|
ظرفاء الإنترنت ومقامات بديع الزمان
توفيق أبو شومر
الحوار المتمدن-العدد: 2484 - 2008 / 12 / 3 - 09:43
المحور:
كتابات ساخرة
كتبتُ ذات مرة عن نصابي شبكة الإنترنت ، غير أنني أدركتُ بعدئذٍ بأنهم ليسوا نصابين أفَّاقين كما كنتُ أظنُّ ، بل هم مبدعون ، يصلحون أن يحصلوا على جوائز عالمية في فن ابتداع القصص التي تلائم كل اسم من الأسماء، كما أنهم ليسوا مبدعين فقط ، بل خبراءُ في اللغات والأديان ، يعرفون انتماءات (ضحاياهم) وفق أسمائهم، وما تحمله الشبكةُ من معلوماتٍ عنهم . ومن الأشياء التي استخلصتها من مطبخهم الإبداعي، أنهم يستخدمون ما يستخدمه القصّاص البارع في فن القص ، وهو المقدمة والعرضُ والتشويق والخاتمة ، ويستخدمون ما يسميه الروائيون التقليديون العقدة، وفيها تبلغ القصة ذروتها حيث لا يستطيعُ القاريْ الفكاك من أسر المبدع والروائي، فيكمل الرواية حتى آخرِها . وقد أحسنتْ شركة الياهو، في أنها جعلت لكل بريد سلةَ قمامة، يمكن أن يُلقي فيها صاحبُ البريد نفاياتِ الرسائل، التي ترد في الغالب من جهة معينة ، ومنحتْ صاحب البريد أيضا سلطةَ إغلاق بريده في وجه عدد من العناوين التي لا يرغب فيها . وعلى الرغم من كل هذه الإجراءات إلا أن هناك طرقا عديدة يستخدمها (مبدعو القصص) للتحايل على الشركة ، لأنهم ببساطة يسافرون ويتنقلون في الهواء، وهم جالسون في أماكنهم ،حيث لا سلطة لأحد عليهم ، وهم أيضا بالإضافة إلى إبداعهم خبراء ممتازون في طرق الاتصالات ، وفنون اختيار العناوين . وحيث أنهم ظلوا يحاولون معي بصيغٍ غير محددة بدؤوها بألفاظ عزيزي ثم صديقي ، ثم لقد فاز بريدك، ثم اتصل فورا ، وبعد أن فشلوا في كل تلك الصيغ ، لجأوا لحيلة أخرى أكثر ذكاءً ، وهي أنهم واظبوا على مراسلتي بأسماء فتيات لإغرائي، وحين لم يُفلحوا أيضا استعانوا بخبراتهم الطويلة في مجال الأسماء، فاكتشفوا بأن اسمي لن يكون إلا عربيا مسلما ، فشرعوا في إعداد الخطط التي تلائم هذا الاكتشاف ، فكانوا يعنونون رسائلهم بصيغة السلام عليكم . وقررتُ أن أقوم بمتابعة ودراسة ظاهرة المبدعين الظرفاء في شبكة الإنترنت ، وقررت أن أقضي وقتا طويلا في اختيار عشرات الرسائل التي وصلتني لأدرس ظاهرة المبدعين الظرفاء من نصَّابي شبكة الإنترنت ، آسف من ظرفاء الشبكة ومبدعيها !!. وجدتُ في بريدي مجموعة كبيرة من الرسائل تتشابه في ألفاظها ومدلولاتها ، وأظن بأنها لنفس عصبة المبدعين الظرفاء. وإليكم ترجمة لواحدة من القصص وسأضع لكم الكلمات التي توقَّفتُ عندها لما تحمل من إبداعات ظريفة بين قوسين، مع العلم بأن كل ألفاظ الرسالة تستحقُّ أن تكون بين أقواس . كنتُ أتوقفُ عند كل كلمةٍ منها وأبتسمُ إعجابا بهذا الظُّرف : " السلام عليكم ، أنا السيدة منى حبيب من جنوب إفريقية ، تزوجتُ (الحاج) حبيب ناصر ، وكان قبل (وفاته) تاجرَ آثار كبيرا في ساحل العاج ، واستمر زواجنا إحدى عشرة سنة، و(لم نُرزق بأطفال) ، (مات) فجأة وبما أننا مسلمان مخلصان ، قرَّرتُ ألا (أتزوج) أو أن أحصل على طفل غير شرعي خارج العلاقة الزوجية لأن (القرآن) يُحرم ذلك . وقد أودع زوجي قبل وفاته (3,5) مليون دولار في أحد بنوك أبيدجان عاصمة ساحل العاج. وأخيرا أبلغني الطبيب بأنني مصابةٌ بمرض السرطان الخطير( عافاكم الله) لذلك فقد قررتُ أن (أمنح) هذا المبلغ لمؤسسة إسلامية ، أو (لشخصٍ كريم) مثلكم بشرط أن يكون ثقةً، بحيث يوظِّف هذا المبلغ (المتواضع)لمصلحة الأيتام والمشردين ولبناء المستشفيات والمدارس . وأعلمك بأن أقارب زوجي ليسوا ( مسلمين) وأنا لا أرغب في منح أموال زوجي المسلم (لغير) المؤمنين المسلمين، لأنهم سيُنفقونها فيما ( لا يُرضي ) الله لذا فقد قررتُ أن أتصل (بسيادتكم )، وأبلغكم بأنني لا أخشى الموت، لأنني أعرف بأن خاتمتي في (جنة الخُلد) التي وصفها اللهُ سبحانه في (سورة ياسين) . وأخبركَ بأنني (أعتذرُ )عن (المكالمات الهاتفية) ، فمنذ وفاة زوجي وأنا (محاطةٌ بأقاربه) ، لا أتمكن من الانفراد ، كما أنني (لا أرغب) في إبلاغهم برغبتي ، حتى (لا ينتقموا) مني . وحالما أتسلم (ردك) فسوف أبحث معك كيفية تحقيق هذه الرغبة . وأخيرا آملُ أن (تُصلِّي) من أجلي، فالله (هو القادر على كل شيء)، فأنا سعيدة لأنني عشتُ حياتي (كمسلمة) مخلصة. وأبلغك بأن أي (تأخير) في الرد سوف يمنحني الفرصة للبحث عن (مسلمٍ آخر) !! أو مؤسسة إسلامية أخرى للغرض نفسه المخلصة ( المسلمة ) مسز منى حبيب" . القصة السابقة بما فيها من إبداعٍ ظريف تستحق أن تنال جوائز عدة ، لأنها من واقع الاحتراف نجحتْ في إغلاق كل ثغرات الشك التي يمكن أن تتسرب إلى نفس القارئ البسيط ، وهذا في حد ذاته يُعتبر في فن القص التقليدي تفوقا ودليلا على الخبرة ، ويشير كذلك إلى أن كاتب الرسالة السابقة ليس فردا واحدا ، بل عدة أفراد قرؤوها ومحّصوها في معمل إبداعهم الظريف ، وأرسلوها بالطبع إلى مئات العناوين اعتمادا على حواسهم الظريفة ،التي تفترض فرضا صحيحا ، وهو أن هناك صيدا ثمينا في نهاية الأمر لأحد الضحايا ممن سيبتلعون هذا الطُّعم ، يقدم لهم ما يريدون من أرقام الحسابات في البنوك ، ويمكن أن يتمكنوا بهذه القصة من الحصول كذلك على كلمات السر التي تتيح لهم تحويل ما يشاؤون من أموال الضحايا . وهكذا فإنني أدعو نُقَّاد الأدب الذين يُعانون من كسادٍ في مجالات النقد الأدبي المتنوعة ، بسبب الضائقة الإبداعية الناجمة عن انصراف كثير من الناس عن الآداب ، مما أدى إلى كسادٍ عام في مجالات النقد الشعري والروائي وكساد في رسائل الماجستير والدكتوراه الطريفة ، بعد أن أصبحت الحداثة هي الفن الأدبي السائد ، أدعوهم لكي يشرعوا في فتح ملفات هذا الإبداع الجديد ،ويُصنفوه ضمن الإبداع الأدبي لفن المقامات في الأدب العربي ، وهو الذي ظهر لأول مرة في (مقامات بديع الزمان الهمدني ) 969-1008 م. والفنان لا يتشابهان فقط في أنهما يعتمدان القصة كوسيلة أدبية ، بل يتشابهان أيضا في أن المقامات كانت أيضا لغرض (الكُدية) أو ( الاستجداء) وكان صاحبها يتخفّى في ملابس رثة ، ويسردها في المجالس للحصول على المال ، كما أن بديع الزمان كان مشهورا في ارتجال الشعر وابتداع القصص بسرعة لا تماثلها سرعة ، وله كتاب كبير في فن الرسائل في كل الموضوعات وأبرزها رسائل الاستجداء والتسوُّل . كما أنني أضعُ هذا الفن الظريف أمام الباحثين في الجامعات ، ليقارنوا بين النمطين الأدبيين ،وأنا واثقٌ بأنهم سيجدون قواسمَ مشتركةً بين الإبداعين، الرواية الظريفة في شبكة الإنترنت، وفن المقامات في الأدب العربي . آه لو كان لبديع الزمان ، والمويلحي شبكة إنترنت ، فإن أدبنا العربي كان سيصبح أغنى أدبٍ في الفكاهة والمرح والخيال الظريف !
#توفيق_أبو_شومر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أولمرت وموسم السياحة الحزبية في إسرائيل
-
إدمان الولاء للحاكم
-
مصطلحات إعلامية إسرائيلية ساحرة !
-
مسكين باراك أوباما
-
مجزرة الأسهم في قلعة النيكي والنازداك
-
فاتنات السياسة
-
تجارة الرقيق في الألفية الثالثة
-
مرتبات القطط السمينة والأزمة المالية العالمية
-
تسفي ليفني في الدين اليهودي
-
أسمهان ونابليون الحكيم
-
مزايا وأفضال الهاتف الجوّال
-
هل يُسجن أولمرت كما سُجن أرييه درعي ؟
-
أنواع أقلام الكُتَّاب
-
الرقابة الذاتية عند الصحفيين الفلسطينيين
-
ماذا بقي من اليسار الفلسطيني؟
-
موسم القحط الثقافي
-
بذرة خضراء.. آخر أُمنيات محمود درويش
-
الفضائيات والتلوُّث العقلي
-
هل تبخَّر اليسارُ الإسرائيلي ؟
-
نصائح للراغبين في ركوب قطار العولمة !
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط
/ سامى لبيب
-
وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4)
...
/ غياث المرزوق
-
التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت
/ محمد فشفاشي
-
سَلَامُ ليَـــــالِيك
/ مزوار محمد سعيد
-
سور الأزبكية : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
مقامات الكيلاني
/ ماجد هاشم كيلاني
-
االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب
/ سامي عبدالعال
-
تخاريف
/ أيمن زهري
-
البنطلون لأ
/ خالد ابوعليو
-
مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل
/ نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم
المزيد.....
|