يرتدي الذهاب إلى مومباي في الهند أهميةً خاصة: فهو يعني، على الصعيد الشخصي، الانتقال من حضارةٍ إلى أخرى، مختلفة بصورةٍ جذرية، يجد المرء نفسه بعيداً عنها أكثر من بعده عن الحضارة الغربية على سبيل المثال، وذلك بسبب الجهل لا أكثر.
وهو يعني، على صعيد حركة الناشطين هنا، الانتقال من التواصل غير المباشر الذي تتيحه وسائل الاتصال الحديثة مع أفراد ومنظمات علاقتها بهم شبه افتراضية، إلى تواصلٍ مباشر معهم، لكن كذلك مع غيرهم من الأفراد الذين يحاول المرء أن يسبر غورهم ويحاول جاهداً تلمّس طبيعتهم وطريقة تفكيرهم. مَنْ منهم يمثل حركة اجتماعية، أو منظمة مجتمع مدني، وماذا عن هذه المنظمة؟ هل لها وجود حقاً على أرض الواقع، أم هي مجرد حبر على ورق؟
وحين يكون المرء وحده، تقع عليه مسؤوليةٌ مضاعفة عدة مرات. فأياً من الندوات يحضر؟ وما هو معيار الأولويات حين تتجاوز الندوات والمحاضرات وورشات العمل وغيرها 1200 نشاط خلال ستة أيام؟ ناهيك عن النشاطات الفنية والثقافية. تتنازع المرء الأفكار، فيحاول التوفيق – فاشلاً في معظم الأحيان – بين أولوياته وأولويات المجموعة التي يمثلها، فتتغلّب الثانية على الأولى.
بدأ المنتدى الاجتماعي العالمي الرابع في مومباي رسمياً في الخامسة والنصف من بعد ظهر يوم الجمعة 16 كانون الثاني 2004، لكن المرء يكتشف بأنّ الفعاليات قد بدأت قبل ذلك، من لقاءاتٍ تحضيرية وتجمعات، مثل ذلك اللقاء التحضيري الذي عقده ممثلو الحركات الاجتماعية الموجودة في مومباي – سواءً كانت هندية أو جاءت من أرجاء الدنيا كلها، وسواءً كانت مشاركة في فعاليات المنتدى الاجتماعي العالمي، أو في الفعاليات الأخرى المتزامنة مع انعقاده. لقد رغبت الحركات الاجتماعية والشعبية الحفاظ على استقلاليتها عن المنتدى الاجتماعي العالمي، فعقدت اجتماعاتٍ يومية تناقشت فيها حول أوضاعها، وحول الصلات التي تربطها. كما انعكس وجودها هذا العام في الهند في الإعلان الختامي، فأعلنت فيه تأييدها للحركات الاجتماعية الهندية، وعلى رأسها تلك الممثلة للداليت – الذين يعرفون أيضاً بالمنبوذين، والذين كان حضورهم مكثفاً. لكن هناك أيضاً عددٌ كبير من الأقليات المجهولة المقموعة، بسبب لغتها أو دينها أو انتمائها الإثني، أو ببساطة بسبب قلّة عددها. ويجثم خلف الشعارات والمطالبات البؤس الهندي الهائل، وهو بؤس العالم الثالث، لكنّه يتمتّع في حالة الهند بملامح أكثر نوعية. الوضع الذي تعاني منه النساء، اختفاء الفتيات، النقص في التعليم، كثرة عدد المعوقين، إلخ. لقد برزت من خلال هذا المنتدى قوة المنظمات غير الحكومية في الهند، والتي تتخذ في كثيرٍ من الأحيان صبغةً دينية، إذ هي التي أظهرت إلى النور تلك الجروح العميقة في المجتمع الهندي.
تلك المنظمات كانت موجودة خاصةً فيما دعاه لويس ويبر بالمنتدى الثاني، القائم في الطرقات التي تفصل بين الهنغارات الكبيرة والقاعات وخيم التضامن. هذا المنتدى الآخر هو الذي سيبقى على الأرجح الإضافة الأكثر أصالةً التي قدّمتها مومباي لحركة العولمة البديلة. فللمرة الأولى، يبدو للمرء أنّ الحركة قد نجحت في التوسّع إلى ما وراء المجموعات الاجتماعية الأكثر انخراطاً حتى ذلك الحين – الطبقات الوسطى، ذات المستوى التعليمي المرتفع بصورةٍ عامة، كما تشير إلى ذلك جميع الدراسات – لتصل إلى أوساط أكثر تواضعاً بكثير.
انعقد المنتدى الاجتماعي العالمي في أرضٍ كبيرة، هي أصلاً أرض للمعارض، وصاحبه في الوقت نفسه مخيّم الشباب، ومنتدى المياه الذي تناول بالنقد اللاذع سياسات كوكا كولا، ومنتديات أخرى ذات موضوعات محددة. لكن الأبرز هو منتدى مقاومة مومباي، الذي انعقد في موقعٍ مقابلٍ لمكان انعقاد المنتدى الاجتماعي العالمي، وهو أكثر جذريةً منه، وشارك ممثلان عنه في الاجتماع التحضيري لملتقى الحركات الاجتماعية، لكنّه أصدر إعلاناً مستقلاً في ختام نشاطاته.
اللافت أيضاً تلك المنظمات التي انطلقت من منطقة جغرافية محددة، ثم انضمت إليها منظمات أخرى من القارات الأخرى. وأبرزها منظمة ”فيا كامبسينا” أو طريق الفلاحين، ومنظمة أتاك. لهذه المنظمات نشاطات واسعة في بلدانها، لكنّ حضورها كمنظمات عالمية كان مميزاً. وقد شارك باحثوها وناشطوها في العديد من الندوات والمحاضرات. وكذلك هي الحال بالنسبة للمنتدى الاجتماعي الأفريقي، الذي عقد اجتماعاً تحضيرياً في شهر كانون الأول، وأقام نشاطاتٍ خاصة به في مومباي. اللافت أيضاً غياب صوتٍ عربيّ مسموع. فالمشاركون من العرب كانوا مشرذمين. وحتى في المظاهرة التي دعت إليها بعض الهيئات الفلسطينية، أعلنت ثلاثة أماكن للتجمع من أجل المشاركة، مما شتت الجهود. هذا على الرغم من التعاطف الواضح مع قضية الشعب الفلسطيني بين المشاركين، سواءً كانوا من آسيا أو من الأمريكيتين أو من أوروبا أو من أفريقيا. وحتى في المظاهرة الختامية التي سارت في شوارع مومباي، عاصمة الهند الاقتصادية، لم يصل العرب إلاّ بعد اختتامها ووصولها إلى الساحة الكبيرة التي جرى فيها حفل الختام.
لذلك أرى ضرورة إيلاء أهميةٍ خاصة لإقامة منتدى اجتماعي عربي جذري، يناضل أعضاؤه معاً لإرساء قواعد مشتركة للعمل، تسدّ الثغرة في التمثيل العربي في مثل هذه المنتديات العالمية، وتجعل صوت الشعوب العربية مسموعاً.
من النتائج التي يتوصّل إليها المرء، تعزّز قناعته بضرورة أن تتمركز مقاومة العولمة الليبرالية الجديدة في منطقتنا هنا، في العراق وفلسطين، وفي سورية كذلك، حيث يسود عموماً رفض التدخل الأمريكي في شؤوننا الداخلية بحجة إرساء الديموقراطية. وهذا ما دعا العديد من المشاركين للتوقيع على نداءٍ حرّرته ممثلة البديل ويدعو إلى التضامن مع الشعب السوري في رفضه لمحاولة الإدارة اليمينية المتطرفة في الولايات المتحدة فرض نموذجها العولمي الليبرالي الجديد على المنطقة بحجة إرساء الديموقراطية، كما يعبّر فيه الموقعون عن رفضهم للاحتلال الأنكلو أمريكي للعراق، والدعم الأمريكي اللامحدود لسياسة الترحيل والتمييز العنصري التي تمارسها حكومة شارون الصهيونية على الشعب الفلسطيني.
كما يتعمّق إيمان المرء أيضاً بصحّة الشعارات التي أعلنها المشاركون في ذلك العيد الكبير: ليس هناك من سبيل لوقف العولمة الليبرالية الجديدة إلاّ بعولمة النضال، وبالتنسيق مع القوى النضالية الأخرى، تلك القوى المخلصة في مناهضتها للمشروع الإمبريالي الأمريكي. على أن نكون حاضرين كلٌّ في بلاده، نقاوم معالم هذا المشروع وخطط الهيئات المالية العالمية الكبرى كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية. ويتوجّب علينا كذلك أن نبقى أوفياء لمصالح بلادنا وشعبنا، فلا نخدع بالشعارات البرّاقة التي تدّعي معرفتها بمصلحتنا، والتي تكون في بعض الأحيان كلمة حق يراد بها باطل.
مومباي كانت البداية، على أمل أن تكون المشاركة أوسع في الملتقيات القادمة.