|
قراءة في(شجرة الحروف) لأديب كمال الدين: تشظّي الحرف في غروب النقطة
خليل إبراهيم المشايخي
الحوار المتمدن-العدد: 2492 - 2008 / 12 / 11 - 08:56
المحور:
الادب والفن
شجرة الحروف/ شجرة الشمس قال بودلير مجيباً شيطانه عن قصيدته: ((إنها تشبه نعنعة الماء، لا فضل لبعضها على بعض، تنفث السحر كالفجر، وتغدق السلوى كالليل. نفسها يتصاعد موسيقى، وصوتها يضوع طيبا)). هذا ما تلمسه وأنت تطالع ديوان ((شجرة الحروف)) للشاعر أديب كمال الدين، الصادر عن دار أزمنة عام (2007). وقد أعاره لي الشاعر المبدع محمد كاظم جواد مشكورا.. وعلّك تجد فيه أكثر مما قاله بودلير.. تبهرك قبل أنْ تتصفح الديوان اللوحة الفنية (صورة الغلاف) التي أبدعتها أنامل الفنان المبدع حقاً (ستار كاووش) الذي رسمها بفنية عالية وإبداع حقيقي مذهل، وسحرية تأخذ بمجامع القلوب، تدل على إحساس فنان مرهف شفاف كقطرات الندى عندما يلامس شفاه الورد . كنت أتمنى على المبدع (ستار كاووش) أنْ يقف عند عنوان القصيدة أو حتى عند القصيدة التي تحمل العنوان نفسه، فأنا على يقين أنَّ رساماً مثله سيتحفنا بلوحة فنينة بارعة فريدة كفرادة شجرة الحروف نفسها، بجمالها الملائكي– بسحرها البابلي، بعذوبتها الفراتية، بنكتها العراقية الفريدة بمحاسن مفاتنها البغدادية... سيرسم – لا محالة – بإبداع حقيقي شيئاً باهياً فاتناً جميلاً أحلى من كل الأشجار، يحمل ثمراً أطيب من كل الأثمار، سيرسم شجرة الشاعر أديب كمال الدين (شجرة الحروف) الشجرة التي زرعها الشاعر في وجدانه وغذاها من سويداء قلبه وسقاها من ماء روحه.. وأطلقها في فضاء خياله فنمت وراحت تضرب بجذورها الأرض، وتعانق بفروعها الضياء... وتغدق على من يقصدها بأحلى لمسات الخيال صورة حيّة، وعبارات قريبة من النفس بكلمات سحرية .. علّي في دراستي النقدية هذه أفتح فضاءات الحرف وسحريته أو أسلط الأضواء على بعض أسراره.. عسى أنْ أساهم بما يوقظ في مخياله شيئاً يستفيد منه.. فلو نظرنا إلى الحرف لوجدناه وعاء صوتياً فارغاً لا يحمل لوناً ولا هدفاً ، لكنه قابل للتلاقح والإخصاب، يشحن بطاقة من معنى، إذا لا مسته نفحة اللغوي، فكيف به إذا لامسته يد فنان مبدع تلاقت أفكاره الأبداعية مع خصب مخيال شاعر ألهمه الله تعالى سرَّ الحرف وما هيته، وحروف شجرة المبدع أديب كلها أنيقة فاتنة قادرة على تفريغ شحناتها دون أنْ يعثر بها الذوق.. فضَّ الشاعر ديوانه بنص شعري (وصف) / إلى صالح زامل قسمه على ثلاثة مقاطع.. بدأ المقطع الأول باستهلال قوي مستخدماً الفعل الماضي لما فيه من دلالة على التجديد، فالشاعر على درية ودراية بأنَّ الزمن جزء من معنى الفعل المستخدم، فحاول جعل حدث الاستهلال أساساً لاسنتطاق الجمالية، لأنها من أكبر البنى المحورية للدراسة: سقطتْ دمعةُ الشاعرِ على الورقة فرأى فيها أخوةَ يوسف وهم يمكرون ويكذبون ورأى دمَ الذئب ورأى أباه شيخاً وحيداً يتمتم: يا أسفي على يوسف، يا أسفي.
لقد تمظهرت البنية الإخبارية (سقطتْ دمعةُ الشاعر على الورقة) في إفرازات دلالية جديدة، فتمكن من خلالها أنْ يخلق معاني جديدة ساهمت في رسم صور إبداعية غير مألوفة... فمن بين هذه المعاني أراد أنْ يخبر أنَّ الشاعر من خلال آلامه وعذاباته (هو الذي يرى كل شئ).. وقد استمد موضاعات صوره من القص القرآني، وقد نجح في استخدامها استخداماً ثقافياً بليغاً بعد أنْ أخضعها لشاعرتيه الفذّة وموهبته الخلاقة بفنية شعرية عالية، اعتماداً على أسلوب رشيق رصين، وثقافة عميقة متنوعة... اعتماد الشاعر أديب كمال الدين على القص القرآني في كثير من نصوص هذا الديوان إنْ هو إلاّ دليل حي على وعيّ مركز لما تمتلكه الحكاية المقدسة من تأثير في النفس، ولهذا استمد نسغ الحياة لصوره الشعرية الفريدة منها ومن منابع الحياة الأخرى (أساطير– حكايا مقدسة، ملاحم شعبية، فلسفات متنوعة، وآداب عالمية) فبث فيها من روحه مما جعلها نابضة بالحياة معبّرة عن معاناة الانسان، متجاوزة لغة العصر الشعرية في إطار سحري أخاذ... لقد ضمّن نصه شيئاً من قصة يوسف، لأنه رأى أنَّ شيئاً من التماثل بين ما حدث له وما حصل ليوسف، فصحبه الذين كان يعدهم أخوة له كانوا غير صريحين معه، وماكرين، لا يختلفون عن أخوة يوسف في المكر والخديعة وارتكاب الجرائم حسداً وغيرة، وكان يحملهم محمل الود والإخاء.. وإذا كان أبو يوسف رأى دما كذبا على قميص يوسف، وادعى أخوته انه دم أخيهم يوسف الذي أكله الذئب، فإن الشاعر رأى دم الذئب دم القاتل لا دم القتيل.. فنجح في اتخاذ الرمز شفرة قصيدية، ليتمكن عبره من كشف الحقائق والماهيات، ليمنح مفرداته زخما دلاليا واسعا..فتحولت المفردات بواسطته من دال إلى مدلول، جاعلا الكلمة نفسها هي التي تشير الى نفسها ليتمكن من تحريك ما هو ساكن بطبعه، موحي لنا احساسا بالألم وكذلك الخديعة والمكر، من خلال ظلال التعبير وتأويلاته .. ورأى إنّ ما تمتم به أبو يوسف على يوسف بألم ومرارة (يا أسفي على يوسف يا أسفي) إنما هو ترجمة صادقة لما في دواخل الشاعر من ألم ومرارة، ومن أسف على ما مضى .. ويمضي الشاعر في رؤيته القلبية، ولكن بمنظار آخر، وعبر أحداث أخر:
ثم نظرَ مرّة أخرى فرأى نارَ إبراهيم ورأى صليبَ المسيح ورأى الموتى ينهضون والعميان يتشبّثون ببعضهم، يصرخون. ثم رأى موسى يعبر بحراً من الرعبِ والموت
لقد حاول الشاعر الغور بوعي في اعماق الذات، وذلك باستحضار صور مقدسة من التاريخ القديم: (صورة النار التي اضرِمَت، ليُلقى فيها ابراهيم) (صورة المسيح وهو مُعلّق على الصليب) (صورة موسى يعبر بحر الرعب والموت) (صورة الموتى وهم ينهضون) (صورة العميان المتشبثين ببعضهم) لقد غنى الشاعر آلامه وعذاباته عبر هذه الصورة بلغة شعرية تتوهج بجمالية أخاذة، وغنائية تنثُ سحراً وعذوبة نستشف عبرها مدى معاناة الشاعر وآلامه، فجاءت صوره الشعرية تجسيداً لها، فلذلك تحسها نابصة بالحياة تتحرك أمام ناظريك بحيوية ونشاط:
يوسف * ألُقي في الجب إبراهيم * ألُقي في النار موسى * ألُقى نفسه في البحر عيسى * ألقى في الصليب الشاعر أديب* ألقى نفسه في بحر الغربة
كان يوسف لا يرى ما يحدث حوله لأنه في الجب وإبراهيم لا يرى ما يحدث حوله لكثافة النيران وهولها وشدتها... وعيسى لم يعد يرى ما حوله لبشاعة التمثيل به، أو لصعوده إلى السماء وموسى لا يرى ما وراءه من الرعب والموت الذي يتعقبه.. وأديب الشاعر الإنسان رأى كل شئ كما جلجامش فغنى هو أحزانه، وأنشد آلامه، عازفاً على قيثارة الغربة ألحاناً شجية مفعمة بالأسى، لأنها ألحان روح إنسانية رأت في عذاباتها وآلامها عذابات الأخرين ... يوسف لأنه رأى ما لم يره أخوته، واستغاثة موسى لأنه أول المؤمنين، ثم رأى الصحارى العربية، وأصحاب الرسول محمد (ص) في أولّ حرب خاضوها ضد كفار قريش ... ورأى فوق خيول الخونة رأس الحسين يحمل فوق الرماح ... لقد نجح في جعل بؤرة التركيز في هذه الدمعة الواحدة التي أضاءت له الدنيا فجعلته يقرر ما الذي عليه أنْ يراه:
هكذا في دمعةٍ واحدة أضاءتْ له الدنيا جميعاً فاحتارَ الشاعرُ كيفَ يبدأ، كيفَ يقول ثم رأى أن يصفَ المشهدَ ليس إلاّ!
أمّا النص الشعري الثاني (( الزائر الأخير)) فجعله على مقطعين. استهل المقطع بجملة فعلية فعلها ماضٍ ناقص وجعلها جملة كبيرة مركبة خبرها جملة فعلية فاعلها هو نفسه اسم الفعل الناقص المستتر، ليجعل استهلاله للنص قويا ذا تأثير في المتلقي، ليجلب انتباهه لما سوف يسرده عليه من حكاية ( شاب بثياب سود)، وكتابه الذي على هيأة حقيبة أو حقيبة على هيأة كتاب.. ويستمر في سرد حكايته، وكيف أنه وجد في الكتاب الحقيبة حروفاً وقصائد، ولكنَّ الشاب:
أخيراً أخرجَ لي نقطةً حملتْ ألوانَ الفجر والمغيب حَمَلها بيده الصفراء المرتجفة دون أن ينبسَ ببنتِ شفة.
لقد أعطى الشاعر أديب كمال الدين لكلماته علائق جديدة، محاولاً ربط أفكاره وانفعلاته المتبانية ببعضها، فكان بارعا في السيطرة على الحركة لزيادة الترقب في الايقاع الداخلي الذي إختاره بمهارة عالية، وفنية دقيقة تنم عن درية وراية وتمكن من أدواته الفنية، وبراعته في انتقاء مفرداته ليكون بارعاً في التعبير عن أدق المشاعر، وأعقدها، وكذلك الحالات الفكرية المعقدة.. هذا ما جعل نصوصه الشعرية تنثّ احساساً بالانعتاق من حدود الزمن، وحدود الفضاء مما يولد لدى المتلقى ذلك الاحساس بالنمو المفاجئ فسمت صوره على الحدود القديمة للتعبير، لأنّه أضفى عليها قوّة إدراك خاص، وجمالية جديدة للتجربة فكانت الصورة لدى الشاعر أديب إعادة خلق مثالي باهر للتجربة لرؤية ما وراء الادراك إلى داخل الاشياء التي يريد تصويرها :
وأخرج لي نقطةً حملتْ ألوان الفجــــر والمغيب.
هذه الصورة التي لونها بألوان الفجر والمغيب صورة مبتكرة أضفى عليها من لمسات خياله ما زادها قوّة سحرية أخاذة ولو وقفنا على المدلول اللغوي للنقطة لوجدناه :
* عند علماء اللغة شبه كرة صغيرة النقطة علامة فصل بين الجمل تمييز بين الحروف
أمراً أو قضية تعني قطرة دم أو ماء
* عند علماء الرياضات
النقطة أطوالها منعدمة
* عند الشاعر أديب الإناء الحجر الشفتين الجمر النقطة الكؤوس الأفخاذ الحروف الدموع بيضــــــة صفراء كبيرة نقطـــــــة العـــــارفين
وأرى أنَّ في ما ذكرناه يقربنا بعض الشئ من معرفة أسباب اهتمام الشاعر أديب كمال الدين بها ، اهتمامه بها متأتٍ عن علم ومعرفة وثقافة لاعن مسألة اعتباطية وهذا ما يكشفه لنا في المقطع الثاني من نصه هذا ((الزائر الأخير))، فالنقطة تعنى عنده أشياء كثيرة متنوعة:
مددتُ يدي لآخذ النقطة أعني الإناء، الحجر الشفتين، الجمر الكؤوس، الأفخاذ الحروف أو الدموع
وحين وجد الشاعر أنَّ النقطة تحمل في ذاتها سرّ الحياة، ولادة الضياء وسرّ الموت، ولادة الظلام، فأصابته الدهشة:
وأنا أنظرُ إلى النقطة مدهوشاً بألوانِ الفجر والغروبِ فيها كجثةٍ تُلقى في البحر.
لقد استهدف الشاعر من وراء تشبيهه تحويل المشبه إلى وجود آخر ممتزج بصفات المشبه به مستخدماً اسلوب الانزياح لإعادة إنتاج الواقع، وأرى أن عملية الإلقاء لا الجثة هي التي تكون المشبه به حتى يحتفظ التشبيه باثنينة حادة على المستوى السطحي، وعلى المستوى العمقي أيضاً بين طرفي التشبيه وأرى أنَّ الشاعر كان يهدف من وراء هذا التشبيه إلى أعطاء المجهول حدوداً ومميزات... وفي نصه الشعري (قصيدتي الجديدة) الذي استهله بقوة لأنَّ ما يريد البوح به يحتاج إلى مثل هذا الاستهلال القوي، لتفعيل عملية التلقي لتمتد إلى ما وراء اللغة، لتتمظهر البنية الإخبارية في هذا النص ونصوصه الشعرية الأخرى في إفرازات دلالية جديدة فخبرنا بأنّه أعطى قصيدته للحسناء فلم تعبأ بها، وأعطاها للطفل ليلعب معها فوّلى صارخاً، ثم أعطاها للنهر الذي هو رمز الحياة فلم يأخذها، بما أنّ القصيدة تحمل حباً للوطن والناس ، وتكشف حقيقة وأسرارا تدين الظلمة:
وحدهُ الشرطيّ اقتربَ منّي وصاحَ بصوتٍ أجشّ * ماذا في يدك؟ قلتُ: قصيدة جديدة. * فماذا تقولُ فيها؟ قلتُ: اقرأها لتتعرّف إلى سرّها ومعناها. فأخذها منّي ودخلَ غرفته السوداء دخلَ ليربطَ القصيدةَ إلى كرسيّ حديديّ ويبدأ بجلدها بسوطٍ طويل.
وكأني بالشاعر أراد أنْ يولد عند المتلقي احساسا بالظلم وهمجية الأنظمة القمعية الجاهلة التي تخشى الكلمة النبيلة الشريفة، فتحاول القضاء عليها... ويمضي الشاعر في تأسيس احساس بالقهر لدى المتلقى بصورة حادة مشوباً بالتحدي والقوة ،لتأخذ الصورة الشعرية مسارها متحركاً بحيوية وعنفوان ولكشف الحاكم الظالم واستبداده وفي الوقت نفسه يدينه من خلال ما التقطه له من صوره معبرة بأنّه مهما أوتي من جبروت وقوة لا يمكنه أن يفهم دلالة الكلمة وسر الحرف:
ثم أخذَ يضربها بأخمص المسدس على رأسها حتى نزفت القصيدةُ حروفاً كثيرة ونقاطاً أكثر دون أن تعترفَ بسرّها ومعناها. ويكتشف الشاعر في نصه الشعري ((القليل من التراب )) بشكل ذكي وواع، بأنَّ لا شي سيبقي حتى وإنَّ بقي القليل منه فهو لا محالة زائل:
سيبقى القليلُ من الأكاذيب وترّهاتِ مدائح الشعراءِ للملوكِ الظَلَمَة وسخافاتِ الشعراءِ المخنّثين والشاعراتِ السحاقيات سيبقى القليلُ من مواعظ المدرسين المرتشين والزوجات الغبيّات
ويمضي الشاعر في ذكر ما سيبقى القليل منه (من العري، من الليل والفجر، من الأحلام والدموع ... من ذكريات الطفولة وصيحات الاوكسترا ، من قصائد الملل والعتاب، من دموع اللاجئين ..) وفي المقطع الثالث من هذا النص الشعري يحاول كشف حقيقة ما سيبقى وما سيؤول إليه من مصير:
نعم كلّ شيء سينقلبُ إلى تراب وسيبقى، أيضاً، القليلُ من التراب!
سأمضي قدما دون الوقوف على الكثير من النصوص وأوجل وقوفي عليها إلى ما بعد، وأتجه إلى نص ((شجرة الحروف )) واقف عنده بعض الشئ : قسم الشاعر نصه هذا على أربعة أقسام وجعل القسم الرابع على ثلاثة أقسام.. لقد استهل نصه بقوة باستخدام الفعل الماضي الجامد (ليس) المستخدم لنفي اتصاف المبتدأ بالخبر، لكي يقرب الكلام إلى الصحة بل ليصل إليها..فنفى وجود شجرة من هذا النوع أو بهذا الاسم ،فمقتضى النفي هو عدم حصول الحدث ،هذا ما دعاه إلى أن يضع بدلها هيكله العظمي وينبته في الصحراء لا في مكان آخر:
ليس هناك من شجرةٍ بهذا الاسم أو بهذا المعنى ولذا أنبتّ هيكلي العظمي في الصحراء وألبسته ُقبّعةَ الحلم وحذاءَ طفولتي الأحمر وعلّقتُ عليه طيوراً ملوّنةً اتخذتْ شكلَ النون ثم وضعتُ عليه بيضةً صفراء كبيرة اسمها النقطة!
لقد حاول الشاعر أنْ يمنح هيكله العظمي الذي أنبته في الصحراء بعد أن نفى وجود شجرة الحروف أشياء مما تمنح للأحياء وحاول أنْ يذهب بنا مع خياله في منحه للهيكل حياة ونبضاً دافقاً بالأصوات، فعلّق عليه طيوراً ملونة اتخذت شكل النون .. ليوحي لنا من خلال هذه الصورة المرسومة بدقة وبراعة فنية عالية بإحساس ذوقي فيه ايحاء بمشاعر إنسانية. وهذا ما يؤكد لنا بأنَّ الشاعر أديب كمال الدين مدرك بأنَّ معاني الألفاظ هي محصلة موحيات أصوات حروفها، وأنّه قد أطلع على ما قاله اللغويون العرب القدامى لاسيما ابن جني بأنَّ العربي أبدع كلماته ((سوقاً للحروف على سمت المعنى المقصود والغرض المراد)). وقول ابن جني هذا أبلغ تعبير عن النظرية التي عبرت عن معنى الحرف العربي هو (( صدى صوته في الوجدان والنفس ))، وهذا ما حاول الشاعر خوض غماره، ولقد كان الشاعر بارعاً وموفقاً إلى حد كبير في جعل الطيور التي علقها على الهيكل العظمي تتخذ شكل النون وذلك لأن :
• صوت النون فيه خاصية الانبثاق + النفاذ + الصميمية • شفرة السيف صورة النون مقتبس من الحوت (الدواة )
• النقطة في النون تمثل نتوء عند مقبض السيف عين الحوت مرتسم القلم في الدواة
وأرى أنَّ الشاعر المبدع أديب استخدم النون لما فيها من رقة وعصير أنفاس وإلفة… فهي وحدها دنيا من المشاعر والشعر والموسيقى…لقد عمد الشاعر إلى أنْ يكرر نفيه للتأكيد على نفي اتصاف المبتدأ بالخبر توكيداً إنكارياً بعد أنْ كرره أربع مرات.. إنَّ الشاعر على الرغم من تأكيده الانكاري ( نفي وجود شجرة بهذا الاسم أو بهذا المعنى، لكنه في المقطع الثاني يعترف بوجودها:
رأيتُ الناس يحملون أشجاراً: بعضهم يحملُ شجرةَ الذهب أو شجرةَ اللذة أو شجرةَ الدم والآخر يحملُ شجرةَ النسيان أو شجرةَ الكحول أو شجرةَ النار فمددتُ يدي في قلبي مرتبكاً وأخرجتُ شجرةً صغيرةً جداً مليئةً بالشمس سمّيتها شجرةَ الحروف!
لقد أفلح الشاعر من خلال التعابير المجازية والترميز، المستوى الانزياحي الذي استخدمه أن يفتح أبواب نصه الشعري لأشياء غير تقليدية فريدة من العلم بالحياة اليومية ، والأحلام الحقيقية على النقيض مما هو رومانتيكي فيها وخلق معان جديدة من خلال إيجاد صلات جديدة لاسيما في هذه الصورة السحرية الفذّة المرسومة ببراعة :
فمددتُ يدي في قلبي مرتبكاً وأخرجتُ شجرةً صغيرةً جداً مليئةً بالشمس سمّيتها شجرةَ الحروف!
لقد برع بما يمتلكه من موهبة شعرية أصيلة وثقافة متنوعة (تراثية ومعاصرة) وتمكن من أدواته المعرفية – من خلق مساحات واسعة من التفكير بعضها مع بعض ليتمكن ببراعة فنية شعرية وبإبداع من تقريب العلاقات المتعددة غير المدركة بين هذه المعاني، ومن خلال أيضاً استخدامه لمستويات الانزياح، مما عبر عن مقدرته على خوض الانتهاكات اللغوية (مددتُ يدي في قلبي) وهذا ما دعا الشاعر إلى اتخاذ الرمز شفرة قصدية كاشفا من خلالها أماكن جديدة في عالم اللغة الشعرية... أما في المقطع الثالث من هذا النص فيعود إلى إعادة العبارة ذاتها وهي عدم وجود مثل هذه الشجرة : ليس هناك من شجرة بهذا الاسم أو بهذا المعنى
لكنه يؤكد على وجود شجرة حاول إنماءَها في زنزانة سجنه وزرعها في صحن السجن المعدني آتت أكلها ( جيم + نون + نقطة ) :
زرعتُ شجرةً صغيرةً جداً في الصحنِ المعدني العتيقِ الذي يضع فيه السجّانون طعامي فَنَمت الشجرةُ عاماً فعاماً حتى أثمرتْ جيماً مليئةً بالطلاسم وصيحاتِ الدمِ والحروب ونوناً مليئةً بآهاتِ العشق وريشِ المحبّة ونقطةً قيل إنها نقطة العارفين. ويعمد إلى ما فعله في المقطع الثاني والثالث فينفي اتصاف المبتدأ بالخبر وتكرار العبارة نفسها مؤكداً في المقطع الرابع لكنه في الجزء الأول من المقطع الرابع يأمل أن يرى لا مثل ما يراه الآخرون الذين رأوا الأشياء من وجهة نظرهم نظرة يمليها عليهم مستواهم الثقافي والاجتماعي ودرجة وعيهم وربما أحلامهم أو اطماعهم أو ما يطمحون إليه ( شجرة التفاح –الدنانير – الطيور – النساء ) وانّما سيرى شجرة الحروف التي أنكر وجودها أكثر من مرة لأنَّ رؤيتها إنما رؤية الأمل والحقيقة والأمان :
ثم وصلَ الدورُ إليّ فقلتُ: سنصل إلى الشاطئ حين نرى شجرةَ الحروف.
^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^ د. خليل إبراهيم المشايخي - العراق- بابل
#خليل_إبراهيم_المشايخي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
-
تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر
...
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
-
-المتبقي- من أهم وأبرز الأفلام السينمائية التي تناولت القضية
...
-
أموريم -الشاعر- وقدرته على التواصل مع لاعبي مانشستر يونايتد
...
-
الكتب عنوان معركة جديدة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين
...
-
-لي يدان لأكتب-.. باكورة مشروع -غزة تكتب- بأقلام غزية
-
انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
-
مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب
...
-
فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|