|
بعل الغجريّة..(رواية)10
تحسين كرمياني
الحوار المتمدن-العدد: 2486 - 2008 / 12 / 5 - 09:40
المحور:
الادب والفن
تعلمت من الحياة ان العزلة،هي الفردوس،ليس كل عزلة،فقط العزلة في ظل الأحكام العرفية وفي بلدان (العسكريتاريا)،إعتزل تنجو أو تسلم،تلك هي فلسفتي الدائمة،رغم ان الطبيعة البشرية،طبيعة إجتماعية،البشر يعشق الوحدة والتعاون،اليد الواحدة لا تصفق،لكن اليد الواحدة في ظل الطغاة تواصل نشاطها الأبدي،أن تعمل في السر،أن تواصل زراعة الحياة في بوتقات مخفية،لابد ان أوان زراعتها في بستان الحياة سيأتي،الطغاة أعمارهم قصيرة،لكنها ثقيلة،زوالهم يعطيك فرص نادرة لإخراج ما زرعت في سباتك،تعلمت أن لا ألهث خلف الرزق الكثير،قانع بما يأتيني،لا أنظر لأحد،لا أحسد أحد،(القناعة كنز لا يفنى)،كلام يردده يائسون لترضية نفوسهم العاجزة أو العاطلة عن الأتيان بالمزيد،عرفت ان ما هو لي..لي،وما هو ليس لي ليس(ثمت)قوّة تدفعها إلى سلّتي،فلسفة تعلمتها من وحدتي،من النظر إلى الصحف،أدقق في حرفها،أحاول أن أتهجى الكلمات،زملائي يمزحون كلما أمسك أو أرفع قصاصة ورق مرمية على الأرض،سموني(الفيلفوس)،لم أبالي بما يقولون،شعرت دائماً أنني كادح سينجح أينما يتواجد،تعلمت من عزلتي ان الحياة أفراح دائمة،ضحك رغم قوة الحزن ومساحة الفجيعة في الحياة،الفرح قليل،لكنه مفيد،لا حياة تستمر بدون جرعات ضحك،الضحك وقود المأساة،أن تضحك لبرهة،يذهب الضحك،ليس من أثر يتركه الضحك،بيد أنه جرف من غير شعور منك ترسبات أحزانك،البكاء نقيض غير متكافئ للضحك،علقم،له جذر ضارب في الذات،في الوجدان،الحزن يهد سدود الذات،فينجرف السيل المتراكم ،يبقى وقع الحزن مرسوماً في النظرات،في نبرة الصوت،في الخلجات،في الحركات،في التصرفات،قد تشك في هذا الأمر،تحر عنه في وجوه الناس،استغل وجودك الزمني في وقت استثنائي،استغل وجودك المكاني في بلدة(جلبلاء)،هي بلدة تاريخ،هي بلدة كوارث،هي بلدة أقوام لا تتفق،انت فقير،استغل فقرك لتتعلم فلسفة الوجود،وحده الفقير رواية،كل فقير رواية متكاملة الفصول،لكن من يقرأ الفقير،لا أحد يتمكن من تفكيك الفقير ليصطدم بركام هائل من الأحداث الأسطورية،وحده الإنسان الحالم، الفقير فقط من يجيد درب الأحلام،وحده يعرف كيف يحلم،الحلم هو فردوس الفقراء،وحده الحلم يسعده وينسيه ما يجري من غليان في سيرته،الفقير عنصر مهم في الوجود،الفقراء هم الكواكب السيّارة للتاريخ،بهم يستقيم التاريخ وعلى أكتافهم يمضي التاريخ إلى النهاية الحتمية،تلك النهاية التي تتساوى فيها كفتا ميزان الوجود،لا غني يومئذ،الكفتان فيهما فقراء،وحده الفقير يشعر بذلك،يشعر بالمدى الفسيح للمسرات،كونها ومضات تبرق في خياله،يعرف حدودها،يعرف مسالكها،الفقراء هم بنوا الحضارات،هم العلماء والحكماء والمخترعين والمبتكرين،هم أبدعوا الأساطير،هم الأنبياء والمرسلين،هم الضحايا،هم جنود الحروب،هي بناة العالم،العالم الغني والعالم الفقير،أقصد(العالم الثالث)عالم الشرق،وعالم الغرب،الشرق المتعثر،والغرب المتحضر،الشرق المدافع،والغرب المهاجم،أنا أريد اسطورتي،جئتك لتصوغ اسطورتي،كما أرويها لك،كوني فقير،وكل فقير أسطورة على مسرح مفتوح..!! *** أجلس قرب عربتي،أراقب وجوه ناس تلهث وسحناتهم تفضحها آيات من الهلع وفقدان الثقة،أتابعهم،يمشون بخطوات لا تتشابه في الإيقاع،خطوة قصيرة..خطوة طويلة،خطوة تقرع الأقدام الأرض بعنف،خطوة تقرع بلين،خطوات تستمر،(توقف)،الماشي يتوقف،هو لا يعرف لم توقف،من جديد يبدأ المشي،لا تحديث في مشيته،إيقاعات تتشابك،حياة تتأرجح،ضحك يعلو،بكاء يصعد،ظلام يزحف..نهار ينبلج..نهار يتوارى،العالم يمشي..يمشي العالم،العالم الغربي يمشي،العالم الشرقي يتثائب،العالم الثالث يبحث عن فرص اخرى للخروج من ركام الديون،لا شيء يشغل الناس في العالم الثالث من آلامهم،لا شيء يدفع السأم والملل عنهم،فقط الحرب،وحده الحرب يسعد تعساء العالم الثالث..!! *** لم أجد في السجن من يؤذيني،عندما أخذونا،وجدت وجوه تتآلف معي،وجوه تبرئني،تفصح الوجوه:هذا ليس بوجه جاحد نعمة..!!وجوه تفصح:وجه ليس فيه سوى تعابير الخير..!!الوجوه تنطق،ترى ما هو نافع ونبيل وأصيل،ترى الظلام ولو في مسامة من مسامات الوجوه،المجرمون يعرفون بعضهم من خلال نظرة واحدة،الأبرياء يتجاذبون فيما بينهم،سماحة أرواحهم النقية تتآلف،وجوه رأتني خلاف ما رأتني وجوه تلك الزمرة التي باغتونا في النوم ونقلونا إلى زنازين الهلاك المحتوم،وجوه تعلن عن برائتي لكنها وجوه مكتوفة الحول،مكبلة بالصمت الواجب على السجين،قضيت سنواتي بين بين،سجون البلاد منافي بلا حدود،سجون العالم الثالث،متاهات بلا نهايات،ناس تردد همساً أن الحاكم الجديد يواصل فتح السجون المنيعة،له حساسية شم الأمور،له أنف كلب مدرب ومجرب،ناس تردد هذا الكلام همساً،في كل مدينة بنوا سجن للمعتقلين،لأنه توقع معارضته مذ قرر أن يخون ولي نعمته ويزيحه من مكانه،السجّانون انتخبوني(سجين شغل)لوداعتي وحسن طواياي،قالوا لي:أنت(عنقرجي)من هذه اللحظة،يعني زبّال وكنّاس وموزع طعام ومنظف مجاري والمراحيض غير الصحية، محبوباً رأوني،أميناً،وديعاً رغم طولي غير المناسب للمساجين،ربما أثارهم طولي وحفزت بقع الرحمة المتوارية أو الغافية فيهم،أثارتهم وأتخذوا قرارهم بالإجماع أن يختاروني(عنقرجياً)بعد سوق من سبقني إلى سجن البلاد البعيدة،ولد صغير رأيته يقوم بما سأقوم به من أعمال،مذ حللت ضيفاً للزنازين الخانقة،حوادث كثيرة جرت،بعضها حوادث عفوية،بعضها حوادث مفتعلة،من أكثر الحوادث شهرة،حادثة الهروب الجماعي للسجناء،حدث ذلك في ليلة الخميس على الجمعة،ليلة معروفة عند السجناء،الضباط والشرطة يذهبون في إجازة نهاية الأسبوع،يبقى حرس قليل،يأتي ضابط الخفر،يزور المساجين،ليس من اجل أحوالهم وأوضاعهم،يأتون لجمع الأموال منهم،يعرفون من لديه مال،أو هناك من يعطي كي ينجو من العقاب اليومي،كل من يعطي سجين مقرّب ،يأتيه الطعام من خارج السجن،يستحم في مكان نظيف،يأتون الضباط سكارى،رائحة العرق تفوح من افواههم،يتأرجحون،يضربون هذا وذاك،يضربونهم ليس عقوبة،يضربونهم للتسلية،يعلو هدير الضحك،السجين يتأوه،(ممنوع البكاء)صرخة شرطي أسمر تدوي وتصك الآذان،صرخة ترعش الأغوار،تخرس الألسنة،(ممنوع الصراخ)صرخة تعقب الصرخة الأولى،هذه الصرخة ليس من فم الذي صرخ الصرخة الأولى،شرطي آخر،سمين وقصير القامة،فمه يلعب مثل فم الساقطات،فم يعلك بطقطقات،الضابط يواصل تأرجحه،يحاول ان يضبط وقوفه،يريد أن يعيش أسعد أيام حياته،أسعد لحظاته الحياتية سعادة،هو سكران،حاشيته يقهقهون،أحدهم يمسك السجين من يديه،يقف وراءه،يلوي يدي السجين إلى الخلف،الضابط السكران يصفع صفعات (طراااااااق..طراااق..طراااااااق..طراااق)،صفعة بكف يسراه،صفعة بكف يمناه،صفعة من اليمين،صفعة من اليسار،وجه السجين يرتجف بين قوتين عن الشمال وعن اليمين،قوتان متعادلتان،ميزان متوافق صفعات الضابط السكران،صفعتان متساويتان في الصوت(طراق)،متساويتان في الوقع،الحماية تنطلق في ضحك مدوي،قهقهات تتعالى،قهقهات تنغرز كمسامير لاهبة في أجساد السجناء الجالسين،الخاشعين،المرتجفين،(نزّل عينك)صرخة داوية،ممنوع أن ترى،السجناء أعينهم في الأرض،فقط عيون الشرطة،وعيون الضابط السكران،عازف الإقاع الصفعي،فقط عيونهم تلتهم السجين الضحية،ليس(ثمت)خوف،القهقهات والصفعات لن تصل إلى آذان المسؤولين،أصحاب القليل من الرحمة،والكثير من الأسرار المجهولة،دائماً يسألون عن أحوالنا،عن أحتياجاتنا،يتكلمون بأسم(الحاكم)راعي الرعية،بأسمه يتحدثون،يؤكدون انه أرسلهم للوقوف على أحوال السجناء وضرورة توفير المناخات الصحية الملائمة والعادلة لهم،ضرورة توفير المتطلبات الصحية لهم،الطعام الصحي،الفواكه المهمة لبقاءهم سليمي العقل،الحاكم يقول هذا الكلام للمسؤلين،المسؤلون ينقلون الكلام، كلام الحاكم لنا،ليس(ثمت)خوف،يتواصل العزف الليلي للإهانة والعبث على وجوه السجناء،سجناء من غير تهم،أو أدلة إدانة،حشر من الشباب وجدوهم في الفنادق،جاؤوا لطلب القوت لعائلاتهم الفقيرة،وجدوهم غرباء في الفنادق من غير ترخيص،الغريب لابد أن يخبر الدوائر الأمنية،يتوجب أن يسجل كل شيء عن نفسه وعائلته في سجلات الأمن،ليس(ثمت)خوف في عيون الضابط السكران،ولا في عيون الحماية،من يوصل كلاماً لزائر مسؤول،يسلخون جلده ويدفنوه حياً في أغوار أرض منسية،أو موحشة،تناول وجبتك وأسكت،ليس(ثمت) خوف،الضبّاط الكبار،اصحاب القليل من الرحمة،يتمتعون بإجازاتهم لنهاية الأسبوع،يستمر الضحك والـ(طراق..طراق) لا يمل الضابط السكران من الصفع،يضرب ضربات ترجف القلوب،يسأل الضابط السكران أحد السجناء المرعوبين،يقول له:هههههل..ييييييكفيييي هههههذاذاذا..!!السجين مرتعشاً يتمتم بصوت مبحوح مخنوق:ننننعم.. سسسسسسيديديديدي..!!يأمر الشرطي الذي يلوي يدي السجين،يترك الشرطي يدي السجين المصفوع،وجه السجين أحمر،فاقد الوعي،فمه يقذف بصاق ودم (أووووووويع)تنقلب أحشاءه،يدلق ما تناول من ماء أصفر ليس فيه ملح،و(صمّونة) يابسة مصنوعة من طحين عفن،طعام أجباري لنزلاء محشورين في زنازين معتمة،يشير الضابط السكران،يتقدم شرطيان،يسحلان السجين إلى خارج الممر الطويل بين صفي القاعات،يلقوه على مساحة كونكريتية دبقة،احدهم يفتح صنبور الماء،ماء يتدفق عبر خرطوم مطاطي،الخرطوم مربوط بفم ماطور كهربائي ذو قوة حصانية مضاعفة،يتم تشغيل الماطور،هدير كبير يبدأ،هدير كهدير ماكنة ثرم اللحم،يندلق الماء بقوة مدفع رشاش،يندلق بغزارة على السجين الذي قاء ما في جوفه من طعام ليس للبشر،(يتكرمش)ويغدو مثل جرذ مبلل يحتضر،يسحلوه إلى القاعة،يمددوه في ركن دبق وخانق، يمددوه،ببلله وأنينه،بحرارة الصفع وبرودة الماء،يقضي بقية ليلته أنيناً وتوجعاً ولاعناً يوم ولادته وزمن ولادته،خمس سجناء من خمسمائة وسبعة عشرين سجيناً أتفقوا فيما بينهم عبر إشارات وطرقات على الجدران أن يعلنوا اعترافاتهم،خمس سجناء،كل سجين في قاعة،كيف اتفقوا،كيف فهموا بعضهم،ليس بوسعي التوصل إلى تلك الإشارات ولغتها بين سجناء مخضرمين،تفاهموا وأتفقوا في ساعة رعب،قرروا انهم سيوافقون على كل شيء يخطر ببال ضابط التحقيق(أبو الشوارب)الرجل العملاق ،عديم البسمة،صارم السحنة،عيناه لا ترمشان،يقولون له،أنهم أتفقوا على قتل(الحاكم)،سيقولون له:خططنا ولم نفلح لتخليص العالم من شره..!!سيقولون أشياء غير واردة ولا معقولة،هم خططوا لقتل الحاكم،حاكم البلد الطيب،البلد المتواجد خطأ ضمن جغرافية العالم المسحوق،نقصد،العالم الثالث،أرادوا تنصيب أنفسهم كأوّل حكومة خماسية تحكم بلاد واحدة،خمس رؤساء في قصر رئاسي واحد،يتخذون قراراتهم(شورى بينهم)،لا يتخذون قراراً قبل إجراء تصويت عليه،تصويت نزيه وعلني أمام الناس،أمام العالم،ثلاثة أصوات يعني تمرير القرار،اثنان يفشلان،سيعترفون عن كل جريمة حتى لو حدثت أو ستحدث في السنوات المقبلة،أمّا البقية،السجناء المحشورين في زنازين خانقة وقاعات دبقة،هم أبرياء،لا يد لهم في محاولتهم الإنقلابية،اتفقوا على ذلك وصاحوا صيحتم في وقت واحد،سجناء سأموا الصفعات الليلية،خمس سجناء سمان، سحناتهم ناصعة وجاذبة ومغرية للضرب،يبدؤون بهم الجلسات الليلية،كل واحد هو الأوّل في قاعته،قرروا أن يتخلصوا من حياة تعيسة في زمن تعيس،صاحوا صيحتهم الشجاعة في عالم ليس فيه شجاع،عالم يريد الجميع سواسية،مجتمع اشتراكي،متساوون في الحقوق والواجبات،الكل فقراء إلى الله،وحده الخالق غني،الحاكم قال هذا،قال كل شيء في مناسبات يومية،كل يوم يطلق مقذوفة جهادية،قول منمق من لسان لا ينطق إلاّ ما هو يخدم إنسان العالم الثالث،عالم يقف محايداً بين شرق كله شر وغرب كله ناكر للرّب،السجناء الخمس،من أجل التخلص من صفعات الضبّاط السكارى،قرروا أن يلبسون أنفسهم ثوب التهمة،التهمة التي غربلت البلاد،جعلت أسلحة الجيش رهن أو قيد الرمي،الأسلحة حرة على كل من يخرق (حظر التجوال)،الحاكم يتجول،معه جيش العالم الثالث،السماء مصادرة بالطائرات الحربية،كل طيار يجلس وراء رأسه أحد أقرباء الحاكم،كل دبابة يجلس فيها مقرّب للحاكم،قال لهم: ـ حياتكم في خطر،موتي يجعلكم طعماً للكلاب..!! سلّحهم،دفعهم ليحرسوا(بيت النعمة الكبرى)من كيد المناهضين له،يا كاتب،مجرد وشاية نقلتها إذاعة خارجية، سمعها طارئ وسجلها في شريط كاسيت،تناقلت بيوت حماية البلد من بيت لبيت،وصل الحاكم،نهض من فراشه،قاطعاً قيلولته: ـ البلاد في خطر..!!..(صاح).. جمع زبانيته،أرسل الجيش إلى كل فج،رجال الأمن داهموا الفنادق،من كل فندق في كل بلدة،جلبوا أفواج الشباب،السماء ملغومة بالطائرات،الحاكم يتمنطق مسدسه،الجيش يتجول بالدبابات والمدرعات،(حظر تجوال)في البلاد،ثلاثة أيام الناس يراقبون الوضع العام من خلال نوافذ الغرف وفتحات الابواب،الإذاعات مغلقة،أجهزة تشويش تعمل على(خربطة)الموجات العاملة،الموجات القصيرة والموجات الطويلة،ممنوع(صوت أمريكا)ممنوع إذاعة(لندن)الـ(bbc)ممنوع إذاعة(هنا..طهران)ممنوع صوت(إورشليم من القدس)موجة واحد تعمل،موجة تلهب الحماس،أناشيد وطنية،تمجد الحاكم،تلعن العالم الغربي،العالم المحتل،العالم المستعمر،العالم المصّاص لدماء الشعوب الفقيرة،تطلق الموجة العاملة،حملات التوعية،تهاجم الغرب،تعتبره سبب الجوع في العالم الثالث،السجون إمتلأت،الحاكم سكن في الفؤاد،من حق المرء أن يخاف في العالم الثالث،من حقه أن يكذب،ان يقول بلسانه ما هو يخالف قلبه،يصفق زيفاً،المرء يخاف على حياته،يخاف على حياة عائلته،في العالم الثالث،حين يعدم إنسان العالم الثالث حتى لو عن طريق الخطأ،تقذف بعائلته إلى الشوارع،يطرد أقرباء المعدوم من وظائفهم،عشيرته توضع في خانة المناهضين للحاكم،هؤلاء السجناء المصفوعين على طول الخط،الخمس الذين صاحوا صيحة الشجاعة، في زمن ماتت فيه الشجاعة،ماتت فيه الغيرة العظمى،تورمت سحناتهم،سقطت أسنانهم،صاحوا في ليلة مشهودة،هم مدبروا الإنقلاب الذي سيهز البلاد،سيهز العالم بأسره،سيهز العالم الثالث،سيجعل الأمم المتحدة أن تجتمع في جلسة إستثنائية،لتتناقش وتتخاصم وتتلاكم بالأيدي وتتطاير الأحذية في قاعة الأمم المتناحرة،سيقولون: ـ إنتهى دورنا،الحكومات القادمة ستغدوا شورى،حكومات العالم الثالث أفاقوا من نومهم..!! حين تلعلعت الصيحة الشجاعة،أنا بدوري بقيت جالساً في رقعتي الصغيرة الدبقة،السجناء إندفعوا إلى القضبان الحديدية،مدوا أعناقهم خائفين،خلت تلك الصيحة،صيحة إستهزاء،قلت لابد أن أحدنا قد فقد صوابه،سيخرجونه ويمددونه تحت رشاش الماء،لم أتوفق في تقديري،الصيحة الشجاعة،خلتها صيحة مجنون،تبين فيما بعد،تبين بعد لحظات،أنها خمس صيحات تناغمت في صيحة إستثنائية،داهمت قوة متهيئة الممر الطويل الذي يتوسط صفي القاعات،نادت الأفواه أصحاب الصرخة الموحدة،أخرجوا أيديهم من بين القضبان الصغيرة، أخرجوهم مسحولين،وجوم خيّم على الوجوه للحظات،شقت الفضاء رصاصات،عرف الجميع أنهم إعدموا فوراً،إعدموا من غير تحقيق،عرفوا انهم كذّبوا على الشرطة،سجناء يبغون تأليب(الرأي العام)العالمي على السلطة الحاكمة،سجناء يجب ـ هكذا تنص قوانين المحاكمة،أن لا يبقوا أحياء،أخذوهم إلى مجاهيل البلاد القصية،أمّا السجين الذي سأله الضابط السكران،واجاب بأن الصفع(كافي)،يهز الضابط السكران رأسه،يحدق فيه،يشير برأسه ،برأسه السكران،يخرجوه،(شراق..طراق ..طراق..شراق)،صفعة باليمين..صفعة باليسار،(شرااااااق)يمين،(طرااااااق) يسار،السحنة تحمر،الفم يقذف بصاقه،يقذف دمه،(أووووووووييع) يقيء، يخرجوه،من التالي،كل السجناء تعساء الحظ،لا يفلت من الصفع الليلي أحد،يستمر اللعب بأعصاب السجناء حتى مطلع الفجر،الفجر بعيد،بعييييييييييييييييييد جداً،فجر السجناء مكبل بالغيوووووووم والظلاااااااااام،ليس للسجين فجر،كل ساعاته ظلام وآلام،كل أوقاته ليل حالك،لكنه ليل بلا نوم،ليل العالم الثالث قصير،طائر النوم ممنوع أن يبني أعشاشه في سجون البلاد،لا نوم للسجناء،هكذا اقتضت الأوامر،لم يحدث أن صفعني ضابط سكران،أنا(عنقرجي)،المنظف الأمين،لكن جسدي يقشعر مع الصفع،أحشائي تندلق مع أحشاء المصفوعين،بعد مرور ستة أشهر على السجن الإنفرادي للسجناء،تم نقلنا إلى قاعات كبيرة،قاعات تغص بشباب البلاد،صغار وكبار،معوقين،أصحاب أمراض مزمنة،أصحاب عاهات خلقية،أيتام،مساكين،متسولون،أصحاب عربات دفع،كل أصناف المجتمع يجتمع،ليس من المعقول أن يتسول متسول في بلاد العالم الثالث،التسول ممنوع،(عيب وطني)،عيب يخل بقيافة البلاد بين بلدان العالم،ممنوع التسول،الصحافيون يتجولون في الشوارع،ينقلون بهجة البلاد،عيب أن تظهر مشاهد التسول،مشاهد المساكين،مشاهد الفقراء،تم إحتجازهم في السجون،كي تمشط البلاد نفسها أمام أنظار العالم الغربي،هناك قاعات في نهاية الممر الطويل،قاعات تعلوا منها ضحكات نساء،عرفنا أن نساء البلاد لهن حصة في هذا السجن الكبير،نساء يضحكن،السجناء لا يضحكون،النساء مسموح لهن الضحك،رأيت كل شيء بعيني،أنا(عنقرجي)أمنوا جانبي،وجدوني كائناً لا يهرب،لا يفه بسر،رأيت ما يفعله الضابط السكران،رأيته يخلع ثوب سجينة،يأمرها بالرقص،ترقص عارية،أنا رأيت مرة واحدة،حدث أن أخرجوني في تلك الليلة لنزح دورة المياه الخاصة بالشرطة،أخرجوني وبدأت النزح،دورة المياه قرب قاعة النساء،رأيت فتاة تتعرى دون خجل،بدأت ترقص،الضابط السكران يجلس على كرسي،الحماية يصفقون،النساء يتعرين،أمر صادر من سيادة الضابط السكران،يرمين ملابسهن،يبدأن بالرقص،ضحكات ورقص،يالها من ملحمة كونية متحررة في قاعة تغص بنساء العالم الثالث،وجدوهن في المركبات بلا هوية أحوال مدنية،وجدوهن في الأسواق من غير هوية،وجدوهن بلا(محرم)،لا يجوز أن تتجول امرأة بلا بعل،البلاد خرجت من الكهوف،خرجت من القرون البالية والفاسدة،الرجال لابد أن يرافقون نساءهم في إحتفالات كونية لا تنتهي،تلك هي فلسفة الدنيا في البلدان النامية،في كل نقطة تفتيش،تم تجميع نساء بلا هويات،نساء بلا(محرم)،أنزلوهن من المركبات،سحبوهن من الأسواق،نساء لم يسمعن بقرار(حظر التجوال)،أخذوهن وجلبوهن إلى القاعة الكبيرة،قاعة سجن النساء،نساء وجدن التعري والرقص وسيلة مربحة في السجن،يبعدن عن أنفسهن الجوع والضرب،ينتهي الرقص،تتوتر الأجساد،تندلق الشهوات في القاعة الخاصة بالنساء،أنا رأيت ذلك مرة،كثيرون سألوني،أعلنت الصمت،شعرت أن الضابط السكران دس بيننا أعين منصوبة،دسهم لسرقة كلامنا،أراد أن يعرف قوة السر لدي،تجاهلت الأمر،ولم أعر ألسنتهم اهتماماً،نجحت في الأختبارات كلها،ومضيت(العنقرجي)المحترم بينهم،حين ارجعونا من الزنازين الإنفرادية،وجدنا انفسنا في قاعات غاصة بالمساجين،وجدنا أنفسنا في تقرفص تام،لا مجال للنوم،ليس من رقعة أرض أو شبر خالي،تواصل الصفع الليلي،أينما تسجن(ثمت)ضرب،ضرب متشابه،عرفنا أن الضبّاط، ضبّاط الشرطة يتدربون أيام الكلية على الصفع أكثر مما يتدربون على الدفاع عن أنفسهم،تواصل الضحك المدوي،ضابط يأتي ويذهب،ضابط يتبعه،كلهم يصفعون،كلهم يسكرون،كلهم يعرون النساء،جاءت الليلة المشهودة،ليلة(خميس على جمعة)،دخل ضابط سكران،يتأرجح كالعادة،بيده سيجارة أجنبية،خشع الجميع لصمت قاتل،قلوب ترتجف،أسنان تصطك،كل واحد يبتهل أن لا تقع عليه عينا الضابط السكران،بعضهم يرغب أن يتأجل دوره إلى نهاية اللعبة،لأن الضابط السكران سيتعب،تقل وقعات الصفع،ضرباته لا تحمر السحنات،لا تدلق العشاء الفقير من الأحشاء،تقدم الضابط السكران،ضابط قصير،ضابط جديد،علّموه السكر في الكلية، علموه كيف يمارس مهنة الصفع،كيف يحافظ على رزانته(الشرطويّة)،تقدم بخطوات سكرانة،فارداً ذراعيه مثل من يتقدم لمسك دجاجة،يتفحص الوجوه،وجوه خاشعة،وجوه متوسلة،وجوه جاهزة،(يطبطب)بكفه السكرانة على السحنات المستفزة،الكل جالسون في صفين،صف سجناء مقابل صف سجناء،اختار ولد سمين ليس من جماعتنا،ولد قالوا أنه ضرب بسيارته قاعدة تمثال للحاكم تم نصبه في تقاطع مروري في العاصمة،الولد ليس من جمعية الحمّالين والكسبة المسجونين،ولد سمين مهندم،جميل السحنة،بعد سريان تهمة محاولة لقلب نظام الحكم،ولد تخلص من ضرب رجل كهل دخل إلى حوض الشارع،كاد أن يدهسه بسيارته،وجده أمامه،خاف أن يصطدم به ويقتله،دوّر عصا سيارته،زحفت السيارة وصعدت رصيف(الفلكة)،اصدمت مقدمة سيارته بقاعدة التمثال،سقط يد الحاكم المرفوعة في وضعية تحية للناس،التمثال صار أبتر،سحلوه إلى السجن،أراد أن ينقذ حياة كهل صار فجأة أمامه،وقف الولد،وقف وقوف البطل الذي لا يهاب الردى ولا العدا،وقف الضابط القصير أمامه،أسقط سيجارته،صاح:لا تنظر إلي هكذا يا(قشمر)..!!ظلّ الولد السمين ينظر في عيني الضابط القصيرالسكران،في عينيه شرر،غيضه يتفاعل،يسحب الشهيق بتسارع،مركزاً عينيه كصقر على فريسة،بدا على الضابط القصير السكران تردد وخوف،صاح:أجلبوا لي الفلقة..!!تقدم شرطي وناوله عصا غليظة،رفع الضابط القصير السكران العصا الغليظة إلى فوق رأسه،قبل أن يهوي الضابط السكران بالعصا الغليظة على رأس الولد السمين ،باغته الولد السمين وتلقف العصا الغليظة الواقفة فوق رأس الضابط السكران،قامت الجموع وأنهالت على الضابط ضرباً بكل شيء،أحدهم خنقه وتركه جثة هامدة،وقف الشرطيان أخرسين،مرتجفان،متوسلان،كبلوهما وقادوهما إلى دورة المياه في مؤخرة القاعة،اندفع السجناء متسللين من القاعة،في ليلة(خميسية)زلزلت أركان وزارة الداخلية،ودعت الحكومة أن تقطع إجازتها وتجتمع،تسلل من استطاع تسلق الجدران وانفلت من السجن الكبير،حدث تصادم في الباب الرئيس،انتبه شرطي للحالة،خرج إلى خارج السجن وقفل الباب الرئيس من الخارج،بقى بندقيته في غرفته،أخطأ أحد السجناء حين أطلق العيارات النارية من تلك البندقية العائدة للشرطي الذي قفل البوابة الكبيرة من الخارج،انهال بالرصاص على البوابة،سمعت قوات الطوارئ ما يحدث،أتت وأنهالت بالرصاص على السجناء المحتشدين في فناء السجن،واقفون ينتظرون أدوارهم للتسلق عبر عمود للكهرباء لصق الجدار،حدثت مجزرة،بقيت في الداخل،وحدي ليس معي سجين،ذهبت إلى دورة المياه وفتحت الشرطيين، شكراني وقبلاني،قام أحدهم بغلق القاعة من الداخل،داهمت قوات الطوارئ القاعة،وجدته مغلقاً من الداخل،فتحه الشرطي الذي غلقه،صاح احدهم بوجهي: ـ أخرج..!! قلت: ـ أنا رفضت الهروب بقيت في الداخل،هذان الشرطيان يشهدان على ما فعلت..!! بدا عليه أبن حلال،نظر في وجهي..قال: ـ ألست حمّال(جلبلاء)..!! هزيّت رأسي..قال: ـ لا تخف أنا أعرفك..!! من يومها أرجعونا إلى الزنزانات الإنفرادية،عرفت أن سبعة وخمسون نزيلاً وصلوا الشمال الآمن،سبع وثلاثون قتلوا من قبل قوات الطوارئ،واحد وسبعون سجيناً جرحوا،لم يتم محاكمتنا بسبب عدم توافر أدلة إدانة،ولا أعترافات شخصية،فقط الخمسة الذين صاحوا في الليل أعدموا بتهمة تأليب الوضع العام المستتب،جاءنا العفو من لدن الحاكم الجديد..قالوا: ـ تبييض سجون..!! فرحنا وخرجنا،فيما بعد تبين ان محاولة الإنقلاب المزعومة،المحاولة التي هزّت البلاد،المحاولة التي زجت بالفقراء والمساكين والمتسولين والحمّالين،والكسبة والنساء في السجون،مجرد مزحة،نعم يا كاتب مزحة،مزحة أطلقتها إذاعة المعارضة،بمناسبة الأوّل من(نيسان)الشهر الذي ولد فيه حاكم(البلاء)عفواً..البلاد..!! *** في حياتي العسكرية اختاروني سائس بغال،تعلمت من تلك الكائنات المطيعة الصبر على مرارة الأوامر،في العسكرية عليك أن تتحمل مشاق الأعمال،وحده الصبر مطيتك،فالحياة عقائدية حديدية،حياة بلا قوانين،في كل لحظة يصدر أمراً عليك أن تتهيأ حتى في منامك،او أثناء تناول طعامك،لما هو غير متوقع،جنود بلا قيمة،نعمل بلا ملل،نعمل كثيراً،نرضى بالقليل،لا أعلم ما الذي يجري في دنيانا،الجنود(عاملات)نحل،نكد ليرتاح غيرنا،نحن نعمل أعمالاً غير ذي جدوى،نهرول ونتدرب على الـ(يس..يم.،يس..يم)نتدرب على الفرضة والشعيرة وعلى الـ(طبة الرابعة)أثناء المسير،صدرك بارز ونظرك إلى الأمام،يداك ترتفعان إلى كتفي الذي أمامك، (1..2..3..طاب)..نتدرب على الروتينيات القاتلة والمملة،وغيرنا يجلس في غرف مضاءة على مقاعد مريحة،يتعلم كيف يواجهنا بلا خسائر،نحن مشغولون بالتراوح في أماكننا،والعالم مشغول بالتقدم التكنلوجي،العالم يحاور النجوم والكواكب ويتهيأ لتيسير بقية العمر البشري على القمر والمجرات النائية،ونحن مشغولون بالـ (أجلس..أبرك..أزحف)،في العالم تناحرات اقليمية،يريدون أن يأمنوا حياتهم القادمة،نحن حروبنا داخلية،نتقاتل فيما بيننا،نتقاتل من أجل تأويل أو تفسير آية واضحة،من أجل الخيط الذي يقصم ظهر الظلام،صرت سائس بغال،وحدي أرافق البغال رفقة حسنة،تعلمت لغتها النادرة،تعلمت ما تريد،وعرفتني هي بدورها،نشأت إلفة إستثنائية بيني وبين بغال تنتحر إذا مس ذاكرتها ضر،جنود تأتي وتموت،جنود جدد يأتون،يواصلون الصعود إلى الأعالي الشاهقة،هناك في القمم المرتفعة،طرفان يتقاتلان من غير سبب،حرب مستمرة،حرب بلا معنى،طرفان يبددان مستقبل شعبيهما،لم أبالِ بما يجري،قلت لنفسي،العالم الثالث لا شغل لديهم،العالم الثالث يشغلون أنفسهم وشعوبهم بالحروب،العالم الغربي بدّلت إسلوبها،صارت تتقاتل بالمال،بالمشاريع المستقبلية،بالتطور،العالم الثالث ما زال يحلف بالطلاق من أجل(إستكان)شاي،أو رمية نرد في المقاهي،المرأة في العالم الثالث ليس لها قيمة،قيمتها في الطبخ والكنس والإنجاب،المرأة في العالم الغربي صارت تنافس الرجال على قيادة الحكومة،عالم مشغول،كل عالم له ما يشغله،وجدت البغال ملاذي وانيسي في عالم دائخ ،قضيت فترة عسكريتي الطويلة،أحد عشر عاماً،توقفت الحرب فجأة وجلس الطرفان يحصيان جراحيهما وخسائريهما،سرحونا ووجدت نفسي من بعد أعوام قاسية،من غير عمل،وجدت مهنة جدي،خير مأوى وخير رزق..!! *** تم إستدعائنا من جديد إلى الخدمة،قضيت خدمتي الإلزامية في الشمال،أقولها بكل مصداقية وبلا استحياء،لم أحمل السلاح،لأنني(سلاح سز)شيء مألوف في الجيش،فئة يحسبونها أغبياء،يتم تجريدهم من السلاح وتوزيعهم كجنود أشغال،أحببت البغال لصمتها وقوتها وصبرها وعنادها وعدم ترددها في اتخاذ القرارات الحاسمة لحياتها،رأيت البعض منها وهي تتدحرج من قمم الجبال بعدما وضعت لنفسها النهاية المأساوية،بغال تفضل أنياب الكواسر والضواري على أعمال الجيش والتي لا تنتهي،تعلمت لغتها البريئة،ليت الحكّام يتخذوا الدروس المفيدة من البغال،ليتهم ينتحروا عندما يجدون أنفسهم عاجزين عن معالجة جراحات شعوبهم،كي يغدوا ابطال تذرف العيون دموع الفقد عليهم،للحق أقول أحببتها،حب الكائنات الحيوانية هبة نادرة،ليس كل إنسان يعشق الحيوانات،هناك من يراقب صنف معين من الحيوانات،هناك من لا يعيش بدون حيوانات،حيوانات العالم الثالث تشبهنا،حيوانات بلا فائدة،كسولة،خجولة،قذرة تنام في الطرقات،ليس لها برامج غذائية عالمية،ليس لها بطاقات صحية،ليس لها بطاقات إئتمان،تتقاتل في الشوارع،سائبة مزعجة في الليالي،حيوانات العالم الغربي،نظيفة،لها قوائم غذائية غنية بالفيتامينات والبروتينات،لها مطاعم خاصة،لها أسماء وأرقام ومراكز عناية صحية،لها مقاهي للترفيه،لها متنزهات،يركبون السيارات،لها أسواق مركزية نادرة،شركات تعمل على تعليب الغذاء الدسم لها،حيوانات العالم الثالث لا تشبه حيوانات العالم الغربي،صداقة الحيوانات فطرة كونية أزلية،صرت صديقاً للبغال،يفرح كل بغل حين أتواجد معه،يشعر بالحزن أوان غيّابي عنه،تلك هي لمحات قد لا تفي بالغرض لترسم في ذهنك ـ أيها الكاتب الصبور ـ تصوراً مقنعاً لشخصيتي العسكرية الأولى،لكنها إلى حدٍ ما هي حبّات مسبحة لتكملة سلسلة حياتي العجيبة،اسطورتي في زمن نامت فيها الأساطير،لك أن تصدق أو تفند،ما حكيته لك،ما سأرويه لك من حكايات غريبة،محبوكة ومرسومة بدقة متناهية،وما زلت أسرد لك ما تبقى في ذاكرتي من حكايات أرجو أن لا تذهلك،أرويها كما أقولها لك،أنقلها بأمانة،كونها اسطورة،أنت تعرف ما معنى اسطورة،أكتب كل ما أرويه،لا تعتبرها خارجة عن سياقات الحدث الأهم،كلها تفاصيل ستؤسس في الذاكرات مصداقية ما أرويه لك،أو ما تنقله أنت على لساني،شيء قد لا يقدم أو يؤخر من الموضوع الذي أنا بصدد حكايته،موضوع رحلة البحث عن علاج(عشتار)،قضيت من الخدمة الثانية،خدمة الإحتياط سنة وشهران،نقلني ضابط كبير للعمل في حقوله المترامية،فرحت كثيراً،وجدت غرفة طينية فيها أثاث بسيط،قرب نهر يجري،اعطاني بندقية لحماية نفسي،أركنتها في صندوق حديدي،خشيت أن أقل له(أنا سلاح سز)قلت لابد أن يعرف ذلك،فهو آمري ويعرف كل شيء عن جنوده،في الحقل المترامي الأطراف،تآلفت مع حيوانات اخرى،قطعان أغنام لا تعد ولا تحصى،أعمل بهمة ونشاط،في مزرعة كبيرة،خيرها وفير،عملي ممتع وغير شاق،أطعم القطيع في أوقاتها،أنظف أمكنتها،أتتني ذات يوم امرأة في سيّارة الضابط الكبير،ظلّت تنحت بصرها في جسد عملاق هادئ،فحصت المزرعة،فحصت طعام الأغنام،ذهبت المرأة الجميلة،تركتني في حيرة من أمري،امرأة لها كل هذا الجمال،تقود سيارة جديدة،في وقت الغروب،أتت بهندام نومها،ملابس خفيفة،شعرها محلول،عطرها يضرب مركز المخ،قلت مع نفسي،دنيانا غريبة وعجيبة،لم أشغل نفسي أكثر مما شغلت،في الصباح التالي،جاءني ولد بسيّارة الآمر،قدّم لي ملابس جديدة،وطعام مجلوب من مطعم،ليس طعام بيت،عرفته من طبيعة تغليفه،طعام لذيذ إلتهمته،لبست الملابس الجديدة،في اليوم التالي جاءت المرأة مرة اخرى،جاءت في تمام الساعة العاشرة وعشرة دقائق،أوقفت السيارة ونزلت كملاك بهيئة بشر،لابسة ثوب قصير،شعرها أخذ وقتاً طويلاً من العناية،عطرها يختلف ضوعه عن عطر زيارتها الأولى،نزلت وتقدمت مني..قالت: ـ رافقني..!! قمت من جلوسي،تبعتها كما أرادت،مشت أمامي،أمشي وراءها،تمشي بحركات ماكرة وشهوانية،مطأطأ الرأس،خجولاً أمشي وراءها،تعرف الممرات،تعرف أين تمشي،تمرق بين الأغصان الوارفة،تنحني لتعبر غصن متهدل،أنا أنحني أكثر مما إنحنت،هي أقصر مني،أنا أطول قامة،ظلّت تتجول في الحقل،تقف لتلقي نظرة،اقف على مقربة منها،تهز رأسها،تتحرك من جديد،تخترق الممرات الخانقة،اشجار متوحشة،هي امامي،أنا وراءها،هي تهز عجيزتها،ردفان يرتجان،فخذان يلمعان،أمشي وراءها،لا اعرف لم أرادتني أن أتبعها،تمشي بين الأشجار الكثيفة، أمشي وراءها،لا تلتفت،لا تتكلم،تقف وتمشي،تريدني فقط أن أمشي وراءها،تناقشت الأمر مع نفسي،قلت مع نفسي،الآمر يريدني أن أمشي وراءه،مطأطأ الرأس أتبعه مثل كلب عاقل،لا يتكلم،لا يلتفت،يلقي نظرات على الجنود،على طعام الجنود،على منامهم،على خزّانات مياههم،على دورات المياه،على صناديقهم،أنا أقف وراءه،يهز رأسه ويمشي،المرأة التي جاءتني بسيّارة الآمر تريدني أن أمشي وراءها،تفعل مثلما يفعل زوجها،تفعل كفعل ضابط كبير محترف،لا تتكلم،لا تلتفت،تقف وتمشي،لم أجد جواباً لمناقشتي لنفسي،بقيت أمشي،هي تمشي أمامي،تهز جسدها الواضح من خلال ملابس خفيفة،أنا أمشي وراءها،وصلنا النهر،وقفت،وقفت وراءها، التفتت..قالت: ـ كيف نعبر..!! قلت: سيدتي هناك المعبر في يميننا..!! رفعت يدي اليمنى وأشرت إلى يميننا..قالت: أحب القفز من هنا،أحب أن أعبر الماء مشياً..!! قلت: ـ أخشى أن تسقطي في النهر..!! قالت: ـ إذا سقطت هل تجيد السباحة..!! قلت: ـ النهر ليس غميقاً،أنا..!! فجأة قفزت،قفزت قفزة ماكرة،سقطت في النهر،لم تنهض،ظلّت تتخبط كغريقة تستنجد،تضرب بذراعيها الماء،مثل مجذافي مركب واقف،أرادتني أن أنزل إلى الماء لأخرجها،نزلت،مسكت يدها،ألقت بنفسها على كتفي،صار رأسها على صدري،امرأة جميلة ونادرة في زمن حرب كبيرة،جسدها ينبض بقوة،أنفاسها تخرج حارقة وجهي،عيناها تتقلبان،حاولت ان أدفعها،خشيت ان يرانا احد،ماذا سيقول لو رآنا احد،سيخبر الناس،سيخبر الآمر بما رأى،ستقول الناس: ـ جندي خان آمره..!! سيلفقون علي حكايات الغرام والغزل،قلت مع نفسي،سيرميني الآمر بطلقة من مسدسه ويلقيني طعاماً بشرياً لكلابه،أخرجتها،أخرجت سيدتي المبللة،تحايلت سيدتي الجميلة،ظلّت ملتصقة بي،تأوهت: ـ أحملني إلى السيارة..!! قلت مع نفسي،السيارة بعيدة، عيناها تتوسلان،وأنا جندي خدمة،جلبني الآمر لمراعاة أغنامه،حملتها مكرهاً،مشيت بسرعة كي أصل دون أن يراني أحد،تأوهت: ـ أرجوك لا تسرع،أنا أتألم..!! ماكرة هي سيدتي المبللة الجميلة،عيناها تقولان هذا،عيناها واسعتان،مشعتان،تفصحان عن شر قادم،مشيت كما أرادت،على خبب،أمشي بخطوات قصيرة،أمشي كي لا يتعكر مزاج المرأة الجميلة في المهد،أقصد(حضني)،وصلنا السيارة،هي في(حضني)مثل طفل صغير عليل،أنزلتها..قالت: ـ سق السيارة وأوصلني إلى البيت..!! قلت: ـ لا أعرف سوى سياقة البغال والعربات اليدوية،وحمل الأشياء الثقيلة..!! قالت: ـ أحملني إلى البيت،أرجوك..!! قلت: ـ لا يصح هذا..!! قالت: لم لا يصح هذا..!! قلت: ـ أنت..أنت.. جـ..ـمـ..ـيـ..ـلـ..ـة..!! قالت: ـ أحقاً ما تقول أم تمزح..!! قلت: ـ المشي يفيدك،ستستعيدين نشاطك..!! قالت: ـ أحملني أرجوك..!! مكرهاً خائفاً حملتهاً،أرتعش وأتعثر في مشيي،الشمس في السمت،حان وقت إطعام القطيع الثاغي،حان موعد سقيها،هي جائعة وعطشانة،السيدة الجميلة المبللة عليلة،هي تدّعي عليلة،مرتاحة في(حضني)،أرادت أن تقفز عبر النهر،أسقطت نفسها في الماء،خائفاً أمشي،خائفاً من عين ترانا،حملي ليس بثقيل،حمل المرأة الجميلة،حمل المرأة المبللة،مثل حمل قشّة،مثل حمل وردة يانعة فوّاحة،مثل حمل ريشة ملونة ملتصقة بالقبّعة،مشيت مسافة نصف ساعة،هي تتأوه في حضني،تضغط برأسها على صدري،مبللة الثياب،تخالسني نظرات ماكرة،متناومة تبدو،تفتح عن سوادين في بياضين،مركبين في بحري حليب،قلت مع نفسي،لا فرق بين الأثنين،لا فرق بينها وبين من أرادت أن تغويني،سيدتي تشبه تلك المرأة بائعة اللبن والقيمر والبيض،كلهن متشابهات في اللذة،لهن نفس المكر والخديعة،سيدتي بيضاء،بائعة اللبن والقيمر سمراء،نساء العالم الثالث لهن نفس الرغبات،يمتلكن نفس العقل،نفس الوسائل التدميرية،نساء مسكينات،محرومات،متروكات،قلت وأنا امشي وهي في(حضني)،تلك المسكينة قروية محرومة،امرأة طلّقها زوجها لأنها لم تنجب،رجال القرية يريدون نساء ولودات،يريدون أطفال كالنمل،طلّقها وتركها وحدانية في زمن يكثر فيها الرغبات،يكثر فيها الشهوات،سردت لي كيف طلّقها،رماها إلى الشارع، تركها تستنجد بنساء القرية،قدّمن لها العون،صارت تأتي بلبنهن وحليبهن وقيمرهن وبيضهن كي تبيعها في البلدة،تعود لتعطيهن المال،هذه المتناومة بين احضاني،ليست مرمية،ليست سمراء،هي بيضاء،تملك سيّارة وحقول بلا حدود،ماذا جرى للعالم،قلت مع نفسي،أنتِ ماذا فيكِ،يبدو عليك بنت اصول،لك زوج جيش من الجنود والضباط يرتعدون حين يطل عليهم،قلت مع نفسي وأنا أمشي وهي في حضني مرتاحة،رغبتها كما تقول عيناها أن يستمر مشيي إلى نهاية العالم،إلى نهاية التاريخ،إلى نهاية الحياة،رغبات النساء لا حدود لها،نساء العالم الثالث،لا شيء يملكن سوى اللذة،اللذة الباردة،اللذة اللاحسّية،نساء العالم الغربي يردن لذة حسّية،يردن المتعة إلى أقصى درجات النشوة،المرأة الجميلة الناعمة المبللة،ترغب أن يختفي بيتها وأظل أمشي بها بحثاً عن بيتها،أمشي قروناً،أمشي بلا توقف،هي مرتاحة،أنا أقشعر من الخوف،كلما أخطو خطوة،ترتجف أوصالي،سيراني أحدهم،لابد أن يراني أحدهم،لساني يهذي،هي تخالسني النظر،أتجاهل نظراتها الوقحة،أقول مع نفسي،كل هذا الفردوس الأرضي،سيّارة آخر موديل،جمال ومال،زوج وولد،لم تنحدرين يا جميلة،وصلنا البيت،خشيت أن يخرج ابنها،ابنها الذي جلب لي الملابس والطعام اللذيذ قبل يوم،وقفت بالباب،مدّت يدها وهي في حضني،ضغطت زر الجرس،خرجت امرأة أخرى،امرأة لا تقل جمالاً،لابسة ملابس قصيرة،فالة شعرها،بيدها مشط خشبي تنثر شعرها بأسنان المشط الخشبي،في فمها علكة،أسنانها بييض،تطقطق العلكة(طق..طق)،بالون يندلق من ثغرها الأحمر،بالون يكبر،هي تنفخ،(طاق)ينفلق البالون،بالون آخر يتبع،عيناها لا تستحيان،فتحت درفتي الباب..صاحت: ـ ماذا جرى لسيدتي..!! (طق..طق)العلكة في فمها تطقطق..قلت: ـ زلّت قدماها وسقطت في النهر..!! تقدمتنا إلى غرفة مؤثثة جميلة،وضعتها على سرير وثير،فتحت عينيها،عيناها صافيتان كبدر التشريق،فتحت ثغرها،أسنانها بييض كعاج الفيل،وجدت في عينيها صرخة نادرة،صرخة شهوة صريحة..قلت: ـ حان وقت إطعام القطيع،حان وقت إسقاءها،أنا ذاهب..!! مسكت معصمي..قالت: ـ ابق إلى جانبي..!! قلت: ـ القطيع..!! قاطعتني: ـ سأرسل الخادمة لإطعامها..!! سحبت نفسي وتقدمت إلى الباب،وجدت الباب مقفلاً من الخارج،شعرت بمؤامرة محبوكة من قبل امرأتين يعيشان في قصر كبير،التفت وجدت المرأة تبتسم..قالت: تعال قربي..!! قلت: ـ سيدتي لايجوز هذا..!! قالت: ـ إن ترفض مطلبي سأخبر سيدك الآمر بأنك داهمت غرفة نومنا،الخادمة ستشهد على ما أردت أن تفعله معي بالقوة..!! تذكرت قصة امرأة قديمة،امرأة ظلّ(الملاّ)يحكي قصتها،ذلك(الملاّ)الذي رحل بعدما فاجأه شاب عند الفجر ووضع المسدس في رأسه،كل يوم جمعة،يحكي عن نساء اليوم بعصبية ويسرد تلك القصة القديمة،أنا أصغي من مكاني،جالساً قرب عربتي أمام الجامع،امرأة أرادت من(نبي)من أنبياء الله أن يفعل ما امرته أن يفعل،رفض (النبي)،سجنته عقاباً لإمتناعه تلبية رغبتها،تعوذت من الشيطان،في تلك اللحظة سمعت صوت سيارة،زمّرت في الباب الخارجي للقصر،قامت المرأة من السرير على عجل،تقدمت وفتحت لي الباب،خرجت وهي غاضبة وضامرة في نفسها لي شراً مستطيراً يتطاير شرره من عينيها،وجدت الولد الذي جلب لي الملابس والطعام اللذيذ في سيارته،أخرج رأسه بعدما أنزل الزجاجة الجانبية في شماله..صاح: ـ هلوووو عمووووو..!! ابتسمت بوجهه،مشيت إلى محل اقامتي،قالت بصوت مخنوق: ـ ستنال عقابك لاحقاً..!! مشيت أتعثر وأنحني تخلصاً من الأفنان المتهدلة،باغتتني المرأة التي فتحت لي الباب وأدخلتني وأنا أحمل السيدة..قالت: ـ سأزورك غداً،تهيأ لزيارتي.!! بصقت على الأرض،تعوذت من الشيطان الذي لا يترك البشر،مضيت وأنا أتعثر وأنحني وصلت غرفتي،وجدت الأغنام خالدة للنوم،عرفت أن المؤامرة حيكت بمهارة وشطارة،لابد أن المرأة التي باغتتني في طريقي هي من أطعمت الأغنام،أطعمتها وأسقتها،لم تظهر السيدة ولا المرأة مرة ثانية طيلة اسبوعين،تفاجأت بصوت سيّارة في اليوم الخامس عشر من يوم المؤامرة،خرجت خائفاً،وجدت سيدي الآمر في السيارة،وقفت وأدّيت له التحية..قال: ـ أنت في الحقل ليس في الوحدة العسكرية..!! رافقني وأطلّع على الأغنام،مضى وتركني في حيرة من أمري،جلست افكر في قضيتي،قلت لابد أن المرأتين ستأتيان ثانية بعد ذهاب سيدي الآمر لإنتهاء اجازته،في تلك الليلة،جاءت سيّارات حمل كبيرة،نزل رجال وبدؤا يحملون الأغنام،الآمر يقف مع رجال ملثمين،تحركت السيارات وهي تأخذ مئات الرؤوس من الأغنام،في تلك الليلة لم انم،بدأت أفكر بجدية حول مصيري،أحرس وأطعم أغنام تأتي بالمئات وتختفي في لمح البصر،مضى سيدي الآمر إلى الجبهة،بقيت وحيداً،قلت لنفسي لن أرافق السيدة إذا جاءت وطلبت مني أن أرافقها،مرّت أيام دون أن أرى أحد،في اليوم السادس داهم المزرعة رجال مخيفين،رجال يلبسون ملابس زيتونية،بيدهم أسلحة غريبة،سياراتهم سود،فتشوا المكان،اخذوني معهم،وضعوني في سجن مظلم،بعد يومين من الجوع والعطش،أخرجوني وأوقفوني أمام رجل أبيض الوجه،يبدو أنه لم ير الشمس..قال: ـ أين هو..!! قلت: ـ من حضرة السيد..!! قال: ـ سيدك المحترم..!! قلت: ـ لم أره منذ أسبوع..!! قال: ـ ماهو عملك عنده..!! قلت: ـ أنا جندي في وحدته نقلني إلى حقله لرعاية أغنامه،أنا جندي أطيع الآوامر..!! هز راسه..قال: ـ ألم تعرف ما الذي يجري في المزرعة..!! قلت: ـ ياسيد أنا راعي وأطعم الأغنام..!! قال: ـ لا تتغابى..!! قلت: ـ أنا أرى فقط أغنام تأتي وأغنام تذهب..!! قال: ـ من هم الذين يأتون ويأخذون الأغنام..!! قلت: ـ ملثمون..!! أخذوني إلى زنزانتي،بقيت شهرين آخرين قبل أن تأتي مركبة وتنقلني إلى معسكر للتسفيرات،ومن معسكر التسفيرات إلى وحدتي العسكرية،بقيت أسبوعاً قبل أن أنال أجازة أمدها أربعة أيّام،لم أجد سيدي الآمر في غرفته،سمعت من الجنود أنه مهرِّب كبير،يهرِّب قطيع الأغنام بالتعاون مع فئات مسلحة إلى الخارج،تم ضط شحنة مهربة،خمس شاحنات،تذكرت تلك الليلة التي وقفت الشاحنات الخمس أمام حضيرة الأغنام،هرب سيدي الآمر وصار خارج الحدود،اختفت زوجته والمرأة التي باغتتني في منتصف دربي إلى غرفتي وأرادت منّي أن أكن معها في المرة القادمة،عدت في تلك الإجازة،وجدت الكثير من الشباب يهربون من الخدمة العسكرية، صارت الحرب تلتهم الشباب،الناس منشغلون بتطور الأحداث وبالغلاء المستشري في أسعار المنتجات النفطية، فساد يعصف بالدوائر الحكومية،هكذا هو العالم الثالث،عالم النفط والمعادن الغنية،عالم الذهب والكبريت والفوسفات والزئبق الأحمر،عالم غني وناسه فقراء،في العالم الثالث تتفشى ظاهرة الفساد،صارت الناس تتلون، الوجوه ما عادت تحمل بصمات الفرح والبراءة،ناس جدد،وجوههم لا تشبه وجوه الناس قبل سنوات قليلة، القطار متوقف،لجنة عسكرية كبيرة جاءت ومعها معدات ثقيلة،قامت بتقطيع القاطرات وعرباتها،قامت بخلع قضبان السكك ونقلها إلى جهات مجهولة،قضبان تمتد إلى آلاف الكيلومترات بين مدن ترتبط بالمركز (جلبلاء)،ناس أكابر،يلبسون ملابس زيتونية،يضعون نظارات سوود على أعينهم،الناس لا تقترب منهم،يحملون أطنان الحديد ويمضون،ناداني أحدهم..قال: ـ تعال وأعمل معنا..!! وجد طولي يناسب عملهم،وجدتها فرصة مثالية للعمل وفرصة نادرة للتخلص من ملاحقات الوشاة وعيون الباحثين عن الهاربين لعدامهم في الساحات العامة،خالوني أنا معهم،أعطوني طعاماً لذيذاً،أحمل لهم القضبان وأضعها في شاحنات ترحل،استمر العمل لشهرين وخمسة أيام،ذهبوا،سألني شخص واشي: ـ لم لم تلتحق بوحدتك..!! أخرجت له ورقة من جيبي،ورقة طلبتها من ضابط كبير يشرف على عملية تقطيع ونقل الحديد..قلت له: ـ أنا عسكري وأحتاج إلى إجازة لكي أعمل معكم..!! أخرج ورقة ذهبية،عليها شعار(الجمهورية)،كتب فيها(مجاز من قبل دائرتنا لمدة ستة أشهر)،ذهل الواشي وأنسحب من أمامي،بعد مرور أيام جاءت مركبة طويلة،نزل مسلّحون أمامي،اقتادوني مرة أخرى إلى زنزانة بعيدة،بعد أسابيع تم أستجوابي،سألوني عن الجهة التي عملت معهم..قلت: ـ ناس برتب عالية لا أعرفهم نادوني وأجبروني أن أعمل معهم..!! أخرجت لهم ورقة الإجازة الممنوحة لي،بقيت ثلاثة أشهر في الزنزانة، بعد يومين آخرين تم نقلي إلى معسكر للتسفيرات العسكرية،أرجعوني إلى وحدتي،عرفت أن العسكريين الكبار،سرّاق من طراز عالي،لبسوا ملابس عسكرية مرتبة وحملوا رتب عالية،وزوّروا أوراق رسمية وقاموا بسرقة سكك الحديد الممتد من بلدة(جلبلاء) وحتى ثلاث مدن كبيرة،مئات من الكيلومترات،تم خلعها وسرقتها في وضح النهار،سلطة البلاد نائمة في قمقمها،تلك هي مهرجانات العالم الثالث،الحكّام منشغلون في قصورهم،الناس تهذي في الشوارع،عصابات تحتال وتسرق،والفقراء هم الضحايا،عدت في أجازتي الدورية،اتخذت قراري النهائي أن أهرب من خدمة الإحتياط،وجدت الناس تستولي على أراضي عائدة للدولة،ناس لا ترحم كل شبر متروك،مزابل يزيحونها،مجاري مياه يسدونها،غرف لدوائر حكومية مهدمة يعيدونها للسكن،الفندق الذي سكنت فيه،صار غالياً،ليس بوسعي تأجير غرفة مكلفة في زمن يختفي فيه النقود،خرجت ابحث عن بقعة مهملة،وجدت غرفة دورة مياه لدائرة السكك المنهوبة،غرفة لم يدنو منها أحد،غرفة مليئة بالقاذورات،حولها مزبلة كبيرة،بدأت أزيح ركام المزابل، اجمعها واشعل النار فيها،وجدت صبيان يندفعون معي،الصبيان تجذبهم النيران،صبيان العالم الثالث لهم روح ثورية في التعاون،تجذبهم المهرجانات الأفراحية والجنائزية،احرقنا المزبلة الكبرى،نظفت الغرفة،كنستها ومسحت جدرانها،عملت النيران على تطهيرها من الروائح،اشتريت قفلاً وما تيسر لي من منام بسيط،سكنتها ووجدت نفسي عائداً برغبة كبيرة لمهنة جدي القديمة،مهنة الرزق الحلال..!! *** أيامنا هي هي،حياتنا تنحدر،نخرج مع الفجر،نعود في الغروب،نكد من أجل لقمة عيش،مضت أيامي،مضت على وتيرة ثابتة،عمل يسير مقابل جهد كبير،قبل أن تباغتني البنت الصغيرة،بنت تمشي تحت المطر،مبللة الثوب،تتلفت يمنة ويسرة،وجدتها تستحق المغامرة،شيء ما دفعني،شيء عنيد وغريب،وقفت أمامها،وقفت تنظر في عيني،واصل المطر غسلنا،واصلت النظرات غسلنا،واصلت الثغور تلبيسنا أثواب الغيرة والحسد والمزاح،تلاحمنا أمام العيون، تلاقينا بين النساء،جاءتني هاربة،أعلنت عليها زواجي ووافقت على ذلك برغبة صادقة..!! ***
#تحسين_كرمياني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بعل الغجريّة..(رواية)9
-
بعل الغجريّة..رواية)8
-
بعل الغجريّة..(رواية)7
-
بعل الغجريّة(رواية)5
-
بعل الغجريّة..(رواية)6
-
بعل الغجريّة..(رواية)3
-
بعل الغجريّة..رواية/4
-
بعل الغجريّة..رواية(2)
-
بعل الغجريّة..رواية(1)
-
حكاية عبّاس
-
ثلاث قصص قصيرة
-
السكن في البيت الأبيض
-
ونثرنا ضمائرنا على الجدران//قصة قصيرة
-
بجلطة شعريّة..مات بطل رواية(نافذة العنكبوت)
-
الأتفاقية الأمنية بين مطرقة أمريكا وسندان الفوضى
-
أنا كاتب تلك الفصة
-
شيء ما يحدث
-
لحظة فقد ذاكرته
-
أنا كاتب تلك القصة
-
في حدثين منفصلين
المزيد.....
-
انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
-
مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب
...
-
فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو
...
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|