|
جذور الديانات التوحيدية
باسم محمد حبيب
الحوار المتمدن-العدد: 2491 - 2008 / 12 / 10 - 09:47
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
اعتقد كثيرون أن الديانات التوحيدية وأقدمها الدين اليهودي ما هي إلا تطور طبيعي حصل على ديانات المنطقة انطلاقا من التطور الديالكتيكي لمفهوم الديانة حيث اعتبر هؤلاء أن التوحيد اختراع سياسي هدفه ترسيخ الهيمنة السياسية على شعوب من ديانات مختلفة وهو بالتالي نتاج للتطور السياسي قبل أي شيء أخر لكن هذا الطرح الوجيه يواجه معرقلات كثيرة أهمها عدم تطور الديانات الرئيسية في حضارات المنطقة وبقائها على نمطها القديم وعدم انتشار التوحيد أو تبنيه من قبل الإمبراطوريات العسكرية القديمة التي فضلت إبقاء الشعوب على دياناتها الأصلية وعدم المساس بشعورها الديني باستثناء الإمبراطورية الرومانية منتصف القرن الثالث الميلادي لذا لابد لنا أن نعد جذور التوحيد ومضا هره الدينية المرافقة من نتاج بيئة أخرى لان النظرية الأخرى القديمة بشان الأصل البدوي للتوحيد لايمكن التعويل عليها لان البداوة لاتعرف هذا النوع المعقد من التدين الذي يميل للتقديس ويمارس بعض الفعاليات الدينية التي تكون مقرونة بقدر كبير من البذخ فيما على العكس من ذلك يغلب على الأديان البدوية البساطة والشكلية حيث بقي جلها مرتبط بالشكل الطوطمي للدين وخير مثال على ذلك ما تمثله أسماء بعض القبائل العربية من تأكيد لهذا النوع من العبادة لان أسماء هذه القبائل لاتعبر عن أسماء لزعماء أو شخصيات مشهور كما يظن غالبا وإنما هي تسميات طوطمية ترتبط بنوع العبادة التي كانت تمارسها القبيلة فقبيلة ثعلبة تعبد الثعلب وقبيلة أسد تعبد الأسد وقبيلة كلب تعبد الكلب ...الخ وبالتالي لايمكننا القول أن التوحيديون جاءوا بعبادتهم من البادية حتى وان ارتبطت العبادة باله من أصل بدوي لأننا نتكلم عن مفهوم لا عن تسمية ومن المرجح أن تكون جذور العبادة التوحيدية والكثير من عناصرها آتية من حضارة أخرى بعيدة وأنا أرجح أن تكون هذه الحضارة هي حضارة الهند القديمة أما سبب ترجيحي فيعود لجملة من النقاط أوجزها بالاتي : (1) لم تعرف حضارات المنطقة مبدأ التوحيد إلى نهاية عمرها الزمني أوائل الفترة المسيحية الأمر الذي ينفي صلتها المباشرة بهذا المبدأ الذي ارتبط بعناصر ورؤى جديدة ومختلفة كليا (2) لم يؤمن العراقيون القدماء بحسب نصوصهم بمفهوم الحساب الأخروي (الجنة والنار ) ولم يعرفوا التوحيد بالشكل الذي عرفه أصحاب الديانات التوحيدية الأمر الذي ينفي أي صلة مهمة قد تربط ديانتهم بجوهر هذه الديانة الجديدة إما مصر الفرعونية فأمرها أكثر تعقيدا بالنظر لإيمانهم بحياة جسدية بعد الموت دون وجود واضح للحساب والعقاب (الجنة والنار). المكان الوحيد الذي يظهر فيه هذا المفهوم وبهذا الشكل الواضح ينتمي إلى بيئة وحضارة مختلفة فأول ظهور لهذا المفهوم بحسب علمنا كان في الهند أو لدى الشعوب الهندو أوربية . (3) تطرح لنا النصوص الهندية وبالأخص (الفيدا ) إن للهند كتاب مقدس وتعاليم يطلق عليها (الشيترا) ومزامير على غرار المزامير اليهودية وبالتالي ليس ببعيد إن تكون الهند هي المكان الذي نزحت منه أصول تلك المفاهيم الدينية مثلما أخذت أيضا بعض الأصول التي ارتبطت بديانتها وموروثها سواء في وقت سابق أو لاحق لأننا لانجد في ديانات المنطقة أي وجود لمفهوم الكتاب المقدس على غرار كتب الهندوس المقدس وكتاب المجوس المقدس (الابستاق) . (4) لم يؤمن العراقيون القدماء بحسب علمنا بمفهوم التقديس نظرا لمعرفتهم بضالة قوى الإنسان مقارنة بقوى الطبيعة ولذلك لم يؤلهوا ملوكهم ولم يسبغوا عليهم صفات خارقة ولم يتكلموا عن معجزات وخوارق على عادة الشعوب الاخرىوخير مثال على ذلك خلوا ملحمة جلجامش من أي فعل خارق بالرغم من أن بطلها يحمل مادة إلهية كما تزعم الأسطورة وإذا كان لليهود أن يحملوا التقديس فلابد أنهم قد اتو به من بيئة أخرى إلى بلاد الرافدين . (5) هناك الكثير من التفاصيل المهمة التي تضع الهند كأحد أهم البلدان المرشحة لإنتاج هذا النوع من الديانات كوجود العباد وشيوع الاعتقاد بالخوارق والكرامات وعمل المحارق ووجود مفهوم الملائكة والشياطين هذا إضافة إلى تشابه بعض الروايات والأساطير كما هو الحال مع قصص إبراهيم و يونس وموسى حيث ذكرنا في مقالة سابقة بعض أوجه الشبه بين قصة إبراهيم وملحمة الرامايانا الهندية الأمر الذي قد يعني انتقال هذه القصة من الهند إلى العراق أو بالعكس مع الأخذ بالاعتبار عدم وجود نص مدون يشير إلى علاقة هذه القصة بحضارة وادي الرافدين أما قصة يونس فهي على ما يبدو قصة معروفة في تراث الهند وليس لها أي وجود في حضارة المنطقة وربما تفسر بعض الإشكالات التي تعترض المفسر عند تناوله لهذه القصة أما قصة موسى فيبدوا الاصطناع جليا فيها لاسيما وهي تحوي قصص من ثلاث شخصيات تاريخية قصة ميلاده التي تشابه كثيرا قصة ولادة الملك سرجون الاكدي وقصة هروبه التي تشابه قصة سنوحي المصرية وقصة استلامه رسالة الإله التي تشبه استلام زرادشت لرسالة إلهه اهوارمزدا حيث ظهر له على شكل نار ومن المحتمل أن اليهود جمعوا بين هذه الشخصيات في أوقات مختلفة أو في أماكن مختلفة . (6) لايوجد لدينا أي دليل تاريخي على حادثة الخروج المشهورة في التوراة واقترانها بظهور الدين اليهودي فالمرجح أن يكون خروج الهكسوس من مصر هو الحدث الذي أشارت إليه رواية التوراة أما دخولهم فلسطين فيبدوا انه ارتبط بحادثة أخرى لا علاقة لها بذلك الخروج علما أن مجيء اليهود لفلسطين بحسب الرواية التوراتية سبق حادثة الخروج أنفة الذكر وربما ليس له علاقة بها إلا أن اضطراب الأوضاع اثر خروج الهكسوس من مصر ربما ساعد على استقرار الأوضاع لصالح الوجود اليهودي وظهور دولة إسرائيل القديمة لكن من أين ومتى أتى اليهود إلى فلسطين ؟ هل نقبل رواية التوراة ونتجاهل الكثير من الإشكاليات المهمة أم نمضي في قراءتنا الجريئة إلى نهاية المطاف لاشك أننا بحاجة للانعطاف نحو قراءة أخرى قد توضح لنا بعض الأمور وبإمكاننا افتراض أن يكون اليهود هم من بقايا أتباع ديانة اخناتون التوحيدية هربوا من مصر بعد أن اضطهدهم الملك التالي وربما كونوا كيانا لهم في فلسطين بعد هذا الهروب التاريخي لكن مثل هذا الافتراض يفترض أن يجعلنا نرى دويلة مصرية لا عبرية وان نشاهد دينا على غرار دين اخناتون إلا أن أيا من هذا لم يحصل ما يجعلنا نبحث عن تفسير أخر لهذا الوجود وبدلا من أن نتصور اخناتون هو المبادر والمؤثر لنشوء هذه الديانة لابد أن نرى العكس انه ربما تأثر بالميل التوحيدي للهكسوس وبقاياهم في مصر الذين ربما استفادوا من حركة اخناتون التوحيدية دون أن ينساقوا معها وقد يكون هؤلاء هم المقصودين بالخروج لا سواهم أما الرواية الأخرى فتنطلق من صلاة الهكسوس ببعض الأقوام الأخرى ك الكشيين حكام بابل آنذاك وربما مثلت الجماعة اليهودية الأولى هجرة كشية صغيرة انطلقت من بلاد الرافدين نحو فلسطين بعد أن فشلوا في التأقلم مع سكان العراق الذين بقوا محافظين على دينهم القديم الأمر الذي يفسر إصرار الجماعة على إرجاع أصلهم إلى العراق دون سواه . (7) إن المرحلة المهمة في تبلور الجماعة قد واكب على ما يبدوا التحرك الهندو أوربي نحو الشرق الأوسط بما في ذلك جماعة الهكسوس لكن وصول جذور هذه الديانة والمفاهيم الأخرى ربما ارتبط بشكل خاص بدخول الكشيين (من الأقوام الهندواوربية )إلى بلاد وادي الرافدين وابلغ دليل على ذلك ما تنقله التوراة عن الذين بنو مدينة بابل هم أناس قدموا من الشرق ( سفر التكوين 11 : 1- 9) وإذا صدقنا بدلالة تلك الرواية فقد يكون المقصود بهؤلاء الكشيين الذين جاءوا إلى العراق من الشرق وان المدينة التي بنوها حسب الرواية هي مدينة كوريكالزو (تعرف بقاياها بعكركوف ) التي حاولوا جعلها عاصمة بديلة عن بابل فيما مثلت زقورتها الفريدة البرج الذي أشار أليه النص علما أن هذا البرج ما زال يمثل ابرز شاخص اثري في هذه المنطقة من العراق وبالنظر إلى بدائية هذه الأقوام وقلتهم آنذاك فقد اعتنق غالبيتهم الدين العراقي ولم تبقى إلى طائفة صغيرة ربما انظم أليها كثير من العراقيين الآخرين من المرجح أنها تعرضت إلى ضغوط كبيرة ما دفعها إلى ترك البلاد في هجرة صغيرةالى فلسطين إما لماذا هذا المكان بالذات ؟ ليس لدينا جواب حاسم ربما لابتعاد المنطقة عن النفوذ البابلي وتأثيراته أو لابتعادها عن منطقة الصراع التي كانت تشمل أعالي وادي الفرات أو بلاد الشام أو ربما لوجود بقايا الهكسوس الذين تربطهم بهم روابط قوية بما في ذلك التقارب الديني ومن الطبيعي إن تتأثر الجماعة بالبيئة المجاورة ما جعل الصبغة السكانية العامة سامية لا من أصحاب الديانة الأصليين وفي هذا المكان ربما تبلور نسق الدين اليهودي المعروف حاليا حيث يرجح أن تكون هوية الدين اليهودي الأخيرة وليس أصله تعود إلى جماعة ثائرة أرادت جمع أديان العالم في دين واحد وأنهم لذلك جمعوا قصصا من أقطار شتى كدليل على توجههم الإنساني وربما أرادوا عد هؤلاء الأبطال الذين يعودون لشعوب شتى كإبراهيم وموسى وداود ونوح ...الخ امتداد لهم .
#باسم_محمد_حبيب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الفلسفة الحديثة و سؤال المعرفة
-
دور التربية في مشروع حوار الأديان والثقافات
-
يجب أن تعترف الحكومة بفشلها ويعتذر السياسيون عن أخطائهم
-
حملة لتأكيد الطابع العلماني للدولة العراقية
-
اتحاد كتاب أسيا واتحاد كتاب العالم
-
الرداء القديم للتجديد
-
ابراهيم الخليل بين الروايات الدينية والتحليل العلمي
المزيد.....
-
السعودية تعدم مواطنا ويمنيين بسبب جرائم إرهابية
-
الكرملين: استخدام ستورم شادو تصعيد خطر
-
معلمة تعنف طفلة وتثير جدلا في مصر
-
طرائف وأسئلة محرجة وغناء في تعداد العراق السكاني
-
أوكرانيا تستخدم صواريخ غربية لضرب عمق روسيا، كيف سيغير ذلك ا
...
-
في مذكرات ميركل ـ ترامب -مفتون- بالقادة السلطويين
-
طائرة روسية خاصة تجلي مواطني روسيا وبيلاروس من بيروت إلى موس
...
-
السفير الروسي في لندن: بريطانيا أصبحت متورطة بشكل مباشر في ا
...
-
قصف على تدمر.. إسرائيل توسع بنك أهدافها
-
لتنشيط قطاع السياحة.. الجزائر تقيم النسخة السادسة من المهرجا
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|