|
غابرييل غارسيا ماركيز: الواقع وأبعاده
حسب الله يحيى
الحوار المتمدن-العدد: 2482 - 2008 / 12 / 1 - 07:01
المحور:
الادب والفن
(1) في حديث للكاتب الكولومبي غارييل غارسيا ماركيز،تساءل عن معنى منح سفاح مثل(بيفن)جائزة نوبل للسلام،في وقت تسلم فيه ماركيز جائزة نوبل للأدب لعام 1982. وكان ماركيز قد وصف لجنة جائزة نوبل بأن(هؤلاء المسنين الذين يتخذون القرار،هم أشبه بعصابة ترسم خططها في الظلام الدامس أو أن مهمة هؤلاء تقتصر بعبارة واحدة:ترجمة القرار الذي تتخذه وكالة المخابرات المركزية إلى اللغة السويدية)ووجد في الجائزة(تهمة مروعة). فكيف ناقض نفسه ووافق على إستلام الجائزة،مع أن علاقته بالمال:(هي علاقة حاسة واحدة فقط..اللمس). وهل يمكن الفصل بين جائزة نوبل للسلام وجائزة نوبل للأدب،وهل يمكن وضع الحائزين على هذه الجائزة في موقع واحد؟ تعتبر جائزة نوبل من اهم الجوائز العالمية،وعلى الرغم من أن صاحبها نوبل السويدي(1833-1896)قد إخترع الديناميت وأحساسه بانه يتاجر من أجل موت الكثير من البشر،دفعه ليجاد هذه الجائزة كبديل لما فعله وضرورة تقديم خدمات مكرسة لخدمة البشرية..الا أن لجان توزيع الجوائز كل عام في السويد منذ عام(1901)ظلت بعيدة عن تحقيق قدر من الموضوعية في تقديمها الجوائز،وصارت هذه الجوائز محكومة بشروط سياسية وضغوط مختلفة لاتتعلق بدقة وموضوعية إختيار الفائزين بها..فقد منحت جائزة السلام لعدد من السفاحين واعداء الشعوب كـ(بيفن)واعطيت جائزة الأدب لروائيين مجهولين بينهم الصهيونيان يوسف عجنون وايزاك باشفيز سينجر..وسلمت لأسماء غير معروفة في الفيزياء والكيمياء..وصار من الندرة ان نرى أكف النزاهة ترجح في منح جائزة نوبل..وكما رفض سارتر أن يتسلم الجائزة بأن(الجائزة أعطيت لمشبوهين كثيرين). وعام 1982 فاز ماركيز بجائزة نوبل للأدب،وكان فوزه موضع إهتمام الاوساط الثقافية العربية والعالمية،بسبب مواقف ماركيز الايجابية المؤيدة لحركات التحرير في العالم الثالث ووقوفه الى جانب قضايا الأمة العربية والتنديد بالاحتلال الصهيوني لفلسطين..ولمعرفة العرب والعالم لأعماله الروائية التي لقيت أصداء بين المثقفين وجهود القراء على حد سواء،ويعتبر بابلو نيرودا روية ماركيز(مائة عام من العزلة)،أهم رواية كتبت بالاسبانية بعد رواية سرفانتس(دون كيشوت). فما هي تفاصيل حياة ماركيز وما هي أفكاره وأعماله الروائية التي امتدت آفاق الاهتمام بها في كل مكان؟ ولد ماركيز عام 1928في قر ية(أرا كاتاكا)في كولومبيا بامريكا اللاتينية،وكتب أعماله القصصية باللغة الاسبانية..وتعلم من كلا جديه أثناء طفولته عوالم الواقع والسحر والخرافة من خلال الحكايات التي كانا يقصانها عليه،وعاش سنوات الحزن والفقر مع زوجته(مارسيدس)في حي محروم من أبسط الحقوق الانسانية.. وفي عام 1947كتب الروائي إدواردو ثلاميا بوردا المحرر الادبي لصحيفة(المتفرج)تعليقا يصر فيه على((إن الجيل الادبي الجديد في كولومبيا يتسم في مجموعة بالعقم..وقرأ ماركيز هذا التعليق الرؤيوي وللتو إستيقظ في نفسه شعور بالتضامن مع جيله الادبي..وجلس لكتابه اول إقصوصة له بعنوان(للمرة الثالثة خضوعا للقدر)وأرسلها لإدوارد الذي نشرها بصورة مبرزة معتذرا عن تعليقه السابق)). من هنا تبدأ كتابة ماركيز متحدية،متجاوزة لما هو مألوف وتقليدي ومسطح في الحياة الادبية الكولومبية..مستفيدا من تجارب كافكا في قلب الواقع،ومن فوكنر في تقديم حياة الناس المسحوقين في أمريكا ومن فرجينيا وولف في التعامل مع الزمن..وأخذ يسعى لكي يشق سبيله الفني بخصوصية..لكن ظهور طابع العزلة في معظم أعماله القصصية جعل البعض يجدون في هذه العزلة (كالضياع في أعمال كافكا والمأساة في أعمال جويس والألم في أعمال دستوفسكي..)ويرى البعض إن روايته:(مئة عام من العزلة)ماهي إلا قراءة في الاعمال الاصلية لكتاب أمريكا اللاتينية. وأن تتمتع روايته بصفة السحرية،لأن الرواية هي نتاج الخيال وليس الملاحظة الواعية لوحدها..فلسنا وحدنا لنتخيل الاشياء بطريقة سحرية بل الخيال نفسه يقوم بعمله بطريقة سحرية لايمكن تفسيرها أو ذات تأثير خارق ذي نتائج مدهشة. حكما يشير غالفر في كتابه(أدب امريكا اللاتينية الحديث)وهذا يعني إن ماركيز من أسرة مثقفة ومجرية ومتفاعلة،مؤثرة ومتاثرة على حد سواء في العالم الذي يقرأه أو يعيشه أو يتفاعل معه يوميا ثم يعيد بناءه من جديد وفق تصور محسوس. يقول ماركيز(إن كل ماكتبته..عرفته او سمعته قبل أن أبلغ سن الثامنة،ومنذ ذلك العهد لم أشاهد شيئا مهما..)ويضيف(لايوجد في كتبي أي سطر لايستند الى حدث واقعي). لذلك نجد هذه الواقعية هي المصدر الاساس في أعماله،ومن خلالها ينطلق الى تقديم واقع إبداعي،ويلتقط بحساسية دقيقة الصور والاحداث الاكثر صميمية وشمولية في حياة الاخرين و(ومن الطريف انت يتسلم ماركيز رسالة من سيدة المانية تهدد بها باقامة دعوى في المحكمة لأنه تعرض الى قصة عائلتها). والواقع الاصيل الذي ينطلق من أرضية معينة،يجد تاثيره والمشابه له في ازمنة واماكن مختلفة،وهذا هو الاساس الذي يقوم عليه كل أدب حقيقي فهو يغوص في موقع معين مهما كان صغيرا،لكنه يتلمس من خلاله واقع الانسان وأبعاد هذا الواقع في الاخرين. ماركيز يعيش الآن في باريس-المنفى،ومنفاه اختياري،ذلك أنه لم يجد في النظام القائم في بلاده ملائما له..واختار في البداية الصمت لفترة زمنية،لكنه تخلى عن صمته وراح يكتب ويتحدث للصحافة..ورغم الدعوى الرسمية التي وجهت اليه للعودة الى بلاده،الا أنه أصر على البقاء في المنفى..ثم عاد مرة أخرى للحديث عن تفكيره بالعودة وباصدار جريدة من داخل وطنه.. وأطلق النقاد على اسلوب ماركيز مصطلح(الواقعية السحرية-الخيالية)واعتبروا رواية(مائة عام من العزلة)أفضل اعماله..لكنه يفضل روايته(يوميات موت معلن). لكنه من جهة اخرى ظل يعتز بروايته (مائة عام من العزلة)ورفض مبلغا طائلا اقترح عليه مقابل تحويلها للسينما..وقال:(افضل ان يستمر الناس على تصور الشخصيات كما هم،وفي يوم تصبح فيه هذه النقود ضرورية لحركة الثورة في امريكا اللاتينية ساقبل هذا العقد). *مائة عام من العزلة: (ماكوندو)القرية هي بطلة رواية ماركيز وكل الشخصيات تحوم حولها،وكل العاولم الواقعية والخيالية تسير في موكبها. القرية راسخة بفلوكلورها،وازمنتها السحيقة بالقدم وبالمجهول..وانتقالها فيما بعد الى قرية تشهد الاختراعات والليالي البيضاء بعد أعوام الشدة. كان اول دار مشيد فيها بناه(جوزيه أركاديو بونيديا)وزرع أرضها بالتبغ،واضاع نفسه في قرية تنحدر غربا من جبال سييرا في كولومبيا..ولحقت به جماعة كانت تعيش حياة الفقر في قرية تعود للهنود الحمر،وكونوا(ماكوندو)مكانا جديدا لهم وتعاقبت عليه أجيال عديدة بعد إنقراض سلالة بوينديا..ومع هذه الاحداث(نتذر عدة مدن ذكرت في الكتب المقدسة منها:إرم ذات العماد،سدوم وزعمورية..كما ذكرت مدينة طيبة في مسرحية سوفوكليس(اوديب ملكا)فهي مدن شيدت ثم انقرضت وتعاقب عليها اجيال مختلفة..حتى ان الاعصار الذي تواجهه(ماكوندو)يعتبر اعصارا مرت به تلك المدن..فهل كان ماركيز يعيد الكتابة عن مدن انقرضت ثم بعثت من جديد؟وهل يعني ذلك العودة الى معالجة موضوع الحرية المحكومة بالقدر المجهول والملازم لحياة الانسان؟ الميثولوجيا واضحة تماما في اجواء رواية ماركيز،واثر السحر والخرافة الممتزجان بالواقع تشكلان عنصرا اساسيا في صفحات الرواية..والزمن يتداخل مع بعضه حتى لنحس بانه زمن طويل لاتساؤل له بل هو مرنتبط بمساحة معينة يسعى ماركيز للدوران حولها. وانحلال سلالة بونيديا،كانما هو حالة طبيعية لفترة عجزت عن التقدم..وكان تدخل شخصية الغجري الآسيوي يشكل اسهاما في الكشف عن توقف ال بونيديا عن العطاء..ومجيء الجيل الآخر كان هو الآخر يشهد انحلالا خلقيا عبر الابن-ابن جوزيه.. اما الجيل الثالث فيظهر من خلال شخصية انتهازية تدعى(اركاديو)تسهم في الانحلال..حتى اذا بدأ الجيل الآخر وجدنا أوجها جماعية نتبينها من خلال تظاهرات العمال ضد الشركة المستغلة لمزارع الموز.. انه جيل قوي يخرج من ازمة شديدة عديدة ليصل الى حالة تواجد بشري خلاق. وترى الناقدة بريجيت غالفادا بأن:زمن التاسيس(أو العصر الذهبي)يحدث على ثلاث مراحل رمزية في حد ذاتها:الخطيئة الاصلية والهجرة،وحلم الاستقرار،والتقدم وتجربة الحدود). وتضيف بأن:(المراجع الثقافية الاساسية في(مائة عام من العزلة)هي الكتاب المقدس وهومير وفترة(فترة الكشوفات الكبرى..بعد عصرنتها فعلى سبيل المثال لدينا:-موضوع الانتقال عن الفوضى(الطبيعة الوحشية)الى الكون(المدينة)-والهجرة والكوارث مثل طاعون الارق والحروب الاهلية والطوفان والعاصفة النهائية..بعض الشخصيات ايضا تبرز صلة وثيقة بتلك الكتب-كأورسولا التي تتحول في نهاية حياتها الى ملاك-واوريليانو بوينديا الشاب الذي يعيد تمثيل مشهد المسيح وسط الاطباء لتفسير انحدار ماكوندو..). من هنا نتبين ان هذه الرواية تنشغل على عدة مستويات واقعية وميثولوجية وخيالية بشكل متماسك ومترابط مع بعضه،رغم أن ماركيز كتبها خلال(20)عاما وتركها امامنا بشكل بانورامي قريب الى المشاهد السينمائية المتحركة والمنطلقة من عدة أبعاد وزوايا،فهي ليست ملحمية كما هي عند بريشت وليست واقعية طبيعية كما نراها عند زولا ولا..مضافا اليها اهتمام ماركيز ببناء عالم جديد متخيل يواكب العالم الاجتماعي القائم ويتفاعل بشكل متصاعد ومترابط واقعيا وخياليا. انه يبدأ من الواقع يلملمها ثم يعيد صياغة واقع موضوعي من خلالها مستفيدا من هذه الجذور البكر في الانتقال الى عالم اسطوري وفنطازي..وهذه هي خاصية ماركيز في كتابة(مائة عام من العزلة)التي نجد فيها قرية(ماكوندو)الجزء الصغير من هذا العالم يتحول الى هم يواجه سكان عدد من القرى ومدن العالم،انها اللامكان واللازمان ولذلك تبرز عالميتها..وهي وان ظهر اليأس في سايكولوجية عدد من شخصياتها واجوائها فلان ماركيز لايريد أن يقدم لنا بشرا يتمتعون بالمثالية وعدم السقوط،وانه يسقط نهايات عدد من الناس ثم يعيد الوعي والمواقف الحاسمة ليسترد حالة اليأس الى نوع من التفاؤل وحالة من التجدد في بعث الحياة. ولكن الملفت للنظر أن غابرييل غارسيا ماركيز يكرر نفسه،ويعيد كتابة المضامين التي كان قد تناولها من قبل في قصص قصيرة،فقصة(غريق هو الوسيم في العالم)يعيد سرد وقائعها علينا في(مائة عام من العزلة)ص71 فالغريق المجهول الذي لعب بجثته الاطفال واحاطت به النساء تحول الى رمز للقرية بعد أن اطلق عليه اسم خاص..وقصة:(الحكاية العجيبة والمحزنة لايرنديرا الساذجة وجدتها الشيطانية)وجدنا أحداثها وارادة في رواية(مائة عام من العزلة)ص54. ولا نعلم ان كان ماركيز قد نشر تلك القصص قبل كتابة الرواية أم بعدها..وهل انه وجد متسعا لاحتواء روايته عليها اكمالا للاحداث ام أن عنصر التكرار والمراجعة هي التي جعلت ماركيز يعيد الحديث عنها ليس تفصيلا وانما بذات الصيغة وذات الاحداث في صفحات الرواية..؟! انها مسألة خطرة أن يكرر الكاتب نفسه.ان يعيد وقائع ماكتبه..!
(2) عن الحب وشياطين أخرى من المؤكد ان الكاتب المثير للجدل،كاتب على درجة من الاهمية،سواء اتفقنا أو اختلفنا مع طروحاته،المهم انه أثار فينا فاعلية الجدل،وله شرف اقتحام قناعات معينة كانت مزروعة فينا..الامر الذي جعلنا نتنبه ونراجع معرفتنا مراجعة متانية. وغابرييل غارسيا ماركيز،واحد من أبرز المبدعين الذين أثاروا جدلا بشأن الموضوعات الساخنة والحميمية التي طالعتنا بها أعماله الروائية والقصصية وأفكاره الواردة في حواراته الصحفية. وفي رواية حديثة له ترجمت الى العربية بعنوان:(عن الحب وشياطين أخرى)/ترجمها عن الاسبانية د.وليد صالح. يواصل ماركيز توجهاته الاثيرة بتوضيف الميثولوجيا والاساطير في نصه الادبي،فمن خلال أخبار صحفي يتعلق بالتنقيب في قبور أحد الادبرة القديمة،تكتشف(جديلة حية ذات لون نحاسي كثيف،حاول رئيس العمال إخراجها كاملة بمساعدةعماله،لكنهم كانوا كلما سحبوا منها جزءا تبدو أشد طولا وغزارة،واستمر الشد والجذب الى أن خرجت أخر خصلات الشعر المغروزة في جمجمة طفلة).،عبر هذا القبر الحجري،وشاهدته التي تحمل اسم:سييرفا ماريا،تبدأ تفاصيل هذه الرواية،حيث تبين ان جديلة هذه الطفلة بطول 22م و11سم،وانها أصيبت بعضة كلب مسعور..مما يجعل عائلتها الارستقراطية تدعوها الى دير بهدف استخراج الارواح الشريرة هنا تعني انها مسوسة بالشياطين..لكننا نتبين بعدئذ ان هذا الشك القائم على قوة خفية شريرة كان مجرد وهم كبير..ذلك إن هذه القوة الشرسة،لم تكن سوى مجموعة تعمل في الدير نفسه،نذيق الطفلة شتى صنوف التعذيب بهدف اخراج شياطين وهمية خلقتها ذهنية متخلفة،حاولت عائلتها ان تطرد شرا موهوما من طفلة بريئة صادف ان عضها كلب..الامر الذي جعل هذه العائلة تحمي مصالحها من أحد أعضائها..وتخلت عنه بسهولة حفاظا على امنها وسلامتها قبل العناية بنقاء طفلة! لكن ماركيز لم يبق على هذا العالم المحفوف بالشر والانانية ومثله المتخلفة وخوفه الموهوم،بل وضع الطفلة في موقع وجدت فيه ضالتها في الراهبككايتانو الذي وضع في مهمة معالجتها..وعلى الرغم من كبر سنه بالنسبة الى سنها..كان هناك حب يزهر وعقل ينير هذه العلاقة التي كانت محاطة بشياطين بشرية حقيقية..تتبين أمر هذا الحب..فتبعد بين الطفلة والراهب..حتى يعم الشر..وتموت الطفلة..في سريرها،وعيناها تشعان،وبشرتها كانها بشرة طفل حديث الولادة،كانت جذور شعرها قد نبتت كانها فقاعات في الرأس الحليق،وبدأ شعرها ينمو شيئا فشيئا..بينما لم يعرف مصير كاتيانو الذي طرد من الدير،ولعل مصدر الجدل والاثارة في هذه القصة القصيرة،لايكمن في موضوعة الحب التي تناولها ماركيز حسب..فهي الى جانب اهميتها وعذوبة تناولها،وحضورها في متعة وذاكرة المتلقي للوهلة الاولى،فان هذه الموضوعة على نحو آخر..تثير انتباهات عديدة وابعاد فعالة وذلك من خلال تعميم عمليات القمع المختلفة في كل زمان ومكان..وقد تكون محاكم التفتيش الاسبانية(1242)واحدة من هذه العمليات التي انتشرت في دول امريكا اللاتينية التي ينتمي اليها ماركيز نفسه..حيث يدان المرء بسهولة بتهمة الالحاء. من هنا نجد ماركيز يتخذ قصة الحب بصورتها الانسانية المثلى وجاذبيتها الآخاذة،لينقلنا الى جدل أغنى واعمق وادل بين قوى الحب وقوى الكراهية..قصة سييرفا ماريا بجديلتها النحاسية اللون الطويلة الى حد اللامألوف..باعوامها الاثني عشر،وشياطينه الموهومة..زحبها للايمان الذي يجسده الراهب الثلاثيني عمرا:كايتانو..يجعلنا هذا الحب،ندرك اهمية المعطى الانساني بتجاوز العمر الزمني،بتجاوز شر يعتقد انه يلازم الطفلة؛وايمان مقترن بالراهب،يتجاوز التحام الارستقراطية الاجتماعية والارستقراطية الميثولوجية المقترنة كذلك بايمان قسري لايمكن ادامته..نحو كشف كلي لعالم تسحقه الظلالة ويسوده الشر وتعم فيه الكراهية والافكار القائمة على فعل مغيب تماما..لاتحل اشكالاته الا بالسحر:(ساخبرته ساكنته ان كسوفا تاما للشمس سيحصل في شهر آذار،وزودته بمعلومات كاملة عن المعضوضين في يوم الاحد الاول من شهر كانون الاول،اثنان منهم اختفيا بعد ان خباهما اصحابهما لمعالجتهما بالسحر،اما الثالث فقد مات بداء الكلب في الاسبوع الثالث..). مثل هذه المعتقدات الغرائبية..لا تجد سبيلا الى المعالجة الا بما يماثلها من غيبيات..هكذا يعادلها ماركيز،لكن نتيجة هذا التعادل لايوصل صاحبه الى حلول منطقية سليمة،بل يوقعه في اشكالات جديدة ومآزق لاحقة يكشف عنها العالم الروائي لماركيز. واذا كان ماركيز قد وضع في مصطلح روايته هذه مقطعا من حكم:توما الاكويني جاء فيها:(يبدو ان الجدائل لابد لها من ان تنبعث،ولكن أقل بكثير من أجزاء الجسد الاخرى،وتوفيقه في هذا الاختيار الملائم لطبيعة هذا العمل اروائي الفذ،فان جدائل سييرفا ماريا،كانت منذورة للكنيسة..حتى تكتسب صاحبتها السعادة والفال الحسن،فاذا بها ترحل مع الجسد كله رحلة الموت الابدية..وجاء الانبعاث المتخيل للاكويني وماركيز معا،انبعاث هو مدعاة للتامل الجليل اكثر من أي شئ آخر.
(3) حكاية بحار غريق بعد رواية(مائة عام من العزلة)التي ترجمها الى العربية:د.سامي الجندي وانعام الجندي،تألق اسم غابرييل غارسيا ماركيز،أو صار قراء العربية يبحثون عن ترجمة لبقية اعمال ماركيز وادباء الطليعة في أمريكا اللاتينية.. وظهرت في عدد من الصحف والمجلات العربية عدد من القصص القصيرة التي كتبها ماركيز ثم ظهرت روايته(ليس للجنرال من يجيب)وترجم له عمل ثالث هو رواية(حكاية بحار غريق)ترجمها:محمد علي البوسني..والتي نحن بصدد الحديث عنها. (حكاية بحار غريق)تذكرنا منذ البداية بثلاث اعمال أدبية مهمة هي:(موبي ديك)لهرمان ملفيل،و(الشيخ والبحر)لهمنغواي،و(تحت سماء الجليد)لجان لندن ذلك ان هذه الاعمال تقدم لنا صراع الانسان مع قوى الطبيعة المختلفة وانتصار الانسان عليها وتاكيد قدرته وبسالته في مواجهة المصاعب والدأب على معانقة البقاء. ومنذ السطور الاولى لعمل ماركيز(ظل عشرة ايام بصراع الامواج على سطح عبارة من خشب دون طعام أو شراب،نودي به بطلا وطنيا،وقبلته ملكات الجمال واغنته الدعاوة،ثم شجبته الحكومة ونسي الى أبد الآبدين). نعرف باوجه اللقاء مع ملفيل وهمنغواي ولندن،ونعرف ايضا باوجه الاختلاف والتميز كماركيز في(حكاية بحار غريق)لايقدم حالة الصراع وحدها من أجل ان تكون هناك بطولة،انه يدين هذه البطولة القئمة على المصادفة لا الاختيار،والتوقع بدلا من التأمل:(لم اقم بأي جهد كي اصير بطلا،كان كل جهودي عبارة عن رغبة في النجاة). والبحار الفريق(لويس اليخاندرو فيلاسكو)يقدمه لنا ماركيز بوثائقية محددة بزمن(28شباط 1955)يوم سقوط ثمانية بحارة كانوا على متن مدمرة تابعة للاسطول البحري الكولومبي في البحر المسمى(بحر الانتيل)وهي باتجاه قرطاجنة ومغادرتها ميناء الاباما..وكان فيلاسكو الوحيد الذي نجى من الزوبعة والغرق بعد ان تعلق بعبارة خشبية وظل طافيا دون زاد او شراء لمدة عشرة أيام..حتى وصل الى أرض مجهولة،ثم اقتيد الى قرطاجنة. وكانت مشكلة ماركيز مع هذه الحكاية تتمثل في(اقناع القاريء بصحتها)و(هناك كتب ليست ملك من يكتبها،وانما هي ملك اولئك الذين يجعلونها ممكنة بتجربتهم الأليمة). ومن هنا رفض فيلاسكو كل الضغوط التي كانت تريد منه تشويه القصة،ولهذا السبب بالذات فصل من عمله في البحرية..والتوحد في(حكاية بحار غريق)حالة تسعى الى اللقاء بالآخرين،ى الانعزال عنهم،فالغريق فيلاسكو كان يبحث عن زملائه ويحاول سحبهم الى عبارته،وعندما فشل راح يبحث عن نقطة تقتل هذا التوحد مقترنا بالزمن في ساعات ظلت من ممتلكاته التي راح يصونها..وأسماك القرش والدولفين والطائرة البعيدة،والقميص المفتوح الازرار والجاهز للتلويح..والمجداف المكسور والنوارس المحلقة،والاستسلام لها لكي يقبض على أحدها،فيقزز منها ومن نفسه،فقد تذكر قول بحار متمرس كان يحدثه دائما بان(النورس بالنسبة للبحار هو بمثابة أرض تلوح في الافق،قتل النورس ليس أمرا جديرا بنا)..واكل سمكة نيئة،وتخاصم مع سمكة قرش من أجل تلك السمكة الصغيرة،وابتلعت سمكة القرش نصف مجذابه عوضا.. واكتشف اسفل العبارة قطعة من حطب العرق،فاخذ يقطعها،وتاه لكن جرحه كان منقذا له..(آلمني الجرح..وكان سببا في إنقاذ حياتي،كانت كالتائه بين الظلمات ولقد جعلني وخز الجرح أسترجع صلتي بجسدي). الجرح هنا كان منبها،فعلا،يقضا..وحصنه ضد ما كان يحس بان سراب اليابسة عند حدود بصره..فقد كان اليأس قد برح به:(فضلت العودة الى الرغبة في الموت على السقوط فريسة الجنون تحت تأثير الاوهام)ولكن اليابسة كانت حقيقة..وعندما وصلنا عومل كبطل،و(لو كان معي في الطوافة مؤونة من الماء والبسكوت المعلب جيداً من أجل صيانته وبوصلة وأدوات صيد،لوصلت حياً،بالتاكيد كما أنا الآن،باستثناء هذا الفارق،وهو انهم ماكانوا ليعاملونني كبطل). وهذه البطولة التي إكتشفها البحار،كانت سشباقة لمهمته في المدمرة،فقد كانت به رغبة الى ترك عمله وان تكون هذه رحلته الاخيرة،وتردد في التصريح لخطيبته فيما كان قد عزم عليه..ومصاعبه التي جعلت منه بطلا،وارادت السلطة استثمارها لأغراضها،والشركات أرادو من مشاقها..دعاية لساعات معينة وحذاء كان يرتديه..حتى صار سلعة نادرة واغتنى،لكنه كان يبحث عن نجاته،مثل ذلك الصحفي الذي تنكر بزي طبيب ليعرف تفاصيل قصته على حقيقتها،بعد أن منع من الحديث وهو في لحظات الانقاذ والرعاية..فالواقع هو أنه بحار لا يريد لمهمته ان تتحول الى سلعة،وإنما هو بحار كان يعاني مشاق البحر والعاصفة والجوع والعطش..وكل ذهنه ينصرف الى النجاة فحسب..بعد وقوعه في فخ العمل على متن مدمرة تحمل بضائع كولومبية مهربة..وقتل بطولة اريد اقترانه بها.. ان ماركيز إذ يقدم هذه الرواية- الوثيقة،يعطينا ذلك الحلم الكبير في ان يكون للرواية ولكل عمل إبداعي خلاق قيمته العليا..في تحديد موقف من الطبيعة والناس والحياة..من هنا كانت رواية(حكاية بحار غريق)عملاً فذا،ومتالقاً ومتميزاً،ورغم انه عمل موجز نسبة الى الاعمال الادبية الثلاثة التي أشرنا اليها،يبق عملا يقف الى جانبها،ويشكل معها ذلك الصدى العميق لبحار عاش حكايته،ورفض الاستسلام لبطولة اقترنت به..وفضل ان تكون بطولته..الحقيقية وحدها..
(4) رائحة الجوافة سنة حصوله على جائزة نوبل للاداب عام 1982وغابرييل غارسيا ماركيز،يثير إنتباه النقاد والقراء في العالم أجمع،بعد ألأن ترجمت أعماله الروائية والقصصية الى اللغات الحية،وأعيد طبعها مرات عديدة. وأحدث كتاب صدر باللغة العربية لماركيز هو(رائحة الجوافة)ويقوم هذا الكتاب على حوارات الكاتب الكولومبي بيلينيو مندوزا كان قد أجراها مع ماركيز-دار منارات/الاردن/ط1/1989-والكاتب يعرفنا بتجربة الكتابة عند ماركيز ويعكس مواقفه على نحو مباشر،خال من الانغلاق والتسطيح،وانما يقوم على وعي ناضح ورؤية محددة. ان ماركيز الذي كان قد عالج في(خريف البطريك)موضوع الحاكم المستبد الذي يعاني من مرحلة اليأس الاخيرة،ومن قسوة العزلة والانفراد من خلال إبداع الصور المغرقة في الخيال مثل إجبار الامريكيين على منحهم البحر وفاء لديونه،ماركيز هذا لايتوانى عن تقديم روايته(مائة عام من العزلة)لتكون هروبا من الواقع،كما يقول بعض النقاد الذين ينقل لنا المترجم فكري بكر محمود آرائهم. وفي مسيرة حياة ماركيز تكون بصمات جده الاكثر وضوحا وأهمية وكذلك زوجته(مرسيدس)التي لم يختلف معها طوال(25)عاما وذلك السر يكمن أننا(مازلنا ننظر الى الاشياء بالطريقة ذاتها التي كنا ننظر بها للاشياء قبل الزواج،فالزواج كما يقول ماركيز:مثل الحياة ذاتها صعب للغاية للدرجة التي يتعين على المرء ان يبداه منتعشا كل يوم وان يواصل هذا الاحساس طوال الحياة،أنها معركة مستمرة وأحيانا تستنزف المرء ولكنها تستحق ذلك في النهاية). وفي نظرية للكتابة يقول ماركيز:(الآن يحالفني الحظ إذا كتبت فقرة واحدة جيدة في يوم بأسره،فبمرور الوقت تصبح عملية الكتابة مسألة مؤلمة للغاية). وهذا هو السبب الذي يجعل ماركيز ينظر الى الكتابة كمتعة ومعاناة معا،فهو يفكر في كتابة روايته(مائة عام من العزلة)بينما يكتبها في عامين. وقد إحتاج الى ثلاثين عاما من أجل كتابة قصة(موت معلن)..وسبعة عشر عاما ليكتب(خريف البطريرك). يقول ماركيز مؤكدا:(لم اكن مطلقا أهتم إهتماما حقيقيا باية فكرة لاتستطيع الصمود أمام الكثير من سنوات الاهمال). الفكرة شاغل يستمر ويكبر معنا،اما اذا نسينا فانه لايستحق منا الكثير من التفكير وإلزام أنفسنا بكتابته. ويجيب ماركيز عن سؤال وجهه ليو مندوزا يتعلق بالظروف الصعبة والمريحة للكاتب..يقول: (لا أؤمن بالاسطورة الرومانتيكية التي تقول أن الكاتب يجب ان يتظور جوعا وان يواجه أصعب الاوضاع قبل أن يتمكن من الانتاج). وقد تتحكم عدة ظروف منها ماهو مر صعب،ومنها ما هو سهل ممتع ومن خلالها يمكن للكاتب ان يواجه نفسه وظروفه ويتحول الى مبدع حقيقي،لايجعله الترف يتكاسل،ولا الفقر عن اداء مهمته بحثا عن رغيف الخبز..والكاتب الجاد كان بامكانه ان يكتب في كل الظروف..ولكن أذا تحققت كل الظروف الجيدة،فان شاغل الكاتب ينشغل كليا الى ابداعه،دون ان يصرف هم العيش على هم الابداع..ذلك(ان الكتاب دائما يكونون وحيدين،مثل بحارة سفينة محطمة في عرض المحيط،انها اكثر المهن فردية في العالم،لا أحد لامكانه ان يساعك في كتابة ما تكتب،مكا يقول ماركيز. وبكل نبل وتواضع يحرص ماركيز على تسجيل نصيحة وجهها اليه الكاتب جوان بوش من الدومنيكان منذ خمسة وعشرين عاما..قال(انه يتعين على الكاتب ان يتعلم مهن الكتابة/التقنيات،واسلوب البناء،والتركيب المحكم والدقيق،خلال فترة الشباب فنحن الكتاب مثل البغاوات،لا نستطيع ان نتعلم الكلام عندما نصبح كبارا)الكاتب ينبغي ان يتقن حرفته ويعرف اللغة كأداة من أدوات عمله..أن يحمل خزينا من الثقافة والتجارب،فالموهبة وحدها لاتكفي لابراز عمل ابداعي متميز.. ويؤكد ماركيز قائلاً:(ليس ثمة سطر واحد في رواياتي لايقوم على اساس الواقع،وذها التاكيد ينفي ماذهب الى النقاد من تفسيرات مغايرة لما قدمه ماركيز نفسه ولا ينفي ماركيز اعادته قراءة كونراد واكسوبري،وعدة روليات تولستوي:(الحرب والسلام)أفضل رواية على الاطلاق،ولكنه في نفس الوقت يعلن:(انني..احاول دائما الا اماثل اي شخص آخر،كما احاول دائما ان اهرب من المؤلفين الذين احبهم حتى لا اقع في مصيدة تقليدهم. الى جانب اهتمام ماركيز بفوكنر ورامبو وكافكا وسوفوكليس وغيرهم،لاينفي بان اهتمامه بالادب قد نما(من خلال الشعر الرديء،الشعر الشعبي..)فقد تعلم منه ان يكتب ما هو أغنى وافضل وأعمق.. هذا الكتاب،غنى على صعيد التجربة والرؤية والموقف لدى ماركيز..انه يتجه لمنظور يقول:(بامكان المرء أن يحول كامل غموض المدارات الاستوائية الى رائحة جوافة عطنة).
(5) خبر إختطاف ماركيز! هل تشكل الشهرة خطر على المبدع وعلى إبداعه؟ قد نواجه مثل هذا السؤال أو مايماثله ونحن ننتهي من قراءة أحداث رواية ترجمت الى العربية لماركيز بعنوان: (خبر إختطاف). فالجميع-قراء ونقاد-يتفقون على مكانته الابداعية المرموقة التي استحق عنها وبجدارة جائزة نوبل.. الا أن ماركيز لايبدو في هذا العمل الروائي،في حالة اختلاف تام عن كل ماقراناه واعجبنا به من قبل..الامر الذي يجعلنا نعتقد أن الشهرة التي امتلكها قد جعلته يكتب بعجاجة لم نعهدها فيه،ولم نألفها في اعماله الابداعية السابقة. فهو في(خبر اختطاف)يقدم صورة مكبرة لعملية اختطاف سيدتين من قبل عصابة تعمل في المخدرات وما يصاحب تلك العملية من اشكالات وخفايا لكلا الجانبين -الخاطف والمخطوف- وندرك ان ماركيز يحاول ان يدين العمليات الارهابية سردي روائي،غير اننا ونحن نخلص من هذا العمل الروائي الكبير حجما،لنخلص منه الى نتيجة احادية لا تخرج عن اطار التحقيقات الصحفية المطولة المكتوبة باسلوب أدبي،وهذا يعني ان ماركيز كتبها لأنه يريد ان يكتب،متكئا على شهرته وقيمة اعماله السابقة،وعلى ثقة القراء والنقاد بكل عمل يقدمه،إلا انه يجعل آمالنا تتبدد وهواجسنا تسكن على الرتابة،والالق الروائي المبهر الذي عرفنا به ماركيز معنيا بالواقع السحري لبلاده،حتى صار اتجاها بارزا في أدب أمريكا اللاتينية..وقد إنطفا كليا! صحيح ان ماركيز قد خرج من عالمه المسحور وكونية الانسان الذي يعالج مشكلاته بحميمية هي جزء اساس من أدبه الفذ،ومع ان حريته في الخروج عن مألوف رواياته،مسألة مشرعة امام الابداع،الا ان هذا الخروج،لابد أن يكون نابعا من حاجة،من ضرورة،يتطلبها المعمار الروائي،والضمون الخاص،والعالم المكتشف. لابد ان تكون هناك حاجة ماسة واساسية في التغيير..ذلك ان التغيير ليس زيا محكوما بمتغيرات الفصول،بقدر ما هو تحول وتغير لمصالح العمل نفسه،حيث ان البقاء على ما اعتدنا على ما هو كائن الآن أو في المستقبل،مسألة فيها الكثير من التجني ليس على المبدع نفسه،وإنما على العمل ذاته. اذن انتقال ماركيز الى مايسمى:الرواية/الصحفية،انتقال غير مبرر واقل بكثير من الطموح والمكانة التيكنا قد وضعنا فيها ماركيز،وما قدمه في(خبر إختطاف)يمكن الاقدام على تنفيذه من قبل أي صحفي موهوب..وماركيز أكبر بكثير من كونه صحفيا موهوبا. اننا وعلى مدى(333)صفحة وبحروف صغيرة جدا،لم نحفل بماركيز الذي كان ينقلنا الى ذاكرة يقظة وحس انساني عميق..فمثل ماركيز لايمكن ان ينظر الى المخطوفتين ويصف حالهما هكذا:(كانت قد مضت عشرة ايام على الاختطاف وقد بدات هي(مارخزنا)وبياتريت على السواء تعتادان على روتين بدا لهما في الليلة الاولى غير معقول ان الايام العشرة ليست اياما عادية وانما هي اوقات عصيبة ،كل لحظة فيها تهدد المرء بالتهايات الفاجعة..كما إن النظر الى الشخصيتين نظرة واحدة وانهما في حالة سوية،يتلقان حالة الاختطاف بمشاعر واحدة،مسألة غير مقنعة وتكاد ان تكون مستحيل..وما جرى في الليلة الاولى لعملية الاختطاف وما رافقها من رعب وقلق،لايمكن ان ينسى بعجالة..وليس من شيء يبعث على النسيان أبدا. لكن ماركيز نقل صورة نقلها من خارج..خارج لاتماس له به،لاتفاعل معه..لاانتباه للغليان الذي يصاحب المرء وهو يتعرض للاختطاف..انه محكوم بالموت والارهاب لأسباب لاعلاقة له بعواقبها..ولا شان له بوجودها أصلاً..وكل ما في الامر انه كان الضحية..فهل تنسى الضحية بكل هذه السهولة التي يتحدث عنها ماركيز..هل تستكين للجلاد بهذه السرعة،ولو جرى مثل هذا فعلاً،عندئذ ربد ان نجد انفسنا في حالة تساؤل يقول:ماهي دوافع هذا التغيير،هذا الاستسلام..؟ ماركيز لا يجيب،ماركيز لايحلل..ومن ثم فهو لا يقنع..ومن لا يقنع سواه،لايمكن ان يكون مؤثرا ولا فاعلاً! وفي موقع آخر من الرواية نقرأ:(ان اغتيال مارينا،وخصوصا الطريقة الوحشية في الكشف عن الاغتيال وإعلانه،كان سبيلاً في التأمل لايمكن تجنبه حول ما الذي يجب عمله في ماهو آت،فقد استنفدت كل امكانية للوساطة على طريق الاعيان،ومع ذلك فانه لم يكم هناك كما يبدو اي وسيط فعال،وكانت الارادة الطيبة والاساليب غير مباشرة تخلو من أي مغزى). فاي إحساس هذا..للقائم بعملية الاغتيال ولضحيته،وما هي الصورة الوحشية الغائبة عنا تماما،ولماذا فضل ماركيز ان يغيب صورتها عنا؟ إن الآتي مثير وباعث ترقب للجميع..وحتى(الوساطة)لها حالاتها من القبول والرفض والتوتر..ومثلها(الارادة الطيبة)التي لها دوافعها وأسبابها ودرجات العمل والتعلق بها.. ماركيز يبدو..وكانه في حالة قطيعة كلية،بعد ناء عن كل ماجرى ويجري انه في موقع الاعصاب الباردة،او في في حالة السكون المختار والمهيمن على شخصية لاتريد ان نفكر او تتامل أو تنفعل..او ان تجعل من عينيها شاهد فجيعة،وشاهد حقيقة دامية. في(خبر اختطاف)كان ماركيز على فراق تام،على قطيعة،على حدود فاصلة مع قرائه الذين غفتقدوا فيه العالم السحري لـ (مائة عام من العزلة)والعالم المدمر لـ (خريف البطررك)وألق الحياة في(حب في زمن الكوليرا)..وسواها..حتى(الجوافة)القصيرة والحميمة والذات في صيرورة وجودها..كانت الاكثر ألقا من هذا الخبر المطول والممل والعابر..الذي لايمكن ان يشكل اضافة الى تراث ماركيز الابداعي. لقد كانت رواية(خبر إختطاف)عملاً صحفيا،زحفت عليه العبارة الواضحة حد التسطيح،وغاب عنه أبعاد الفعل البشري وهو في كلية الانسحاق والتدمير والقلق والعزلة والترقب. ماركيز..أخذته الشهرة لكتابة(خبر)و(إختطفته)الشهرة كذلك ليكتب مادة صحفية لها بعدها الاحادي حسب! *خبر إختطاف/غابرييل غارسيا ماركيز ترجمة:صالح علماني/دار المدى- دمشق.ط1/1997.
#حسب_الله_يحيى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كبار الكتاب كيف يكتبون؟
-
الغربة العراقية في ثلاث روايات لمحمود سعيد
-
كونديرا خارج الاسوار.. الطفل المنبوذ ..بطيئاً
-
ميلان كونديرا: ثلاثية حول الرواية
-
خذ ما تريد..وأعطني (حرية) التوقيع على ما تريد! قراءة في نص ا
...
-
من هو : جومسكي؟
-
مع الروائي العراقي مهدي عيسى الصقر في روايته: رياح شرقية ريا
...
-
العراق..من يغلب من؟
-
ماريو فارغاس يوسا:(الحرية الموغلة)
المزيد.....
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
-
تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر
...
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
-
-المتبقي- من أهم وأبرز الأفلام السينمائية التي تناولت القضية
...
-
أموريم -الشاعر- وقدرته على التواصل مع لاعبي مانشستر يونايتد
...
-
الكتب عنوان معركة جديدة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|