|
ثقافة الاحذية البدوية لا تبني حضارة
ابراهيم علاء الدين
الحوار المتمدن-العدد: 2502 - 2008 / 12 / 21 - 03:09
المحور:
كتابات ساخرة
للامانة ترددت كثيرا قبل الاقتراب من عالم الاحذية، لسببين الاول ان ما ساقوله لن يكون له وزنا امام هذا الشلال الهادر من العواطف المشرئبة، والثاني لاعتباري انه موضوع عاطفي تافه سينتهي مفعوله خلال ايام معدودة، هذا رغم عشقي السير ضد التيار مهما كان كاسحا عندما ارى له خطورة عميقة على المكونات الاساسية لعملية وجهود التطور والبناء والارتقاء الانساني. ولكني وجدت نفسي مضطرا للادلاء بدولي امام ما احدثه الحذاء من الهام لقريحة الشعراء، وأوقد حماسة الكتاب، واطلق العنان لنكت العوام، في موجة لا يمكن وصفها الا بانها نوع من "شفي الغليل ، او فشة خلق" لا اكثر ولا اقل. ومتى كان "شفي الغليل" طريقا لبناء الامم ورقي الشعوب وطريقا للحرية والتحرير..؟ وقبل الاستطراد في تناول "ثقافة الاحذية" اجد المقام مناسبا لذكر حادثتين كنت شاهدا عليهما، الاولى: حدثت في نيويورك عندما قال صديقي لخطيبته الامريكية (باللغة الانجليزية طبعا بما معناه "ان وجهك كالقمر" فردت عليه قائلة "وماذا يعني ذلك؟" كرر قوله "وجهك كالقمر" .. قالت "انا افهم الكلمات لكني لا افهم معناها". المراة العربية لا بد وان تتاثر وتطرب عندما يقال لها وجهك كالقمر، لانها تعرف ان هذا نوعا من الغزل والاعجاب والمديح وان هناك من يصفها بالجميلة ، لكن الامريكية لا يوجد في مخزونها الثقافي هذه الرمزية الجمالية للقمر فلم تتاثر. وهكذا لو ان عربيا قيل له يا ابن العاهرة او ما شابهها من عبارات الشتيمة، فانه سوف يغضب بشدة في الغالب، ولكن لو قيل له fuk you)) وهي شتيمة بالغة الدناءة باللغة الانكليزية لما تاثر كثيرا، وغالبا لا يعتبرها شتيمة. والثانية : سمعت رجل اعمال يوبخ احد موظفيه لانه رفض ان يقدم الخدمة لاحد الزبائن، مبررا رفضه بشتم الزبون له، فقال رجل الاعمال "يا سيدي أي واحد يشتمك حول الشتيمة علي، انا اتحمل كل انواع الشتائم، المهم ما تضيع علينا رزقنا". وتوضح الحادثة الاولى اختلافات الثقافة عند الشعوب، فيما توضح الثانية المنهج البراغماتي لرجل الاعمال، وهكذا هي الحال بحادث الحذاء .. فالرئيس الامريكي البراغماتي والادارة الامريكية البراغماتية لا يؤثر فيهما حذف حذاء بوجه الرئيس ولا يعتبراها اهانة مدوية، وقد بدا هذا واضحا على ملامح الرئيس الامريكي اثناء الحادث، وبدا ذلك ايضا واضحا بردود المسؤولين الامريكيين ، فالحذاء لم يلغ الاتفاقية الامنية، ولم يؤدي الى طرد ال 150 الف جندي امريكي ومعهم حوالي 70 الف جندي مرتزق "بلاك ووتر"، ولم يغير شيئا من سياستها تجاه العراق، وبالتالي فالحادث اعتبرته الادارة الامريكية تاكيدا على الديمقراطية التي تحققت بفضل الغزو والاحتلال والقتل والتدمير. كما ان الشعب الامريكي لا توجد بثقافته ما يؤشر الى ان رمي الحذاء بوجه الرئيس فيه اهانة للامة والدولة والسيادة، بل هو امر عادي يدخل في نطاق التعبير عن الرأي.
وحتى لا يتوقف البعض عند هذه الفقرة ويندفع الشعراء الذين الهمهم قاذف الاحذيه فيرموني بقصيدة عصماء تتكثف فيها عصارة القدرة على الهجاء والشتيمة، او يوجه كاتب فجرت الاحذية حماسته فيقذفني بمقال صاروخي مدمر، فاكرر ادانتي ورفضي الشديد للعدوان الامريكي على العراق، وادعو الى مقاومته، وادين بشدة أي اعتداء امريكي او أي طرف اخر على أي جزء من بلادنا من المحيط الى الخليج، وارفض السياسة الامريكية المؤيدة للعدو الصهيوني والتي تدعم غطرسته ووحشيته. بل وادين أي عمل عدواني في أي مكان في هذا العالم.
اذن فاذا كان الغرض من المباراة التي تنافس فيها عدد ليس قليل من الكتاب القومويون والاسلامويون وعدد كبير من اشباه الكتاب الهواة في تمجيد الاحذية وراميها ايصال رسالة كراهية الى الحكومة الامريكية، فان الحكومة الامريكية تعرف ذلك جيدا، وتخبرها مراكز ابحاثها وتنقل وسائل اعلامها ان الكراهية للولايات المتحدة في الخارج بازدياد حتى في البلدان الحليفة لها مثل اوروبا واليابان. وبالتالي فان هذا الهدف من الرسالة كان عبثيا ولا قيمة له.
اذن ما هو التفسير القريب من المنطق لهذه الاندفاعة العرمرمية للكتاب والادباء والشعراء للاشادة بالحذاء وقاذفه..؟ اعتقد ان بعض انصار ثقافة "الاحذية المقاومة" يعتبروا مثل هذه الاحداث مناسبة لتاكيد انتمائهم للعروبة والاسلام والوطن والوطنية، ورفضهم الاحتلال وكل هذا لا يتحقق الا باعلان الكراهية لامريكا ورئيس امريكا وحلفاء امريكا، فلا يملك الكتاب للتعبير عن ذلك الا وسيلة الكتابة وها هي مادة زخمة مثيرة فيجب استغلالها. كما ان الكثير من الكتاب واشباههم يتعاملوا مع مناسبات كهذه (رمي الاحذية) مثلما يتعامل الناس مع وفاة كبار القوم، فكلما كانت منزلة المتوفي عالية، كلما تبارى الناس في نشر اعلانات العزاء، وتمتلئ قاعات وصالات ومجالس العزاء بالمعزين ويحرص الجميع على ان يعرف اصحاب الميتم انهم قاموا بواجب العزاء.
وهكذا يندفع الكثير من الكتاب وخصوصا الهواة منهم والمبتدئون، للكتابة في المناسبات والاحداث الملفتة للنظر ولسان حالهم يقول انه لا يجب ان أغيب عن هذه المناسبة التي يكثر فيها القراء (الزبائن). وبذلك فان الدافع الثاني هو البحث عن الشهرة.
سئلت يوما ما الفارق بين الشاعر مظفر النواب والشاعر محمود درويش فأجبت "ان مظفر النواب يتقن فن صياغة الشتيمة والاهانات من كل نوع للحكام باسلوب شعري مؤثر، فناب عن الشعب وقال كل ما يريد الشعب قوله، ولذلك يطرب له الكثير من "الثورجيين" ويشعروا بالراحة والسعادة، بعد ان تفجرت في اعماقه العاطفة الحماسية وكفى الله المؤمنين شر القتال. ، وكلما شعر بها احدهم ردد مقطعا "ثوربا" من احدى قصائد مظفر النواب. بينما محمود درويش يدعو في قصائده الى تحريض الناس على القول، ولذلك يحفز عقول الثوريين، كما انه نشر الكلمة العميقة والمفردة الجذابة ، واستخدم الفلسفة والتاريخ، فكان مدرسة فكرية ثقافية، ، تأثر بها عدد كبير من المثقفين الجادين، فيما مدرسة مظفر علمت الناس "كيف يعبروا عن رأيهم بشتيمة. ويبدو ان مدرسة مظفر النواب ما زالت شائعة عند الوطنجيون والاسلامويون والثورجيون، فالعاطفة والحماسة المليئة اما بالشتيمة او بالمديح تغمر معظم الكتابات والمشعورات والمقصوصات والمنثورات، وهي التي ملات صحف بعض الدول الممانعة جدا او الاقل ممانعة وكذلك الصحف القومية والاسلامية، وبالطبع مواقع الاعلام الجديد (النت)، بتمجيد ثقافة الاحذية، ودورها في طرد الاحتلال وتحرير الاوطان.
وما لفت نظري بشدة ان كل ما قرات او بالاحرى تصفحت مما كتبه مؤيدوا ثقافة الاحذية المقاومة اقتصرعلى مسالتان فقط الاولى : العاطفة الحماسية، والثانية: تعداد جرائم امريكا بالعراق، واحيانا ربط ذلك بفلسطين او الصومال او السودان، وان ما قام به رامي الاحذية هو تعبير عما في اعماق الانسان العربي من كراهية للعدو الامريكي ورفض للاحتلال وفيه رد على عجز الحكام العرب. وكل ذلك في اطار مبالغة طاغية كما هي عادة كتاب العواطف السياسية. ورغم اعترافي بشجاعة الصحفي الشخصية، الا ان مؤيدي ثقافة الاحذية المقاومة تجاهلوا بكل صفاقة ان هذه الشجاعة لا تقارن باي حال من الاحوال بشجاعة من يضحون بارواحهم في ساحات المقاومة الحقيقة المسلحة منها والسياسية والفكرية والادبية، وفي ميادين المواجهة المختلفة، فمنهم من يقتل ومنهم من يسجن لعشرات السنين، ومنهم من يتشرد، ويجوع ويلاقي ابشع صنوف الاضطهاد. وهذه الثقافة ليست جديدة او حديثة في بلاد العرب والمسلمين بل تضرب جذورها في اعماق التاريخ، منذ ان تخلت هذه الشعوب عن خيارات العقل، واتبعت خيار الطاعة العمياء لتعاليم السماء كما نقلها الرواة، وفرضها الحكام الطغاة. وينسى اصحاب ثقافة الاحذية ان الدول والشعوب والامم لها قيمة مثل بقية الاشياء اي مثل المنزل والسيارة والكاميرا والطائرة وايضا مثل البصل او الطماطم او التفاح الى اخره، وهناك معايير يتفق عليها الناس لتحديد القيمة، فيصبح هناك معايير لتحديد قيمة الاشياء. ويتقدم العقل ليحتل المنزلة الاولى في تحديد قيمة الدول والامم والشعوب، باعتباره اعظم ما يمتلكه الانسان، ولما كانت الشعوب التي ننتمي لها لا تستخدم عقلها الا فيما ندر، حتى لا نقول اطلاقا، بل شعوب تحركها العواطف والغرائز، وهي ذات الغرائز التي تحرك الوحوش في البرية والاسماك في اعماق المحيطات وحتى الحيوانات الاليفة والحشرات والديدان، اذن كم سيكون سعر هذه الامة .؟؟
وهذا السعر ليس حديثا اي ليس كسعر النفط ارتفع ليصل الى 150 دولارا ثم هبط الى 50، بل انه هابط تاريخيا .. وعلى مر العصور وهو وادنى الاسعار بالسوق .. فللاسف بدلا من ان يستفيد العربي الذي قدم من الصحراء قبل 1400 سنة، من قيمة الانسان الشامي والمصري والعراقي، والفارسي واليوناني والهندي والصيني وكل الشعوب القديمة ليحسن من قيمته، رأيناه هبط بقيمة كل هذه الشعوب قهرا وعنوة الى مستوى قيمته المستمدة من معتقداته واعرافه البدوية. وبدلا من اخلاق التسامح التاريخي المشهود للمصريين حولهم البدوي الى جنود عابرين للحدود لا يعرفون غير الموت والقتل، بأمرة قادة ممن جبلت نفوسهم على الغزو والقتل، وتحول الانسان الشامي شريك الامبر اطورية الرومانية في بناء حضارة الشرق القديم الى مجرد محارب وشهيد في معركة اثبات وتثبيت قيمة العربي القادم من صحراء تحيطها جبال جرداء، الى حض الطبيعة الخضراء والجنة الغناء. فالعصر الحالي ليس كما وصفه بعض الكتاب"انصار ثقافة الاحذية" بانه زمن الموت العربي، لأن الموت قائم منذ مئات السنين ويخيم على كل العصور، ولذلك سوف نجد على الدوام من تحركهم العواطف وترفع اصواتهم ضربة بالحذاء، وهؤلاء كانوا وما زالوا يقفون حجر عثرة وقوة ممانعة في وجه التطور والتمدن والحداثة. وهذه الثقافة العنفية ليست مظهرا مدنيا كما قال ابن خلدون، بل هي مستمدة من ثقافة وقيم البدو الاعراب المجبولة بالعنف والثأر والفوضى ورفض الخضوع للسلطة وسيادة القوانين المدنية، وترفض البعد الانساني للعلاقة بالآخر، ولا تؤمن بالتسامح والتعايش مع من يخالفها الراي او العقيدة او الاصل او العرق، وهي متخلفة متطرفة عدوانية تناهض التقدم والتمدن والتحضر والتفاعل مع الثقافات الانسانية، ولا تؤمن بالتعددية والديمقراطية والسلام. وهذه المنظومة الفكرية واسعة كما تبين من خلال ردود الفعل على رمي الحذاء، مستمدة من مكونات الوعي العقلي الكلي للمجتمعات العربية، وتعكس هشاشة الصلة بين العقل ومكوناته العليا الثقافية والاخلاقية، ويترب عليها خلل في المنظومة الشاملة للسلوك والفعل وردة الفعل، والنظرة الى العالم، وباختصار تشير الى غياب الثقافة المعرفية. وفي ظل غياب الثقافة المعرفية وسيادة الثقافة العنفية فانه من غير الممكن تحقيق التطور المنشود في ميادين الحياة المختلفة، الا بالاستناد الى حقيقة ان لا شيء على الاطلاق يستطيع الوقوف الى الابد في طريق مسيرة التاريخ التي ستطوي المفاهيم البالية وتدفنها في المتاحف، وان الانسان سيواصل مسيرته الحضارية، وسوف ينجح بالتاكيد.
#ابراهيم_علاء_الدين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المرأة البحرينية تنتزع بعض حقوقها وما زال الكثير امام العربي
...
-
الشيخ هنية يعلن قيام امارة غزستان الطالبانية رسميا
-
في ذكرى انطلاقة الجبهة الشعبية .. كيف يكون الحل لازمة اليسار
...
-
ايها الوطنيون الى متى سيظل خداع حماس ينطلي عليكم
-
التسامح الديني لدى غالبية الشعب الفلسطيني سيهزم مشرع حماس
-
غزة ليست محاصرة .. المحاصرة هي حماس .. وأخذت سكان القطاع رهي
...
-
خطة الحاج ابو القعقاع للقضاء على مشكلة العنوسة
-
تحية الى -الحوار- المدرسة المتألقة في ذكرى تأسيسها السابعة
-
من اين ستنطلق الشرارة ..؟؟
-
خطة الحاج عطية للقضاء على مشكلة العنوسة
-
هيلاري وجانيت وسوزان .. والعقل الناقص للمرأة المسلمة
-
كيف أصبحت السيدة -يسرى- صاحبة عمارة
-
المرأة .. والرصيف .. والقهر الشرقي
-
فاطمة .. انا سورية .. وأفتخر ..
-
متى يتوقف عبث النظام السوري
-
فاطمة .. وساعتها الرولكس .. وفقراء غزة
-
تصريحات موتورة لن تحول دون اقامة الدولة الوطنية الديمقراطية
-
احتلال امريكي لثلاث سنوات... ام احتلال ايراني لثلاثين سنة
-
استراحة الجمعة .. العلم يعيد الحياة للانسان بعد الموت .. فال
...
-
ماذا تريدون .. دولة وطنية ديمقراطية أم دينية استبدادية
المزيد.....
-
صحفي إيرلندي: الصواريخ تحدثت بالفعل ولكن باللغة الروسية
-
إرجاء محاكمة ترامب في تهم صمت الممثلة الإباحية إلى أجل غير م
...
-
مصر.. حبس فنانة سابقة شهرين وتغريمها ألف جنيه
-
خريطة التمثيل السياسي تترقب نتائج التعداد السكاني.. هل ترتفع
...
-
كيف ثارت مصر على الإستعمار في فيلم وائل شوقي؟
-
Rotana cinema بجودة عالية وبدون تشويش نزل الآن التحديث الأخي
...
-
واتساب تضيف ميزة تحويل الصوت إلى نص واللغة العربية مدعومة با
...
-
“بجودة hd” استقبل حالا تردد قناة ميكي كيدز الجديد 2024 على ا
...
-
المعايدات تنهال على -جارة القمر- في عيدها الـ90
-
رشيد مشهراوي: السينما وطن لا يستطيع أحد احتلاله بالنسبة للفل
...
المزيد.....
-
فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط
/ سامى لبيب
-
وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4)
...
/ غياث المرزوق
-
التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت
/ محمد فشفاشي
-
سَلَامُ ليَـــــالِيك
/ مزوار محمد سعيد
-
سور الأزبكية : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
مقامات الكيلاني
/ ماجد هاشم كيلاني
-
االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب
/ سامي عبدالعال
-
تخاريف
/ أيمن زهري
-
البنطلون لأ
/ خالد ابوعليو
-
مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل
/ نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم
المزيد.....
|