أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - منذر خدام - المادية التاريخية وسؤالها الأول















المزيد.....


المادية التاريخية وسؤالها الأول


منذر خدام

الحوار المتمدن-العدد: 766 - 2004 / 3 / 7 - 09:47
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


(5)
1-مدى صلاحية المادية التاريخية .
    كلما توسعت، واغتنت معارفنا حول الوجود العام، سهل علينا فهم وجودنا الخاص.  في هذا السياق ولدت المادية التاريخية بصفتها علم التقدم الاجتماعي.
    تتضمن المادية التاريخية المفاهيم، والمقولات، والقوانين الضرورية، لفهم حركة المجتمع الإنساني، وإنتاج المعرفة الخاصة به. وإن أهميتها  المنهجية، والمعرفية، كعلم معترف بها على نطاق واسع من قبل مختلف التيارات الفكرية، ولا يمكن الاستغناء عنها في البحث عن الاتجاهات العامة للتقدم الاجتماعي. مع ذلك فقد تعرضت للتبسيط على نطاق واسع مما ألحق الضرر بالحركة الاجتماعية والسياسية تحت رايتها، و أعاق اكتشاف التغيرات التي تجري في الواقع وتحديد اتجاهها .
   لقد سادت النظرة التخطيطية الدغمائية للتطور الاجتماعي لفترة طويلة، كان من نتيجتها الابتعاد عن الواقع الحي، عن نشاط الإنسان، عن القوى الفاعلة في التغيرات الاجتماعية. وقد جرى التعامل بصورة تأملية مجردة مع الكثير من مفاهيم المادية التاريخية، وقوانينها دون بذل الجهد الضروري للتعرف على حمولتها المعرفية في واقع عياني محدد. ونظراً لسيادة الدغمائية الماركسية كان من المستحيل طرح أي تساؤل يتعلق بمدى صلاحيتها لإنتاج المعرفة العلمية بوضعيات اجتماعية متباينة، وبمراحل تاريخية مختلفة. وإذا كانت المادية التاريخية، حسب لوكاش، هي النظرية التي يتعرف فيها المجتمع البرجوازي على نفسه يصبح التساؤل عن النظريات التي تتعرف فيها المجتمعات ما قبل الرأسمالية على نفسها أمراً مشروعاً. وان التساؤل نفسه في هذه الحالة يخلق فسحة للتحفظ والشك حول مدى صلاحية المادية التاريخية لكي تتعرف فيها المجتمعات الرأسمالية ضعيفة التطور على نفسها(1).
    يقول ماركس إن " تحليل الحاضر يقدم لنا مفاتيح الماضي "، مفاتيح فحسب، فالماضي يشترطه دائما ماضيه، أي شروطه التاريخية. ونضيف بأن دراسة مجتمع معين قد يقدم لنا مفاتيح تفيد في فتح مغاليق مجتمع أخر، بشرط صنع نسخة جديدة لهذه المفاتيح يلحظ فيها ما يناسب مغاليق المجتمع قيد الدراسة.
     عندما درس ماركس المجتمع الرأسمالي أخذ يسائل الشروط الاقتصادية والاجتماعية التي بني عليها هذا المجتمع، واستخلص منهجا في البحث حوله آخرون إلى فلسفة في التاريخ على الضد من ماركس. وبالعودة إلى ماركس نجد إن دراسة النظم الاجتماعية المختلفة تقتضي أولا : " أن نضع موضع التساؤل الشروط الاجتماعية التي تتأسس عليها قانونية وصلاحية المحتوى المعرفي الذي تحمله المادية التاريخية " (2) ، باعتبارها الأداة المنهجية في الدراسة .
     وحسب لوكاش فان المهمة القائمة فعلا ودائما هي في " إعادة كتابة التاريخ ، كل التاريخ كما حصل فعلا، وذلك باستخلاص الحوادث منه، وتصنيفها ثم إصدار الحكم عليها من وجهة نظر المادية التاريخية.علينا أن نجعل من المادية التاريخية منهجا للبحث العلمي الملموس ، منهج علم التاريخ " (3). ولكي ننجح فعلا في إنجاز هذه المهمة لا بد أولا من اختبار مدى صلاحية مفاهيم المادية التاريخية، أو التساؤل عن محتواها  في الظروف التاريخية الملموسة .وتكتسب عملية المساءلة أهمية خاصة عند دراسة المجتمعات القديمة أو تلك التي لم تنضج الرأسمالية فيها . " إن المرء يشعر عند تطبيق المادية التاريخية على العصور السابقة للرأسمالية بصعوبة منهجية جد هامة ، صعوبة جوهرية لم تكن قائمة عند نقد الرأسمالية … وهي صعوبة ترجع إلى الفرق البنيوي بين عصر الحضارة ]= الرأسمالية [ والعصور السابقة له " (4) . في الواقع يشعر المرء بالصعوبة عينها عند تطبيق المادية التاريخية على العصور السابقة على لرأسمالية وكذلك على المجتمعات المتخلفة المعاصرة ، لأن الفرق البنيوي بين الرأسمالية الأوربية(رأسمالية المركز) والرأسمالية في البلدان المتخلفة (رأسمالية الأطراف) كبير جداً . لذلك لا يمكن أن تقرأ رأسمالية الأطراف نفسها بنفس الطريقة التي تقرأ بها رأسمالية المركز نفسها. بل ، قبل ذلك ، لابد من إجراء تعديلات منهجية، و مفهومية، على المادية التاريخية تجعلها صالحة لقراءة المجتمعات المتخلفة ، وتفاعلاتها الداخلية والخارجية .
     قبل أن ننتقل إلى مراجعة بعض مفاهيم ورؤى المادية التاريخية ، نود التذكير بما قاله لوكاش " إذا كان تطبيق المادية التاريخية بصورتها الكلاسيكية تطبيقا صارما، وغير مشروط، على تاريخ القرن التاسع عشر لا ينضوي على أي خطأ، نظراً لكون جميع القوى التي فعلت فعلها في المجتمع، في ذلك الوقت، كانت تفعل ذلك في الواقع ،وبكل وضوح، وصفاء بوصفها أشكالا لظهور الروح الموضوعي ( المجتمع المدني ) ، فإن الوضع يختلف تماما عندما يتعلق الأمر بمجتمعات ما قبل الرأسمالية ، ذلك لأن الحياة الاقتصادية في هذه المجتمعات لم تكن تطرح نفسها كهدف لذاتها، لم تكن قد انغلقت بعد على نفسها ،ولا كانت سيدة نفسها ، مكتفية بذاتها. لم يكن لها هذا الحضور الماثل للعيان الذي بلغته في المجتمع الرأسمالي ] …[ وينتج عن ذلك أن المادية التاريخية لا يمكن أن تطبق بنفس الكيفية على التشكيلات المنتمية إلى ما قبل الرأسمالية، ولا على التشكيلات التي ما زالت في مرحلة التطور نحو الرأسمالية . يجب القيام هنا بتحليلات أكثر تعقيدا وأكثر دقة ،قصد الكشف من جهة ،على طبيعة الدور الذي قامت به القوى المحركة للمجتمع ، القوى الاقتصادية الخالصة، هذا إذا كانت هناك فعلا قوى اقتصادية خالصة بالمعنى الدقيق للكلمة ، ثم العمل من جهة أخرى على إماطة اللثام عن الكيفية التي كانت تؤثر بها على التشكيلات الاجتماعية الأخرى . ذلك ما يجعل من الواجب عند تطبيق المادية التاريخية على المجتمعات القديمة، التزام قدر من الحذر أكبر كثيرا من ذلك الذي يجب التزامه عند تطبيقها على التحولات الاجتماعية في القرن التاسع عشر ] …[ لقد أهملت الماركسية العامية المبسطة إهمالا تاما هذا الفرق ] = بين المجتمعات الرأسمالية والمجتمعات السابقة لها [  فوقع استعمال المادية التاريخية في الخطأ، الذي آخذ به ماركس الاقتصاد التبسيطي ،عندما أخذ مقولات تاريخية ] خاصة بفترة تاريخية معينة [  مقولات المجتمع الرأسمالي على أنها مقولات خالدة "(5)  .
   إذا كنا قد قرأنا لوكاش بصورة صحيحة ، فإنه يمكن القول: أن دراسة المجتمعات القديمة تتطلب قبل كل شيء دراسة أشكال الوجود الاجتماعي القائمة فيها، مثل القبيلة ، والعشيرة، وما تفرزه من علاقات شخصانية، وعصبية، وانعكاسها في الوعي الاجتماعي، بدلا من التركيز على دور الطبقات( الجنينية ) في الحراك التطوري لهذه المجتمعات (6) .
     يقول ماركس " في جميع التشكيلات التي تهيمن فيها الملكية العقارية فان العلاقات الطبيعية [ =  بين الناس كالقرابة والعصبيات القبلية [ تبقى مهيمنة . أما في التشكيلات  التي  يهيمن فيها رأس المال فان العنصر الاجتماعي الذي يفرزه التطور التاريخي]= علاقات الإنتاج [ هو الذي يهيمن " . ويقول إنجليز " إن هذا يؤكد فعلا أنه على هذا المستوى يكون أسلوب الإنتاج أقل حسما ،من درجة انحلال الروابط القديمة القائمة على النسب، والكيان الذي تقيمه علاقات المصاهرة الجمعية داخل القبيلة "(7) .  
     وفي الوقت الراهن من الصعب دراسة المجتمعات المتخلفة بدون دراسة علاقات التبعية، وما تفعله في البناء الداخلي لهذه المجتمعات ، والعلاقات الشخصانية المرتكزة إلى البنى الاجتماعية القائمة ،مثل القبيلة والعشيرة، أو العائلة ، أو الطائفة .. الخ .وما تلعبه من دور في التطور الاجتماعي والاقتصادي والسياسي لهذه البلدان .
2-السؤال الأول في المادية التاريخية .
     أيهما وجد أولاً الوجود الاجتماعي أم الوعي الاجتماعي ؟ .هذا هو السؤال الأول في الفلسفة، أجابت عليه المذاهب الفلسفية المختلفة بطرق مختلفة ، وأدى إلى انقسامها إلى مذاهب مادية، ومذاهب مثالية .
     إن السؤال ذاته ،بصيغته المشار إليها، هو سؤال خاطئ ، فليس بين الوجود الاجتماعي،والوعي الاجتماعي أولوية وجودية. فالوجود الاجتماعي لا يكون إلا وجودا واعيا وإن الوعي هو السمة الجوهرية والضرورية للوجود الاجتماعي .
     لقد تحول الوجود البشري إلى وجود اجتماعي بواسطة الوعي، وبه أخذ هذا الأخير يتطور. لقد صنع الإنسان بوعيه  أدوات الإنتاج، ونظم وجوده وشيد الدول والحضارات..الخ . فالوعي ليس  فقط السمة الأكثر جوهرية للوجود الاجتماعي، بل هو الشرط المادي الضروري لوجوده وتطوره .
     أيهما وجد أولاً الوجود البشري أم الوعي ؟ هذا هو السؤال الصحيح، على أن المقصود بالوجود البشري هو وجود النوع البشري في حالة جماعية مهدت لوجود إمكانية الوعي ، ومن ثم الوعي ذاته في سياق حركة معقدة جدا . فالوجود البشري سابق دائما على الوعي من حيث الوجود ، لأن شرط وجود الوعي وجود الذات الواعية أي النوع البشري .
     لكن كيف يتكون الوعي؟ وما هي علاقته بالوجود الاجتماعي ؟ للإجابة عن هذا السؤال لا بد ،قبل ذلك ،من تحديد المعنى الاصطلاحي لكل من مفهوم " الوجود الاجتماعي "، ومفهوم " الوعي الاجتماعي " .
     يقصد بالوجود الاجتماعي جميع العلاقات، والروابط القائمة فعلا، بين الناس بعضهم تجاه البعض الأخر ، وبينهم وبين الطبيعة .
     ويقصد بالوعي الاجتماعي جميع الأفكار التي تصوغ هذه العلاقات والروابط، وتعبر عنها، إلى جانب التكوين النفسي للناس الذي يتجلى في جملة الاستعدادات، والقابليات النفسية ،التي تؤسس لاتخاذ مواقفهم المختلفة تجاه الخارج . بهذا المعنى فان الوجود الاجتماعي، والوعي الاجتماعي لا يوجدان منفصلين، ولا يسبق أحدهما الأخر .
    إذا نظرنا إلى المجتمع في سياق حراكه وتغيره، فإن لحظة الوعي الأولى (الفكرة) تسبق دائما من حيث الوجود العلاقة المطابقة لها في الوجود الاجتماعي .فعلاقات الوجود الاجتماعي لا تكون إلا بعد مرورها في الوعي أولا"، فهذه سمتها الجوهرية .ونظراً لأن الأفكار التي تسعى إلى خلق علاقات مطابقة لها في الجود الاجتماعي تولد وتموت باستمرار، ففي الوضعية السكونية للمجتمع وهي وضعية مفترضة (أي خلال لحظة زمنية معينة) توجد دائما أفكار ليس لها ما يطابقها في علاقات الوجود الاجتماعي، إما لأنها لم تولد بعد ،أو لم تتح لها الفرصة كي تولد، أو أنها اندثرت وانحجزت تاريخيا .
     لكن هل يستطيع جهاز التفكير لدى الإنسان ( المخ ) مهما حاول الإمعان في التجريد، والتخيل، أن يخلق صورة ذهنية ( فكرة ) لعلاقة ما واقعية، أو متخيلة، ليست مركبة من عناصر الوجود العام ؟ الجواب هو بالنفي . فالفكرة ( الصورة الذهنية ) تتعلق دائما عند ولادتها بموضوع معين من الوجود العام يشكل الحافز على ولادتها . لكن بمجرد أن تخلق الفكرة العلاقة المطابقة لها في الوجود الاجتماعي، فإن هذه العلاقة تصبح واقعية ،بغض النظر عن المسار اللاحق للفكرة التي أنتجتها أول مرة، وبغض النظر عن مدى اقتراب الفكرة،والعلاقة من حقيقة الأشياء في ذاتها.
    إن الوعي الاجتماعي كفضاء عام يعكس دائما الوجود الاجتماعي بشكل صحيح ومطابق . لكن إذا نظرنا إليه من الداخل، فسوف يبدو بنية متمايزة، ومختلفة، خصوصا من ناحية المصداقية المعرفية .من الناحية المنطقية يحاول الوعي أن يصوغ علاقات الوجود الاجتماعي بما يتطابق مع حقيقتها في ذاتها ، لكن ذلك لا يحصل مرة واحدة ونهائية ، بل من خلال حركة مستمرة، ودائمة للاقتراب أكثر فأكثر منها . في سياق هذا الاقتراب اللامتناهي للوعي من حقيقة الأشياء في ذاتها ، تتغير الأفكار ، تصبح أكثر دقة، ومصداقية فتتغير العلاقات بين الذات الواعية (الإنسان)، وموضوعات وعيه . قد يحصل العكس تماماً، فتولد أفكار وتصورات تضخم ما هو واقعي، أو تصغره، أو تعيد تركيبه على شكل مختلف ، في هذه الحالة فان الأفكار لا تعكس الواقع بشكل صحيح من الناحية المعرفية ، وقد تبلغ درجة الخطأ في تصوراتنا وأفكارنا حداً كبيراً، يبدو الواقع عندها مزيفاً تماماً ، هذا ما يحصل عادة في مجال التصورات الميتافيزيقية والأسطورية . لكن مهما كانت الفكرة خاطئة، ومزيفة من الناحية المعرفية ،فإنها تخلق ما يطابقها من علاقات في الوجود الاجتماعي .
     إن تاريخ اقتراب معارفنا من حقيقة الأشياء الموضوعية، كما هي في ذاتها، هو تاريخ وجود الإنسان الاجتماعي ذاته ، أنه تاريخ الحقيقة التاريخية كما تظهر في سياق تطور الإنسان ، والحقيقة الموضوعية كما هي في ذات الأشياء والظواهر . من هذه الزاوية تبدو التصورات الأسطورية، والدينية،كحقائق تاريخية معارف صحيحة .
    ينشأ الوعي الاجتماعي في سياق الفعالية الإنسانية (التجربة) ، وبالتالي فان الفعالية الإنسانية سابقة على وجود الوعي، بغض النظر عن الشكل الذي يأخذه .
    إذا سرنا عكس حركة التاريخ (نحو الماضي) يبرز بوضوح الدور الكبير للفعالية الإنسانية المتعلقة بالإنتاج المباشر لشروط ومقومات وجود الكائن البشري الحي ، لكن مع تطور الإنسان ،والمجتمع ،أخذت هذه الفعالية تكتشف ميادين جديدة  ، وتضيف مكونات للوجود الاجتماعي والوعي الاجتماعي . يجري الحديث في الوقت الراهن عن الفعالية في مجال الفكر كحقل مستقل نسبيا للممارسة الإنسانية .
    لكن لماذا ينتج الوعي عن الفعالية الإنسانية بصفتها تفاعل مستمر بين الإنسان والطبيعة ؟ من المعروف أن جميع الكائنات الحية تتفاعل مع وسطها الحيوي دون أن تنتج وعيا به،( بحسب ما هو مستقر حتى الآن) . الإنسان ،على العكس، يتميز عن جميع الكائنات الحية الأخرى، بقدرته على التخيل، والعمل الهادف ( أيضا بحسب ما هو مستقر حتى الآن).
     إن وظيفة المخيال (جهاز التخيل)  عند الإنسان هي في إعادة إنتاج الواقع ذهنيا  ومن ثم إعادة تركيبه بصورة مختلفة إلى هذا الحد أو ذاك ، بما يلبي حاجة الإنسان إلى الوجود والتطور ،أو بدافع منها . هذا هو الاتجاه العام لعمل المخيال . لكن قد يحصل العكس تماما، فيتجاهل المخيال علاقات وروابط و نواميس الواقع، وعندما يقوم بإعادة تركيبه لاحقا، فإنه يخلق صورة مزيفة ،وواقعا مزيفا .لذلك يجري الحديث عن إمكانيتين للتخيل، أو وضعيتين لعمل المخيال: في الوضعية الأولى يتميز المخيال بطابعه التجاوزي التقدمي ، الذي يقود إلى الكشف، والإبداع، ويحرض على التقدم . وفي الوضعية الثانية، يتميز المخيال بطابعه النكوصي والرجعي ، الذي ينتج وهما يخضع الإنسان له ، أو يكرس وعيا يشد حركة المجتمع إلى الوراء .
    إن وجود المخيال في الوضعية الأولى، أو الثانية، ومدى فعاليته ، مرتبط بالشروط الاجتماعية، والسياسية ،والثقافية للإنسان ، التي تحكم تفاعله مع وسطه الصناعي، أو الطبيعي .كما إن انقسام المجتمع إلى طبقات وفئات اجتماعية، وأشكال عديدة للوجود الاجتماعي ( قبائل، وعشائر وطوائف ،ومذاهب، وإثنيات ،وعائلات ،وأحزاب..الخ ) ، واختلاف مصالحها، يلعب دورا كبيرا في وجود الوضعيتين السابقتين لعمل المخيال. ومن الأهمية بمكان على هذا الصعيد الكيفية التي تحقق بها مختلف أشكال الوجود الاجتماعي مصالحها .
    من حيث المبدأ ،كلتا الوضعيتين للمخيال ضروريتان للتقدم الاجتماعي، لأنه يتحقق من خلال جدلهما . ومن الخطأ الحكم المطلق على وضعية المخيال، وما ينتج عنه من خيال ،إلا في السياق التاريخي الملموس للحراك الاجتماعي، ومنطق التاريخ في كل مرحلة من مراحله . إن ما ينسب في الوقت الحاضر إلى المخيال الرجعي كان هو التقدمي ، وما هو تقدمي في الوقت الحاضر قد يصبح رجعيا غدا . وما هو رجعي من زاوية معينة قد يبدو تقدميا من زاوية أخرى ..الخ . المعيار في كل ذلك ،والحكم،هو جدل الحراك الاجتماعي وضرورات تقدمه (7) .
     إن الصلة بين الوعي الاجتماعي والوجود الاجتماعي هي صلة حقيقية، ومن هذه الناحية فقط يمكن تشبيه عملية الانعكاس كعملية لتشكل الوعي بما يحصل في المرآة ، فكما إن المرآة لا تعكس صوراً إلا للأشياء الحقيقية، فالوعي لا يخلق إلا الروابط والعلاقات الحقيقية، يشكل هو ذاته صورة ذهنية لها .
    لا شك بأن عملية الانعكاس باعتبارها الاوالية العامة لتشكل الوعي هي أكثر تعقيدا بما يجري أمام المرآة ، فهي تفترض وجود تفاعل ملائم بين الإنسان، ووسطه الصناعي، والطبيعي . في داخل هذه العملية التفاعلية المعقدة، يمكن تمييز مستوين مترابطين لتكوين المعرفة: مستوى المعرفة الحسية (وعي حسي) ، ومستوى المعرفة المجردة (المفاهيم) . في حدود المستوى الأول، تنطبع صورة العلاقات الواقعية في الذهن ( وهو ذهن تاريخي بالضرورة ) ،كما تنطبع الصور، والإشارات، في الأجهزة الفيزيائية ( المرآة ، المسجلة ..الخ ) ،لأن مبدأ عمل الحواس كأجهزة فيزيائية ،لا يختلف عن مبدأ عمل الأجهزة الفيزيائية العادية .
    أما في المستوى الثاني لإنتاج المعرفة؛ أي مستوى المفاهيم ،والمقولات  فتجري عمليات معقدة جدا،تحكمها الخبرة والتجربة واللغة . في هذا المستوى، يكون المخيال إما في وضعية التقدم والتجاوز، أو في وضعية النكوص والتراجع .
    العلاقة بين المستوى الأول،والمستوى الثاني،لعملية تكوين المعرفة والوعي،ليست علاقة ميكانيكية،فالمخيال يستطيع إنتاج المفاهيم،والمقولات ، والتصورات،بالاعتماد على تراكمات الخبرة السابقة.وفي مجمل الأحوال،فان معيار ما نتخيله من مفاهيم، ومقولات ، وأفكار،هو التجربة(8) .
مراجع
1- إن المادية التاريخية " التي لم تدخل الوعي الجماعي ، مع الأسف ، إلا في صورة مبسطة مبتذلة هي بالدرجة الأولى النظرية التي يتعرف فيها المجتمع البرجوازي على نفسه " .
  Lucas. histoire et conscience de class ( paris,Minuit 1960,P 266-267)
انظر الجابري ، محمد عابد ( نقد العقل العربي – العقل السياسي العربي ) ص 24
2-لوكاش ، المرجع السابق ص 263-264 .
 3– لوكاش ، المرجع السابق ص 257 .
4-لوكاش، المرجع السابق، ص 263-264
5-لوكاش ( مرجع سبق ذكره ) ص 268 / انظر الجابري ( العقل السياسي العربي ) ص 25 /
6- لوكاش ( المرجع السابق ) ص 274-275
7-يقول إنجليز (( لم يبقى الآن من الممكن أن تثير في نفوسنا الاحترام تلك المتضادات المستعصية على الميتافيزياء القديمة التي لا تزال مع ذلك واسعة الانتشار حتى الآن ، كالمتضادات بين الحقيقة والخطأ بين الشر والخير ، بين التشابه والاختلاف ، بين الضرورة والصدفة . ونحن نعلم أن لهذه المتضادات قيمة نسبية فقط : أي أن ما هو معترف به في الوقت الحاضر كحقيقة له جانبه الخاطئ المختفي الآن ولكنه يظهر مع الزمن … وان ما هو معترف به الآن كخطأ له جانبه الحقيقي الذي بسببه كان من الممكن اعتباره سابقا كحقيقة ، وان ما يعتبر ضروريا يتألف بكامله من صدف ، وان ما يدعى بالصدفة إنما هو الشكل الذي تتستر وراءه الضرورة ، وهكذا دواليك ))/ ماركس ،إنجليز،المختارات في عشر أجزاء/
8-انظر لينين في ( المادية والمذهب التجريبي النقدي ) ص 230 و ( المادية التاريخية والجدلية ) إصدار دار التقدم ، موسكو ص 226 .



#منذر_خدام (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الديمقراطية: معوقات كثيرة …وخيار لا بد منه
- المادية الجدلية وسؤالها الأول
- الديمقراطية بين الصيغة والتجسيد
- المنهج الماركسي واشتراطاته
- شي بحط العقل بالكف....
- منطق الفكر
- نقد الفكر مقدمة لنقد السياسة
- الديمقراطية وبيئتها المفهومية في الوعي السياسي العربي
- الديمقراطية والنخبة
- الديمقراطية والعلمانية والليبرالية
- الديمقراطية والمجتمع المدني
- عندما -تحاول- أمريكا التفكير بعقل -غير- إسرائيلي يظل مثقفونا ...
- الديمقراطية وحقوق الإنسان
- الديمقراطية والحرية
- الديمقراطية الحديثة بين نخبوية لوك ومساواتية روسو
- الديمقراطية: ولادة المصطلح وحدوده الواقع
- هموم التنمية العربية ومشكلاتها
- العولمة وطبيعة العصر
- الديمقراطية الممكنة والمحتملة في سورية
- الديمقراطية في الفكر العربي المعاصر


المزيد.....




- مدفيديف: الناتو منخرط بشكل كامل في الصراع الأوكراني
- السعودية.. إحباط 5 محاولات لتهريب مئات آلاف حبوب -الكبتاغون- ...
- مصر.. الداخلية تكشف تفاصيل واقعة مصرع عامل دليفري بعد تداوله ...
- اليونيفيل: إصابة 4 جنود إيطاليين من قوات حفظ السلام في جنوب ...
- محمود الهباش: وجود إسرائيل في غزة لن يكتسب شرعية مهما طال
- مشاركة عزاء للرفيق رؤوف الحباشنة بوفاة جدته
- من هو الكاتب بوعلام صنصال وما مصيره منذ وصوله للجزائر؟
- خبير عسكري: الاحتلال يستهدف مربعات سكنية بسبب تعثر عمليته ال ...
- هل اكتشفت أم محمد هوية الواشي بنصر الله؟
- قوات الاحتلال تقتحم جنين ونابلس واعتداءات للمستوطنين في الخل ...


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - منذر خدام - المادية التاريخية وسؤالها الأول