محمد بن سعيد الفطيسي
الحوار المتمدن-العدد: 2490 - 2008 / 12 / 9 - 09:57
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
ان حالة الإرباك الجيوسياسي التي تمر بالولايات المتحدة الاميركية في السنوات التي أعقبت أحداث الحادي عشر من سبتمبر , 2001م – 2003 م , كانت غاية في الصعوبة والغرابة , وتحديدا ردة فعل بعض النخب السياسية والعسكرية المحركة والصانعة للقرار الاميركي الخارجي , فقد صنعت تلك الأحداث شرخا عميقا في كرامة ومكانة الامبراطورية الاميركية , مما انعكس كثيرا على تصرفاتها وتعاملها مع أصدقائها وأعدائها على حد سواء , فنفسيا شكلت تلك الأحداث هالة كبيرة من القلق والخوف من اهتزاز السياسة والسيادة الاميركية في نظر الآخرين , فكيف بعد ذلك ستستطيع هذه الأخيرة ان تدعي قدرتها على حماية الأمن والسلام العالمي , وهي عاجزة عن حتى عن حماية بيتها الداخلي ممن تصفهم بالإرهابيين , وتحاربهم في كل أنحاء العالم 0
هذا إذا ما أضفنا ان تلك الفترة تحديدا , كانت فترة انتقالية تحاول جميع القوى الدولية الناشئة منها والكبرى أساسا من خلالها إثبات وجودها , وتثبيت قدم لها في هذا القرن الجديد , فكيف سيكون ذلك في ظل ذلك التحطم والانهيار الشامل الذي أحدثته تلك الكارثة , وما قد يؤدي ذلك من انعكاسات وامتدادات وأعراض جانبية وردة أفعال على طموحات وتوجهات الامبراطورية الاميركية الجيواستراتيجية المستقبلية ؟ وقد كانت هذه الأفكار والمخاوف واضحة للعيان , ودائمة الحضور في جميع الأوقات والأمكنة التي قدر للجميع التواجد فيها – ونقصد – بداية من المواطن الاميركي العادي الى النخب الاميركية الحاكمة 0
مما تسبب بكثير من الأخطاء الجسيمة والتصرفات العشوائية المؤثرة , والتي نظر إليها البعض على أنها نتيجة طبيعية لحالة الإرباك التي كانت تعيشها الولايات المتحدة الاميركية في تلك الفترة , ولكن هي فترة مؤقتة وسوف تمر بسرعة , بينما نظر إليها البعض الآخر على أنها علامات شبه مؤكدة على تهاوي قوة الامبراطورية الاميركية على مختلف مستوياتها , وبالتالي فهي فرصة مواتيه ولن تعوض للتمرد والانقلاب على خطوطها الحمراء التي رسمتها قبل ذلك لبقية الأنظمة والقوى الدولية التي تدور حول محورها المركزي الكوني منذ سقوط الاتحاد السوفيتي مع مطلع تسعينيات القرن الماضي 0
وفي الحالة الروسية التي نتعامل معها هنا , فقد لعبها او استغلها الروس على اتجاهين او سيناريوهان , فالأول تعامل مع أميركا متضامنا من ناحية أخلاقية وإنسانية وذلك بالوقوف معها فيما حل بها من كارثة , كما فعلت ذلك اغلب دول العالم , فبعد تلك الأحداث أعلن بوتين وبوش الشراكة الاستراتيجية بين الدولتين وخصوصا في محاربة ما سمي بالإرهاب من - وجهة نظر تلك القوى العالمية - , وكانت تصريحات بوتين واضحة في رفضه لأي استغلال إرهابي للمدنيين , ورفض التفاوض معهم بأي حال من الأحوال , وهو ما ثبت عمليا في عدد من الحالات التي وقعت فيها روسيا في نفس الوضع , كما هو في ردة الفعل الروسية على أحداث مدرسة بيسلان 0
أما من ناحية أخرى , فقد استغل الروس تلك الأحداث انسب استغلال , وخصوصا فكرة مكافحة الإرهاب , - وبالطبع – فان ذلك يحتاج الى أطروحات موسعة ومتعمقة لا يمكن ان نتناولها هنا , ولكن سنشير فقط الى نقطة واحدة , هي من – وجهة نظرنا – كانت الأساس الذي اعتمد عليه السيناريو الروسي الآخر , - ونقصد – ان بوتين استغل الارتباك الجيوسياسي الذي أحدثته كارثة الحادي عشر من سبتمبر من العام 2001م , وما نتج عن ذلك من انقسام داخلي في صفوف النخبة الاميركية تجاه مجمل تلك القضايا والمتغيرات التي أعقبت الكارثة , كغزو أفغانستان واحتلال العراق على سبيل المثال لا الحصر , وردة الأفعال الدولية عليها 0
المهم في الأمر , ان مقاربات فريق بوش ورؤيته الى الأحداث والمتغيرات الدولية خلال تلك المرحلة سالفة الذكر , لم تنجح في تنظيرها للمستقبل الذي ينتظر الولايات المتحدة الاميركية , فقد خرج ذلك الفريق بالاستنتاج او المبدأ التالي , وهو استنتاج قيل ان كوندوليزا رايس من صاغته كردة فعل على أعضاء المحور المعادي لأميركا قبل غزو العراق , مفاده ان عاقب فرنسا , وتجاهل ألمانيا , واغفر لروسيا , ومن الواضح هنا بان اميريكا كانت بالفعل بحاجة الى روسيا في حربها ضد الإرهاب , وذلك لأسباب كثيرة أبرزها على الإطلاق موقعها – أي – روسيا الجيوسياسي , وذلك بسبب قربها من مصادر التوتر العالمي , وتأثيرها الأكيد على العالم العربي , وامتلاكها لعدد من الأوراق الرابحة والمؤثرة مع الغرب , وهو ما جعلها عمياء عن رؤية ما يدور ويخطط لها تحت قباب الكرملين الروسي في ذلك الوقت 0
وقد كانت هذه النقاط وغيرها الكثير بالطبع , والتي لعب على استغلالها الروس , وتحديدا خلال الفترة الثانية لرئاسة الرئيس الروسي السابق ورئيس الوزراء الحالي فلاديمير بوتين مع مطلع العام 2004 م , وقد بدأت الأمور تتكشف سريعا بسقوط قناع المجاملات والمداهنة الروسية والوقوف الإنساني والأخلاقي مع للولايات المتحدة الاميركية بسبب تلك الأحداث وغيرها , فقد كشر الرئيس الروسي بوتين في ذلك الوقت عن أنياب مفترسة لم تشاهدها الامبراطورية الاميركية من روسيا قبل ذلك , واظهر لغة سياسية حادة وغير معهودة زادت من إرباك تلك النخبة التي لم تتصور بان الرماد الذي خلفته نيران العملاق الشيوعي الأحمر يمكن ان يشتعل من جديد 0
( فخلال العام 2004م , لم تكن موسكو مستعدة لأي نوع من الجهود الدولية في المحيط السوفيتي السابق , بل على العكس من ذلك و بدا الكرملين بإظهار استياء علني من رغبة الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي في ان يكون لهما وجود على أراضي الاتحاد السوفيتي , كما كان وزير الخارجية الروسي قد سال واشنطن باستمرار متى تنوي سحب قواتها من رابطة الدول المستقلة – CIS- , وأكثر ما كان يزعج موسكو هو تزايد النفوذ الاميريكي في جورجيا , كما تلقى تعين ممثل خاص من الاتحاد الأوربي الى القوقاز الجنوبي قبولا فاترا من الكرملين ) 0
هذا بخلاف التصريحات النارية التي أطلقها بوتين في عدد من المحافل الدولية , وأظهرت الوجه الجديد لرجل لم تتصور اميريكا او حتى العالم ان يحمل معه ارث القيصرية السوفيتية , او لغة القومية الروسية بتلك الحرارة والوطنية , وخصوصا تلك التي اعتبر فيها سقوط الاتحاد السوفيتي اكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرون ومأساة حقيقية للشعب الروسي , كذلك فقد كانت تصريحاته الرافضة للغطرسة الاميركية وتهميش هذه الأخيرة لروسيا من اشد التصريحات التي لم يتصور احد عودتها من جديد بعد سقوط الاتحاد السوفيتي 0
وقد أثبتت الأحداث وخصوصا تلك التي نتجت عن حرب القوقاز الأخيرة وتلتها , بان أميركيا لم تعد قادرة على التعامل مع روسيا كما كانت بعد العام 1992م , وحتى نهاية القرن الماضي , بل تثبت الأحداث يقينا بان الإرباك الجيوسياسي الذي تعاني منه النخب الاميركية لا زال مستمرا حتى الساعة , ومما يدلل على ذلك ردة فعلها الأخيرة تجاه نفس الأحداث سالفة الذكر , فبينما تعلن تضامنها مع جورجيا وتعلن استعدادها الكامل للتعاون معها , وتكيل الاتهامات الى روسيا بالتسبب بالمأساة الجورجية وعدم الالتزام بتعهداتها كما أشار الى ذلك بتاريخ 25 / 11 /2008 م ماثيو بريزا نائب مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية لشؤون أوربا واوراسيا 0
نجد أنها وبعد ذلك بأقل من أسبوع فقط , - أي – بتاريخ 28 / 11 / 2008 م تتراجع عن منح العضوية ذات المسار السريع في حلف شمال الأطلسي الى جمهوريتي جورجيا وأوكرانيا السوفيتيتين سابقا , بل ونجد ان وزيرة الخارجية الاميركية كوندوليزا رايس التي كانت بلادها تضغط على الأوروبيين كي يدعموا ملف تبيليسي وكييف قبل ذلك التاريخ تقول :- ان ذلك الملف لم يعد ذا أولوية , وقالت :- انه ليس ضروريا في الوقت الراهن مناقشة ترشيح جورجيا وأوكرانيا للانضمام الى الحلف الأطلسي , ورغم ان رايس لم تعتبر ذلك تراجعا أميركيا ، يبدو إعلانها بمثابة تنازل أمام الأوروبيين الذين يعارضون منح الدولتين وضع المرشح وعلى رأسهم الألمان والفرنسيون مراعاة لروسيا التي تعارض بشدة تلك الفكرة, وهو ما دفع الرئيس الروسي ميدفيديف الى قوله :- يسرني ان الرشد قد ساد., وأيا كانت الأسباب الضغط الأوروبي او أي شئ آخر فالمهم هو أنهم في واشنطن لم يعودوا يصرون على المضي قدما بما سبق لهم من مواقف ضارية خرقاء 0
وان دل هذا على شي , فاقل ما يمكن ان نستنتجه من خلال كل ذلك أمرين , أولهما نجاح الاستراتيجية الروسية في التعامل مع المتغيرات الدولية بشكل عام والأميركية خصوصا , واستغلالها بطريقة سليمة الى الآن على اقل تقدير , وثانيا استمرار حالة الإرباك الجيوسياسي الذي لا زالت تعيشه النخب الحاكمة في الولايات المتحدة الاميركية , مما نتج عن ذلك الإرباك عدد من التصرفات الغير محسوبة والتي أوقعت هذه الأخيرة في كثير من الحسابات التكتيكية والاستراتيجية المتسرعة , وهنا نضع السؤال الأخير , والذي لن نجب عليه في الوقت الحالي , وهو ماذا سيفعل الرئيس الاميركي الجديد باراك أوباما حيال هذا الأمر ؟ والذي ان لم يعالج سريعا وبشكل جذري , فستكون عواقبه وخيمة على العالم , وعلى مكانة وهيبة وسيادة الامبراطورية الاميركية على وجه الخصوص 0
#محمد_بن_سعيد_الفطيسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟