منذر بدر حلوم
الحوار المتمدن-العدد: 766 - 2004 / 3 / 7 - 09:46
المحور:
الادب والفن
(حرائق كبرى) تجربة رواية جماعية فريدة في تاريخ الأدب. شارك في كتابة (حرائق كبرى) خمسة وعشرون كاتبا من مشاهير ما يسمى بعصر الأدب الروسي الفضي , كتب كل منهم واحدا من فصولها وترك الفصل الأخير لصاحب الفكرة. أمّا فكرة القيام بهكذا عمل فاقترحها عام 1927 الكاتب ميخائيل كولتسوف داعيا أصدقاءه الكتّاب إلى كتابة الرواية , كما تذكر جريدة (نيديلا) (ع 43,1989) وتضيف: " إن الرواية في ذهن كولتسوف كان يجب أن تعكس حماس الحياة الاجتماعية الجديدة , وأن يكون لها طابع بوليسي مسلٍّ. والأمر الأكثر إثارة للدهشة هو أن الكتّاب لم يروا ضرورة الاجتماع قبل البدء بكتابة هذه الملحمة البوليسية. ناهيك عن أنهم لم يتفقوا على أي أية حكاية أو حبكة – تركت الرواية تكتب ذاتها. الشيء الوحيد الذي اتُفِقَ عليه هو الثيمة والعنوان (حرائق كبرى) , تلك الحرائق نفسها التي كانت تندلع بصورة طارئة في مدائن جمهورية ذلك الزمن الشابة. وهكذا كتب غرين الفصل الأول " مساء غريب " وحوّل الرواية إلى نيكولين , ونيكولين حوّلها إلى سفيرسكوي ثم انتقلت إلى بودانتسيف , ليونوف , بابل , زوشينكو , فيدين , اليكسي تولستوي , كاتايف... وهكذا ولدت رواية لا سابق لها في تاريخ الأدب العالمي. حافظ كل من الكتّاب على أسلوبه , على خصوصيته الأدبية ومع ذلك خرجت الرواية متجانسة كما لو أنها كتبت بنفس واحد.وتكمل الجريدة : انعكس في الرواية التي كتبت في عام السلطة السوفيتية الحادي عشر الكثير من سمات ذلك الزمن. وليس صدفة أن العنوان المغامر(حرائق كبرى) كان دافعا إلى ظهور (الكراسي الإثنا عشر) الفائقة الشهرة و (العجل الذهبي)" , للكاتبين الشهيرين إيلف و بيتروف. أمّا الرواية نفسها فلم تصدر إلاّ بعد أكثر من نصف قرن من كتابتها , وكان ذلك عن دار(العصر الفضي) في نيويورك.
تبدأ الرواية , إذن , مع فصل " مساء غريب " الذي كتبه الكسندر غرين وفيه أطلق تلك الفراشات الصفراء النارية , التي ما أن تتواجد في مكان حتى تندلع الحرائق فيه , كما أطلق غرين في هذا الفصل حياة فافري ميغونوف موظّف الأرشيف في محكمة زلاتوغراد والصحفي بيرلوغا العامل في صفحة الحوادث في جريدة "زلاتوغراد الحمراء" , الصحفي الذي لجأ إلى صديقه عامل الأرشيف بحثا عن ملفات في المحكمة تلقي الضوء على تلك الحرائق المماثلة لما يندلع الآن والتي يقال أنها نشبت منذ عشرين عاما " في الحقبة القيصرية السوداء" , وبعد تردد ميغونوف وخشيته:" نحن نؤسس لبداية قضية غريبة .." يستجيب لطلب صديقه الصحفي الذي لا يبالي بما يمكن أن يحدث:" بداية أم نهاية لا فرق عندي". وما أن يعثرا على إضبارة التحقيق القديم حتى تظهر أولى الفراشات الصفراء ويندلع حريق يلتهم أرشيف المحكمة. هذا الحريق لم يكن الأول في الرواية , فقد كان ميغونوف قد أخبر العجوز يفروسينيا عن ثلاثة حرائق قرأ عنها في الجريدة:" أن تقرئي جريدة يعني أن تعيشي حياة المجتمع. وإلا فكيف كان لي أن أعرف أن ثلاثة حرائق اندلعت ليل اليوم ! ".
الخط الثابت في الرواية هو الفراشات الصفراء وما تتسبب به من حرائق والشخصيات الرئيسة فيها عامل الأرشيف , والصحفي , ورجل الأعمال الثري ستروك , وذلك على الرغم من اكتظاظ الرواية بشخصيات وأحداث راح يضيفها الكتّاب واحدا تلو الآخر. في الفصل الأول يفقد ميغونوف ذاكرته على أثر صدمة حريق الأرشيف ولا يستعيدها إلا في الفصل الثاني والعشرين الذي كتبه بنيامين كافيرين. أمّا في الفصل الثاني الذي كتبه ليف نيكولين فتظهر إيليتا ستروك ابنة رجل الأعمال الذي سيلقى عليه القبض في الفصل الثاني والعشرين بعد أن يكون قد حَرق قصره. في هذا الفصل( الثاني) يستمر وجود ميغونوف في المشفى بينما يذهب الصحفي إلى قصر ستروك ويلتقي هناك ابنته. وفي هذا الفصل أيضا يندلع حريق يلتهم مبنى العاملين في جريدة "زلاتوغراد الحمراء" السكني. أمّا في الفصل الثالث الذي كتبه أليكسي سفيرسكي فتظهر شخصيات جديدة: اللص بيتكا ومحبوبته لينكا فزدوخ والتابع شيلو. يكلّف أحدهم بيتكا بسرقة الإضبارة التي أخذها الصحفي من الأرشيف وبعد أن يفعل يتبين أن في الإضبارة قضية تخص عجوزا بولونيا وهنا تبدأ مساومات لإعادتها. أمّا في الفصل الرابع الذي كتبه سيرغي بودانتسيف فيتعرّف الصحفي على إيفان كولاكوف نصف المجنون وأحد ملاكي شركة " الأخوة كولاكوف" الذي يتخيل طوال الوقت خداع وجرائم ترتكب ويتخيل نفسه منقذا. تستمر في الفصول التالية التعقيدات وتداخلات الخطوط التي يديرها كل من الكتّاب بطريقته كأنما ليختبر قدرة الذي يأتي بعده على حلّ ألغاز الرواية التي راح ما فيها من شكوك يحاصر ستروك. وأمّا التعقيد والخلط فيبلغ درجة تدفع الكاتب أليكسي تولستوي لأن يكتب في بداية الفصل السابع عشر : " يا إلهي , ما الذي لم يفعله المؤلفون الستة عشر! يصيب رأس القارئ الدوار , يفكّر بأنهم خرجوا عن الخط , اختلطت الأمور عليهم , انقطع عقدهم , وهم أنفسهم لا يعرفون كيف يخلّصون تشابكات هذه القصة المجنونة عن الحرائق والفراشات..." ويستمر في التعبير عن استغرابه على لسان القارىء إلى أن يقول: " والأهم الفراشات ؟ والحرائق ؟ ما الهدف منها ؟ اللعنة , الشيطان ! ألف سؤال وسؤال دون جواب. من شأن القارىء أن تتولد لديه شكوك , والحق معه : توقّفوا يا حماماتي (أي يا مؤلفي الرواية) ألستم ببساطة تتعابثون وتعبثون بنا ؟ ". ولكن , لمّا كان لا بد من إكمال الرواية , يكتب تولستوي الفصل السابع عشر تحت عنوان "فراشات". في هذا الفصل تظهر الباحثة في البيولوجيا البرفيسورة الشابة الجميلة فالينتينا أفاناسييفا أوزيروفا التي يقول عنها الصحفي بيرلوغا في جريدته: " نجمة العلم السوفيتي الصاعدة ". تقوم هذه الباحثة بدراسات دقيقة على الفراشات وتصل إلى نتائج تقول بأن الفراشات حين تطير: " تفرز طاقة حياة غزيرة فيتم تحطّم فائق الكثافة لذرات عنصر غريب لم يكن معروفا من قبل , لكنه بات معروفا الآن ". هذه الفراشات , التي شغلت الرواة قبل أن تشغل القرّاء , يتابع الكاتب ميخائيل زوشينكو الحديث عنها في الفصل التاسع عشر على لسان عمال الإطفاء: " يقولون إنهم يطلقون فراشات من نوع خاص تشعل حرائق... وماذا لو كانت فراشات كيميائية ... مع تقدم العلم والتكنولوجيا ربما اخترع بعض البروفيسورات فراشة مادّية معقّدة ... فراشة ميكانيكية تطير وتناور وتطلق شرارة , ويمكن القول إنها تحمل ولاّعة تقدح نارا.." أمّا في فصل " الفضاء المرتجع " الثاني والعشرين الذي كتبه بنيامين كافيرين فيتابع عامل الأرشيف ميغونوف فاقد الذاكرة قص فراشات من أوراق أضابير الأرشيف وتعليقها في فضاء غرفته في البيت , متنقلا بينها من زاوية إلى أخرى , بينما " منديل أحمر عملاق يتدلى من جيب سرواله الخلفي , منديل يبدو كعلم مطوي أو كراية جيش مهزوم". وفي هذا الفصل يسترجع ميغونوف ذاكرته ويلتقي صديقه الصحفي الذي يخبره : " منذ أن بحثنا عن تلك الإضبارة في أرشيف المحكمة احترقت خمس وعشرون بناية. ولا أحد يمكنه فهم شيء مما يجري. وفي هذا الفصل أيضا ترتسم نهاية أهم الخطوط , إذ يلقي ميغونوف وبيرلوغا القبض على العجوز المليونير ستروك: " أيها المواطن ستروك , أنتم معتقلون . قال بيرلوغا بصرامة ". بيد أن أحداث الرواية تستمر إلى أن يؤكد ميخائيل كولتسوف صاحب فكرتها في الفصل الأخير: " صخب الحريق الأخير في المدينة , احترق قصر ستروك الرائع" وهدأ كل شيء " واختفى الحديث عن الفراشات طوال فترة طباعة الرواية " وأنشئ مكان القصر " كازينو إيليتا العائلي " , ويتابع كولتسوف: " أكسب الاندلاع الأخير لأخبار الفراشات المسؤولة عن الحرائق , أكسب المسألة معنى آخر " ثم ينتقل إلى السخرية من عمل لجنة التحقيق التي جاءت من موسكو تتقصى الأسباب لينتهي بأصدقائه مؤلفي الرواية: " بيّن عضو اتحاد الكتابة الكسندر ستيبانوفيتش غرين الذي تم التحقيق معه في القرم في هذه القضية , بيّن خطيا أنّه وإن كان قد تسبب في الفصل الأول الذي كتبه بحريق في المحكمة , إلا أن الذنب لم يكن ذنبه في أن هذا الحريق تحقق على أرض الواقع في مدينة زلاتوغراد السوفيتية وليس في مدينة أجنبية ما , كما كان قد اقترح في مخطوط الفصل الذي تقدّم به. وبالفعل فقد أكد فحص الوثائق أن غرين جعل أحداث الفصل الأول تدور ليس في الاتحاد السوفيتي , وأنّه كان قد أطلق على عامل الأرشيف ميغونوف والصحفي بيرلوغا اسمين آخرين هما: المؤرشف فارفي جيزيل وكاتب التحقيقات الصحفية فاكيلبيرغ ". ويضيف كولتسوف شيئا مما يقوله البعض للجنة التحقيق , في إشارة منه إلى الطبيعة الكلامية للحرائق التي تحدثها الفراشات الصفراء وما يوحي به ذلك من إشارة إلى الصحافة الصفراء التي كانت سائدة في تلك الأعوام: " لماذا كل هذه الأحاديث عن الحرائق والانفجارات ؟ لا شيء منها في الواقع ولم يكن ولا يمكن أن يكون ؟! ثم أي حرس أبيض هناك وأي عملاء أجانب ؟! لم يجد أدباؤنا ما يفعلونه فراحوا يتخيلون فظائع مختلفة ! ومن العبث أنهم يثيرون فيكم الرعب ". ويضيف كولتسوف , كما لو أنه كان يتنبأ بما سيتهم به لاحقا هو وبابل وغيرهما ويعتقلون ويعدمون بسببه , يضيف: " هؤلاء الأدباء عديموا الشعور بالمسؤولية , هؤلاء المؤلفون السوفييت , البابليون – ( تصلح نسبتها إلى الكاتب بابل الذي شارك في كتابة الرواية وإلى غير ذلك .م.ح)- يهددون بتكنولوجيا أجنبية إرهابية مسروقة وبحماقات أخرى .. " ويختتم مخاطبا القراء:" ولكن , إذا كنتم لا تريدون أن تثقوا بما أبدعه الأدباء , إذا لم يصلكم بعد قلق هؤلاء الناس , القلق الحقيقي والواضح فلتبق الجرائد تضربكم كالمخباط على رؤوسكم ! لا يمكنكم أن تخفوا رؤوسكم تحت وسائدكم هربا من البرقيات وأخبار الإنتاج كما تخفونها هربا من أفكار الكتّاب "." أمّا تتمة أحداث الرواية فاقرؤوها في الجرائد , ابحثوا عنها في الحياة ! لا تنفصلوا عنها , لا تناموا ! ( الحرائق الكبرى) في الخلف أمّا (الحرائق العظيمة) ففي الأمام ".
وأخيرا , وإن لم يكتب لرواية " حرائق كبرى " أن تكون على مستوى العديد من كتّابها عملا أدبيا عظيما, إلا أنها بحد ذاتها , بخليط مؤلفيها وأساليبهم , تعكس تجربة خلق موازية لتجربة خلق البناء السوفيتي من خليط ينتهي إلى إلغاء التمايزات لصالح النار , أو ينتهي بها إلى النار , كما يسجّل للرواية أنها تتنبأ بواقع على الأرض سيأتي وسيكون معادلا , إن لم يبز , المتخيل الكلامي (المعادي) الذي تختلقه الصحافة الصفراء إذا صح أن الفراشات ترمز إليها , أو ما اختلقه الرواة , الأمر الذي يأتي في نهاية الرواية على لسان كولتسوف. أمّا النار التي لم تدفئ أحدا ولم يلتفت إلا القليل لما فيها من إنذار بالخطر , النار التي ينفخ فيها المتحمّسون , فتأتي على الرواة , كما تأتي على كل صاحب رواية مغايرة للرواية الحمراء فإذا هو رماد يصلح لرسم ذاكرة حيّة عصية على النار.
- انتهى -
#منذر_بدر_حلوم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟