تعد الترجمة من أهم وسائل الانتقال الفكري والمعرفي بين مختلف شعوب العالم وعلى مر العصور. وكان من أهم أسباب تقدم العرب وتطورهم في عصر السيادة العربية الإسلامية ، قيامهم بالتعرف إلى الحضارات التي سبقتهم بواسطة الترجمة والتعريب . فوضعوا المصطلحات العلمية ، وتمكنوا من الانتقال من استيعاب العلوم وتوظيفها إلى تطويرها والإبداع فيها . وقد سعت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (اليكسو ) للحصول على البيانات العلمية الموثقة حول حركة الترجمة في الوطن العربي . ثم تبنت المنظمة في عام 1978 اقتراحاً سوريا لوضع برنامج عربي لترجمة أبرز الكتب الأجنبية في مختلف المعارف والعلوم الحديثة . وأوصت بإعداد قوائم ببليوغرافية بما أنجزت الدول العربية في ترجمة المعارف وفي عام 1979 وافقت المنظمة على مشروع اقتراح ليبي بضرورة الاهتمام بالترجمة في الوطن العربي .
الترجمة بوصفها نقلاً للأفكار والمعاني والمعارف والعلوم المختلفة من لغة إلى أخري قديمة قدم المجتمعات البشرية، وُجدت في تل العمارنة بمدينة المنيا 600 لوحة من الخزف المحروق مكتوبة باللغة الاكادية وبالخط المسماري وظهرت الترجمة الثقافية - موضوع هذا الكتاب - في المجتمعات المستقرة. ولعل أول حركة ترجمة واسعة ومنظمة هي التي بدأت عند العرب زمن الدولة الأموية، ثم نشطت في العصر العباسي وتميزت الفترة العباسية بتعدد مصادرها من يونانية وفارسية وهندية بتنظيم وإشراف من الدولة فأنشأ المنصور ديواناً للترجمة ثم تلاه المأمون بإنشاء بيت الحكمة. والترجمة ليست ترفاً فكرياً أو متعة ذهنية إنما هي وسيلة لبناء مجتمع أصيل ومنفتح علي الفكر البشري في الوقت نفسه. لكن واقع الترجمة في الوطن العربي يعكس جملة ملاحظات حول طرفي العملية الثقافية وهما المترجم والمترجم (بكسر الراء وفتحها على التوالي). أول الملاحظـات إن اختيار الكتاب المترجم مشوب بالمغامرة لعدم استناده علي أسس موضوعية ولأنه مرهون بالصدفة أو المزاج أو تزكية الآخرين وعدم التوازن بين المعارف المختلفة والتفاوت الكبير في عدد الكتب بين قطر وآخر، وبما إن المترجم هو حامل الرسالة الثاني بعد المؤلف كان لا بد من إتقان اللغة العربية صرفاً ونحواً وتعبيراً ويفضل إتقان لغتين أجنبيتين لتكون خياراته أوسع وان يكون مختصاً بالموضوع المترجم والترجمة معرفة وممارسة لذلك فإن الباحث يدعو إلى جملة مبادئ منشطة للترجمة مثل إنشاء معاهد للترجمة وربط للمترجمين بجمعيات ورعاية حقوقهم القانونية والتشريعية والاهتمام بتحسين اللغة العربية واحدي اللغات الأجنبية في المرحلة قبل الجامعية ودعم مراكز تنسيق التعريب وحثها علي إصدار مصطلحات علمية وأدبية كما تقر في مؤتمرات التعريب الدورية.
وتكتسب الترجمة مكانة هامة في التعاون البحثي في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية بين
العرب وأوروبا للأسباب التالية :
1 ـ الترجمة محرض ثقافي يفعل فعل الخميرة الحفازة في التفاعلات الكيماوية إذ تقدم الأرضية المناسبة التي يمكن للمبدع والباحث والعالم أن يقف عليها ومن ثم ينطلق إلى عوالم جديدة ويبدع فيها ويبتكر ويخترع .
2 ـ تجسر الترجمة الهوة القائمة بين الشعوب الأرفع حضارة والشعوب الأدنى حضارة .
3 ـ الترجمة هي الوسيلة الأساسية للتعريف بالعلوم والتكنولوجيا ونقلها وتوطينها .
4 ـ الترجمة عنصر أساسي في عملية التربية والتعليم والبحث العلمي .
5 ـ الترجمة هي الأداة التي يمكننا عن طريقها مواكبة الحركة الثقافية والفكرية في العالم .
كما أن الترجمة وسيلة لإغناء اللغة وتطويرها وعصرنتها . ولا ننسى بوشكين شاعر روسيا
العظيم حين قال: ( المترجمون خيول بريد التنوير ) .
لقد أدرك العرب وبخاصة في مصر ولبنان وسورية ، منذ وقت مبكر ، أهمية الترجمة والنقل في العلاقات العربية ـ الأوروبية فتوسعوا في جميع مجالاتها من فكر وتاريخ وفلسفة ومسرح ورواية وكتب دينية وعلمية واقتصادية وغيرها . وبذلك كانت الساحة اللبنانية إلى جانب مصر وسورية ، من أنشط الساحات العربية في مجال الانتقال الفكري والمعرفي بين أوروبا والدول العربية عن طريق الترجمة.
وقد دل إحصاء قامت به المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم أن عدد الكتب التي تم ترجمتها إلى اللغة العربية خلال الفترة 1970 ـ 1981 قد وصل إلى نحو 2840 كتابا ، واحتلت مصر المرتبة الأولى فبلغ عدد الكتب التي تمت ترجمتها فيها 1748 يليها الجمهورية العربية السورية 442 واحتلت العراق المرتبة الثالثة 238 يليها لبنان 152 كتابا .
عدد الكتب التي ترجمت إلى اللغة العربية خلال الفترة 1970 ـ 1981
مصر 1758 الأردن 22 تونس 4
سورية 442 الجزائر 14 قطر 3
العراق 258 السودان 9 المغرب 2
لبنان 152 السعودية 7 الإمارات 3
الكويت 95 عمان 5 فلسطين 5
ليبيا 44 مجموع الدول العربية 2840
وحول تعريب العلوم نجد أن القطر السوري هو الوحيد الذي يعتمد فيه التعليم علي العربية في كل المراحل التعليمية. وثمة أقطار أخري تسلك الطريق ذاته وتشير الإحصاءات إلى أن التعليم مجدٍ أكثر باللغة الأم ويؤكد الباحث قدرة اللغة العربية علي استيعاب معطيات العلوم فثمة طرائق عديدة لوضع المقابل العربي للمصطلح العلمي منها الاشتقاق ويكون بنزع كلمة من أخري بشرط توفر التناسب في اللفظ والمعني (مبذر من بذر ومتحف من الإتحاف...) والمجاز وهو استعمال اللفظ في غير ما وضع له مع قرينة تمنع من إرادة المعني الأصلي فالطيارة في الأصل تدل علي الفرس الشديدة والسيارة تدل علي القافلة ولكنهما صلحتا للدلالة علي الآليتين الحديثتين. والطريقة الثالثة هي النحت وهو انتزاع كلمتين أو أكثر مثل برمائي من بري مائي وذلك قياساً علي البسملة والحوقلة في المأثور. والطريقة الرابعة هي التعريب وهو لفظ الكلمة الأجنبية علي الطريقة العربية فقديماً قيل السوسن والبلور والفلسفة وحديثاً الفيلم والترام والسينما. وثمة إشكاليات للمصطلح العلمي أولها التخلف الزمني في وضع المقابل العربي إذ غالباً ما يشيع المصطلح الأجنبي وكان أحمد فارس الشدياق وإبراهيم اليازجي من أوائل المبادرين المعاصرين إلى وضع المصطلحات المقابلة. وثاني هذه الإشكاليات هو تعدد المقابل العربي تجاه الأجنبي فعلي سبيل المثال مقابل كلمة ferine الفرنسية نجد المكبح والكابحة والمسك واللجام والفرملة والفـران ولا يزال جهاز تنسيق المصطلح الذي أنشئ عام 1961 متأخراً عن واجباته.
ولا يخفى أن الترجمة من لغة إلى لغة ، وخلق نوع من المثاقفة بينها من شأنه أن يسهم إسهاماً كبيراً في التقريب بين الشعوب والأمم . وهذا يؤدي بدوره إلى تواصل المجتمعات والى قطع عزلتها بعضها عن بعض . وفي هذا نفع لكل البشر ، إذ أن العبقريات وهي نادرة جداً ، تكف عن أن تكون ملكاً خاصاً لشعب من الشعوب ، بل تصبح ملكاً مشاعاً للبشرية كلها عندما ترى النور . إن التعاون البحثي في مجال العلوم الإنسانية بين الجامعات العربية والأوربية يجب أن يساند هذا الاتجاه في تنمية وتطوير عملية الترجمة في الاتجاهين لما فيه نفع الطرفين .
يبدو أن دور الترجمة في مسيرة التعاون البحثي بين الجامعات الأوروبية والجامعات العربية مازال ضعيفاً جداً ، عدا بعض الاستثناءات ، خاصة أن العديد من أعضاء هيئة التدريس في الجامعات قادرون على القيام بهذه المهمة وبخاصة أولئك الذين درسوا في الدول الأوروبية وحصلوا منها على درجة الماجستير والدكتوراه . والترجمة تنتج لنا ما نحتاج إليه من مراجع وكتب وبخاصة في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية ، وتوفر لأعضاء هيئة التدريس الذين يعانون من ضعف باللغات الأجنبية العالمية الانتشار ( الإنكليزية الفرنسية ) المراجع البحثية المطلوبة . واقترح هنا أن تقوم المؤسسات والمراكز البحثية العربية والمراكز البحثية الأوروبية ببرامج للترجمة يشترك فيها العرب والأوروبيون تؤدي إلى تسهيل عملية الترجمة . وقد يكون من الأجدى تكوين جمعية عربية أوروبية للترجمة الأكاديمية في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية ، لتشجيع حركة الترجمة والتعاون البحثي بين الجامعات العربية والأوروبية . كذلك لابد من حصر الكتب المترجمة من قبل الجامعيين في الجامعات الأوروبية والعربية من اللغة العربية إلى اللغات الأوروبية أو من اللغات الأوروبية إلى العربية . كما لابد من وضع خطة لرفع مستوى التدريس باللغة العربية وبخاصة في مراحل التعليم الأولى دراسة وتدريساً ومناهج .
الدكتور مصطفى العبد الله الكفري
جامعة دمشق – كلية الاقتصاد
[email protected]