كلما وجد الباحثان حاجة لانتقاد فهد رجعا الى ستالين والاممية الشيوعية. لذلك لا احتاج الى اقتباس فقرات من الكتاب لبدء هذه الحلقة. فهل كان فهد ستالينيا؟ نعم كان فهد ستالينيا بل ان اعظم ما في فهد هو انه كان ستالينيا. ولكن هل كان فهد يعبد شخصية ستالين؟ كلا. وكان ستالين لينينيا فهل كان يعبد لينين؟ كلا. وكان لينين ماركسيا فهل كان يعبد ماركس؟ كلا. كان هؤلاء كلهم ماركسيين والماركسي لا يعبد احدا ولا يعبد شيئا. ان الماركسي يؤمن بالعلم وبالعلم وحده.
فما معنى ان يكون فهد ستالينيا اذن؟ هذا يعني ان فهد كان ماركسيا اي انه كان يؤمن بعلم الماركسية. والماركسية هي علم القوانين الطبيعية التي تتحكم بحركة المجتمع البشري. وهذه القوانين تتطور وتتغير بتغير اوضاع المجتمع البشري. والماركسي يؤمن بالماركسية بتطورها لا بجمودها. فهو يؤمن بالقوانين التي اكتشفها ماركس وانجلز. وحين جاء لينين واكتشف قوانين جديدة، قوانين الراسمالية الامبريالية فطور الماركسية بذلك اصبح الماركسي من يؤمن بالقوانين التي اكتشفها ماركس والقوانين التي اكتشفها لينين. ولم يبق الماركسي ماركسيا اذا لم يؤمن بالقوانين التي اكتشفها لينين. فالماركسية اصبحت ماركسية لينينية. واكتشف ستالين قوانين جديدة ظهرت كقوانين طبيعية للمجتمع الاشتراكي فاصبحت هذه القوانين جزءا من الماركسية ولذلك لم يبق الماركسي ماركسيا اذا لم يؤمن بالقوانين التي اكتشفها ستالين. واذا اكتشف احدهم قوانين جديدة لحركة المجتمع في مراحل تالية فهي ايضا تصبح جزءا لا يتجزأ من الماركسية ولا يبقى الماركسي ماركسيا اذا لم يؤمن بالقوانين الجديدة ايا كان مكتشفها. هذا هو المعنى الوحيد لتطور الماركسية. ولهذا اقول ان اعظم ما في فهد انه كان ستالينيا لانه لو لم يكن ستالينيا لما كان ماركسيا.
من اهم اكتشافات كارل ماركس ان الشعوب هي التي تصنع التاريخ وليس الملوك والامراء وان الشعوب تصنع التاريخ عن طريق تطوير قوى الانتاج وخلق الظروف لتغيير علاقات الانتاج بما يتفق وهذا التطور. والشعوب في خلال تطورها تنجب قادة في مختلف الميادين ومنهم قادة في السياسة. وهؤلاء القادة يقومون بدور متميز في دفع تقدم البشرية وهذا ما يجعل لهم شخصية متميزة تحترمها الشعوب وتقدرها ولا تعبدها. نحن حتى اليوم نقدر ونحترم ذكرى سبارتاكوس. فلماذا؟ لأن الشعوب انجبت هذا القائد فكان له دور كبير في توجيه العبيد وقيادتهم في ثورتهم. ولكن احترامنا وتقديرنا لسبارتاكوس ليس عبادة لشخصيته بل اعترافا بالدور الذي قام به في قيادة العبيد. وانجبت الشعوب كارل ماركس وانجلز. وها ان الشعوب مازالت تحترمهما وتقدر دورهما في قيادة الشعوب الى مصيرها الذي تصبو اليه. وحتى الان ما زال كل انسان يريد ان يسير بشعبه الى هذا المستقبل يضطر الى الاستعانة بكارل ماركس. وانجبت الانسانية لينين فقاد الشعب الروسي في ثورته الاشتراكية ووضع الاساس لبناء المجتمع الاشتراكي ولهذا ما زال كل انسان يريد ان يسير مع شعبه في اتجاه بناء الاشتراكية يضطر الى الاستعانة بلينين لهذا الغرض. فالشعوب ما زالت تحترم لينين وتقدره وتفاخر في انجازاته وقيادته ولا تعبده. وانجبت روسيا ستالين فقاد شعوب الاتحاد السوفييتي في بناء اول مجتمع اشتراكي في تاريخ البشرية. ولذلك ما زالت الشعوب تحترم ستالين وتقدره وتتعلم منه في طريقها الى التقدم نحو بناء المجتمع الاشتراكي. انها تحترم ستالين وتقدره وتتعلم من اكتشافاته وانجازاته ولا تعبده. وفهد لم يعبد ستالين ولكنه درس نظرياته وكتاباته كما درس نظريات اسلافه كارل ماركس وانجلز ولينين واستفاد منها في قيادة شعبه. ولو كانت الشعوب تعبد قادتها لماذا لم تعبد شعوب الاتحاد السوفييتي خروشوف وبريجنيف وغورباشوف رغم كل ما اسبغ عليهم من صفات؟ لان هؤلاء لم يكونوا قادة حقيقيين لشعوب الاتحاد السوفييتي في حركة تقدمها بل عملوا على تدمير شعوب الاتحاد السوفييتي وتدمير ما انجزته خلال فترة بناء الاشتراكية.
وانجب الشعب العراقي فهد. وقاد فهد الشعب العراقي والحزب الشيوعي العراقي مدة قصيرة. ولكن الحزب الشيوعي وجد من المناسب جمع مؤلفات فهد في السبعينات. فهل كان الحزب الشيوعي يعبد فهد؟ كلا. وانما وجد ان كتابات فهد ما زالت حتى يومنا هذا تلهم الشعب العراقي وتوجهه في طريق نضاله. ويبدو لي ان هذا ما جعل الباحثين ايضا يؤلفان كتابهما بمناسبة الذكرى المئوية لميلاده وهما قد تحررا من عبودية الفرد ومن عبودية ستالين منذ امد بعيد. ويشير الباحثان الى ان عبدالله مسعود كان ماركسيا ومنافسا للحزب الشيوعي ولفهد فلماذا لم يفكر احد في جمع مؤلفات مسعود ونشرها كما نشرت مؤلفات فهد وحسين الشبيبي؟ وقاد عزيز محمد الحزب الشيوعي اكثر من عشرين عاما وحاز على وسام لينين لتطوير الماركسية فلماذا لم يفكر الحزب حتى اليوم في نشر مؤلفات عزيز محمد او خطاباته وهي كثيرة؟ ما رأي القارئ لو اقترحنا على عزيز محمد نفسه اعادة نشر الخطاب الذي القاه في مؤتمر الحزب سنة ١٩٧٥ بحضور الرفيقين البكر وصدام حسين حيث اعلن ان الجبهة القومية التقدمية ليست جبهة مرحلية ولا مؤقتة بل انها جبهة ثابتة حتى الاشتراكية واعلن من على منبر مؤتمر الحزب تجميد منظمات لا شيوعية اختارت الحزب الشيوعي لقيادتها لانها اعتبرته اجدر من يصونها ويقودها في طريق تحقيق اهدافها وكأنها ملك له؟ هل يوافق عزيز محمد على اعادة نشر مثل هذا الخطاب اليوم؟ لا اظن ذلك لانه لا بد ان يخجل من نشر خطاب كهذا ولان مكان مثل هذا الخطاب هو مزبلة التاريخ ولان عزيز محمد لم يكن قائدا حقيقيا للشعب العراقي كما كان فهد رغم كل مل اسبغ عليه من صفات.
ان تمجيد القادة الحقيقيين ليس عبادة لهم وانما اعتراف بدورهم الايجابي في مسيرة التاريخ. وليس كل تمجيد لقائد حقيقي عبادة له.
كيف اصبح فهد ستالينيا؟ لا شك انه درس ماركس وانجلز ولينين وستالين في جامعة كادحي الشرق بالضبط كما جاء في الكتاب ولو ان الباحثين حاولا ان يسبغا على ذلك طابعا سلبيا. ولكن هذا ليس كل شيء. فاثناء دراسة فهد في هذه الجامعة عاش في الاتحاد السوفييتي واختلط بشعوبه وراى ما يجري فيه. رأى شعوب الاتحاد السوفييتي تعمل كخلية النحل من اجل انجاز مشاريع السنوات الخمس الثلاثة قبل موعدها. هذه المشاريع التي رفعت الاتحاد من دولة كانت صناعتها تحت الصفر الى الدولة الثانية صناعيا بعد الولايات المتحدة فانجزت بذلك خلال ١٥ عاما اكثر مما انجزته الراسمالية في اكثر من ٢٠٠ سنة. راى شعوب الاتحاد السوفييتي دولة قوميات متعددة متآخية لا فرق بين كبيرها وصغيرها ولها مجلس قوميات يمثل كل قومية فيه عدد متساو من الممثلين بصرف النظر عن كبر او صغر تلك القومية. فعدد ممثلي القومية الارمينية على سبيل المثال هو مثل عدد ممثلي القومية الروسية. راى ما سمي بالحركة الستاخانوفية التي استطاع بها العمال وليس العلماء والمهندسون ان ينظموا اساليب العمل بطرق ضاعفت الانتاج عدة مرات بحيث اذهلت هذه الحركة الغرب ولم يصدقوا ان بالامكان وجود مثل هذه الحركة فكذبوها واعتبروها من وسائل الدعاية كما اعتبروا الدبابات التي كانت تسير في الساحة الحمراء في الاستعراضات دبابات خشبية صنعت للدعاية ولخدع شعوب العالم. راى المرأة السوفييتية بعد انتهاء عطلة ولادتها المدفوعة الاجور تعود الى العمل برفقة طفلها لوضعه في دار الحضانة الموجود في كل معمل حيث تشرف عليه احسن الحاضنات وحيث تمنح للام مدة نصف ساعة للراحة عند حلول موعد ارضاع طفلها. راى العائلة العمالية والفلاحية تتمتع في عطلها السنوية في احسن مصائف الاتحاد السوفييتي. رأى قصور الملوك والسادة تتحول الى قصور للاطفال يؤمها جميع الاطفال بدون تمييز حيث يمارسون افضل هواياتهم ويدربهم خيرة فناني الاتحاد السوفييتي فهم يلاعبون الشطرنج اشهر لاعبي الشطرنج السوفييتيين ويتعلمون رقص الباليه والموسيقى على ايدي خيرة الفنانين السوفييت الى درجة ان زوار هذه القصور من خارج الاتحاد السوفييتي كانوا يكتبون الكتب في وصفها وكانوا يقولون ان الاطفال هم ملوك الاتحاد السوفييتي. في مثل هذا المجتمع قضى فهد عدة سنوات وشاهد كل ذلك يجري تحت قيادة الحزب الشيوعي وعلى رأسه ستالين. فهل غريب ان يصبح فهد ستالينيا؟ لا اعتقد ذلك.
اقتبس الباحثان عبارة وردت في كراس فهد "حزب شيوعي لا اشتراكية ديمقراطية" يقول فيها "واصبح ما يقوله قائدهم الاكبر ستالين، وما يأمر به، واجبا مقدسا وامرا مطاعا ليس فقط من قبل اعضاء الحزب والطبقة البروليتارية السوفياتية والشعوب السوفياتية بل من البروليتاريا العالمية والشعوب." واعتبرا هذه العبارة مثلا على عبادة الفرد. فما سبب ذلك؟ سبب ذلك انهما اخذا العبارة بمعزل عن الظروف التي كتبت فيها. فكما ظهرت العبودية لديهما مقيتة بسبب اخذها بمعزل عن الظروف التي نشأت فيها كذلك ظهرت لهما هذه العبارة غريبة لانهما اخذاها بمعزل عن الظروف التي كتبت فيها. كان الاتحاد السوفييتي عند كتابة هذه العبارة يخوض اعظم حرب تحررية في التاريخ، حربا تدافع فيه شعوب الاتحاد السوفييتي عن مجتمعها الاشتراكي وتقوم بانقاذ العالم من العبودية النازية. وكان ستالين القائد العام لهذه الشعوب في هذه الحرب. وبصفته هذه كان يوجه اوامر يومية للجيش الاحمر والعمال والفلاحين والانصار في المناطق المحتلة. وقد جمعت هذه الاوامر خارج الاتحاد السوفييتي لان مؤلفات ستالين اصبحت مستمسكا جرميا داخل الاتحاد السوفييتي تحت حكم خروشوف والخروشوفيين. وهي قد جمعت في المجلد السابع عشر باللغة الانجليزية المتوفرة هنا في بريطانيا. كانت هذه الاوامر اليومية تلهم الجيش الاحمر والعمال والفلاحين والانصار وتدفعهم الى المزيد من الحماس والتضحية في انجاز مهامهم في تلك الحرب الضارية. وكان فهد مطلعا على هذه الاوامر اليومية ولذلك عبر عنها بالعبارة المذكورة. فهل تشكل هذه العبارة برهانا على عبادة فهد لشخصية ستالين؟ لا اظن ذلك.
كيف نشأ التكوين الفكري للباحثين؟ واضح انهما تلقيا دراستهما الجامعية في المانيا الشرقية بعد ثورة تموز اي في فترة حكم الخروشوفيين في الاتحاد السوفييتي. ومعروف ان الخروشوفيين استبدلوا مصطلح المعسكر الاشتراكي بمصطلح جديد اسموه المنظومة الاشتراكية لكي يستطيعوا ان يضموا اليه دولا لا علاقة لها بالاشتراكية او الشيوعية، دولا اعتبروها ذات توجه اشتراكي او سائرة بالطريق اللاراسمالي صوب الاشتراكية مثل الحبشة والصومال والجزائر وسورية والعراق واليمن وحتي هند انديرا غاندي اعتبرها بريجنيف اكبر دولة سائرة في الطريق اللاراسمالي. عاش الباحثان في المانيا يحتلها الجيش السوفييتي ويتصرف هناك كما تتصرف جيوش الاحتلال الامبريالية. رأى الباحثان كره الشعب الالماني للجيش السوفييتي. رأى الباحثان دولة تسود فيها الازمات الاقتصادية والبطالة والسوق السوداء والتضخم النقدي وعصابات المافيا الخ... وقدمت لهما هذه الدولة على انها اشتراكية ليس من قبل الحكومة الالمانية وحسب بل من قبل الحزب الذي انتميا اليه، واعتبرا تعليماته اوامر يجب اطاعتها. ولا ادري ان كانا قد اطلعا عن كثب على الاتحاد السوفييتي ذاته الذي كان يعاني من نفس هذه الازمات. فاعتقدا ان ما يحدث في المانيا والدول الاشتراكية المزعومة الاخرى هو الاشتراكية الحقيقية واستنتجا من ذلك ان الاشتراكية لم يكن لها وجود في الاتحاد السوفييتي وان الاتحاد السوفييتي منذ اليوم الاول بعد ثورة اكتوبر كان على هذه الحال. ولا شك ان هذا التكوين الفكري هو الذي كان يسيطر على طريقة بحثهما عند كتابة هذا الكتاب لان الانسان الذي يعلو في كتاباته على تكوينه الفكري لم يخلق بعد. ولم يعرف الباحثان ستالين من ستالين بل عرفاه من خروشوف. وقد اثبت التاريخ ان خروشوف كان عدوا للاشتراكية عدوا للينينية عدوا للشيوعية عدوا للماركسية وقد توصل الى شجبه لكل ذلك عن طريق تشويه سمعة ستالين لا عن طريق انتقاده انتقادا علميا. لذلك فان فهمهما لفهد وللحركة الشيوعية وللماركسية والاممية الشيوعية وستالين وحتى لينين كان نتاجا لهذا التكوين الفكري. وهذا واضح في مجمل استنتاجاتهما في نص الكتاب كله.
ليس تمجيد قادة الانسانية الحقيقيين عبادة لهم ولا يؤدي تمجيد القادة غير الحقيقيين، مهما عظم، الى جعلهم قادة حقيقيين.