فلورنس غزلان
الحوار المتمدن-العدد: 2482 - 2008 / 12 / 1 - 07:37
المحور:
الارهاب, الحرب والسلام
تقزمت الشيوخ وانمسخت العواصم ، استزلم علماء الدين وتزعموا قبائل السياسة، فقد وجدوا ضالتهم المنشودة في أولادنا ، نتركهم لقمة سائغة تتربى على خطاب ديني يحمل الحقد والضغينة ، ويتسلح بالقتل مادة للشهادة وطريقا للجنة، يصَُّغِرون الدين ويجعلون منه منافذ لأهوائهم ومسارح لألعابهم السياسية ولمراكز سلطاتهم غير آبهين بحياة الشعوب ولا بتضحياتها، يزرعون في النفوس عقدة الضحية المستديمة ضحية الآخر المختلف وضحية طغيانهم ...ضحية التآمر والتكالب علينا وكأننا نمثل الشهد والعالم من حولنا حشرات تريد أن تلعقنا، ونحن لا نملك من العقل ما نرد به أو ندرأ عن أنفسنا، يلغون العقل ويوجهون صغارنا ببوصلات نَصِّية وأقوال مقدسة لاتنتمي للإسلام ولا للعقل الذي قال فيه الشيخ محمد عبده:( إذا تعارض العقل والنقل، أُخذ بما يدل عليه العقل) ، نصل اليوم إلى حدود الانهيار الخلقي والعقلي ، فأين نحن من دين يُعمِل العقل؟ ، فأي دين يحض على القتل؟، وأي شهادة تكمن في الاغتيال؟، أي معنى يقع في اصطياد مسافر؟، وأي ذنب يقترفه من يحمل هذه الجنسية وتلك السحنة، أين نحن من رسالته ذاك الشيخ الذي مَرَّ على وفاته اليوم أكثر من قرن من الزمن حين وجه رسالته للقس إسحاق طبر بقوله:" نستبشر بقرب الوقت، الذي يسطع فيه نور العرفان الكامل، فتهزم له ظلمات الغفلة فتصبح الملتان العظيمتان المسيحية والإسلام وقد تعرفت كل منهما إلى الأخرى وتصافحتا بمصافحة الوداد وتعانقتا معانقة الألفة، فتغمد عند ذلك سيوف الحرب ، التي طالما انزعجت لها أرواح الملتين"...هذا هو إسلام المحبة والتسامح الذي نحتاج، وأمثال محمد عبده الذي تفتقد الساحة الإسلامية لإصلاح خراب يشمل ويعم ويصطاد ضحاياه من أبنائنا.
على من يقع الخطأ؟...وكيف نلوم شباباً صغاراً غُرِرَ بهم...ولم يُلقنوا سوى أن الآخر يتربص بهم ، سوى أنهم منذ قرون ضحية التآمر، ضحية الآخر!، وستظل عقدة الضحية ملازمة له وسيظل الحقد والضغينة إطارها المشحون بخطب الأئمة تدفعهم للانتقام، لأنها تجد فيهم تربتها الخام، سنظل كما نحن وأسوأ، إلى أن يتعقل كبار علماء هذا الدين ويقفون مما وصلنا إليه وقفة صادقة مع الواقع ومع التاريخ، يعلنون الإصلاح الديني ويخرجون الدين من عباءات المصالح ومن ثياب السياسة، يتطهرون من الخلط وينقذون الأجيال القادمة من عبث الفهم المغلوط ، ليصنعوا مرة واحدة خيراً لهذه الأمة ــ كما يحلوا لهم أن يسموها ولتكن كما يشاءون أمة الإسلام، أم أمة العرب، فالمهم ألا تكون أمة الطائفة! ــ لكن عليهم أن يبادروا وأن يكفوا عن الاتهام وعن التفريق عن لعب أدوار المذهبية الصغيرة متخذين من أجساد الأولاد مسرحهم المتنقل ، ليلعبوا دورا أكبر وليأخذوا حجما يتناسب وصعوبة المرحلة ، كفى صُغراً واستصغارا، كفى ذلا وإمعانا في الإذلال وتقلبا بين هذا الصف وذاك...ولحساب هذه السلطة وتلك.
لم أكتب عن غزة، فقد صارت سجادة لتعبد كل ضال ، صارت خطبة لكل فاقد لدور سياسي، صارت كلمة للمزاودة ومقياساً للعروبة والأسلمة، صرخة للمروءة والكرامة، سلعة لتجار السياسة، وموضوعا لمن لا يجد ما يسرح به قلمه، فهل وجدت كل هذه الصيحات مَن يسمع وينصاع لما يريده الجائع المجوع في غزة؟...طالما أن الذئب يرعى الغنم...فمن يوصلها لبر الأمان؟...طالما أن قادة غزة يتخذون من أطفالها ساترا رمليا يحتمون وراءه لاقتناص منصب، علما أن جميعهم محتل في أرضه ومائه وهوائه الفتحاوي والجهادي والحماسي فعلى ماذا يتصارعون؟ ألا يخجل أحدهم أمام جوع طفل؟ أو أمام بيت أرملة دون دواء أو ماء أو مدفأة أو رغيف، يصاب بطلقة خجل فيرحل؟
لا لم يعد للضمائر وجود ولم يعد فيها حياء ولا دماء حية عربية كانت أم إسلامية، فهذا العام الثالث أو العاشر تجمد ضميره منذ مدة طويلة فقد مر عليه الكثير من المآسي وابتلي بعقر داره بكل أنواع الاستبداد والقهر وحاله ليست أفضل من حال غزة، فكيف يغيث مُجوع مثيله؟ وكيف يعطي فاقد كل أسباب الحياة ومعانيها؟...تعيش المروءة والنخوة والمحبة حين تخصب العقول وتنضج القلوب ، حين تتربى على متانة الأواصر لا زيفها، حين تتربى على الشفافية والمصداقية لا على الخطب الجوفاء بكلمات رنانة خاوية المعنى والمبنى...الم تسمعوا؟
وعد الرئيس ...توعد الرئيس ..أنذر الرئيس...ندد واستنكر الرئيس..رُفعت صور الضحايا...ارتفعت الصرخات واحتدت الحناجر وهللت للرئيس...أُسدل الستار على المسرحية وذهب كل لهمومه ونُسيت غزة، واستبدل المشهد بما هو جديد في الصناعة الإسلامية...خبر أكثر حداثة وتشويقاً...دماء مختلفة ينتشي لها البعض! وضحايا من كل الأسماء والألوان...تغرق برعبها تحت أصوات لرصاصات شاب لا يعرف الرحمة...يقرأ سحنة الوجوه ويتفقدها، .ينبش بين الأموات عن عدوه ويفرغ حقده الجهنمي بفرحة عارمة يصطاد ويطارد ويهلل ، يصول بمعركة اعتقدها بدر أو أُحد...أو اليرموك ...يفتح بها جدران تاج محل ، وفندق أوبيروي ترايدنت معتقداً أنها نقطة البداية لاجتياح لندن أو واشنطن...أومن هنا تمر أنهار عدن وجنات الخلد...من هنا ستتصارع الحوريات لكسب وده والتبرك بمحياه...من خراب محطة السكة الحديدية أو انهيار الفنادق وقتل الزوار والمسافرين!...أي نصر ووسام سيزدان به وجه من ضلل هؤلاء الفتية؟...وَيحَكم كيف جعلتم من هذا الدين جلدا لطبولكم...ومسخا للناظرين ...
كيف يمكنني أن أقارن بين أهلكم وإمامكم المُغَرر بكم ياشباب باكستان وأفغانستان ، يا تلاميذ ابن لادن والظواهري وما يشبههم ...وبين أم لفتاة أوربية قتلت على يد وحش مثلكم...في قمة محنتها بفقد ابنتها الوحيدة...ومن خلف دموعها قالت : (قررت وزوجي أن نكرس ماتبقى لنا في الحياة للوقوف إلى جانب أبناء الأحياء المعدمة والفقيرة لأنهم ضحايا التربية المُرة والسقوط في براثن صيادي الفقراء ، لا أحقد على القاتل، لكني لا أريد لطفل آخر أن يصبح وحشا مثل قاتل ابنتي)! ، كم من السنين بيننا وبين هذه الحضارة؟ كم يلزمنا بعد لنتخلص من حقدنا وكراهيتنا؟...كم من الثقافة ينقصنا لنتخلص من تراث الضحية وتراث التكفير؟ وكم من السنين ينقصنا لنغسل ما يعلق في قلوبنا من أدران وفي عقولنا من انحناءات تمويهية وخنادق تغرق في عتمتها وتفضلها على نور الوضوح نحو رحاب عالم متسامح ؟
من سيدفع ثمن حماقاتكم؟من يدري ربما غوانتانامو آسيوية هذه المرة!، من سيتكرم من علمائنا ويعيد النظر في خطابه المريض نحو قناعاته وضرورة تجديدها وتطويرها وإصلاحها، وتغيير نظرته للآخر دون حكم مسبق؟..منطلقا من أنه وحده من يمسك ويملك الحق في تفصيل الإيمان، وحده من يمتلك سيف الدين وبوابة الجنة ومفاتيحها...وكل الآخرين مجرد شياطين يريدون الإيقاع به!..
لا يكفي أن ندخل المؤتمرات الحوارية مع الآخر، ونحن لم نمد خطوتنا بوصة واحدة باتجاه المواطن، الذي أخضعناه طويلا للجلد والسلخ والتطويع وعبادة النصوص دون مناقشة، لا يكفي أن نحاور الآخر ولم ندخل بحوار مع مواطننا، ولم ندخل بحوار مع مَن نسلمهم أمور التشريع والترويع...هؤلاء هم سر بلائنا وسلطتهم الشرعية السياسية المحتَكَرة منذ عقود هي ما يجب إعادة النظر فيه ، وهي مايجب إصلاح حاله لتصلح بيوتنا ومجتمعاتنا، كي نثق أن المدرسة ليست لتخريب عقول أبناءنا ولتحوير وتحويل رؤياهم عن منطق السؤال والبحث والتصويب وقبول الخطأ ...والتعديل دون رهابة والاختلاق والقفز على المألوف دون خشية...فالبداية دائما خطوة وكلمة....فمن سيبدأ؟
وهنا نقع في المتاهة ...هنا نعود أدراجنا لخط الانطلاق دون أن تتحرك عجلات الركب...الكل يخشى أن يسير للأمام والكل ينعت الآخر أنه العائق والمُعَطِل ، الكل يُحمِّل الآخر سر بقائنا( مكانك راوح )، أو( وراء در)..والجميع يلتزم الركود ، الجميع يخطب بأنه سيبدأ...والطريق طويل...ولا عصا سحرية لديه!...مع أنهم يملكون كل الخيوط ويتنسجون فوق رؤوسنا بيوت العنكبوت...أعلق آمالا فقط على المثقف والعالم المتنور، الذي خلع ثياب الكهنوت ورفع الحصانة عن النصوص ليعيد مجد البحث والقراءة وتجديدها وتنقيتها وإصلاحها، هم حنطتنا الآملة، فأقلامهم تحمل شموعاً ونجوماً يمكنها أن تشعل حقول العقول المظلمة، لتعيد لأجيالنا القادمة بعض ملامحها بعد كل ما اعترضها من تشويه وتغييب للعقل.
29/11/2008
#فلورنس_غزلان (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟