSOP !
هذه الأمثلة تؤكد أن ليونة تكتيكية ممكنة لكن بشروط: الصرامة البرنامجية، التجانس السياسي، الوضوح حول الأهداف، والثقة في الذات بالنسبة لمجموعة ثورية.
وعلى العكس، غياب الصرامة والثقة حول المسائل الاستراتيجية والأممية هو الذي يغذي النزعة العصبوية في التكتيك.
مسألة الدخولية
لقد تم تطبيق مفهوم "الدخولية" بشكل توسعي Extensive ، في حين أن هذه التجربة كانت جوابا عن واقع وتجارب متنوعة. ولهذا نرى من الضروري معالجة حالة بحالة.
أ?- المنعطف الفرنسي:
لقد تطرقنا إلى التطورات التي عرفتها أوربا في بداية 1934 مع سحق انتفاضة فيينا، وتظاهرات الفاشية في باريس (فبراير) ونضج الوضع في إسبانيا.
في فرنسا أطلق الرد على المظاهرات الفاشية، دينامية وحدوية بين PCF و PS . مما فرض على المنظمة "البلشفية ـ اللينينية" الفتية البحث آنذاك عن موقع داخل الجبهة الموحدة التي كانت قيد التكوين، خوفا من التهميش والعزلة. "ما هو هذا الموقع" ؟ كتب تروتسكي:
« الذي يجب أن تحتله العصبة، منظمة صغيرة لا يمكنها لعب دور مستقل في المعركة الدائرة، لكن مسلحة بنظرية صحيحة، وتجربة غنية،...من أجل إعطاء مضمون ثوري للجبهة الموحدة. إن طرح السؤال بعمق ووضوح هو في حد ذاته جواب. ينبغي أن تأخذ العصبة مكانها بسرعة داخل الجبهة الموحدة، من أجل الإسراع بنشاط في تجميع القوى الثورية. احتلال هذا المكان في الشروط الحالية، لا يمكن أن يتم إلا بالدخول في الحزب الاشتراكي ».
ثم يتوقف تروتسكي في التأكيد آنذاك على أن المهمة العاجلة هي سحق الفاشية خوفا من سحق مضاد. من أجل إنجاز هذه المهمة كان ينبغي تغيير ميزان القوى، وإذا لم يكن ممكنا القيام بدور مستقل، فإنه لا ينبغي البقاء بعيدا، بل ينبغي تحقيق اتصال مباشر مع الجماهير من خلال تجربتها العملية، وكذلك إخضاع الأفكار لمحك التجربة الفعلية وليس فقط للدعاية.
هذا الاستحمام داخل الأحزاب الجماهيرية يمثل تنقيحا ضد خطر العصبوية والعقلية الحلقية التي تفسد المنظمات الغنية للمعارضة اليسارية. إن من يرفض هذا التوجه هو كمن يرفض الخروج عن الممرات المألوفة لديه، إلى الفضاء الشاسع وهو لا يتكيف مع الجبهة الموحدة إلا من الخارج.
إن الحفاظ على الاستقلالية التنظيمية والفعالية الدعائية ليس محصنا دائما من التبعية في الممارسة، كلما كان ميزان القوى غير صالح لتحويل الأفكار إلى أفعال.
صادقت أخيرا أغلبية الفرع الفرنسي على الدخول إلى SFIO وبدأت العملية في منتصف 1934 تحت شروط إيجابية خاصة وقد كان دخولا و "الراية مرفوعة".
استمرت جريدة " الحقيقة " (La vérité) في الصدور كنـاطق بـاسم "مجموعة البـلاشفة ـ اللينينيين داخل SFIO". لقد دخل ما يناهز 100 (مائة) من البلاشفة ـ اللينينيين. سنة بعد ذلك، في الاجتمـاع الفيدرالي ب La seine في جوان 1935 ، حصل مقترحهم التوجيهي على 1037 صوت مقابل 2370 للتوجه اليساري "المعركة الاشتراكية" (B.S) و 1570 صوت لمقترح بلوم (Blum) الداعي إلى "جبهة شعبية"، لكن عملية الطرد قد بدأت. وفي نفس الوقت كان تروتسكي قد أدرك التوجه الجديد للوضع العالمي. فالمؤتمر السابع للكومنترن، الذي كرس حلف ستالين ـ لافال، تعلن وثائقه عن وحدة بيروقراطية بين الأجهزة الستالينية والاشتراكية ـ الديمقراطية على حساب التيارات الثورية.
لقد كان القمع البيروقراطي منتظرا، مما كان يحتم تكتيكا جديدا في اتجاه التنظيم المستقل: ولادة "حزب العمال الأممي" الذي ضم 615 مناضلا في مؤتمره التأسيسي (1936).
مسألة "حزب عمالي جماهيري"
عندما طرح تروتسكي مسألة "حزب عمال جماهيري" كان قد رجع إلى حالات تاريخية سابقة: حزب الشارتيين في بريطانيا (1840) أو "فرسان العمل" في الولايات المتحدة (1880)، أو إلى النقاشات في 1924 حول "حزب العمل" في USA.
عندما تبدأ الطبقة العاملة في التواجد كحركة اجتماعية، يجب أن تتمكن من التعبير عن وجودها المستقل وأن تتمتع بمنظمة سياسية مستقلة عن الأحزاب البرجوازية والشعبوية، وبتقديم مرشحيها الخاصين بها إلى الانتخابات.
عندما رجع تروتسكي إلى هذه المسألة بالنسبة للولايات المتحدة (1930) في ظل الثنائية الحزبية جمهوريين/ديمقراطيين، فإنه لم يقدم أجوبة خارج الزمن. لقد ذكر بأنه في 1924 وتحت تأثير الثورة الروسية، كانت المهمة هي بناء أحزاب شيوعية ذات تأثير وسط الجماهير.
في 1936 طرحت المسألة بشكل آخر. فبعد الأزمة التي تولدت عنها حركة نقابية كفاحية CIO، لكن دون امتداد سياسي، برزت إذن ضرورة وإمكانية حزب للشغيلة مرتكز على النقابات. وبالنسبة للمناضلين الذين كان يبدو لهم عملهم كما لو كانوا يساهمون في تأسيس حزب إصلاحي، كان جواب تروتسكي بأن المسألة لا علاقة لها بحزب إصلاحي، بل بحزب طبقي مستقل عن البرجوازية، مستقبله رهين بتطور الصراع الطبقي، بموازين القوى، بالتجارب، وبتدخل الثوريين ونشاطهم داخله. أما بالنسبة لأولئك الذين يرون ضرورة تأسيس حزب للشغيلة اعتمادا على مقاييس ثورية، فقد كان تروتسكي آنذاك يرى أن المسألة شكلية وغير ملموسة. ففي السياق التاريخي لتلك المرحلة، إذا كان اجتماع عمومي يحضره 500 عامل يدركون ضرورة حزب مستقل للشغيلة، لكن 5 فقط يدركون ضرورة تدمير الدولة البرجوازية، يمكن تنظيم الخمسة في فرع الأممية IV ، و 500 في حزب عمال. لتكون النتيجة جوابين من مستويين مختلفين للوعي الطبقي.
إن ولادة حزب ثوري أو حزب إصلاحي ليست مسألة محسومة بشكل مسبق، بل ترتبط بعدة عناصر غير محددة هي الأخرى بشكل مسبق. ليس صائبا تماما البحث عن تشخيص لطبيعة حزب جماهيري ولد في خضم تجربة كبيرة للطبقة العاملة، إنه تقدم هائل إلى الأمام حيث تتجدد طبيعته تدريجيا من خلال التجارب التي يراكمها، ومن خلال المهام الملموسة التي يصطدم بها في طريقه. إن كل تجربة جديدة هي امتحان ومجال لتحديد طبيعة الحزب.
هذا هو المنطق الذي يحكم الماركسيين ـ الثوريين اليوم في البرازيل، المنخرطين منذ 1979 في بناء "حزب العمال" (PTB). كان تروتسكي، في نقاشه لمسألة "حزب عمال جماهيري" مرتكز على النقابات في USA ، يدرك أنه رغم المستقبل المفتوح بالنسبة لهذا الحزب، فهو انتقالي فقط، لأنه حالما يدخل ميدان الصراع الطبقي سيكون مفروضا عليه تحديد مواقفه من عدة مسائل راهنة: الأزمة، خطر الحرب، طبيعة الاتحاد السوفياتي، الستالينية... وكذلك هو الشأن اليوم بالنسبة لحزب العمال البرازيلي، فمنذ البداية كان عليه أن يحدد مواقفه من عدة مسائل جزئية، لكن بعد ذلك وجد نفسه أمام مسائل من حجم الانتخابات: تقديم أو عدم تقديم مرشحيه؟ ما هي التحالفات الممكنة؟ التحالف أم لا مع المعارضة البرجوازية في وجه الدكتاتورية؟ المسألة النقابية، مسألة المديونية، التضامن مع نيكاراغوا، تحديد نوع العلاقة مع الكنيسة، الاشتراكية ـ الديمقراطية، التعاون على الصعيد القاري. لكن قبل كل شيء نحن هنا إزاء ظاهرة تجد جذورها في التجذر الجماهيري المناهض للدكتاتورية، وفي طبقة عاملة تركزت وتجدد بفعل "المعجزة الاقتصادية"، وهي أول تجربة سياسية في بلد لا يتمتع بتقاليد قوية لحزب عمال مستقل (رغم وجود حزب شيوعي) أمام هيمنة الشعبوية.
لا يتعلق الأمر هنا بحزب جماهيري مرتكز على النقابات، بل بحزب ولد نتيجة تجذر الأطر النقابية .
ما هي آفاق تشكل تجربة "حزب عمال" جماهيري في البلدان الرأسمالية المتقدمة، حيث تتمتع الطبقة العاملة بتقاليد عريقة في التنظيم السياسي والنقابي المستقل؟
إن قيام تجربة مثل هذه، مشروطة بفك الارتباط بين الجماهير وتنظيماتها التقليدية.
يمكن توقع هذا، لكنه أمر صعب التحقيق، والأقرب إلى التحقيق هو ارتخاء خيوط الارتباط بين الحركة الاجتماعية والقيادات السياسية والنقابية التقليدية.
إمكانية أخرى، هي مراكمة القوى من أجل بناء حزب ثوري، وهنا سيكون التحديد البرنامجي بواسطة اتفاقات حد أدنى، غير مقبول. لا يمكن تجميع القوى بشكل صلب ودائم حول نقط جزئية، لا تمكن من مواجهة فعالة للمسائل التوجهية الكبرى المباشرة، والجواب على كل المشاريع الاستراتيجية المطروحة داخل الطبقة العمالية. يمكن أن يكون هناك نقاش وحوار واتفاقات حد أدنى بين تيارات ثورية، لكن إجمالا لا يمكن لتيار ثوري حي أن يتخلى عن هويته الواضحة أمام الأحزاب التقليدية الكبيرة الموجودة. إنها العقبة التي يصطدم بها توجه "الوحدة العضوية" للحركة العمالية، وهي مسألة سبق أن طرحت بالنسبة للاشتراكية ـ الديمقراطية الألمانية قبل 1914.
خلاصات وعناصر للتفكير
لقد تولد عن مسلسل تكون الأممية IV مجموعة من الأسئلة كانت محط نقاشات في صفوف الحركة التروتسكية والحركة الثورية عموما:
1. قبل كل شيء، ألم يكن متأخرا في 1933 استخلاص إفلاس الأممية الثالثة والانخراط في بناء الأممية IV.
2. ألم يأت تأسيس الأممية IV نتيجة حسابات مغلوطة فيما يخص آفـاق ما بعد الحرب ع II ، وانهيار الدكتاتورية البيروقراطية؟
إذا كان صحيحا أن تروتسكي قد توصل إلى استنتاجاته حول آفاق ما بعد الحرب ع II بمماثلة هذه الفترة بفترة ما بعد الحرب ع I ، وما نتج عنها: إعادة بناء الحركة العمالية العالمية، فإنه من الخطأ اعتبار تأسيس الأممية IV كان على قاعدة هذه الاستنتاجات.
فضرورة تأسيس الأممية نابع من طبيعة العلاقات الطبقية ومن المهام الكبرى على الصعيد العالمي، وأيضا من أزمة القيادة عند الحركة العمالية عشية الحرب.
إذا لم تؤدي الحرب إلى الثورة الاشتراكية في أوربا والى انهيار الستالينية في الاتحاد السوفياتي، هل كان يجب، تبعا لذلك، وضع مسألة الأممية بين مزدوجتين، وانتظار أيام أنسب لذلك؟
إن السؤال بدون شك طوباوي ومغلوط.
كل مرحلة تاريخية مهمة، تفتح أكثر من احتمال، فالحرب لم تؤدي إلى انهيار الستالينية، لكن أيضا لم تؤدي ميكانيكيا إلى استقرار سلمي للرأسمالية والدكتاتورية البيروقراطية، بل عرفت مرحلة ما بعد الحرب أزمات ثورية، استيعاب بنيوي لدول أوربا الشرقية، الثورة اليوغسلافية، والأكثر من هذا انتصار الثورة الصينية، كما عرفت هذه المرحلة بداية تفجر أزمة الستالينية.
في هذا العالم المتفجر والمليء بالتقلبات كان "الخيط الأحمر" ضروريا أكثر من أي وقت مضى.
3. هل تم تجاوز فكرة أممية بروليتارية ثورية؟
عكس ذلك، فهي التجسيد التنظيمي الضروري للثورة البروليتارية في منظورها العالمي، هي نقيض الشوفينية وطوباوية الاشتراكية في بلد واحد، وهي الوجه الآخر للتدويل المتصاعد لقسمة العمل، لمسلسل الإنتاج، وللقوى المنتجة. إذا كان الواقع المادي هو الذي يحدد الوعي، فإن واقع التنظيم العالمي اليوم، يجدد الوعي الأممي.
4. حول برنامج هذه الأممية:
هل لا زال يحافظ على راهنيته، وهل هو عملي على ضوء الأحداث الكبرى للصراع الطبقي؟ ومتى كان على العكس عائقا أمام تيارنا والحركة الجماهيرية؟ أكيد أن تجارب الصراع الطبقي تغني وتدقق بشكل دائم كل برنامج مهما كانت مناعته، لكن مسائل من مثل الثورة الدائمة، الجبهة الموحدة، الشعارات الانتقالية، النضال ضد البيروقراطية ونظرية الحزب، لا زالت تحتل مركز الصدارة في الاستراتيجية الثورية لعصرنا.
لقد أثبتت تطورات الحرب وما تبعها من أحداث، صواب وحيوية هذا البرنامج الذي لم يكن عائقا أمام تطور الصراع الطبقي، كما مكن من فهم ظواهر جديدة، مثل تكون دول عمالية جديدة، آفاق الثورة الكولونيالية وتحولات رأسمالية العصر الثالث.
وأخيرا هذه الأممية التي هي قيد الوجود والتي تأسست على قاعدة برنامج صلب وراهني، هل أفلست في الممارسة؟
للجواب على هذا السؤال لابد من الرجوع إلى الخصائص التي تمثلها التجارب الكبرى للصراع الطبقي على المستوى العالمي: الحروب والثورات.
أمام شوفينية الحرب ع II ، لم تتنازل الأممية لا أمام الانهزامية ولا أمام الحياد العصبوي في المستعمرات، ولا أمام شوفينية الاتحاد المقدس. فبالرغم من ضعف قواها حافظت الأممية الرابعة على سياسة أممية، بل احتلت خندقا أماميا في الدفاع عن ثورات يوغسلافيا، الجزائر وكوبا، وبالأمس نيكاراغوا، حتى ومناضلوها يقتلون على أيدي القيادات التي تكونت في المدرسة الستالينية.
معارضونا، يعتبرون قتاليتنا وصرامتنا الثورية، تستحق التقدير، لكنها لا تحل مسألة الحاجة إلى الأممية. في ماذا تفيد أممية لم تحرز انتصارات باهرة؟
يجب التركيز هنا أننا ورثة أول انتصار تاريخي للبروليتاريا، انتصار ثورة أكتوبر. لقد كانت (ولا زالت) معركة سياسية ضد اغتصاب البيروقراطية لهذا الإرث ومماثلته بالثورة البيروقراطية المضادة.
إلا أن الجواب لا يقف عند هذا الحد. ففي التاريخ والسياسة، لا تختزل الانتصارات في الثورات الظافرة، لقد أحرزنا انتصارات أخرى لا تقل أهمية. لقد كانت حركتنا أول من خاض معركة سياسية ضد البيروقراطية. العديد من الشهادات تسجل "للتروتسكيين" أنهم لم يركعوا ولم يخضعوا أبدا أمام القمع الستاليني. إنها ليست مسألة سيكولوجية بل مسألة وعي سياسي، وليست نصرا نفسيا أو رمزيا، بل نصرا سياسيا لولاه لما كان ممكنا تفسير أحداث عصرنا الرهيب وإدراكه على ضوء الماركسية، لولاه لكان بإمكان المشعوذين والفلاسفة الجدد ومخضرمي الإمبريالية احتكار نتائج سقوط الأنظمة البيروقراطية.
بفضل هذه المعركة التاريخية للمعارضة اليسارية ثم الأممية IV فيما بعد، جعل من الممكن استمرار الخيط الأحمر لمعارضة ماركسية.
إذا كانت الأممية ضرورية، إذا كانت موجودة، إذا كان برنامجها صحيحا، وإذا لم تفلس، يجب الكفاح من أجل بنائها وتطويرها، لا أحد سيقوم بهذا مكاننا.
5. مبدأ المركزية:
هذه المسألة التي احتلت مكانة مركزية عند تروتسكي في الثلاثينات، هل هي ضرورية سياسيا، أم هي مجرد غطاء نظري لنزعة عصبوية؟
في ما يخص هذه المسألة، أصيب البعض بالصدمة واعتبرها إهانة إلى حد ما، باعتبار أن المركزية هي أقل أهمية سياسيا.
لنستبعد هذا الاعتراض، باعتبار أن الأمر لا يتعلق بإهانة بقدر ما هي خاصية سياسية لا تلغي التعددية وحق التكتل والصراع الأخوي لمختلف وجهات النظر.
فمبدأ المركزية يصطدم بواقع وجود منظمات ثورية فيما يخص مسألة الاستيلاء على السلطة في بلدها القومي، لكنها على الصعيد الأممي تتخذ مواقف ملتبسة وعصبوية. ورفضنا الاعتراف بهذه المنظمات من شأنه أن يؤدي بنا نحن أيضا إلى التدحرج بين قطبي العصبوية والانتهازية. أيضا عندما نكتشف أن مثل هذه التنظيمات يمكنها أن تلعب دورا ثوريا، كما هو الشأن في أمريكا الوسطى وبلدان أخرى، نصطدم بخطر الخلط بين الأحمر والأسود، ولا نرى أي فرق بيننا وبينها.
إزاء هذه التيارات، نعتبر أن تكتيك الثلاثينات لا زال صالحا في خطوطه العريضة: الدعوة إلى وحدة العمل للتقدم في التجربة المشتركة، وبموازاة ذلك، الصراع البرنامجي الواضح والعميق لشق الطريق أمام حزب موحد.
6. هل تقدم ظروف اليوم شروطا أفضل للتقدم نحو أممية جماهيرية مع تيارات أخرى؟
سنكرر، مرة أخرى، ما قاله تروتسكي في هذه النقطة: يمكن أن نتصور أنفسنا تيارا داخل أممية ثورية، إلا أنه ينبغي معرفة إلى أي حد هي ثورية هذه التيارات، وهناك شرط مسبق لابد من توفره: للانخراط في هذه الطريق يجب البدء في إيجاد شركاء يتوفر فيهم هذا الشرط الأولي، الذي هو الانخراط الفعلي في عملية بناء الأممية. إنها ليست مسألة إرادة، بل هي في العمق مسألة سياسية وبرنامجية. فالانخراط في بناء أممية هو نفسه مسألة برنامج، بما أنه يعني تحديد المواقف من عدة قضايا عالمية، وهو ما يعني الاتفاق حول برنامج صلب.
إذا ما قامت تيارات ذات أهمية بطرح مسألة بناء الأممية وبنائها معنا، سيكون هذا علامة على تطور مهم في مواقفها. يجب الأخذ هنا بالوضعية الجديدة. في غياب ذلك يمكننا النضال كتيار ثوري أممي أصيل واع بأهمية تقاليده وإسهاماته، لكن منفتح على الحوار والعمل المشترك والتعاون الأممي مع باقي التيارات التي تنخرط هي الأخرى في عملية إعادة بناء الحركة العمالية العالمية.
مقارنة مع سنوات 1970 ، تقلصت النزعة العصبوية، انهارت العديد من العقبات، خلقت علاقات لم يكن يمكن التفكير بها من قبل. إنها طريق متأنية وحذرة تفتح أمام الإعداد لبعث أممية ثورية جماهيرية، ديمقراطية وتعددية.
7. ألا يحمل البقاء كأممية أقلية، خطر تشويه عصبوي؟
بالتأكيد نعم، فالنضال ضد التيار يمكن أن يكون ميزة، لكن يمكن أن يتحول إلى طبيعة ثانية. ما هو البديل أمام هذا الخطر وما هو العلاج؟
إن السلاح الوحيد، والذي ليس مطلقا، هو تربية القيادات والمناضلين حسب روح البيان الشيوعي: إن المناضلين الشيوعيين الحقيقيين ليست لهم مصالح متمايزة عن مصالح البروليتاريا.
إننا نأخذ بمنهج تروتسكي في الثلاثينات:
« لا أعرف، يقول تروتسكي، أية مرحلة ستصلها الأممية IV ، ولا أحد يعرف ذلك. من الممكن أن تدخل من جديد في أممية موحدة مع الثانية والثالثة، ولا يمكن تحديد مصير الأممية IV بشكل مستقل عن مصير فروعها القومية، والعكس صحيح. يجب توقع أوضاع لا سابق لها في التاريخ... إذا ما نحن اعتبرنا الأممية IV فقط كشكل أممي يفرض علينا البقاء كتجمعات للدعاية، في كل الشروط، نكون قد فشلنا. لا، إن الأممية IV برنامج، استراتيجية، ونواة لقيادة عالمية ».
وتروتسكي نفسه، قد عمل على تطبيق هذا المنهج لتجاوز الانعزال العصبوي، متخذا كل المبادرات التنظيمية لخلق روابط واسعة رغم الشروط غير الملائمة. لقد كان واعيا بالمسافة التي تفصل بين هدف الأممية وبناء حزب جماهيري، وبين الأنوية المناضلة.
8. أليست فكرة "حزب عالمي للثورة" مجرد خرافة ومفصولة عن الواقع؟
إن دفاع تروتسكي عن الضرورة العملية للأممية كحزب عالمي كان يجيب عن تراجع تاريخي للفكر الأممي، الذي انطلق من النظرية الستالينية حول "الاشتراكية في بلد واحد" إلى الحل النهائي للأممية الشيوعية في 1943، لحساب المصالح الدبلوماسية للحكومة البيروقراطية السوفييتية.
إن بناء حزب عالمي، بالنسبة لتروتسكي، هو ترجمة سياسية وتنظيمية لمشروع استراتيجي. إنه تتويج لنظريته حول التطور المتفاوت والمركب، تصوره للعالم ككل مترابط بفعل تعميم الإنتاج البضاعي، نظريته حول الثورة الدائمة، كتوسع عالمي للثورة البروليتارية.
من وجهة النظر هذه، مسألة بناء أممية ثورية ليست أقل أهمية مما هي عليه بالأمس، فتدويل الإنتاج، الرأسمال، الأسواق، تقسيم العمل والخدمات قد قطع خطوات عملاقة في هذا الاتجاه: الأحلاف المالية والعسكرية والتجارية وتزايد المؤسسات العالمية للرأسمال. بالمقابل نجد الحركة العمالية التي كانت هي السباقة، مع تأسيس الأممية الأولى، إلى إدراك هذا الأفق العالمي، لا زالت متأخرة وتابعة، ليس فقط على الصعيد العالمي، بل وأيضا على الصعيد القاري.
إن المشكل الحقيقي ليس هنا إذن. ففكرة حزب عالمي يمكن أن يتولد عنه خطأ اعتبار هكذا حزب، سيكون مسيرا بنفس ميكانيزمات الأحزاب القومية. إن مقاربة كهذه ليست نظرية بتاتا، وقد سبق أن وجدت تطبيقها في المركزية البيروقراطية للأممية الثالثة ابتداء من المؤتمر الخامس بقيادة زينوفييف.
إن ميكانيزمات الحزب الثوري القومي وميكانيزمات الحزب الثوري العالمي، لا يمكن أن تخضع لنفس القانون، فمهمة الأول الاستراتيجية هي قيادة النضال من أجل الاستيلاء على السلطة والإطاحة بطبقة سائدة ودولتها الخاصة انطلاقا من تقاليد ثورية خاصة. أما مهمة الثاني فهي الحفاظ على وعي موحد أمام الأحداث الكبرى ومهام الصراع الطبقي على المستوى العالمي، وإعلاء مصالح البروليتاريا المشتركة على الخصوصيات القومية. انطلاقا من هذا التمايز في المهام نستنتج الفرق فيما يخص النظام الداخلي ودور القيادات.
فالقيادة الوطنية/القومية، تصوغ قراراتها ولها مهمة تنفيذها. أما القيادة العالمية، فلا يمكنها التدخل إلا في المسائل ذات الطابع التوجيهي العام. ليس لها صلاحية ولا إمكانية تنفيذ استراتيجية ما على أرض الواقع. هذا ما يجعل، في تصورنا، أن الوحدات القاعدية للأممية ليست هي مناضلوها أو خلاياها، بل فروعها القومية التي هي الوحدات الاستراتيجية، وهي مستقلة في تحديد تاكتيكاتها واختيار قياداتها.